المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة النحل (16) : الآيات 90 الى 128] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ٦

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌سورة يونس

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 1 الى 23]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 24 الى 25]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 26 الى 61]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 62 الى 70]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 71 الى 87]

- ‌[سورة يونس (10) : الآيات 88 الى 109]

- ‌سورة هود

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 1 الى 40]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 41 الى 60]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 61 الى 83]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 84 الى 108]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 109 الى 116]

- ‌[سورة هود (11) : الآيات 117 الى 123]

- ‌سورة يوسف

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 1 الى 29]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 30 الى 44]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 45 الى 64]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 65 الى 68]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 69 الى 87]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 88 الى 101]

- ‌[سورة يوسف (12) : الآيات 102 الى 111]

- ‌سورة الرعد

- ‌[سورة الرعد (13) : الآيات 1 الى 18]

- ‌[سورة الرعد (13) : الآيات 19 الى 43]

- ‌سورة ابراهيم

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 10]

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 11 الى 17]

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 18 الى 34]

- ‌[سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 الى 52]

- ‌سورة الحجر

- ‌[سورة الحجر (15) : الآيات 1 الى 25]

- ‌[سورة الحجر (15) : الآيات 26 الى 44]

- ‌[سورة الحجر (15) : الآيات 45 الى 99]

- ‌سورة النّحل

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 1 الى 29]

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 30 الى 50]

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 51 الى 74]

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 75 الى 89]

- ‌[سورة النحل (16) : الآيات 90 الى 128]

الفصل: ‌[سورة النحل (16) : الآيات 90 الى 128]

كَلَامِ الْبَزَّارِ. قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ زَيْدٍ كَذَّابٌ خَبِيثٌ لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ:

هُوَ مَتْرُوكٌ، رَوَاهُ أَيْضًا حَمْزَةُ الْجَزَرِيُّ، وَحَمْزَةُ هَذَا سَاقِطٌ مَتْرُوكٌ. وَنَصَبُوا تِبْيَانًا عَلَى الْحَالِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مِنْ أجله. وللمسلمين متعلق ببشرى وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى هُوَ متعلق بهدى ورحمة.

[سورة النحل (16) : الآيات 90 الى 128]

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94)

وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (97) فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)

إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104)

إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109)

ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)

إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا مَا قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)

إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)

ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَاّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)

ص: 583

النَّقْضُ ضِدُّ الْإِبْرَامِ، وَفِي الْجِرْمِ فَكُّ أَجْزَائِهِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ. التَّوْكِيدُ: التَّثْبِيتُ وَيُقَالُ: تَوْكِيدٌ، وَتَأْكِيدٌ، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَزَعَمَ الزَّجَّاجُ أَنَّ الْهَمْزَةَ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ، وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ. لِأَنَّ التَّصْرِيفَ جَاءَ فِي التَّرْكِيبَيْنِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا أَصْلَانِ. الْغَزْلُ: مَعْرُوفٌ، وَفِعْلُهُ غَزَلَ يَغْزِلُ بِكَسْرِ الزَّايِ غَزْلًا، وَأُطْلِقَ الْمَصْدَرُ عَلَى الْمَغْزُولِ. نَفِدَ الشَّيْءُ يَنْفَدُ فَنِيَ. الْأَعْجَمِيُّ الَّذِي لَا يَتَكَلَّمُ بِالْعَرَبِيَّةِ.

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ مَا كُنْتُمْ

ص: 585

فِيهِ تَخْتَلِفُونَ

:

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثٍ فِيهِ طُولٌ مِنْهُ: إِنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ كَانَ جَلِيسَ النبي صلى الله عليه وسلم وَقْتًا فَقَالَ لَهُ: عُثْمَانُ مَا رَأَيْتُكَ تَفْعَلُ فِعْلَتَكَ الْغَدَاةَ؟ قَالَ: «وَمَا رَأَيْتَنِي فَعَلْتُ؟» قَالَ: شَخَصَ بَصَرُكَ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ وَضَعْتَهُ عَلَى يَمِينِك فَتَحَرَّفْتَ عَنِّي إِلَيْهِ وَتَرَكْتَنِي، فَأَخَذْتَ تَنْغُضُ رَأْسَكَ كَأَنَّكَ تَسْتَفِقْهُ شَيْئًا يُقَالُ لَكَ قَالَ: أو فطنت لِذَلِكَ؟ أَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ آنِفًا وَأَنْتَ جَالِسٌ قَالَ: فَمَاذَا قَالَ لَكَ: قَالَ لِي: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ الْآيَةَ.

قَالَ عُثْمَانُ: فَذَلِكَ حِينَ اسْتَقَرَّ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِي، فَأَحْبَبْتُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم لما ذكر الله تعالى.

وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ، وَصَلَ بِهِ مَا يَقْتَضِي التَّكَالِيفَ فَرْضًا وَنَفْلًا وَأَخْلَاقًا وَآدَابًا. وَالْعَدْلُ فِعْلُ كُلِّ مَفْرُوضٍ مِنْ عَقَائِدَ، وَشَرَائِعَ، وَسَيْرٍ مَعَ النَّاسِ فِي أَدَاءِ الْأَمَانَاتِ، وَتَرْكِ الظُّلْمِ وَالْإِنْصَافُ، وَإِعْطَاءُ الْحَقِّ وَالْإِحْسَانُ فِعْلُ كُلِّ مَنْدُوبٍ إِلَيْهِ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْعَدْلُ هُوَ الْوَاجِبُ، لِأَنَّ اللَّهَ عز وجل عَدَلَ فِيهِ عَلَى عِبَادِهِ، فَجَعَلَ مَا فَرَضَهُ عَلَيْهِمْ وَاقِعًا تَحْتَ طَاقَتِهِمْ. وَالْإِحْسَانُ النَّدْبُ، وَإِنَّمَا عُلِّقَ أَمْرُهُ بِهِمْ جَمِيعًا، لِأَنَّ الْفَرْضَ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ فِيهِ تَفْرِيطٌ فَيَجْبُرُهُ النَّدْبُ انْتَهَى. وَفِي قَوْلِهِ: تَحْتَ طَاقَتِهِمْ، نَزْغَةُ الِاعْتِزَالِ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْعَدْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالْإِحْسَانُ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ. وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّ الْعَدْلَ هُوَ الْحَقُّ. وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: أَنَّهُ أسوأ السَّرِيرَةِ وَالْعَلَانِيَةِ فِي الْعَمَلِ. وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّهُ الْقَضَاءُ بِالْحَقِّ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ «1» وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ:

الْعَدْلُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ الْإِنْصَافُ. وَقِيلَ: خَلْعُ الْأَنْدَادِ. وَقِيلَ: الْعَدْلُ فِي الْأَفْعَالِ وَالْإِحْسَانُ فِي الْأَقْوَالِ. وَإِيتَاءُ ذِي الْقُرْبَى: هُوَ صِلَةُ الرَّحِمِ، وَهُوَ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ الْإِحْسَانِ، لَكِنَّهُ نُبِّهَ عَلَيْهِ اهْتِمَامًا بِهِ وَحَضًّا عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ. وَالْفَحْشَاءُ: الزِّنَا، أَوْ مَا شُنْعَتُهُ ظَاهِرَةٌ مِنَ الْمَعَاصِي.

وَفَاعِلُهَا أَبَدًا مُسْتَتِرٌ بِهَا، أَوِ الْقَبِيحُ مِنْ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ، أَوِ الْبُخْلُ، أَوْ مُوجَبُ الْحَدِّ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ مُجَاوَزَةُ حُدُودِ اللَّهِ أَقْوَالٌ، أَوَّلُهَا لِابْنِ عَبَّاسٍ. وَالْمُنْكَرُ: الشِّرْكُ عَنْ مُقَاتِلٍ، أَوْ مَا وُعِدَ عَلَيْهِ بِالنَّارِ عَنِ ابْنِ السَّائِبِ، أَوْ مُخَالَفَةُ السَّرِيرَةِ لِلْعَلَانِيَةِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، أَوْ مَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ فِي الدُّنْيَا لَكِنَّ الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ. أَوْ مَا تُنْكِرُهُ الْعُقُولُ أَقْوَالٌ، وَيَظْهَرُ أَنَّهُ أَعَمُّ مِنَ الْفَحْشَاءِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَعَاصِي وَالرَّذَائِل وَالْبَغْيِ: التَّطَاوُلُ بِالظُّلْمِ وَالسِّعَايَةِ فِيهِ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْمُنْكَرِ، وَنَبَّهَ عَلَيْهِ اهْتِمَامًا بِاجْتِنَابِهِ. وَجَمَعَ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ بَيْنَ مَا يَجِبُ وَيُنْدَبُ، وَمَا يَحْرُمُ وَيُكْرَهُ، لِاشْتِرَاكِ ذَلِكَ فِي قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ وَهُوَ الطَّلَبُ فِي الْأَمْرِ، وَالتَّرْكُ فِي النهي.

(1) سورة النساء: 4/ 58.

ص: 586

وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: أَمَرَ بِثَلَاثَةٍ، وَنَهَى عَنْ ثَلَاثَةٍ. فَالْعَدْلُ التَّوَسُّطُ بَيْنَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، وَذَلِكَ فِي الْعَقَائِدِ وَأَعْمَالِ الرُّعَاةِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْعَدْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَهُوَ إِثْبَاتُ الْإِلَهِ الْوَاحِدِ، فَلَيْسَ تَعْطِيلًا مَحْضًا وَلَا إِثْبَاتَ أَكْثَرَ مِنْ إِلَهٍ. وَإِثْبَاتُ كَوْنِهِ عَالِمًا قَادِرًا وَاجِبَ الصِّفَاتِ فَلَيْسَ نَفْيًا لِلصِّفَاتِ، وَلَا إِثْبَاتَ صِفَةٍ حَادِثَةٍ مُتَغَيِّرَةٍ. وَكَوْنُ فِعْلِ الْعَبْدِ بِوَاسِطَةِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى، وَالدَّاعِيَةُ الَّتِي جَعَلَهَا فِيهِ فَلَيْسَ جَبْرًا مَحْضًا، وَلَا اسْتِقْلَالًا بِالْفِعْلِ.

وَكَوْنُهُ تَعَالَى يخرج من النار من دَخَلَهَا مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ، فَلَيْسَ إِرْجَاءً وَلَا تَخْلِيدًا بِالْمَعْصِيَةِ.

وَأَمَّا أَعْمَالُ الرُّعَاةِ فَالتَّكَالِيفُ اللَّازِمَةُ لَهُمْ، فَلَيْسَ قَوْلًا بِأَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ، وَلَا قَوْلًا بِتَعْذِيبِ النَّفْسِ وَاجْتِنَابِ مَا يَمِيلُ الطَّبْعُ إِلَيْهِ مِنْ: أَكْلِ الطَّيِّبِ، وَالتَّزَوُّجِ، وَرَمْيِ نَفْسِهِ مِنْ شَاهِقٍ، وَالْقِصَاصِ، أَوِ الدِّيَةِ، أَوِ الْعَفْوِ، فَلَيْسَ تَشْدِيدًا فِي تَعْيِينِ الْقِصَاصِ كَشَرِيعَةِ مُوسَى عليه السلام، وَلَا عَفْوًا حَتْمًا كَشَرِيعَةِ عِيسَى عليه السلام، وَتَجَنُّبِ الْحَائِضِ فِي اجْتِنَابِ وَطْئِهَا فَقَطْ فَلَيْسَ اجْتِنَابًا مُطْلَقًا كَشَرِيعَةِ مُوسَى عليه السلام، وَلَا حَلَّ وَطْئِهَا حَالَةَ الْحَيْضِ كَشَرِيعَةِ عِيسَى عليه السلام، وَالِاخْتِتَانِ فَلَيْسَ إِبْقَاءً لِلْقُلْفَةِ وَلَا قَطْعًا لِلْآلَةِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَانَوِيَّةُ.

وَقَالَ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً «1» وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا «2» وَلَا تَجْعَلِ الْآيَتَيْنِ.

وَمِنَ الْمَشْهُورِ قَوْلُهُمْ بِالْعَدْلِ: قَامَتِ السموات وَالْأَرْضُ، وَمَعْنَاهُ: إِنَّ مَقَادِيرَ الْعَنَاصِرِ لَوْ لَمْ تَكُنْ مُتَعَادِلَةً، وَكَانَ بَعْضُهَا أَزْيَدَ، لَغَلَبَ الِازْدِيَادُ وَانْقَلَبَتِ الطَّبَائِعُ. فَالشَّمْسُ لَوْ قَرُبَتْ مِنَ الْعَالَمِ لَعَظُمَتِ السُّخُونَةُ وَاحْتَرَقَ مَا فِيهِ، وَلَوْ زَادَ بَعْدَهَا لَاسْتَوَى الْحَرُّ وَالْبَرْدُ. وَكَذَا مَقَادِيرُ حَرَكَاتِ الْكَوَاكِبِ، وَمَرَاتِبُ سُرْعَتِهَا، وَبُطْئِهَا. وَالْإِحْسَانُ: الزِّيَادَةُ عَلَى الْوَاجِبِ مِنَ الطَّاعَاتِ بِحَسْبِ الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ، وَالدَّوَاعِي، وَالصَّوَارِفِ، وَالِاسْتِغْرَاقِ فِي شُهُودِ مَقَامَاتِ الْعُبُودِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ. وَمِنَ الْإِحْسَانِ الشَّفَقَةُ عَلَى الْخَلْقِ، وَأَصْلُهَا صِلَةُ الرَّحِمِ، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ ثَلَاثَةٌ. وَذَلِكَ أَنَّهُ أَوْدَعَ فِي النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ قُوًى أَرْبَعَةً: الشَّهْوَانِيَّةَ وَهِيَ تَحْصِيلُ اللَّذَّاتِ، وَالْغَضَبِيَّةَ وَهِيَ: إِيصَالُ الشَّرِّ، وَوَهْمِيَّةً: وَهِيَ شَيْطَانِيَّةٌ تَسْعَى فِي التَّرَفُّعِ وَالتَّرَاوُسِ عَلَى النَّاسِ. فَالْفَحْشَاءُ مَا نَشَأَ عَنِ الْقُوَّةِ الشَّهْوَانِيَّةِ الْخَارِجَةِ عَنْ أَدَبِ الشَّرِيعَةِ، وَالْمُنْكَرُ مَا نَشَأَ عَنِ الْغَضَبِيَّةِ، وَالْبَغْيُ مَا نَشَأَ عَنِ الْوَهْمِيَّةِ انْتَهَى مَا تَخَلَّصَ مِنْ كَلَامِهِ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ. وَلَمَّا أَمَرَ تَعَالَى بِتِلْكَ الثَّلَاثِ، وَنَهَى عَنْ تِلْكَ الثَّلَاثِ قَالَ: يَعِظُكُمْ بِهِ، أَيْ بِمَا ذُكِرَ تَعَالَى مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ، وَالْمَعْنَى: يُنَبِّهُكُمْ أَحْسَنَ تَنْبِيهٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أَيْ: تَتَنَبَّهُونَ لِمَا أُمِرْتُمْ بِهِ وَنُهِيتُمْ عَنْهُ،

(1) سورة البقرة: 2/ 143.

(2)

سورة الفرقان: 25/ 67.

ص: 587

وَعَقْدُ اللَّهِ عِلْمٌ لِمَا عَقَدَهُ الْإِنْسَانُ وَالْتَزَمَهُ مِمَّا يُوَافِقُ الشَّرِيعَةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ الْبَيْعَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ «1» وَكَأَنَّهُ لَحَظَ مَا قِيلَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ بَايَعُوا الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْإِسْلَامِ، رَوَاهُ عَنْ بُرَيْدَةَ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: فِيمَا كَانَ مِنْ تَحَالُفِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ. وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: الْوَفَاءُ لِمَنْ عَاهَدْتَهُ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، فَإِنَّمَا الْعَهْدُ لِلَّهِ. وَقَالَ الْأَصَمُّ: الْجِهَادُ وَمَا فُرِضَ فِي الْأَمْوَالِ مِنْ حَقٍّ. وَقِيلَ: الْيَمِينُ بِاللَّهِ، وَلَا تَنْقُضُوا الْعُهُودَ الْمُوَثَّقَةَ بِالْأَيْمَانِ، نَهَى عَنْ نَقْضِهَا تَهَمُّمًا بِهَا بَعْدَ تَوْكِيدِهَا أَيْ: تَوْثِيقِهَا بِاسْمِ اللَّهِ وَكَفَالَةِ اللَّهِ وَشَهَادَتِهِ، وَمُرَاقَبَتِهِ، لِأَنَّ الْكَفِيلَ مُرَاعٍ لِحَالِ الْمَكْفُول بِهِ. وَلَا تَكُونُوا أَيْ: فِي نَقْضِ الْعَهْدِ بَعْدَ تَوْكِيدِهِ بِاللَّهِ كَالْمَرْأَةِ الْوَرْهَاءِ تُبْرِمُ فَتْلَ غَزْلِهَا ثُمَّ تَنْقُضُهُ نَكْثًا، وَهُوَ مَا يُحَلُّ فَتْلُهُ. وَالتَّشْبِيهُ لَا يَقْتَضِي تَعْيِينَ الْمُشَبَّهِ بِهِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ: هِيَ امْرَأَةٌ حَمْقَاءُ كَانَتْ بِمَكَّةَ. وَعَنِ الْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ: هِيَ مِنْ قُرَيْشٍ خَرْقَاءُ اسْمُهَا رَيْطَةُ بِنْتُ سَعْدِ بْنِ تَيْمٍ، تُلَقَّبُ بِجَفْرَاءَ، اتَّخَذَتْ مِغْزَلًا قَدْرَ ذِرَاعٍ، وَصِنَّارَةً مِثْلَ أُصْبُعٍ، وَفَلْكَةً عَظِيمَةً عَلَى قَدْرِهَا، فَكَانَتْ تَغْزِلُ هِيَ وَجَوَارِيهَا مِنَ الْغَدَاةِ إِلَى الظُّهْرِ، ثُمَّ تَأْمُرُهُنَّ فَيَنْقُضْنَ مَا غَزَلْنَ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: هَذَا فِعْلُ نِسَاءِ أَهْلِ نَجْدٍ، تَنْقُضُ إِحْدَاهُنَّ غَزْلَهَا ثُمَّ تَنْفُشُهُ، وَتَخْلِطُهُ بِالصُّوفِ فَتَغْزِلُهُ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: رَيْطَةُ بِنْتُ عَمْرٍو الْمُرِّيَّةُ، وَلَقَبُهَا الْجَفْرَاءُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَكَانَتْ مَعْرُوفَةً عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَيْ: شِدَّةٍ حَدَثَتْ مِنْ تَرْكِيبِ قُوَى الْغَزْلِ. وَلَوْ قَدَّرْنَاهَا وَاحِدَةَ الْقُوَى لَمْ تَكُنْ تَنْتَقِضُ أَنْكَاثًا. وَالنِّكْثُ فِي اللُّغَةِ الْحَبْلُ إِذَا انْتَقَضَتْ قُوَاهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى مَنْ بَعْدِ إِمْرَارِ قُوَّةً. وَالدَّخَلُ: الْفَسَادُ وَالدَّغَلُ، جَعَلُوا الْإِيمَانَ ذَرِيعَةً إِلَى الْخِدَعِ وَالْغَدْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَحْلُوفَ لَهُ مُطَمْئِنٌّ، فَيُمْكِنُ الْحَالِفَ ضَرُّهُ بِمَا يُرِيدُهُ. قَالُوا: نَزَلَتْ فِي الْعَرَبِ كَانُوا إِذَا حَالَفُوا قَبِيلَةً فَجَاءَ أَكْثَرُ مِنْهَا عَدَدًا حَالَفُوهُ وَغَدَرُوا بِالَّتِي كَانَتْ أَقَلَّ. وَقِيلَ: أَنْ تَكُونُوا أَنْتُمْ أَزْيَدَ خَبَرًا، فَأُسْنِدَ إِلَى أُمَّةٍ، وَالْمُرَادُ الْمُخَاطَبُونَ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: الدَّخَلُ وَالدَّاخِلُ فِي الشَّيْءِ لَمْ تَكُنْ مِنْهُ، وَدَخَلًا مَفْعُولٌ ثَانٍ. وَقِيلَ: مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَأَنْ تَكُونَ أَيْ: بِسَبَبِ أَنْ تَكُونَ وَهِيَ أَرْبَى مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ أَنْ تَكُونَ هِيَ عِمَادًا يَعْنُونَ فَضْلًا، فَيَكُونُ أَرْبَى فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ لِتَنْكِيرِ أُمَّةٍ. وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنَ أَنْ تَكُونَ أَيْ: بِسَبَبِ كَوْنِ أُمَّةٍ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ يَخْتَبِرُكُمْ بِذَلِكَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِيَنْظُرَ أَتَتَمَسَّكُونَ بِحَبْلِ الْوَفَاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ، وَمَا عَقَّدْتُمْ عَلَى أنفسكم ووكدتم من

(1) سورة الفتح: 48/ 10.

ص: 588

أَيْمَانِ الْبَيْعَةِ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، أَمْ تَغْتَرُّونَ بِكَثْرَةِ قُرَيْشٍ وَثَرْوَتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ وَقِلَّةِ الْمُؤْمِنِينَ وَفَقْرِهِمْ وَضَعْفِهِمْ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ: إِنْذَارٌ وَتَحْذِيرٌ مِنْ مُخَالَفَةِ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ انْتَهَى. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَابْنُ السَّائِبِ، وَمُقَاتِلٌ: يَعُودُ عَلَى الْكَثْرَةِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: لَمَّا كَانَ تَأْنِيثُهَا غَيْرَ حَقِيقِيٍّ حُمِلَ عَلَى مَعْنَى التَّذْكِيرِ، كَمَا حُمِلَتِ الصَّيْحَةُ عَلَى الصياح.

لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ

: هَذِهِ الْمَشِيئَةُ مَشِيئَةُ اخْتِيَارٍ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ، ابْتَلَى النَّاسَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِيَذْهَبَ كُلٌّ إِلَى مَا يُسِّرَ لَهُ، وَذَلِكَ لِحَقِّ الْمَلِكِ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ. وَلَوْ شَاءَ لَكَانُوا كُلُّهُمْ عَلَى طَرِيقٍ وَاحِدَةٍ، إِمَّا هُدًى، وَإِمَّا ضَلَالَةٌ، وَلَكِنَّهُ فَرَّقَ، فَنَاسٌ لِلسَّعَادَةِ، وَنَاسٌ لِلشَّقَاوَةِ. فَخَلَقَ الْهُدَى وَالضَّلَالَ، وَتَوَعَّدَ بِالسُّؤَالِ عَنِ الْعَمَلِ، وَهُوَ سُؤَالُ تَوْبِيخٍ لَا سُؤَالُ تَفَهُّمٍ، وَسُؤَالُ التَّفَهُّمِ هُوَ الْمَنْفِيُّ فِي آيَاتٍ. وَمَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ هَذِهِ الْمَشِيئَةَ مَشِيئَةُ قَهْرٍ. قَالَ الْعَسْكَرِيُّ: الْمُرَادُ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْمَعَكُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ قَهْرًا، فَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، وَخَلَقَكُمْ لِيُعَذِّبَ مَنْ يَشَاءُ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، وَيُثِيبَ مَنْ يَشَاءُ عَلَى طَاعَتِهِ، وَلَا يَشَاءُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَسْتَحِقَّهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنَّهُ لَوْ شَاءَ خَلَقَكُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَلَكِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ لِيُثِيبَ الْمُطِيعِينَ مِنْكُمْ، وَيُعَذِّبَ الْعُصَاةَ.

ثُمَّ قَالَ: وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يَعْنِي: سُؤَالَ الْمُحَاسَبَةِ وَالْمُجَازَاةِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِضْلَالَ فِي الْآيَةِ الْعِقَابُ، وَلَوْ كَانَ الْإِضْلَالُ عَنِ الدِّينِ لَمْ يَكُنْ لِسُؤَالِهِ إِيَّاهُمْ مَعْنًى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ حَنِيفَةٌ مُسْلِمَةٌ عَلَى طَرِيقِ الْإِلْجَاءِ وَالِاضْطِرَارِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْحِكْمَةَ اقْتَضَتْ أَنْ يُضِلَّ مَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ أَنْ يَخْذُلَ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَخْتَارُ الْكُفْرَ وَيُصَمِّمَ عَلَيْهِ، وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَنْ يَلْطُفَ بِمَنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يَخْتَارُ الْإِيمَانَ، يَعْنِي: أَنَّهُ بَنَى الْأَمْرَ عَلَى الِاخْتِيَارِ، وَعَلَى مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ اللُّطْفَ وَالْخِذْلَانَ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ، وَلَمْ يُنَبَّهْ عَلَى الْإِجْبَارِ الَّذِي لَا يُسْتَحَقُّ بِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَحَقَّقَهُ بِقَوْلِهِ: وَلَتُسْأَلُنَّ

ص: 589

عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. وَلَوْ كَانَ هَذَا الْمُضْطَرَّ إِلَى الضَّلَالِ وَالِاهْتِدَاءِ، لَمَا أَثْبَتَ لَهُمْ عَمَلًا يُسْأَلُونَ عَنْهُ انْتَهَى. قَالُوا: كَرَّرَ النَّهْيَ عَنِ اتِّخَاذِ الْأَيْمَانِ دَخَلًا تَهَمُّمًا بِذَلِكَ، وَمُبَالَغَةً فِي النَّهْيِ عَنْهُ لِعِظَمِ مَوْقِعِهِ فِي الدِّينَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَتَرَدُّدِهِ فِي مُعَامَلَاتِ النَّاسِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَأْكِيدًا عليهم، وإظهار العظم مَا يَرْتَكِبُ مِنْهُ انْتَهَى. وَقِيلَ: إِنَّمَا كَرَّرَ لِاخْتِلَافِ الْمَعْنَيَيْنِ: لِأَنَّ الْأَوَّلَ نَهَى فِيهِ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْحَلِفِ وَنَقْضِ الْعَهْدِ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، وَهُنَا نُهِيَ عَنِ الدَّخَلِ فِي الْأَيْمَانِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا اقْتِطَاعُ حُقُوقٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: دَخَلًا بَيْنَكُمْ لِتَتَوَصَّلُوا بِهَا إِلَى قَطْعِ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَقُولُ: لَمْ يَتَكَرَّرِ النَّهْيُ عَنِ اتِّخَاذِ الْأَيْمَانِ دَخَلًا، وَإِنَّمَا سَبَقَ إِخْبَارٌ بِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ دَخَلًا مُعَلَّلًا بِشَيْءٍ خَاصٍّ وَهُوَ: أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ.

وَجَاءَ النَّهْيُ بِقَوْلِهِ: وَلَا تَتَّخِذُوا، اسْتِئْنَافُ إِنْشَاءٍ عَنِ اتِّخَاذِ الْأَيْمَانِ دَخَلًا عَلَى الْعُمُومِ، فَيَشْمَلُ جَمِيعَ الصُّوَرِ مِنَ الْحِلْفِ فِي الْمُبَايَعَةِ، وَقَطْعِ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَانْتَصَبَ فَتَزِلَّ عَلَى جَوَابِ النَّهْيِ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ لِمَنْ كَانَ مُسْتَقِيمًا وَوَقَعَ فِي أَمْرٍ عَظِيمٍ وَسَقَطَ، لِأَنَّ الْقَدَمَ إِذَا زَلَّتْ تَقَلَّبَ الْإِنْسَانُ مِنْ حَالِ خَيْرٍ إِلَى حَالِ شَرٍّ. وَقَالَ كُثَيِّرٌ: فَلَمَّا تَوَافَيْنَا ثَبَتُّ وَزَلَّتِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فنزل أَقْدَامُكُمْ عَنْ مَحَجَّةِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ ثُبُوتِهَا عَلَيْهَا. (فَإِنْ قلت) : لم وجدت الْقَدَمَ وَنَكَّرْتَ؟ (قُلْتُ) : لِاسْتِعْظَامِ أَنْ تَزِلَّ قَدَمٌ وَاحِدَةٌ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ بَعْدَ أَنْ ثَبَتَتْ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ بِأَقْدَامٍ كَثِيرَةٍ انْتَهَى؟ وَنَقُولُ: الْجَمْعُ تَارَةً يُلْحَظُ فِيهِ الْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ، وَتَارَةً يُلْحَظُ فِيهِ اعْتِبَارُ كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ، فَإِذَا لُوحِظَ فِيهِ الْمَجْمُوعُ كَانَ الْإِسْنَادُ مُعْتَبَرًا فِيهِ الْجَمْعِيَّةُ، وَإِذَا لُوحِظَ كُلُّ فَرْدٍ فَرْدٍ كَانَ الْإِسْنَادُ مُطَابِقًا لِلَفْظِ الْجَمْعِ كَثِيرًا، فَيَجْمَعُ مَا أُسْنِدَ إِلَيْهِ، وَمُطَابِقًا لِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ فَيُفْرَدُ كَقَوْلِهِ: وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً «1» أفرد متكأ لِمَا كَانَ لُوحِظَ فِي قَوْلِهِ لَهُنَّ مَعْنًى لِكُلِّ وَاحِدَةٍ، وَلَوْ جَاءَ مُرَادًا بِهِ الْجَمْعِيَّةُ أَوْ عَلَى الْكَثِيرِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي لِجَمْعِ الْمُتَّكَأِ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

فَإِنِّي وَجَدْتُ الضَّامِرَيْنِ مَتَاعُهُمْ

يَمُوتُ وَيَفْنَى فَارْضَخِي مِنْ وَعَائِيَا

أَيْ: رَأَيْتُ كُلَّ ضَامِرٍ. وَلِذَلِكَ أَفْرَدَ الضَّمِيرَ فِي يَمُوتُ وَيَفْنَى. وَلَمَّا كَانَ الْمَعْنَى هُنَا: لَا يَتَّخِذُ كُلُّ واحد منكم، جاء فنزل قَدَمٌ مُرَاعَاةً لِهَذَا الْمَعْنَى ثُمَّ قَالَ: وَتَذُوقُوا، مُرَاعَاةً لِلْمَجْمُوعِ، أَوْ لِلَفْظِ الْجَمْعِ عَلَى الْوَجْهِ الْكَثِيرِ. إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْإِسْنَادَ لِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ، فَتَكُونُ الْآيَةُ قَدْ تَعَرَّضَتْ لِلنَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ الْأَيْمَانِ دَخَلًا بِاعْتِبَارِ الْمَجْمُوعِ وَبِاعْتِبَارِ كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بإفراد

(1) سورة يوسف: 12/ 31.

ص: 590

قَدَمٍ وَبِجَمْعِ الضَّمِيرِ فِي: وتذوقوا. وما مَصْدَرِيَّةٌ فِي بِمَا صَدَدْتُمْ، أَيْ: بِصُدُودِكُمْ أَوْ بِصَدِّكُمْ غَيْرَكُمْ، لِأَنَّهُمْ لَوْ نَقَضُوا الْأَيْمَانَ وَارْتَدُّوا لَاتُّخِذَ نَقْضُهَا سُنَّةً لِغَيْرِهِمْ فَيُسَبُّونَ بِهَا، وَذَوْقُ السُّوءِ فِي الدُّنْيَا. وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ أَيْ: فِي الْآخِرَةِ. وَالسُّوءُ: مَا يَسُوءُهُمْ مِنْ قَتْلٍ، وَنَهْبٍ، وَأَسْرٍ، وَجَلَاءٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَسُوءُ.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ فِيمَنْ بَايَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَعَلَى هَذَا فَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: لِأَنَّهُمْ قَدْ نَقَضُوا أَيْمَانَ الْبَيْعَةِ. وَلَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لِخُصُوصِهِ، بَلْ نَقْضُ الْأَيْمَانِ فِي الْبَيْعَةِ مُنْدَرِجٌ فِي الْعُمُومِ. وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، هَذَا نَهْيٌ عَنْ نَقْضِ مَا بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَالْعَبْدِ لِأَخْذِ حُطَامٍ مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانَ قَوْمٌ مِمَّنْ أَسْلَمَ بِمَكَّةَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ لِجَزَعِهِمْ مِمَّا رَأَوْا مِنْ غَلَبَةِ قُرَيْشٍ وَاسْتِضْعَافِهِمُ الْمُسْلِمِينَ وَإِيذَائِهِمْ لَهُمْ، وَلَمَّا كَانُوا يَعِدُونَهُمْ إِنْ رَجَعُوا مِنَ الْمَوَاعِيدِ أَنْ يَنْقُضُوا مَا بَايَعُوا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَثَبَّتَهُمُ اللَّهُ. وَلَا تَشْتَرُوا: وَلَا تَسْتَبْدِلُوا بِعَهْدِ اللَّهِ وَبَيْعَةِ رَسُولِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا يَسِيرًا، وَهُوَ مَا كَانَتْ قُرَيْشُ يَعِدُونَهُمْ وَيُمَنُّونَهُمْ إِنْ رَجَعُوا أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ إِظْهَارِكُمْ وَتَغْنِيمِكُمْ وَمِنْ ثَوَابِ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لَكُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:

هَذِهِ آيَةُ نَهْيٍ عَنِ الرِّشَا وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ عَلَى تَرْكِ مَا يَجِبُ عَلَى الْآخِذِ فِعْلُهُ، أَوْ فِعْلُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُهُ، فَإِنَّ هَذِهِ هِيَ الَّتِي عَهِدَ اللَّهُ إِلَى عِبَادِهِ فِيهَا وَبَيَّنَ تَعَالَى الْفَرْقَ بَيْنَ حَالِ الدُّنْيَا وَحَالِ الْآخِرَةِ، بِأَنَّ هَذِهِ تَنْفَدُ وَتَنْقَضِي عَنِ الْإِنْسَانِ، وَيَنْقَضِي عَنْهَا، وَالَّتِي فِي الْآخِرَةِ بَاقِيَةٌ دَائِمَةٌ. وَدَلَّ قَوْلُهُ: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ، عَلَى أَنَّ نَعِيمَ الْجَنَّةِ لَا يَنْقَطِعُ، وَفِي ذَلِكَ حُجَّةٌ عَلَى جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ إِذْ زَعَمَ أَنَّ نَعِيمَ الْجَنَّةِ مُنْقَطِعٌ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ: وَلَنَجْزِيَّنَ بِالنُّونِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْيَاءِ. وَصَبَرُوا: أَيْ جَاهَدُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى مِيثَاقِ الْإِسْلَامِ وَأَذَى الْكُفَّارِ، وَتَرْكِ الْمَعَاصِي، وَكَسْبِ الْمَالِ بِالْوَجْهِ الَّذِي لَا يَحِلُّ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. قِيلَ: مِنَ التَّنَفُّلِ بِالطَّاعَاتِ، وَكَانَتْ أَحْسَنَ لِأَنَّهَا لَمْ يُحَتَّمْ فِعْلُهَا، فَكَانَ الْإِنْسَانُ يَأْتِي بِالتَّنَفُّلَاتِ مُخْتَارًا غَيْرَ مَلْزُومٍ بِهَا. وَقِيلَ: ذَكَرَ الْأَحْسَنَ تَرْغِيبًا فِي عَمَلِهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمُجَازَاةُ عَلَى الْحَسَنِ وَالْأَحْسَنِ. وَقِيلَ: الْأَحْسَنُ هُنَا بِمَعْنَى الْحَسَنِ، فَلَيْسَ أَفْعَلُ الَّتِي لِلتَّفْضِيلِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَحْسَنِ هُنَا الصَّبْرُ أَيْ: وَلَيَجْزِيَّنَ الَّذِينَ صَبَرُوا بِصَبْرِهِمْ أَيْ: بِجَزَاءِ صَبْرِهِمْ، وَجَعَلَ الصَّبْرَ أَحْسَنَ الْأَعْمَالِ لِاحْتِيَاجِ جَمِيعِ التَّكَالِيفِ إِلَيْهِ، فَالصَّبْرُ هُوَ رَأْسُهَا، فَكَانَ الْأَحْسَنُ لِذَلِكَ. ومن صَالِحَةٌ لِلْمُفْرَدِ وَالْمُذَكَّرِ وَفُرُوعِهِمَا. لَكِنْ يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ الْإِفْرَادُ وَالتَّذْكِيرُ، فَبَيَّنَ بِالنَّوْعَيْنِ لِيَعُمَّ الْوَعْدُ كِلَيْهِمَا. وَهُوَ مُؤْمِنٌ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَالْإِيمَانُ شَرْطٌ فِي الْعَمَلِ

ص: 591

الصَّالِحِ مُخَصَّصٌ لِقَوْلِهِ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ «1» أَوْ يُرَادُ بِمِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ، كَمَا جَاءَ فِي مَنْ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مِنْ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فلنحيينه حياة طيبة، أَنَّ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ يَعْنِي فِي الْآخِرَةِ، وَقَالَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ: ذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ. وَقَالَ شَرِيكٌ: فِي الْقَبْرِ.

وَقَالَ عَلِيٌّ، وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُمَا هِيَ: الْقَنَاعَةُ

، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ: الرِّزْقُ الْحَلَالُ، وَعَنْهُ أَيْضًا: السَّعَادَةُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الطَّاعَةُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الرِّزْقُ فِي يَوْمٍ بِيَوْمٍ، وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ: الرِّزْقُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: حَلَاوَةُ الطَّاعَةِ، وَقِيلَ: الْعَافِيَةُ وَالْكِفَايَةُ، وَقِيلَ: الرِّضَا بِالْقَضَاءِ، ذَكَرَهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمُؤْمِنُ مَعَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ إِنْ كَانَ مُوسِرًا فَلَا مَقَالَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَمَعَهُ مَا يَطِيبُ عَيْشُهُ، وَهُوَ الْقَنَاعَةُ وَالرِّضَا بِقِسْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْفَاجِرُ إِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلَا إِشْكَالَ فِي أَمْرِهِ، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فَالْحِرْصُ لَا يَدَعُهُ أَنْ يَتَهَنَّأَ بِعَيْشِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: طَيَّبَ الْحَيَاةَ لِلصَّالِحِينَ بِانْبِسَاطِ نُفُوسِهِمْ وَنَيْلِهَا وَقُوَّةِ رَجَائِهِمْ، وَالرَّجَاءُ لِلنَّفْسِ أَمْرٌ مُلِذٌّ، وَبِأَنَّهُمُ احْتَقَرُوا الدُّنْيَا فَزَالَتْ هُمُومُهَا عَنْهُمْ، فَإِنِ انْضَافَ إِلَى هَذَا مَالٌ حَلَالٌ وَصِحَّةٌ وَقَنَاعَةٌ فَذَاكَ كَمَالٌ، وَإِلَّا فَالطَّيِّبُ فِيمَا ذَكَرْنَا رَاتِبٌ. وَعَادَ الضَّمِيرُ في فلنحيينه على لفظه مَنْ مْفُرَدًا، وَفِي وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ عَلَى مَعْنَاهَا مِنَ الْجَمْعِ، فَجَمَعَ. وَرُوِيَ عَنْ نَافِعٍ: وَلَيَجْزِينَّهُمْ بِالْيَاءِ بَدَلَ النُّونِ، الْتَفَتَ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى تَقْدِيرِ قَسَمٍ ثَانٍ لَا مَعْطُوفًا عَلَى فَلْنُحْيِيَنَّهُ، فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ جُمْلَةٍ قَسَمِيَّةٍ عَلَى جُمْلَةٍ قَسَمِيَّةٍ، وَكِلْتَاهُمَا مَحْذُوفَتَانِ. وَلَا يَكُونُ مِنْ عَطْفِ جَوَابٍ عَلَى جَوَابٍ، لِتَغَايُرِ الْإِسْنَادِ وَإِفْضَاءِ الثَّانِي إِلَى إِخْبَارِ الْمُتَكَلِّمِ عَنْ نَفْسِهِ بِإِخْبَارِ الْغَائِبِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ: زَيْدٌ قُلْتُ وَاللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ هِنْدًا وَلِيَنْفِيَنَّهَا، يُرِيدُ وَلَيَنْفِيهَا زَيْدٌ. فَإِنْ جَعَلْتَهُ عَلَى إِضْمَارِ قَسَمٍ ثَانٍ جَازَ أَيْ: وَقَالَ زَيْدٌ لَيَنْفِيَنَّهَا لِأَنَّ، لَكَ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ أَنْ تَحْكِيَ لَفْظَهُ، وَأَنْ تَحْكِيَ عَلَى الْمَعْنَى. فَمِنَ الْأَوَّلِ: وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى «2» وَمِنَ الثَّانِي:

يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا «3» وَلَوْ جَاءَ عَلَى اللَّفْظِ لَكَانَ مَا قُلْنَا.

فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ

(1) سورة الزلزلة: 99/ 7.

(2)

سورة التوبة: 9/ 107.

(3)

سورة التوبة: 9/ 74.

ص: 592

آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ «1» وَذَكَرَ أَشْيَاءَ مِمَّا بَيَّنَ فِي الْكِتَابِ، ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَهُ: مَنْ عَمِلَ صالِحاً «2» ذَكَرَ مَا يَصُونُ بِهِ الْقَارِئُ قِرَاءَتَهُ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ وَنَزْغِهِ، فَخَاطَبَ السَّامِعَ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ إِذَا أَخَذَ فِي الْقِرَاءَةِ. فَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لَفْظًا فَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ، إِذْ كَانَتْ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ مِنْ أَجَلِّ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: إِنَّ ثَوَابَ قِرَاءَةِ كُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَالظَّاهِرُ بِعَقِبِ الِاسْتِعَاذَةِ. وَقَدْ رَوَى ذَلِكَ بَعْضُ الرُّوَاةِ عَنْ حَمْزَةَ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ قَالَ: كُلَّمَا قَرَأْتَ الْفَاتِحَةَ حِينَ تَقُولُ: آمِينَ، فَاسْتَعِذْ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمَالِكٍ، وَدَاوُدَ. تَعْقُبُهَا الْقِرَاءَةُ كَمَا رُوِيَ عَنْ حَمْزَةَ وَالْجُمْهُورِ: عَلَى تَرْكِ هَذَا الظَّاهِرِ وَتَأْوِيلِهِ بِمَعْنَى: فَإِذَا أَرَدْتَ الْقِرَاءَةَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَنَّ الْفِعْلَ يُوجَدُ عِنْدَ الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ بِغَيْرِ فَاصِلٍ وَعَلَى حَسْبِهِ، فَكَانَ بِسَبَبٍ قَوِيٍّ وَمُلَابَسَةٍ ظَاهِرَةٍ كَقَوْلِهِ: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ «3»

وَكَقَوْلِهِ: «إِذَا أَكَلْتَ فَسَمِّ اللَّهِ»

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:

فَإِذَا وَصْلَةٌ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ وَالْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُهَا فِي مِثْلِ هَذَا، وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: فَإِذَا أَخَذْتَ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَاسْتَعِذْ، أَمْرٌ بِالِاسْتِعَاذَةِ. فَالْجُمْهُورُ عَلَى النَّدْبِ، وَعَنْ عَطَاءٍ الْوُجُوبُ. وَالظَّاهِرُ:

طَلَبُ الِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ مُطْلَقًا، وَالظَّاهِرُ: أَنَّ الشَّيْطَانَ الْمُرَادُ بِهِ إِبْلِيسُ وَأَعْوَانُهُ. وَقِيلَ:

عَامٌّ فِي كُلِّ مُتَمَرِّدٍ عَاتٍ مِنْ جِنٍّ وَإِنْسٍ، كَمَا قَالَ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ. وَاخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ الِاسْتِعَاذَةِ، وَالَّذِي صَارَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنَ الْقُرَّاءِ وَغَيْرِهِمْ وَاخْتَارُوهُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، لِمَا

رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«أَنَّهُ اسْتَعَاذَ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ بِعَيْنِهِ»

وَنَفَى تَعَالَى سُلْطَانَ الشَّيْطَانِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ. وَالسُّلْطَانُ هُنَا التَّسْلِيطُ وَالْوِلَايَةُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ مِنْهُ وَلَا يُطِيعُونَهُ فِيمَا يُرِيدُ مِنْهُمْ مِنِ اتِّبَاعِ خُطُوَاتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ «4» وَكَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُ فَقَالَ فِي قِصَّةِ أَوْلِيَائِهِ: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي «5» وقيل:

(1) سورة النحل: 16/ 89.

(2)

سورة النحل: 16/ 97. [.....]

(3)

سورة المائدة: 5/ 6.

(4)

سورة الحجر: 15/ 42.

(5)

سورة ابراهيم: 14/ 22.

ص: 593

الْمُرَادُ بِالسُّلْطَانِ الْحُجَّةُ، وَظَاهِرُ الْإِخْبَارِ انْتِفَاءُ سَلْطَنَتِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مُطْلَقًا. وَقِيلَ: لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ لِاسْتِعَاذَتِهِمْ مِنْهُ. وَقِيلَ: لَيْسَ لَهُ قُدْرَةٌ أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى ذَنْبٍ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى بِهِمْ، وَقِيلَ: عَلَى الشَّيْطَانِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ لِاتِّفَاقِ الضَّمَائِرِ وَالْمَعْنَى: وَالَّذِينَ هُمْ بِإِشْرَاكِهِمْ إِبْلِيسَ مُشْرِكُونَ بِاللَّهِ، أَوْ تَكُونُ الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَالْأَمْرُ بِالِاسْتِعَاذَةِ يَقْتَضِي أَنَّهَا تَصْرِفُ كَيْدَ الشَّيْطَانِ، كَأَنَّهَا مُتَضَمِّنَةٌ التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ وَالِانْقِطَاعَ إِلَيْهِ.

وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى إِنْزَالَ الْكِتَابِ تَبْيِينًا لِكُلِّ شَيْءٍ، وَأَمَرَ بِالِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَ قِرَاءَتِهِ، ذَكَرَ تَعَالَى نَتِيجَةَ وِلَايَةِ الشَّيْطَانِ لِأَوْلِيَائِهِ الْمُشْرِكِينَ، وَمَا يُلْقِيهِ إِلَيْهِمْ مِنَ الْأَبَاطِيلِ، فَأَلْقَى إِلَيْهِمْ إِنْكَارَ النَّسْخِ لَمَّا رَأَوْا تَبْدِيلَ آيَةٍ مَكَانَ آيَةٍ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي النَّسْخِ فِي الْبَقَرَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا التَّبْدِيلَ رَفَعَ آيَةً لَفْظًا وَمَعْنًى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّبْدِيلُ لِحُكْمِ الْمَعْنَى وَإِبْقَاءِ اللَّفْظِ.

وَوَجَدَ الْكُفَّارُ بِذَلِكَ طَعْنًا فِي الدِّينِ، وَمَا عَلِمُوا أَنَّ الْمَصَالِحَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَشْخَاصِ، وَكَمَا وَقَعَ نَسْخُ شَرِيعَةٍ بِشَرِيعَةٍ يَقَعُ فِي شَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ. وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ الْعَالِمُ بِمَا يُنَزِّلُ لَا أَنْتُمْ، وَمَا يُنَزِّلُ مِمَّا يُقِرُّهُ وَمَا يَرْفَعُهُ، فَمَرْجِعُ عِلْمِ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَهُوَ عَلَى حَسْبِ الْحَوَادِثِ وَالْمَصَالِحِ، وَهَذِهِ حِكْمَةُ إِنْزَالِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا. وَبَالَغُوا فِي نِسْبَةِ الِافْتِرَاءِ لِلرَّسُولِ بِلَفْظِ إِنَّمَا، وَبِمُوَاجِهَةِ الْخِطَابِ، وَبَاسِمِ الْفَاعِلِ الدَّالِّ عَلَى الثُّبُوتِ، وَقَالَ: بَلْ أَكْثَرُهُمْ، لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يَعْلَمُ وَيَكْفُرُ عِنَادًا. وَمَفْعُولُ لَا يَعْلَمُونَ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ أَيْ: لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الشَّرَائِعَ حِكَمٌ وَمَصَالِحُ. هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى وُقُوعِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ. وَرُوحُ الْقُدُسِ:

هُنَا هُوَ جِبْرِيلُ عليه السلام بِلَا خِلَافٍ، وَتَقَدَّمَ لِمَ سُمِّيَ رُوحَ الْقُدُسِ. وَأَضَافَ الرَّبِّ إِلَى كَافِ الْخِطَابِ تَشْرِيفًا لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بِاخْتِصَاصِ الْإِضَافَةِ، وَإِعْرَاضًا عَنْهُمْ، إِذْ لَمْ يُضِفْ إِلَيْهِمْ. وَبِالْحَقِّ حَالٌ أَيْ: مُلْتَبِسًا بِالْحَقِّ سَوَاءٌ كَانَ نَاسِخًا أَوْ مَنْسُوخًا، فَكُلُّهُ مَصْحُوبٌ بِالْحَقِّ لَا يَعْتَرِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْبَاطِلِ. وَلِيُثْبِتَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَا يَضْطَرِبُونَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ لِكَوْنِهِ نُسِخَ، بَلِ النَّسْخُ مُثَبِّتٌ لَهُمْ عَلَى إِيمَانِهِمْ، لِعِلْمِهِمْ أَنَّهُ جَمِيعُهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، لِصِحَّةِ إِيمَانِهِمْ وَاطْمِئْنَانِ قُلُوبِهِمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ حَكِيمٌ، وَأَنَّ أَفْعَالَهُ كُلَّهَا صَادِرَةٌ عَنْ حِكْمَةٍ، فَهِيَ صَوَابُ كُلُّهَا.

وَدَلَّ اخْتِصَاصُ التَّعْلِيلِ بِالْمُسْلِمِينَ عَلَى اتِّصَافِ الْكُفَّارِ بِضِدِّهِ مِنْ لَحَاقِ الِاضْطِرَابِ لَهُمْ وَتَزَلْزُلِ عَقَائِدِهِمْ وضلالهم. وقرىء: لِيُثْبِتَ مُخَفَّفًا مِنْ أَثْبَتَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُدًى وَبُشْرَى مَفْعُولٌ لَهُمَا مَعْطُوفَانِ عَلَى مَحَلٍّ لِيُثْبِتَ انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ الرَّدُّ عَلَيْهِ فِي نَحْوِ هَذَا، وَهُوَ

ص: 594

قَوْلُهُ: لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ «1» وَهُدًى وَرَحْمَةً فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَلَا يَمْتَنِعُ عَطْفُهُ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنَ أَنْ وَالْفِعْلِ، لِأَنَّهُ مَجْرُورٌ، فَيَكُونُ وَهُدًى وَبُشْرَى مَجْرُورَيْنِ كَمَا تَقُولُ: جِئْتُ لِأُحْسِنَ إِلَى زَيْدٍ وَإِكْرَامٍ لِخَالِدٍ، إِذِ التَّقْدِيرُ: لِإِحْسَانٍ إِلَى زَيْدٍ. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ ارْتِفَاعُ هُدًى وَبُشْرَى عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ أَيْ: وَهُوَ هُدًى وَبُشْرَى. وَلَمَّا نَسَبُوهُ عليه السلام لِلِافْتِرَاءِ وَهُوَ الْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ، لَمْ يَكْتَفُوا بِذَلِكَ حَتَّى جَعَلُوا ذَلِكَ الِافْتِرَاءَ الَّذِي نَسَبُوهُ هُوَ مِنْ تَعْلِيمِ بَشَرٍ إِيَّاهُ، فَلَيْسَ هُوَ الْمُخْتَلِقُ بَلِ الْمُخْتَلِقُ غَيْرُهُ، وَهُوَ نَاقِلٌ عَنْهُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِمْ: إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ. إِنَّ مَعْنَاهُ: مُخْتَلِقُ الْكَذِبِ، وَهُوَ يُنَافِي التَّعَلُّمَ مِنَ الْبَشَرِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: مُفْتَرٍ، فِي نِسْبَةِ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا فِيهِ طَائِفَتَيْنِ: طَائِفَةً ذَهَبَتْ إِلَى أَنَّهُ هُوَ الْمُفْتَرِي، وَطَائِفَةً أَنَّهُ يَتَعَلَّمُ مِنَ الْبَشَرِ. وَيُعَلِّمُ مُضَارِعُ اللَّفْظِ وَمَعْنَاهُ: الْمُضِيُّ أَيْ: وَلَقَدْ عَلِمْنَا، وَجَاءَ إِسْنَادُ التَّعْلِيمِ إِلَى مُبْهَمٍ لَمْ يُعَيَّنْ. فَقِيلَ: هُوَ حَبْرٌ غلام ورمى كَانَ لِعَامِرِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ، وَقِيلَ: عَائِشٌ أَوْ يَعِيشُ، وَكَانَ صَاحِبَ كُتُبِ مَوْلَى حُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ قَالَهُ: الْفَرَّاءُ، وَالزَّجَّاجُ. وَقِيلَ: أَبُو فَكِيهَةَ أَعْجَمِيٌّ مولى لمرأة بِمَكَّةَ. قِيلَ: وَاسْمُهُ يَسَارٌ وَكَانَ يَهُودِيًّا قَالَهُ: مُقَاتِلٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ كَانَ يَهُودِيًّا.

وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَ رَجُلًا حَدَّادًا نَصْرَانِيًّا اسْمُهُ عَنَسٌ.

وَقَالَ حُصَيْنُ بْنُ عبد الله بن مسلم: كَانَ لَنَا غُلَامَانِ نَصْرَانِيَّانِ مِنْ أَهْلِ عَيْنِ التَّمْرِ، يَسَارٌ وَحَبْرٌ، كَانَا يَقْرَآنِ كُتُبًا لَهُمَا بِلِسَانِهِمْ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَمُرُّ بِهِمَا فَيَسْمَعُ قِرَاءَتَهُمَا.

قِيلَ: وَكَانَا حَدَّادَيْنِ يَصْنَعَانِ السُّيُوفَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: يَتَعَلَّمُ مِنْهُمَا فَقِيلَ لِأَحَدِهِمَا ذَلِكَ فَقَالَ: بَلْ هُوَ يُعَلِّمُنِي

، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ فِي مَكَّةَ غُلَامٌ أَعْجَمِيٌّ لِبَعْضِ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُ: بَلْعَامُ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُهُ الْإِسْلَامَ فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: هَذَا يُعَلِّمُ مُحَمَّدًا مِنْ جِهَةِ الْأَعَاجِمِ.

وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْإِشَارَةُ إِلَى سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، وَضُعِّفَ هَذَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ سَلْمَانَ إِنَّمَا أَسْلَمَ بعد الهجرة، وهذا السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ إِلَّا مَا نُبِّهَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَدَنِيٌّ. وَاللِّسَانُ: هُنَا اللُّغَةُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: اللِّسَانُ الَّذِي بِتَعْرِيفِ اللِّسَانِ بِالْ، وَالَّذِي صِفَتُهُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: يَلْحَدُونَ مَنْ لَحَدَ ثُلَاثِيًّا، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَلْحَةَ، وَالسُّلَمِيِّ، وَالْأَعْمَشِ، وَمُجَاهِدٍ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ، وَابْنُ الْقَعْقَاعِ: بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ مَنْ أَلْحَدَ رُبَاعِيًّا وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُقَالُ أَلْحَدَ الْقَبْرَ ولحده، فهو ملحد وملحودا ذا أَمَالَ حَفْرَهُ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ فَحَفَرَ فِي شِقٍّ مِنْهُ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِكُلِّ إِمَالَةٍ عَنِ اسْتِقَامَةٍ فَقَالُوا: أَلْحَدَ فُلَانٌ فِي قَوْلِهِ: وَأَلْحَدَ فِي دِينِهِ لِأَنَّهُ أَمَالَ دِينَهُ عَنِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا، لم

(1) سورة النحل: 16/ 64.

ص: 595

يُمِلْهُ مِنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ. وَالْمَعْنَى: لِسَانُ الرَّجُلِ الَّذِي يُمِيلُونَ قَوْلَهُمْ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ إِلَيْهِ لِسَانٌ أَعْجَمِيٌّ غَيْرُ بَيِّنٍ، وَهَذَا الْقُرْآنُ لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ذُو بَيَانٍ وَفَصَاحَةٍ، رَدًّا لِقَوْلِهِمْ وَإِبْطَالًا لِطَعْنِهِمْ انْتَهَى. وَظَاهِرُ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ: أَنَّ اللِّسَانَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ اللُّغَةُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:

وَهَذَا عَلَى أَنْ يُجْعَلَ اللِّسَانُ هُنَا الْجَارِحَةَ. وَاللِّسَانُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ اللُّغَةُ، ويحتمل أن يراد وَهَذَا عَلَى أَنْ يُجْعَلَ اللِّسَانُ هُنَا الْجَارِحَةَ. وَاللِّسَانُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ اللُّغَةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْمَعْنَى أَنْتُمْ أَفْصَحُ وَأَبْلَغُهُمْ وَأَقْدَرُهُمْ عَلَى الْكَلَامِ نَظْمًا وَنَثْرًا، وَقَدْ عَجَزْتُمْ وَعَجَزَ جَمِيعُ الْعَرَبِ، فَكَيْفَ تَنْسُبُونَهُ إِلَى أَعْجَمِيٍّ أَلْكَنَ؟

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : الْجُمْلَةُ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ لبيان الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ، مَا مَحَلُّهَا؟ (قُلْتُ) : لَا مَحَلَّ لَهَا، لِأَنَّهَا مُسْتَأْنَفَةُ جَوَابٌ لِقَوْلِهِمْ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ اللَّهُ:

أَعْلَمُ، حَيْثُ يَجْعَلُ رسالاته بَعْدَ قَوْلِهِ: وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ «1» انْتَهَى. وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً حَالِيَّةً فَمَوْضِعُهَا نَصْبٌ وَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ أَيْ: يَقُولُونَ ذَلِكَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَيْ: عِلْمُهُمْ بِأَعْجَمِيَّةِ هَذَا الْبَشَرِ وَإِبَانَةِ عَرَبِيَّةِ هَذَا الْقُرْآنَ كَانَ يَمْنَعُهُمْ مِنْ تِلْكَ الْمَقَالَةِ، كَمَا تَقُولُ: تَشْتُمُ فُلَانًا وَهُوَ قَدْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ أَيْ: عِلْمُكَ بِإِحْسَانِهِ لَكَ كَانَ يَقْتَضِي مَنْعَكَ مِنْ شَتْمِهِ. وَإِنَّمَا ذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى الِاسْتِئْنَافِ وَلَمْ يَذْهَبْ إِلَى الْحَالِ، لِأَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ مَجِيءَ الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ الِاسْمِيَّةِ بِغَيْرِ وَاوٍ شَاذٌّ، وَهُوَ مَذْهَبٌ مَرْجُوحٌ جِدًّا، وَمَجِيءُ ذَلِكَ بِغَيْرِ وَاوٍ لَا يَكَادُ يَنْحَصِرُ كَثْرَةً فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَهُوَ مَذْهَبٌ تَبِعَ فِيهِ الفراء، وأما الله أَعْلَمُ فَظَاهِرُ قَوْلِهِ فِيهَا، لِأَنَّهَا جُمْلَةٌ خَالِيَةٌ مِنْ ضَمِيرٍ يَعُودُ عَلَى ذِي الْحَالِ، لِأَنَّ ذَا الْحَالِ هُوَ ضَمِيرُ قَالُوا، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ذُو الْحَالِ ضَمِيرُ يَقُولُونَ، وَالضَّمِيرُ الَّذِي فِي جُمْلَةِ الْحَالِ هُوَ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ فِي يُلْحِدُونَ، فَالْجُمْلَةُ وَإِنْ عُرِّيَتْ عَنِ الْوَاوِ فَفِيهَا ضَمِيرُ ذِي الْحَالِ.

إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ

(1) سورة الأنعام: 6/ 124.

ص: 596

الْكافِرِينَ أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى نِسْبَتَهُمْ إِلَى الِافْتِرَاءِ إِلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّ مَا أَتَى بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ إِيَّاهُ بَشَرٌ، كَانَ ذَلِكَ تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ بِانْتِفَاءِ الْإِيمَانِ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ أَبَدًا إِذْ كَانُوا جَاحِدِينَ آيَاتِ اللَّهِ، وَهُوَ مَا أَتَى بِهِ الرَّسُولُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَخُصُوصًا الْقُرْآنُ، فَمَنْ بَالَغَ فِي جَحْدِ آيَاتِ اللَّهِ سَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ الْهِدَايَةِ. وَذَكَرَ تَعَالَى وَعِيدَهُ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ لَهُمْ، وَمَعْنَى لَا يَهْدِيهِمْ: لَا يَخْلُقُ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ. وَهَذَا عَامٌّ مَخْصُوصٌ، فَقَدِ اهْتَدَى قَوْمٌ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ لَا يَلْطُفُ بِهِمْ، لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْخِذْلَان فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابِ فِي الآخرة، لَا مِنْ أَهْلِ اللُّطْفِ وَالثَّوَابِ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمَفْهُومُ مِنَ الْوُجُودِ أَنَّ الَّذِينَ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِهِ، وَلَكِنَّهُ قَدَّمَ فِي هَذَا الترتيب وأخبرتهما بِتَقْبِيحِ فِعْلِهِمْ وَالتَّشْنِيعِ بِخَطَئِهِمْ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ «1» وَالْمُرَادُ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا لَمْ يَهْدِهِمُ اللَّهُ انْتَهَى. وَقَالَ الْقَاضِي: أَقْوَى مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ لَا يَهْدِيهِمْ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهُ: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَمَّا تَرَكُوا الْإِيمَانَ بِاللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ إِلَى الْجَنَّةِ بَلْ يَسُوقُهُمْ إِلَى النَّارِ. وَقَالَ الْعَسْكَرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذِهِ الْآيَاتِ لَمْ يَهْتَدُوا، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ أَيْ لَا يَهْتَدُونَ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: هَدَى اللَّهُ فُلَانًا عَلَى الْإِطْلَاقِ إِذَا اهْتَدَى هُوَ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَقْبَلِ الْهُدَى فَإِنَّهُ يُقَالُ: إِنَّ اللَّهَ هَدَاهُ فَلَمْ يَهْتَدِ، كَمَا قَالَ: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى «2» ثُمَّ رَدَّ تَعَالَى قَوْلَهُمْ: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ «3» بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ، أَيْ إِنَّمَا يَلِيقُ افْتِرَاءُ الْكَذِبِ بِمَنْ لَا يُؤْمِنُ، لِأَنَّهُ يَتَرَقَّبُ عِقَابًا عَلَيْهِ. وَلَمَّا كَانَ فِي كَلَامِهِمْ إِنَّمَا وَهُوَ يَقْتَضِي الْحَصْرَ عِنْد بَعْضِهِمْ، جَاءَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ بِإِنَّمَا أَيْضًا، وَجَاءَ بِلَفْظِ يَفْتَرِي الَّذِي يَقْتَضِي التَّجَدُّدَ، ثُمَّ عَلَّقَ الْحُكْمَ عَلَى الْوَصْفِ الْمُقْتَضِي لِلِافْتِرَاءِ وَهُوَ: انْتِفَاءُ الْإِيمَانِ، وَخَتَمَ بِقَوْلِهِ: وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ. فَاقْتَضَى التَّوْكِيدَ الْبَالِغَ وَالْحَصْرَ بِلَفْظِ الْإِشَارَةِ، وَالتَّأْكِيدَ بِلَفْظِ هُمُ، وَإِدْخَالِ الْ عَلَى الْكَاذِبُونَ، وَبِكَوْنِهِ اسْمَ فَاعِلٍ يَقْتَضِي الثُّبُوتَ وَالدَّوَامَ، فَجَاءَ يَفْتَرِي يَقْتَضِي التَّجَدُّدَ، وَجَاءَ الْكَاذِبُونَ يَقْتَضِي الثُّبُوتَ وَالدَّوَامَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأُولَئِكَ إشارة

(1) سورة الصف: 61/ 5.

(2)

سورة فصلت: 41/ 17.

(3)

سورة النحل: 16/ 101.

ص: 597

إِلَى قُرَيْشٍ هُمُ الْكَاذِبُونَ، هُمُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فَهُمُ الْكَاذِبُونَ. أَوْ إِلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ أَيْ:

وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ عَلَى الْحَقِيقَةِ الْكَامِلُونَ فِي الْكَذِبِ، لِأَنَّ تَكْذِيبَ آيَاتِ اللَّهِ أَعْظَمُ الْكَذِبِ. أَوْ أُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ عَادَتْهُمُ الْكَذِبُ لَا يُبَالُونَ بِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لَا يَحْجُبُهُمْ عَنْهُ مُرُوءَةٌ وَلَا دِينٌ. أَوْ أُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ انْتَهَى. وَالْوَجْهُ الَّذِي بَدَأَ بِهِ بَعِيدٌ، وَهُوَ أَنَّ وَأُولَئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى قُرَيْشٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ شَرْطِيَّةٌ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَهُوَ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ جِهَةِ الْإِعْرَابِ. وَلَمَّا كَانَ الْكُفْرُ يَكُونُ بِاللَّفْظِ وَبِالِاعْتِقَادِ، اسْتَثْنَى مِنَ الْكَافِرِينَ مَنْ كَفَرَ بِاللَّفْظِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، وَرَخَّصَ لَهُ فِي النُّطْقِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ إِذْ كَانَ قَلْبُهُ مُؤْمِنًا، وَذَلِكَ مَعَ الْإِكْرَاهِ. وَالْمَعْنَى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ، تَلَفَّظَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ تَقْدِيرُهُ: الْكَافِرُونَ بَعْدَ الْإِيمَانِ غَيْرُ الْمُكْرَهِينَ، فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ. وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ مَا تَضَمَّنَهُ جَوَابُ الشَّرْطِ الْمَحْذُوفِ أَيْ: فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ، إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ فَلَا غَضَبَ عَلَيْهِ وَلَا عَذَابَ، وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ وَكَذَا قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أَعْنِي الْجَوَابَ قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلُ مَنْ جَعَلَ مِنْ شَرْطًا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مَنْ فِي قَوْلِهِ مَنْ كَفَرَ ابْتِدَاءٌ، وَقَوْلُهُ: مَنْ شَرَحَ تَخْصِيصٌ مِنْهُ، وَدَخَلَ الِاسْتِثْنَاءُ لِإِخْرَاجِ عَمَّارٍ وَشَبَهِهِ. وَدَنَا مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ الِاسْتِدْرَاكُ بَلَكِنْ وَقَوْلُهُ: فَعَلَيْهِمْ، خَبَرٌ عَنْ مَنِ الْأَوْلَى وَالثَّانِيَةِ، إِذْ هُوَ وَاحِدٌ بِالْمَعْنَى لِأَنَّ الْإِخْبَارَ فِي قَوْلِهِ: مَنْ كَفَرَ، إِنَّمَا قُصِدَ بِهِ الصِّنْفُ الشَّارِحُ بِالْكُفْرِ انْتَهَى. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ كَمَا ذَكَرَ فَهَاتَانِ جُمْلَتَانِ شَرْطِيَّتَانِ، وَقَدْ فُصِلَ بَيْنَهُمَا بِأَدَاةِ الِاسْتِدْرَاكِ، فَلَا بُدَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنْ جَوَابٍ عَلَى انْفِرَادِهِ لَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ، فَتَقْدِيرُ الْحَذْفِ أَحْرَى عَلَى صِنَاعَةِ الْإِعْرَابِ.

وَقَدْ ضَعَّفُوا مَذْهَبِ أَبِي الْحَسَنِ فِي ادِّعَائِهِ أَنَّ قَوْلَهُ: فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ «1» وَقَوْلَهُ: فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ «2» جَوَابٌ لِأَمَّا، وَلِأَنَّ هَذَا وَهُمَا أَدَاتَا شَرْطٍ، إِحْدَاهُمَا تَلِي الْأُخْرَى، وَعَلَى كَوْنِ مَنْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً كَمَا ذَكَرْنَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً وَمَا بَعْدَهَا صِلَتُهَا، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي حَذْفِ جَوَابِ الشَّرْطِ. إِلَّا أَنَّ مَنِ الثَّانِيَةَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ شَرْطًا حَتَّى يُقَدَّرَ قَبْلَهَا مُبْتَدَأٌ لِأَنَّ مَنْ وَلِيَتْ لَكِنْ فَيَتَعَيَّنُ إِذْ ذَاكَ أَنْ تَكُونَ مَنْ مَوْصُولَةً، فَإِنْ قُدِّرَ مُبْتَدَأٌ بَعْد لَكِنْ جَازَ أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً فِي مَوْضِعِ خَبَرِ ذَلِكَ المبتدأ المقدر كقوله:

(1) سورة الواقعة: 56/ 91.

(2)

سورة الواقعة: 56/ 39.

ص: 598

وَلَكِنْ مَتَى يَسْتَرْفِدُ الْقَوْمُ أَرْفِدِ أَيْ: وَلَكِنْ أَنَا مَتَى يَسْتَرْفِدُ الْقَوْمُ أَرْفِدُ. وَكَذَلِكَ تُقَدَّرُ هُنَا، وَلَكِنْ هُمْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا أَيْ: مِنْهُمْ. وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ: أَنْ تَكُونَ بَدَلًا مِنْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ، وَمِنَ الْكَاذِبُونَ. وَلَمْ يُجِزِ الزَّجَّاجُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الْكَاذِبُونَ، لِأَنَّهُ رَأَى الْكَلَامَ إِلَى آخِرِ الِاسْتِثْنَاءِ غَيْرَ تَامٍّ، فَعَلَّقَهُ بِمَا قَبْلَهُ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ أُولَئِكَ، فَإِذَا كَانَ بَدَلًا مِنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ، جُمْلَةَ اعْتِرَاضٍ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ، وَالْمَعْنَى: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ، وَاسْتَثْنَى مِنْهُمُ الْمُكْرَهَ فَلَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ حُكْمِ الِافْتِرَاءِ. وَإِذَا كَانَ بَدَلًا مِنِ الْكَاذِبُونَ فَالتَّقْدِيرُ: وَأُولَئِكَ هُمْ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ، وَإِذَا كَانَ بَدَلًا مِنِ أُولَئِكَ فَالتَّقْدِيرُ: وَمَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ.

وَهَذِهِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ عِنْدِي ضَعِيفَةٌ. لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ إِلَّا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ، وَالْوُجُودُ يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ يَفْتَرِي الْكَذِبَ هُوَ الَّذِي لَا يُؤْمِنُ، وَسَوَاءٌ كَانَ مِمَّنْ كَفَرَ بَعْدَ الْإِيمَانِ أَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ لَمْ يُؤْمِنْ قَطُّ، بَلْ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ قَطُّ هُمُ الْأَكْثَرُونَ الْمُفْتَرُونَ الْكَذِبَ. وأما الثاني فيؤول الْمَعْنَى إِلَى ذَلِكَ، إِذِ التَّقْدِيرُ: وَأُولَئِكَ أَيِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ هُمْ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ، وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ هُمُ الْمُفْتَرُونَ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَكَذَلِكَ. إِذِ التَّقْدِيرُ: أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ هُمْ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ، مُخْبِرٌ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمُ الْكَاذِبُونَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الذَّمِّ انْتَهَى. وَهَذَا أَيْضًا بَعِيدٌ، وَالَّذِي تَقْتَضِيهِ فَصَاحَةُ الْكَلَامِ جَعْلُ الْجُمَلِ كُلِّهَا مُسْتَقِلَّةً لَا تَرْتَبِطُ بِمَا قَبْلَهَا مِنْ حَيْثُ الْإِعْرَابِ، بَلْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَالْمُنَاسَبَةُ وَفِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ فَعَلَ الْمُكْرَهَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَإِذَا كَانَ قَدْ سُومِحَ لِكَلِمَةِ الْكُفْرِ أَوْ فِعْلِ مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ، فَالْمُسَامَحَةُ بِغَيْرِهِ مِنَ الْمَعَاصِي أَوْلَى. وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْإِكْرَاهِ الْمُبِيحِ لِذَلِكَ، وَفِي تَفْصِيلِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَقَعُ الْإِكْرَاهُ فِيهَا، وَذَلِكَ كُلُّهُ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَالْمُكْرَهُونَ عَلَى الْكُفْرِ الْمُعَذَّبُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ: خَبَّابٌ، وَصُهَيْبٌ، وَبِلَالٌ، وَعَمَّارٌ، وَأَبَوَاهُ يَاسِرٌ وَسُمَيَّةُ، وَسَالِمٌ، وَحَبْرٌ، عُذِّبُوا فَأَجَابَهُمْ عَمَّارٌ وَحَبْرٌ بِاللَّفْظِ فَخُلِّيَ سَبِيلُهُمَا، وَتَمَادَى الْبَاقُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَقُتِلَ يَاسِرٌ وَسُمَيَّةُ، وَهُمَا أَوَّلُ قَتِيلٍ فِي الْإِسْلَامِ، وَعُذِّبَ بِلَالٌ وَهُوَ يَقُولُ:(أَحَدٌ أَحَدٌ) وَعُذِّبَ خَبَّابٌ بِالنَّارِ فَمَا أَطْفَأَهَا إِلَّا وَدَكُ ظَهْرِهِ. وَجَمَعَ الضَّمِيرَ فِي فَعَلَيْهِمْ عَلَى مَعْنَى مَنْ، وَأَفْرَدَ فِي شَرْحٍ

ص: 599

عَلَى لَفْظِهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا اسْتَحَقُّوهُ مِنَ الْغَضَبِ وَالْعَذَابِ أَيْ: كَائِنٌ لَهُمْ بِسَبَبِ اسْتِحْبَابِهِمُ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَاسْتِحْقَاقُهُمْ خِذْلَانَ اللَّهِ بِكُفْرِهِمْ انْتَهَى. وَهِيَ نَزْغَةٌ اعْتِزَالِيَّةٌ. وَالضَّمِيرُ فِي بِأَنَّهُمْ عَائِدٌ عَلَى مَنْ فِي مَنْ شَرَحَ: وَلَمَّا فَعَلُوا فِعْلَ مَنِ اسْتَحَبَّ، أُلْزِمُوا ذَلِكَ وَإِنْ كَانُوا غيره مُصَدِّقِينَ بِآخِرِهِ، لَكِنَّ مِنْ حَيْثُ أَعْرَضُوا عَنِ النَّظَرِ فِيهِ كَانُوا كَمَنِ اسْتَحَبَّ غَيْرَهُ. وَقَوْلُهُ: اسْتَحَبُّوا، هُوَ تَكَسُّبٌ مِنْهُمْ عُلِّقَ بِهِ الْعِقَابُ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي إِشَارَةٌ إِلَى اخْتِرَاعِ اللَّهِ الْكُفْرَ فِي قُلُوبِهِمْ، فَجَمَعَتِ الْآيَةُ بَيْنَ الْكَسْبِ وَالِاخْتِرَاعِ، وَهَذَا عَقِيدَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَقِيلَ: ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الِارْتِدَادِ وَالْإِقْدَامِ عَلَى الْكُفْرِ، لِأَجْلِ أَنَّهُمْ رَجَّحُوا الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى مَا هَدَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الطَّبْعِ عَلَى الْقُلُوبِ وَالسَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْخَتْمِ عَلَيْهَا. وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَنْ مَا يُرَادُ مِنْهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْكَامِلُونَ فِي الْغَفْلَةِ الَّذِينَ لَا أَحَدَ أَغْفَلُ مِنْهُمْ، لِأَنَّ الْغَفْلَةَ عَنْ تَدَبُّرِ الْعَوَاقِبِ هِيَ غَايَةُ الْغَفْلَةِ وَمُنْتَهَاهَا. وَلَمَّا كَانَ الْإِسْنَادُ لِيَكْتَسِبَ بِالطَّاعَاتِ سَعَادَةَ الْآخِرَةِ، فَعَمِلَ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَاصِي الْكُفْرِ وَغَيْرِهِ عَظُمَ خُسْرَانُهُ فَقِيلَ فِيهِمْ:

هُمُ الْخَاسِرُونَ لَا غَيْرُهُمْ. وَمَنْ أَخْسَرُ مِمَّنِ اتَّصَفَ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ السَّابِقَةِ مِنْ كَيْنُونَةِ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَاسْتِحْبَابِ الدُّنْيَا، وَانْتِفَاءِ هِدَايَتِهِمْ، وَالْإِخْبَارِ بِالطَّبْعِ وَبِغَفْلَتِهِمْ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ الْإِيمَانِ، وَحَالَ مَنْ أُكْرِهَ، ذَكَرَ حَالَ مَنْ هاجر بعد ما فُتِنَ.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مَدَنِيَّةٌ، وَلَا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:

نَزَلَتْ فَكَتَبَ بِهَا الْمُسْلِمُونَ إِلَى مَنْ كَانَ أَسْلَمَ بِمَكَّةَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لَكُمْ مَخْرَجًا، فَخَرَجُوا، فَأَدْرَكَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى نَجَا مَنْ نَجَا وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ، فَعَلَى هَذَا السَّبَبِ يَكُونُ جِهَادُهُمْ مَعَ الرَّسُولِ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ خَرَجُوا وَاتَّبَعُوا وَجَاهَدُوا مُتَّبِعِيهِمْ، فَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ، وَنَجَا مَنْ نَجَا، فَنَزَلَتْ حِينَئِذٍ، فَعَنَى بِالْجِهَادِ جِهَادَهُمْ لِمُتَّبِعِيهِمْ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:

نَزَلَتْ فِي عَمَّارٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذِكْرُ عَمَّارٍ فِي هَذَا غَيْرُ قَوِيمٍ، فَإِنَّهُ أَرْفَعُ مِنْ طَبَقَةِ هَؤُلَاءِ، وَإِنَّمَا هَؤُلَاءِ مِنْ بَابِ مِمَّنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا أَفَتَحَ اللَّهُ لَهُمْ بَابَ التَّوْبَةِ فِي آخِرِ الْآيَةِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ: نَزَلَتْ فِي شَأْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ وَأَشْبَاهِهِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: مِنْ بَعْدِ مَا فَتَنَهُمُ الشَّيْطَانُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ دَلَالَةٌ عَلَى تَبَاعُدِ حَالِ هَؤُلَاءِ مِنْ حَالِ أُولَئِكَ، وَهُمْ عمار وأصحابه. وللذين عِنْدَ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي مَوْضِعِ خبران قَالَ: وَمَعْنَى إِنَّ رَبَّكَ لَهُمْ أَنَّهُ لَهُمْ لَا عَلَيْهِمْ، بِمَعْنَى أَنَّهُ وَلِيُّهُمْ وَنَاصِرُهُمْ،

ص: 600

لَا عَدُوُّهُمْ وَخَاذِلُهُمْ كَمَا يَكُونُ الْمَلِكُ لِلرَّجُلِ: لَا عَلَيْهِ، فَيَكُونُ مَحْمِيًّا مَنْفُوعًا غَيْرَ مَضْرُورٍ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: مَنْفُوعًا اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ نَفَعَ، وَهُوَ قِيَاسُهُ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ ثُلَاثِيٌّ. وَزَعَمَ الْأَهْوَازِيُّ النَّحْوِيُّ أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ مِنْ نَفَعَ اسْمُ مَفْعُولٍ، فَلَا يُقَالُ مَنْفُوعٌ وَقَفْتُ لَهُ عَلَيْهِ فِي شَرْحِهِ مُوجَزِ الرُّمَّانِيِّ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: خَبَرُ إِنَّ الْأُولَى قَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ لَغَفُورٌ، وَإِنَّ الثَّانِيَةُ وَاسْمُهَا تَكْرِيرٌ لِلتَّوْكِيدِ انْتَهَى. وَإِذَا كَانَتْ إِنَّ الثَّانِيَةُ وَاسْمُهَا تَكْرِيرًا لِلتَّوْكِيدِ كَمَا ذُكِرَ، فَالَّذِي يَقْتَضِيهِ صِنَاعَةُ الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ إِنَّ الْأَوْلَى هُوَ قَوْلَهُ: لَغَفُورٌ، وَيَكُونُ لِلَّذِينَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: لَغَفُورٌ، أَوْ بِرَحِيمٍ عَلَى الْإِعْمَالِ، لِأَنَّ إِنَّ رَبَّكَ الثَّانِيَةَ لَا يَكُونُ لَهَا طَلَبٌ لِمَا بَعْدَهَا مِنْ حَيْثُ الْإِعْرَابِ.

كَمَا أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: قَامَ قَامَ زَيْدٌ، فَزَيْدٌ إِنَّمَا هُوَ مَرْفُوعٌ بِقَامَ الْأُولَى، لِأَنَّ الثَّانِيَةَ ذُكِرَتْ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ لِلْأُولَى. وَقِيلَ: لَا خَبَرَ لِأَنَّ الْأُولَى فِي اللَّفْظِ لِأَنَّ خَبَرَ الثَّانِيَةِ أَغْنَى عَنْهُ انْتَهَى.

وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّهُ أَلْغَى حُكْمَ الْأُولَى وَجَعَلَ الْحُكْمَ لِلثَّانِيَةِ، وَهُوَ عَكْسُ مَا تَقَدَّمَ، وَلَا يَجُوزُ. وَقِيلَ: لِلَّذِينَ مُتَعَلِّقٍ بِمَحْذُوفٍ عَلَى جِهَةِ الْبَيَانِ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَعْنِي لِلَّذِينِ، أَيِ الْغُفْرَانَ لِلَّذِينِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فُتِنُوا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ أَيْ: بِالْعَذَابِ وَالْإِكْرَاهِ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: فَتَنُوا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ هَاجَرُوا، فَالْمَعْنَى: فَتَنُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا أَعْطَوُا الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْقَوْلِ كَمَا فَعَلَ عَمَّارٌ. أَوْ لَمَّا كَانُوا صَابِرِينَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَعُذِّبُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ صَارُوا كَأَنَّهُمْ هُمُ الْمُعَذِّبُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَيْ: مِنْ بَعْدِ مَا عَذَّبُوا الْمُؤْمِنِينَ كَالْحَضْرَمِيِّ وَأَشْبَاهِهِ. وَالضَّمِيرُ في من بعدها عائد عَلَى الْمَصَادِرِ الْمَفْهُومَةِ مِنَ الْأَفْعَالِ السَّابِقَةِ أَيْ: مِنْ بَعْدِ الْفِتْنَةِ وَالْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ وَالصَّبْرِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالضَّمِيرُ فِي بَعْدِهَا عَائِدٌ عَلَى الْفِتْنَةِ، أَوِ الْهِجْرَةِ، أَوِ التَّوْبَةِ، وَالْكَلَامُ يُعْطِيهَا وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ صَرِيحٌ.

يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ: يَوْمَ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ، وَنَاصِبُهُ رَحِيمٌ، أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، وَنَاصِبُهُ اذْكُرْ. وَالظَّاهِرُ عُمُومُ كُلِّ نَفْسٍ، فَيُجَادِلُ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، وَجِدَالُهُ بِالْكَذِبِ وَالْجَحَدِ، فَيَشْهَدُ عَلَيْهِمُ الرُّسُلُ وَالْجَوَارِحُ، فَحِينَئِذٍ لَا يَنْطِقُونَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ:

ص: 601

الْجِدَالُ قَوْلُ كُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ: نَفْسِي نَفْسِي. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا لَيْسَ بِجِدَالٍ وَلَا احْتِجَاجٍ، إِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ رَغْبَةٍ. وَاخْتَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا الْقَوْلَ، وَرَكَّبَ مَعَهُ مَا قَبْلَهُ فَقَالَ:

كَأَنَّهُ قِيلَ يَوْمَ يَأْتِي كُلُّ إِنْسَانٍ يُجَادِلُ عَنْ ذَاتِهِ لَا يُهِمُّهُ شَأْنُ غَيْرِهِ، كُلٌّ يَقُولُ: نَفْسِي نَفْسِي.

وَمَعْنَى الْمُجَادَلَةِ الِاعْتِذَارُ عَنْهَا كَقَوْلِهِمْ: هؤُلاءِ أَضَلُّونا «1» وما كُنَّا مُشْرِكِينَ وَنَحْوُ ذَلِكَ.

وَقَالَ: يُقَالُ لَعِينِ الشَّيْءِ وَذَاتِهِ نَفْسُهُ، وَفِي نَقِيضِهِ غَيْرُهُ، وَالنَّفْسُ الْجُمْلَةُ كَمَا هِيَ، فَالنَّفْسُ الْأُولَى هِيَ الْجُمْلَةُ، وَالثَّانِيَةُ عَيْنُهَا وَذَاتُهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ كُلُّ ذِي نَفْسٍ، ثُمَّ أُجْرِيَ الْفِعْلُ عَلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ الْمَذْكُورِ، فَأَثْبَتَ الْعَلَامَةَ. وَنَفْسٌ الْأُولَى هِيَ النَّفْسُ الْمَعْرُوفَةُ، وَالثَّانِيَةُ هِيَ بِمَعْنَى الْبَدَنِ كَمَا تَقُولُ: نَفْسُ الشَّيْءِ وَعَيْنُهُ أَيْ ذَاتُهُ. وَقَالَ الْعَسْكَرِيُّ: الْإِنْسَانُ يُسَمَّى نَفْسًا تَقُولُ الْعَرَبُ: مَا جَاءَنِي إِلَّا نَفْسٌ وَاحِدَةٌ أَيْ: إِنْسَانٌ وَاحِدٌ. وَالنَّفْسُ فِي الْحَقِيقَةِ لَا تَأْتِي، لِأَنَّهَا هِيَ الشَّيْءُ الَّذِي يَعِيشُ بِهِ الْإِنْسَانُ انْتَهَى.

(فَإِنْ قُلْتَ) : لِمَ لَمْ يَتَعَدَّ الْفِعْلُ إِلَى الضَّمِيرِ، لَا إِلَى لَفْظِ النَّفْسِ؟ (قُلْتُ) : مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْفِعْلَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ ظَنَّ، وَفَقَدَ لَا يَتَعَدَّى فِعْلُ ظَاهِرِ فَاعِلِهِ، وَلَا مُضْمَرِهِ إِلَى مُضْمَرِهِ الْمُتَّصِلِ، فَلِذَلِكَ لم يجىء التَّرْكِيبُ تُجَادِلُ عَنْهَا، وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ: ضَرَبَتْهَا هِنْدٌ وَلَا هِنْدٌ ضَرَبَتْهَا، وَإِنَّمَا تَقُولُ: ضَرَبَتْ نَفْسَهَا هِنْدٌ، وَضَرَبَتْ هِنْدٌ نَفْسَهَا، مَا عَمِلَتْ أَيْ: جَزَاءَ مَا عَمِلَتْ مِنْ إِحْسَانٍ أَوْ إِسَاءَةٍ، وَأَنَّثَ الْفِعْلَ فِي تَأْتِي، وَالضَّمِيرَ فِي تُجَادِلُ وفي عن نفسها، وَفِي تُوُفَّى، وَفِي عَمِلَتْ، حَمْلًا عَلَى مَعْنَى كُلُّ، وَلَوْ رُوعِيَ اللَّفْظُ لَذُكِّرَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

جَادَتْ عَلَيْهَا كُلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ

فَتَرَكْنَ كُلَّ حَدِيقَةٍ كَالدِّرْهَمِ

فَأَنَّثَ عَلَى الْمَعْنَى. وَمَا ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْجِدَالَ هُنَا هُوَ جِدَالُ الْجَسَدِ لِلرُّوحِ، وَالرُّوحِ لِلْجَسَدِ لَا يَظْهَرُ قَالَ: يَقُولُ الْجَسَدُ: رَبِّ جَاءَ الرُّوحُ بِأَمْرِكَ بِهِ نَطَقَ لِسَانِي وَأَبْصَرَتْ عَيْنِي وَمَشَتْ رِجْلِي، فَتَقُولُ الرُّوحُ: أَنْتَ كَسَبْتَ وَعَصَيْتَ لَا أَنَا، وَأَنْتَ كُنْتَ الْحَامِلَ وَأَنَا الْمَحْمُولُ، فَيَقُولُ اللَّهُ عز وجل: أَضْرِبُ لَكُمَا مَثَلَ أَعْمَى حَمَلَ مُقْعَدًا إِلَى بُسْتَانٍ فَأَصَابَا مِنْ ثِمَارِهِ، فَالْعَذَابُ عَلَيْكُمَا. وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَقَتَادَةَ: أَنَّ الْقَرْيَةَ الْمَضْرُوبَ بِهَا الْمَثَلُ مَكَّةُ، كَانَتْ لَا تُغْزَى وَلَا يُغَارُ عَلَيْهَا، وَالْأَرْزَاقُ تُجْلَبُ إِلَيْهَا، وَأَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِالرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فَكَفَرَتْ، فَأَصَابَهَا السُّنُونَ وَالْخَوْفُ. وَسَرَايَا الرَّسُولِ وَغَزَوَاتُهُ ضُرِبَتْ مَثَلًا لِغَيْرِهَا مِمَّا يَأْتِي بَعْدَهَا. وهذا وإن كَانَتِ الْآيَةُ مَدَنِيَّةً، وَإِنْ كَانَتْ مَكِّيَّةً فَجُوعُ السِّنِينَ وخوف

(1) سورة الأعراف: 7/ 38.

ص: 602

الْعَذَابِ بِسَبَبِ التَّكْذِيبِ. وَيُؤَيِّدُ كَوْنَهَا مَكِّيَّةً قَوْلُهُ: وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَرْيَةً مِنْ قُرَى الْأَوَّلِينَ. وَعَنْ حَفْصَةَ: أَنَّهَا الْمَدِينَةُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يَتَوَجَّهُ عِنْدِي أَنَّهَا قُصِدَ بِهَا قَرْيَةٌ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ، جُعِلَتْ مَثَلًا لِمَكَّةَ عَلَى مَعْنَى التَّحْذِيرِ لِأَهْلِهَا وَلِغَيْرِهَا مِنَ الْقُرَى إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ قرية مقدرة على هذه الصِّفَةِ، وَأَنْ يَكُونَ فِي قُرَى الْأَوَّلِينَ قَرْيَةٌ كَانَتْ هَذِهِ حَالَهَا، فَضَرَبَهَا اللَّهُ مَثَلًا لِمَكَّةَ إِنْذَارًا مِنْ مِثْلِ عَاقِبَتِهَا انْتَهَى. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ قرية مقدرة على هذه الصفة، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهَا لِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ. كَانَتْ آمِنَةً ابْتَدَأَ بِصِفَةِ الْأَمْنِ، لِأَنَّهُ لَا يُقِيمُ لِخَائِفٍ. وَالِاطْمِئْنَانُ زِيَادَةٌ فِي الْأَمْنِ، فَلَا يُزْعِجُهَا خَوْفٌ. يَأْتِيهَا رِزْقُهَا أَقْوَاتُهَا وَاسِعَةٌ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهَا، لَا يَتَعَذَّرُ مِنْهَا جِهَةٌ. وَأَنْعُمٌ جَمْعُ نَعْمَةٍ، كَشَدَّةٍ وَأَشُدٍّ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: جَمْعُ نِعَمٍ بِمَعْنَى النَّعِيمِ، يُقَالُ: هَذِهِ أَيَّامُ طُعْمٍ وَنَعْمٍ انْتَهَى. فَيَكُونُ كَبُؤْسٍ وَأَبْؤُسٍ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَمَعَ نِعْمَةً عَلَى تَرْكِ التَّاءِ، وَالِاعْتِدَادِ بِالتَّاءِ كَدِرْعٍ وَأَدْرُعٍ. وَقَالَ الْعُقَلَاءُ:

ثَلَاثَةٌ لَيْسَ لَهَا نِهَايَةٌ: الْأَمْنُ، وَالصِّحَّةُ وَالْكِفَايَةُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: آمِنَةً إِشَارَةٌ إِلَى الْأَمْنِ، مُطَمْئِنَّةً إِشَارَةٌ إِلَى الصِّحَّةِ، لِأَنَّ هَوَاءَ ذَلِكَ لَمَّا كَانَ مُلَازِمًا لِأَمْزِجَتِهِمُ اطْمَأَنُّوا إِلَيْهَا وَاسْتَقَرُّوا، يَأْتِيهَا رِزْقُهَا السَّبَبُ فِي ذَلِكَ دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ «1» وَقَالَ: الْأَنْعُمُ جَمْعُ نِعْمَةٍ وَجَمْعُ قِلَّةٍ، وَلَمْ يَأْتِ بِنِعَمِ اللَّهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَصَدَ التَّنْبِيهِ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى بِمَعْنَى أَنَّ كُفْرَانَ النِّعَمِ الْقَلِيلَةِ أَوْجَبَ الْعَذَابَ، فَكُفْرَانُ الْكَثِيرَةِ أَوْلَى بِإِيجَابِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَمَا بَاشَرَهُمْ ذَلِكَ صَارَ كَاللِّبَاسِ، وَهَذَا كَقَوْلِ الْأَعْشَى:

إِذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدَهَا

تَثَنَّتْ فَكَانَتْ عَلَيْهِ لِبَاسًا

وَنَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ «2» وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

وَقَدْ لَبِسَتْ بَعْدَ الزُّبَيْرِ مُجَاشِعُ

ثِيَابَ الَّتِي حَاضَتْ وَلَمْ تَغْسِلِ الدَّمَا

كَأَنَّ الْعَارَ لَمَّا بَاشَرَهُمْ وَلَصِقَ بِهِمْ جَعَلَهُمْ لَبِسُوهُ. وَقَوْلُهُ: فَأَذَاقَهَا اللَّهُ، نَظِيرُ قَوْلِهِ: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ «3» ونظير قول الشاعر:

(1) سورة ابراهيم: 14/ 37.

(2)

سورة البقرة: 2/ 187.

(3)

سورة الدخان: 44/ 49. [.....]

ص: 603

دُونَكَ ما جَنَيْتَهُ فَاحْسُ وَذُقْ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْإِذَاقَةُ وَاللِّبَاسُ اسْتِعَارَتَانِ، فَمَا وَجْهُ صِحَّتِهِمَا؟ وَالْإِذَاقَةُ الْمُسْتَعَارَةُ مُوقَعَةٌ عَلَى اللِّبَاسِ فَمَا وَجْهُ صِحَّةِ إِيقَاعِهَا؟ (قُلْتُ) : أَمَّا الْإِذَاقَةُ فَقَدْ جَرَتْ عِنْدَهُمْ مَجْرَى الْحَقِيقَةِ لِشُيُوعِهَا فِي الْبَلَايَا وَالشَّدَائِدِ وَمَا يَمَسُّ النَّاسَ مِنْهَا فَيَقُولُونَ: ذَاقَ فُلَانٌ الْبُؤْسَ وَالضُّرَّ، وَإِذَاقَةُ الْعَذَابِ شَبَّهَ مَا يُدْرَكُ مِنْ أَثَرِ الضَّرَرِ وَالْأَلَمِ بِمَا يُدْرَكُ مِنْ طَعْمِ الْمُرِّ وَالْبَشِعِ.

وَأَمَّا اللِّبَاسُ فَقَدْ شُبِّهَ بِهِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى اللَّابِسِ مَا غَشِيَ الْإِنْسَانَ وَالْتَبَسَ بِهِ مِنْ بَعْضِ الْحَوَادِثِ. وَأَمَّا إِيقَاعُ الْإِذَاقَةِ عَلَى لِبَاسِ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ فَلِأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ عِبَارَةُ: عَمَّا يُغْشَى مِنْهُمَا وبلابس، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَأَذَاقَهُمْ مَا غَشِيَهُمْ مِنَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ، وَلَهُمْ فِي نَحْوِ هَذَا طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْظُرُوا فِيهِ إِلَى الْمُسْتَعَارِ لَهُ، كما نظر إليه هاهنا، وَنَحْوُهُ قَوْلُ كُثَيِّرٍ:

غَمْرُ الرِّدَاءِ إِذَا تَبَسَّمَ ضَاحِكًا

غُلِقَتْ لِضُحْكَتِهِ رِقَابُ الْمَالِ

اسْتَعَارَ الرِّدَاءَ لِلْمَعْرُوفِ، لِأَنَّهُ يَصُونُ عِرْضَ صَاحِبِهِ، صَوْنَ الرِّدَاءِ لِمَا يُلْقَى عَلَيْهِ. وَوَصَفَهُ بِالْغَمْرِ الَّذِي هُوَ وَصْفُ الْمَعْرُوفِ وَالنَّوَالِ، لَا صِفَةُ الرِّدَاءِ، نَظَرًا إِلَى الْمُسْتَعَارِ لَهُ. وَالثَّانِي:

أَنْ يَنْظُرُوا فِيهِ إِلَى الْمُسْتَعَارِ كَقَوْلِهِ:

يُنَازِعُنِي رِدَائِي عَبْدُ عَمْرٍو

رُوَيْدَكَ يَا أَخَا عَمْرِو بْنِ بَكْرِ

لِيَ الشَّطْرُ الَّذِي مَلَكَتْ يَمِينِي

وَدُونَكَ فَاعْتَجِرْ مِنْهُ بِشَطْرِ

أَرَادَ بِرِدَائِهِ سَيْفَهُ ثُمَّ قَالَ: فَاعْتَجِرْ مِنْهُ بِشَطْرٍ، فَنُظِرَ إِلَى الْمُسْتَعَارِ فِي لَفْظِ: الِاعْتِجَارِ، وَلَوْ نُظِرَ إِلَيْهِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لقيل: فكساهم لبس الْجُوعِ وَالْخَوْفِ، وَلَقَالَ كُثَيِّرٌ: ضَافِي الرِّدَاءِ إِذَا تَبَسَّمَ ضَاحِكًا انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْأَمْنِ وَإِتْيَانِ الرِّزْقِ، قَابَلَهُمَا بِالْجُوعِ النَّاشِئِ عَنِ انْقِطَاعِ الرِّزْقِ وَبِالْخَوْفِ. وَقَدَّمَ الْجُوعَ لَيَلِيَ الْمُتَأَخِّرَ وَهُوَ إِتْيَانُ الرِّزْقِ كَقَوْلِهِ:

يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ «1» وَأَمَّا قوله: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ «2» فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النار فقدم ما بدىء بِهِ وَهُمَا طَرِيقَانِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:

وَالْخَوْفِ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى الْجُوعِ. وَرَوَى الْعَبَّاسُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: وَالْخَوْفَ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى لِبَاسٍ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبُهُ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، أَصْلُهُ وَلِبَاسَ

(1) سورة آل عمران: 3/ 106.

(2)

سورة هود: 11/ 105.

ص: 604

الْخَوْفِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ الْخَوْفَ وَالْجُوعَ، وَلَا يُذْكَرُ لِبَاسَ. وَالَّذِي أَقُولُهُ: إِنَّ هَذَا تَفْسِيرُ الْمَعْنَى لَا قِرَاءَةٌ، لِأَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْهُ مُسْتَفِيضًا مِثْلُ مَا فِي سَوَادِ الْمُصْحَفِ. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ لِبَاسَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ، بَدَأَ بِمُقَابِلِ مَا بَدَأَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: كَانَتْ آمِنَةً، وَهَذَا عِنْدِي إِنَّمَا كَانَ فِي مُصْحَفِهِ قَبْلَ أَنْ يَجْمَعُوا مَا فِي سَوَادِ الْمُصْحَفِ الْمَوْجُودِ الْآنَ شَرْقًا وَغَرْبًا، وَلِذَلِكَ الْمُسْتَفِيضِ عَنْ أُبَيٍّ فِي الْقِرَاءَةِ إِنَّمَا هُوَ كَقِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ مِنْ كُفْرَانِ نِعَمِ اللَّهِ، وَمِنْهَا تَكْذِيبُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي جَاءَهُمْ. وَالضَّمِيرُ فِي بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ عَائِدٌ عَلَى الْمَحْذُوفِ فِي قَوْلِهِ: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً، أَيْ: قِصَّةَ أَهْلِ قَرْيَةٍ، أَعَادَ الضَّمِيرَ أَوَّلًا عَلَى لَفْظِ قَرْيَةٍ، ثُمَّ عَلَى الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ كَقَوْلِهِ: فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً «1» أَوْ هُمْ قائِلُونَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي وَلَقَدْ جَاءَهُمْ، عَائِدٌ عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي جَاءَهُمْ لِأَهْلِ تِلْكَ الْمَدِينَةِ، يَكُونُ هَذَا بِمَا جَرَى فِيهَا كَمَدِينَةِ شُعَيْبٍ عليه السلام وَغَيْرِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِأَهْلِ مَكَّةَ.

وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: لَمَّا ذَكَرَ الْمَثَلَ قَالَ: وَلَقَدْ جَاءَهُمْ- يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ- رَسُولٌ مِنْهُمْ يَعْنِي- مِنْ أَنْفُسِهِمْ- يَعْرِفُونَهُ بِأَصْلِهِ وَنَسَبِهِ، وَلَمَّا وَعَظَ تَعَالَى بِضَرْبِ ذَلِكَ الْمَثَلِ وَصَلَ هَذَا الْأَمْرُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْفَاءِ، فَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَكْلِ مَا رَزَقَهُمْ وَشُكْرِ نِعْمَتِهِ لِيُبَايِنُوا تِلْكَ الْقَرْيَةَ الَّتِي كَفَرَتْ بِنِعَمِ اللَّهِ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ جَاءَ هُنَا: وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ. وَفِي البقرة جاء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ «2» لَمْ يَذْكُرْ مَنْ كَفَرَ نِعْمَتَهُ فَقَالَ: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ «3» وَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِالْأَكْلِ مِمَّا رَزَقَهُمْ، عَدَّدَ عَلَيْهِمْ مُحَرَّمَاتِهِ تَعَالَى وَنَهَاهُمْ عَنْ تَحْرِيمِهِمْ وَتَحْلِيلِهِمْ بِأَهْوَائِهِمْ دُونَ اتِّبَاعِ مَا شَرَعَ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ أَنْبِيَائِهِ. وَكَذَا جَاءَ فِي الْبَقَرَةِ ذِكْرُ مَا حَرَّمَ إِثْرَ قَوْلِهِ: كُلُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ. وَقَوْلِهِ: إِنَّمَا حَرَّمَ الْآيَةَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِهَا فِي الْبَقَرَةِ «4» .

وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا مَا قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ: لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى مَا حَرَّمَ، بَالَغَ فِي تَأْكِيدِ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنِ الزيادة فيما حرم

(1) سورة الأعراف: 7/ 4.

(2)

سورة البقرة: 2/ 172.

(3)

سورة البقرة: 2/ 172.

(4)

سورة البقرة: 2/ 173.

ص: 605

كَالْبَحِيرَةِ، وَالسَّائِبَةِ، وَفِيمَا أَحَلَّ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، وَذَكَرَ تَعَالَى تَحْرِيمَ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَهَذِهِ السُّورَةِ وَهُمَا مَكِّيَّتَانِ بِأَدَاةِ الْحَصْرِ، ثُمَّ كَذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالْمَائِدَةِ بِقَوْلِهِ:

أُحِلَّتْ لَكُمْ «1» الْآيَةَ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ: مَنْ إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ «2» هُوَ قَوْلُهُ:

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ «3» الْآيَةَ وَهُمَا مَدَنِيَّتَانِ فَكَانَ هَذَا التَّحْرِيمُ لِهَذِهِ الْأَرْبَعِ مُشَرَّعًا ثَانِيًا فِي أَوَّلِ مَكَّةَ وَآخِرِهَا، وَأَوَّلِ الْمَدِينَةِ وَآخِرِهَا. فَنَهَى تَعَالَى أَنْ يُحَرِّمُوا وَيُحِلُّوا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، وَيَفْتَرُونَ بِذَلِكَ عَلَى اللَّهِ حَيْثُ يَنْسُبُونَ ذَلِكَ إِلَيْهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ الْكَذِبَ بِفَتْحِ الْكَافِ وَالْبَاءِ وَكَسْرِ الذَّالِ، وَجَوَّزُوا فِي مَا فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: لِلَّذِي تَصِفُهُ أَلْسِنَتُكُمْ. وَانْتَصَبَ الْكَذِبَ عَلَى أَنَّهُ مَعْمُولٌ لِتَقُولُوا أَيْ: وَلَا تَقُولُوا الْكَذِبَ لِلَّذِي تَصِفُهُ أَلْسِنَتُكُمْ مِنَ الْبَهَائِمِ بِالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ، مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادِ ذَلِكَ الْوَصْفِ إِلَى الْوَحْيِ. وَهَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ بَدَلٌ مِنَ الْكَذِبِ، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ أَيْ: فَتَقُولُوا هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ. وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ انْتِصَابُ الْكَذِبِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرُ الْمَحْذُوفُ الْعَائِدُ عَلَى مَا، كَمَا تَقُولُ: جَاءَنِي الَّذِي ضَرَبْتُ أَخَاكَ، أَي ضَرَبْتَهُ أَخَاكَ. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ أَعْنِي. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالزَّجَّاجُ: مَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَانْتَصَبَ الْكَذِبُ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ أَيْ: لِوَصْفِ أَلْسِنَتِكُمُ الْكَذِبَ. وَمَعْمُولُ: وَلَا تَقُولُوا، الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ، وَالْمَعْنَى: وَلَا تُحَلِّلُوا وَلَا تُحَرِّمُوا لِأَجْلِ قَوْلٍ تَنْطِقُ بِهِ أَلْسِنَتُكُمْ كَذِبًا، لَا بِحُجَّةٍ وَبَيِّنَةٍ. وَهَذَا مَعْنًى بَدِيعٌ، جَعَلَ قَوْلَهُمْ: كَأَنَّهُ عَيْنُ الْكَذِبِ وَمَحْضُهُ، فَإِذَا نَطَقَتْ بِهِ أَلْسِنَتُهُمْ فَقَدْ جلت الْكَذِبَ بِحِلْيَتِهِ وَصُورَتَهُ بِصُورَتِهِ كَقَوْلِهِمْ: وَجْهُهُ يَصِفُ الْجَمَالَ، وَعَيْنُهَا تَصِفُ السِّحْرَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَابْنُ يَعْمُرَ، وَطَلْحَةُ، وَالْأَعْرَجُ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَابْنُ عُبَيْدٍ، وَنُعَيْمُ بْنُ مَيْسَرَةَ: بِكَسْرِ الْبَاءِ، وَخُرِّجَ عَلَى أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ مَا، وَالْمَعْنَى الَّذِي: تَصِفُهُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَنْ يَكُونَ الكذب بالجر صفة لما الْمَصْدَرِيَّةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَأَنَّهُ قِيلَ: لِوَصْفِهَا الْكَذِبَ بِمَعْنَى الْكَاذِبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: بِدَمٍ كَذِبٍ «4» وَالْمُرَادُ بِالْوَصْفِ وَصْفُهَا الْبَهَائِمَ بِالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ انْتَهَى. وَهَذَا عِنْدِي لَا يَجُوزُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ أَنِ الْمَصْدَرِيَّةِ لَا يُنْعَتُ الْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكِ مِنْهَا وَمِنَ الْفِعْلِ، وَلَا يُوجَدُ مِنْ كَلَامِهِمْ: يُعْجِبُنِي أَنْ قُمْتَ السَّرِيعَ، يُرِيدُ قِيَامَكَ السَّرِيعَ، وَلَا عَجِبْتُ مِنْ أَنْ تَخْرُجَ السَّرِيعَ أَيْ: مِنْ خُرُوجِكَ السَّرِيعِ. وَحُكْمُ باقي

(1) سورة المائدة: 5/ 1.

(2)

سورة المائدة: 5/ 1.

(3)

سورة المائدة: 5/ 3.

(4)

سورة يوسف: 12/ 18.

ص: 606

الْحُرُوفِ الْمَصْدَرِيَّةِ حُكْمُ أَنْ فَلَا يُوجَدُ مِنْ كَلَامِهِمْ وَصْفُ الْمَصْدَرَ الْمُنْسَبِكَ مِنْ أَنِ وَلَا، مِنْ مَا وَلَا، مِنْ كَيْ، بِخِلَافٍ صَرِيحِ الْمَصْدَرِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُنْعَتَ، وَلَيْسَ لِكُلِّ مُقَدَّرٍ حُكْمُ الْمَنْطُوقِ بِهِ وَإِنَّمَا يُتَّبَعُ فِي ذَلِكَ مَا تَكَلَّمَتْ بِهِ الْعَرَبُ.

وَقَرَأَ مُعَاذٌ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَبَعْضُ أَهْلِ الشَّامِ: الْكُذُبُ بِضَمِّ الثَّلَاثَةِ صِفَةً لِلْأَلْسِنَةِ، جَمْعُ كَذُوبٍ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: أَوْ جَمْعُ كَاذِبٍ أَوْ كَذَّابٍ انْتَهَى. فَيَكُونُ كَشَارِفٍ وَشُرُفٍ، أَوْ مِثْلُ كِتَابٍ وَكُتُبٍ، وَنَسَبَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ لِمَسْلَمَةَ بْنِ مُحَارِبٍ.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ مَسْلَمَةُ بْنُ مُحَارِبٍ الْكُذُبَ بِفَتْحِ الياء عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ كَذَّابٍ، كَكُتُبٍ فِي جَمْعِ كِتَابٍ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَجَاءَ عَنْ يَعْقُوبَ الْكُذُبَ بِضَمَّتَيْنِ وَالنَّصْبِ، فَأَمَّا الضَّمَّتَانِ فَلِأَنَّهُ جَمْعُ كَذَّابٍ وَهُوَ مَصْدَرٌ، وَمِثْلُهُ كِتَابٌ وَكُتُبٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِالنَّصْبِ عَلَى الشَّتْمِ، أَوْ بِمَعْنَى الْكَلِمِ الْكَوَاذِبِ، أَوْ هُوَ جَمْعُ الْكِذَابِ مِنْ قَوْلِكَ: كَذَبَ كِذَابًا ذَكَرَهُ ابْنُ جِنِّي انْتَهَى. وَالْخِطَابُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ بِقَوْلِهِ: وَلَا تَقُولُوا، لِلْكُفَّارِ فِي شَأْنِ مَا أَحَلُّوا وَمَا حَرَّمُوا مِنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَعَلَى ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الْعَسْكَرِيُّ:

الْخِطَابُ لِلْمُكَلَّفِينَ كُلِّهِمْ أَيْ: لَا تُسَمُّوا مَا لَمْ يَأْتِكُمْ حَظْرُهُ وَلَا إِبَاحَتُهُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ حَلَالًا وَلَا حَرَامًا، فَتَكُونُوا كَاذِبِينَ عَلَى اللَّهِ فِي إِخْبَارِكُمْ بِأَنَّهُ حَلَّلَهُ وَحَرَّمَهُ انْتَهَى. وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، لِأَنَّهُ خِطَابٌ مَعْطُوفٌ عَلَى خِطَابٍ وَهُوَ: فَكُلُوا إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ، فَهُوَ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ. وَاللَّامُ فِي لِتَفْتَرُوا لَامُ التَّعْلِيلِ الَّذِي لَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْغَرَضِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى لَامَ الْعَاقِبَةِ وَلَامَ الصَّيْرُورَةِ. قِيلَ: ذَلِكَ الِافْتِرَاءُ مَا كَانَ غَرَضًا لَهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لَامُ التَّعْلِيلِ وَأَنَّهُمْ قَصَدُوا الِافْتِرَاءَ كَمَا قَالُوا: وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا «1» وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ لِمَا تَقَدَّمَ لِتَضَمُّنِهِ الْكَذِبَ، لِأَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ فِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى مَنِ افْتَرَوْهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: لِتَفْتَرُوا عَلَى الله الكذب يدل مِنْ قَوْلِهِ: لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ، لِأَنَّ وَصْفَهُمُ الْكَذِبَ هُوَ افْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ، فَفَسَّرَ وَصْفَهُمْ بِالِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ مَا مَصْدَرِيَّةً، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى الَّذِي فَاللَّامُ فِي لِمَا لَيْسَتْ لِلتَّعْلِيلِ، فَيُبْدَلُ مِنْهَا مَا يَقْتَضِي التَّعْلِيلَ، بَلِ اللام متعلقة بلا تَقُولُوا عَلَى حَدِّ تَعَلُّقِهَا فِي قَوْلِكَ: لَا تَقُولُوا، لِمَا أَحَلَّ اللَّهُ هَذَا حَرَامٌ أَيْ: لَا تُسَمُّوا الْحَلَالَ حَرَامًا، وَكَمَا تَقُولُ لِزَيْدٍ عَمْرٌو أَيْ لَا تُطْلِقُ عَلَى زَيْدٍ هَذَا الِاسْمَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمُ افْتَرَوْا على الله حقيقة،

(1) سورة الأعراف: 7/ 28.

ص: 607

وَهُوَ ظَاهِرُ الِافْتِرَاءِ الْوَارِدِ فِي آيِ الْقُرْآنِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أن يُرِيدَ أَنَّهُ كَانَ شَرْعُهُمْ لِأَتْبَاعِهِمْ سُنَنًا لَا يَرْضَاهَا اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَنْ شَرَعَ أَمْرًا فَكَأَنَّهُ قَالَ لِتَابِعِهِ: هَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَهَذَا مُرَادُ اللَّهِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بِانْتِفَاءِ الْفَلَاحِ.

وَالْفَلَاحُ: الظَّفَرُ بِمَا يُؤَمَّلُ، فَتَارَةً يَكُونُ فِي الْبَقَاءِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

وَالْمِسَى وَالصُّبْحُ لَا فَلَاحَ مَعَهُ وَتَارَةً فِي نُجْحِ الْمَسَاعِي كَمَا قَالَ عَبِيدُ بْنُ الْأَبْرَصِ:

أَفْلِحْ بِمَا شِئْتَ فَقَدَ يُبْ

لَغُ بِالضَّعْفِ وَقَدْ يُخْدَعُ الْأَرِيبُ

وَارْتِفَاعُ مَتَاعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، فَقَدَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَنْفَعَتَهُمْ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَفْعَالِ الْجَاهِلِيَّةِ مَنْفَعَةً قَلِيلَةً وَعِقَابُهَا عَظِيمٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَيْشُهُمْ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ الْعَسْكَرِيُّ:

يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَتَاعُ هُنَا مَا حَلَّلُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ مِمَّا حَرَّمَهُ الله تعالى. وقال أبو الْبَقَاءِ: بَقَاؤُهُمْ مَتَاعٌ قَلِيلٌ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: مَتَاعٌ قَلِيلٌ ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ انْتَهَى. وَلَا يَصِحُّ إِلَّا بِتَقْدِيرِ الْإِضَافَةِ أَيْ:

مَتَاعُهُمْ قَلِيلٌ. وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى مَا يَحِلُّ وَمَا يَحْرُمُ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، أَتْبَعَهُ بِمَا كَانَ خَصَّ بِهِ الْيَهُودَ مُحَالًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُورَةَ الْأَنْعَامِ نَزَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ، إِذْ لَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ إِلَّا بِذَلِكَ. وَيَتَعَلَّقُ مِنْ قَبْلُ بِقَصَصْنَا، وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَقِيلَ:

بِحَرَمِنَا، وَالْمَحْذُوفُ الَّذِي فِي مِنْ قَبْلُ تَقْدِيرُهُ مِنْ قَبْلِ تَحْرِيمِنَا عَلَى أَهْلِ مِلَّتِكَ. وَالسُّوءُ هُنَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الشِّرْكُ قَبْلَ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ انْتَهَى. مَا يَسُوءُ صَاحِبَهُ مِنْ كُفْرٍ وَمَعْصِيَةٍ غَيْرِهِ.

وَالْكَلَامُ فِي لِلَّذِينَ عَمِلُوا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا «1» فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: بِجَهَالَةٍ تَعَمُّدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَيْسَتْ هُنَا ضِدَّ الْعِلْمِ، بَلْ تَعَدَّى الطَّوْرَ وَرُكُوبَ الرَّأْسِ مِنْهُ: أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ. وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:

أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا

فَنَجْهَلُ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا

وَالَّتِي هِيَ ضِدُّ الْعِلْمِ، تَصْحَبُ هَذِهِ كَثِيرًا، وَلَكِنْ يَخْرُجُ مِنْهَا الْمُتَعَمِّدُ وَهُوَ الْأَكْثَرُ. وَقَلَّ مَا يُوجَدُ فِي الْعُصَاةِ مَنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ عِلْمٌ بِخَطَرِ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي يُوَاقِعُ انْتَهَى. مُلَخَّصًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِجَهَالَةٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ: عَمِلُوا السُّوءَ جَاهِلِينَ غَيْرَ عَارِفِينَ بِاللَّهِ وَبِعِقَابِهِ، أَوْ غَيْرَ مُتَدَبِّرِينَ لِلْعَاقِبَةِ لِغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ سُفْيَانُ: جَهَالَتُهُ أَنْ يَلْتَذَّ بِهَوَاهُ، وَلَا يبالي

(1) سورة النحل: 16/ 110.

ص: 608

بِمَعْصِيَةِ مَوْلَاهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: بِاغْتِرَارِ الْحَالِ عَنِ الْمَآلِ. وَقَالَ الْعَسْكَرِيُّ: لَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَغْفِرُ لِمَنْ يَعْمَلُ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ، وَلَا يَغْفِرُ لِمَنْ عَمِلَهُ بِغَيْرِ جَهَالَةٍ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ جَمِيعَ مَنْ تَابَ فَهَذَا سَبِيلُهُ، وَإِنَّمَا خَصَّ مَنْ يَعْمَلُ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ، لِأَنَّ أَكْثَرَ مَنْ يَأْتِي الذُّنُوبَ يَأْتِيهَا بِقِلَّةِ فِكْرٍ فِي عَاقِبَةٍ، أَوْ عِنْدَ غَلَبَةِ شَهْوَةٍ، أَوْ فِي جَهَالَةِ شَبَابٍ، فذكر الأكثر عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي مِثْلَ ذَلِكَ. وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى عَمَلِ السُّوءِ، وَأَصْلَحُوا: اسْتَمَرُّوا عَلَى الْإِقْلَاعِ عَنْ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ. وَقِيلَ: أَصْلَحُوا آمَنُوا وَأَطَاعُوا، وَالضَّمِيرُ فِي من بعدها عائد على الْمَصَادِرِ الْمَفْهُومَةِ مِنَ الْأَفْعَالِ السَّابِقَةِ أَيْ: مِنْ بَعْدِ عَمَلِ السُّوءِ وَالتَّوْبَةِ وَالْإِصْلَاحِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْجَهَالَةِ. وَقِيلَ: عَلَى السُّوءِ عَلَى مَعْنَى الْمَعْصِيَةِ.

إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ: لَمَّا أَبْطَلَ تَعَالَى مَذَاهِبَ الْمُشْرِكِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ إِثْبَاتِ الشُّرَكَاءِ لِلَّهِ، وَالطَّعْنِ فِي نُبُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ، وَتَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ، وَكَانُوا مُفْتَخِرِينَ بِجَدِّهِمْ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام مُقِرِّينَ بِحُسْنِ طَرِيقَتِهِ وَوُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ، ذَكَرَهُ فِي آخِرِ السُّورَةِ وَأَوْضَحَ مِنْهَاجَهُ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَفْضِ الْأَصْنَامِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ حَامِلًا لَهُمْ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ. وَأَيْضًا فَلَمَّا جَرَى ذِكْرُ الْيَهُودِ بَيْنَ طَرِيقَةِ إِبْرَاهِيمَ لِيَظْهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ حَالِهِ وَحَالِهِمْ، وَحَالِ قُرَيْشٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سُمِّيَ أُمَّةً لِانْفِرَادِهِ بِالْإِيمَانِ فِي وَقْتِهِ مُدَّةً مَا.

وَفِي الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِسَارَّةَ: لَيْسَ عَلَى الْأَرْضِ الْيَوْمَ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرُكِ.

وَالْأُمَّةُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَعَانٍ مِنْهَا: الْجَمْعُ الْكَثِيرُ مِنَ النَّاسِ، ثُمَّ يُشَبَّهُ بِهِ الرَّجُلُ الصَّائِمُ، أَوْ الْمَلِكُ، أَوِ الْمُنْفَرِدُ بِطَرِيقَةٍ وَحْدَهُ عَنِ النَّاسِ فَسُمِّيَ أُمَّةً، وَقَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْفَرَّاءُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ عِنْدَهُ مِنَ الْخَيْرِ مَا كَانَ عنده أُمَّةٍ، وَمِنْ هُنَا أَخَذَ الحسن بن هانىء قَوْلَهُ:

وَلَيْسَ عَلَى اللَّهِ بِمُسْتَنْكَرٍ

أَنْ يَجْمَعَ الْعَالَمَ فِي وَاحِدِ

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِنَّهُ مُعَلِّمُ الْخَيْرِ، وَأَطْلَقَ هُوَ وَعُمَرُ ذَلِكَ عَلَى مُعَاذٍ فَقَالَ: كَانَ أُمَّةً قَانِتًا. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: هَذَا مِثْلُ قَوْلِ الْعَرَبِ: فُلَانٌ رُحَمَةٌ، وَعَلَّامَةٌ، وَنَسَّابَةٌ، يَقْصِدُونَ بِالتَّأْنِيثِ التَّنَاهِيَ فِي الْمَعْنَى الْمَوْصُوفِ بِهِ. وَقِيلَ: الْأُمَّةُ الْإِمَامُ الَّذِي يُقْتَدَى بِهِ مِنْ أَمَّ يَؤُمُّ،

ص: 609

وَالْمَفْعُولُ قَدْ يُبْنَى لِلْكَثْرَةِ عَلَى فُعَلَةٍ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْقَانِتِ، وَالْحَنِيفِ: شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ. رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَتَغَدَّى إِلَّا مَعَ ضَيْفٍ، فَلَمْ يَجِدْ ذَاتَ يَوْمٍ ضَيْفًا فَأَخَّرَ غَدَاهُ، فَإِذَا هُوَ بِفَوْجٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي صُورَةِ الْبَشَرِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الطَّعَامِ، فَخُيِّلُوا أَنَّ بِهِمْ جُذَامًا فَقَالَ: الْآنَ وجبت مؤاكلتكم، شكر الله عَلَى أَنَّهُ عَافَانِي وَابْتَلَاكُمْ. ورتيناه فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، قَالَ قَتَادَةُ: حَبَّبَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى كُلِّ الْخَلْقِ، فَكُلُّ أَهْلِ الْأَدْيَانِ يَتَوَلَّوْنَهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمُسْلِمُونَ، وَخُصُوصًا كُفَّارَ قُرَيْشٍ، فَإِنَّ فَخْرَهُمْ إِنَّمَا هُوَ بِهِ، وَذَلِكَ بِإِجَابَةِ دعوته: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ «1» وَقِيلَ: الْحَسَنَةُ قَوْلُ الْمُصَلِّي مِنَّا: كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الذِّكْرُ الْحَسَنُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: النُّبُوَّةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لِسَانُ صِدْقٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ:

الْقَبُولُ، وَعَنْهُ تَنْوِيهُ اللَّهِ بِذِكْرِهِ. وَقِيلَ: الْأَوْلَادُ الْأَبْرَارُ عَلَى الْكِبَرِ. وَقِيلَ: الْمَالُ يَصْرِفُهُ فِي الْخَيْرِ وَالْبِرِّ. وَإِنَّهُ لَمِنَ المصلحين، تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي الْبَقَرَةِ، وَلَمَّا وُصِفَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ الشَّرِيفَةِ أَمَرَ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَّبِعَ مِلَّتَهُ، وَهَذَا الْأَمْرُ مِنْ جُمْلَةِ الْحَسَنَةِ الَّتِي آتَاهَا اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ فِي الدُّنْيَا. قَالَ ابْنُ فَوْرَكٍ: وَأَمَرَ الْفَاضِلَ بِاتِّبَاعِ الْمَفْضُولِ، لَمَّا كَانَ سَابِقًا إِلَى قَوْلِ الصَّوَابِ وَالْعَمَلِ بِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ثُمَّ أَوْحَيْنَا فِي ثُمَّ هَذِهِ مَا فِيهَا مِنْ تَعْظِيمِ مَنْزِلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِجْلَالِ مَحَلِّهِ، وَالْإِيذَانِ بِأَنَّ أَشْرَفَ مَا أُوتِيَ خَلِيلُ اللَّهِ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام مِنْ الْكَرَامَةِ، وَأَجَلَّ مَا أُوتِيَ مِنَ النِّعْمَةِ اتِّبَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِلَّتَهُ، مِنْ قَبْلِ أَنَّهَا عَلَى تَبَاعُدِ هَذَا النَّعْتِ فِي الْمَرْتَبَةِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ النُّعُوتِ الَّتِي أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهَا بِهَا انْتَهَى. وَأَنْ تَفْسِيرِيَّةٌ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ. وَاتِّبَاعِ مِلَّتِهِ قَالَ قَتَادَةُ: فِي الْإِسْلَامِ، وَعَنْهُ أَيْضًا: جَمِيعَ مِلَّتِهِ إِلَّا مَا أُمِرَ بِتَرْكِهِ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: مَنَاسِكُ الْحَجِّ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الصَّحِيحُ عَقَائِدُ الشَّرْعِ دُونَ الْفُرُوعِ لِقَوْلِهِ: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً «2» وَقِيلَ: فِي التَّبَرِّي مِنَ الْأَوْثَانِ. وَقَالَ قَوْمٌ كَانَ عَلَى شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَلَيْسَ لَهُ شَرْعٌ يَنْفَرِدُ بِهِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْ بَعْثَتِهِ إِحْيَاءُ شَرْعِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ وَصَفَ إِبْرَاهِيمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهُ مَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَلَمَّا قَالَ: اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ، كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا نَفَى الشِّرْكَ وَأَثْبَتَ التَّوْحِيدَ بِنَاءً عَلَى الدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُتَابِعًا لَهُ، فَيَمْتَنِعُ حَمْلُ قَوْلِهِ:

أَنِ اتَّبِعْ، عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الشَّرَائِعِ الَّتِي يَصِحُّ حُصُولُ الْمُتَابَعَةِ فيها.

(1) سورة الشعراء: 26/ 84.

(2)

سورة المائدة: 5/ 48. [.....]

ص: 610

(قُلْتُ) : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مُتَابَعَتَهُ فِي كَيْفِيَّةِ الدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَهِيَ أَنْ يَدْعُوَ إِلَيْهِ بِطَرِيقِ الرِّفْقِ وَالسُّهُولَةِ، وَإِيرَادِ الدَّلَائِلِ مَرَّةً بَعْد أُخْرَى بِأَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ عَلَى مَا هُوَ الطَّرِيقَةُ الْمَأْلُوفَةُ فِي الْقُرْآنِ انْتَهَى. وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى هَذَا، لِأَنَّ الْمُعْتَقَدَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ دَلَائِلُ الْعُقُولِ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُوحَى لِتَظَافُرِ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ عَلَى اعْتِقَادِهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ «1» فَلَيْسَ اعْتِقَادَ الْوَحْدَانِيَّةِ بِمُجَرَّدِ الْوَحْيِ فَقَطْ، وَإِنَّمَا تَظَافُرُ الْمَنْقُولِ عَنِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ مَعَ دَلِيلِ الْعَقْلِ. وَكَذَلِكَ هُنَا أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ مُشْرِكًا، وَأَمَرَ الرَّسُولَ بِاتِّبَاعِهِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ انْتِفَاءُ الشِّرْكِ لَيْسَ مُسْتَنَدُهُ مُجَرَّدَ الْوَحْيِ، بَلِ الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ وَالدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ تَظَافَرَا عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ مَكِّيٌّ: وَلَا يَكُونُ- يَعْنِي حَنِيفًا- حَالًا مِنْ إِبْرَاهِيمَ لِأَنَّهُ مُضَافٌ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ لِأَنَّ الْحَالَ قَدْ تَعْمَلُ فِيهَا حُرُوفُ الْخَفْضِ إِذَا عَمِلَتْ فِي ذِي الْحَالِ كَقَوْلِكَ: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ قَائِمًا انْتَهَى. أَمَّا مَا حُكِيَ عَنْ مَكِّيٍّ وَتَعْلِيلِهِ امْتِنَاعَ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ مُضَافًا إِلَيْهِ، فَلَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِ هَذَا التَّعْلِيلِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ أَوْ نَصْبٍ، جَازَتِ الْحَالُ مِنْهُ نَحْوَ: يُعْجِبُنِي قِيَامُ زَيْدٍ مُسْرِعًا، وَشُرْبُ السَّوِيقِ مَلْتُوتًا. وَقَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ: وَيَجُوزُ أَيْضًا ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمُضَافُ جُزْءًا مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ كَقَوْلِهِ: وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ «2» إِخْوَانًا أَوْ كَالْجُزْءِ مِنْهُ كَقَوْلِهِ: مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً «3» وَقَدْ بَيَّنَّا الصَّحِيحَ فِي ذَلِكَ فِيمَا كَتَبْنَاهُ عَلَى التَّسْهِيلِ، وَعَلَى الْأَلْفِيَّةِ لِابْنِ مَالِكٍ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ فِي رَدِّهِ عَلَى مَكِّيٍّ بِقَوْلِهِ: وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، لِأَنَّ الْحَالَ إِلَى آخِرِهِ فَقَوْلٌ بَعِيدٌ عَنْ قَوْلِ أَهْلِ الصَّنْعَةِ، لِأَنَّ الْبَاءَ فِي بِزَيْدٍ لَيْسَتْ هِيَ الْعَامِلَةَ فِي قَائِمًا، وَإِنَّمَا الْعَامِلُ فِي الْحَالِ مَرَرْتُ، وَالْبَاءُ وَإِنْ عَمِلَتِ الْجَرَّ فِي زَيْدٍ فَإِنَّ زَيْدًا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِمَرَرْتُ، وَكَذَلِكَ إِذَا حُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ حَيْثُ يَجُوزُ حَذْفُهُ نَصَبَ الْفِعْلُ ذَلِكَ الِاسْمَ الَّذِي كَانَ مَجْرُورًا بِالْحَرْفِ. وَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِاتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، وَكَانَ الرَّسُولُ قَدِ اخْتَارَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي شَرْعِ إِبْرَاهِيمَ، بَيَّنَ أَنَّ يَوْمَ السَّبْتِ لَمْ يَكُنْ تَعْظِيمُهُ، وَاتِّخَاذُهُ لِلْعِبَادَةِ مِنْ شَرْعِ إِبْرَاهِيمَ وَلَا دِينِهِ، وَالسَّبْتُ مَصْدَرٌ، وَبِهِ سُمِّي الْيَوْمُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذَا اللَّفْظِ فِي الْأَعْرَافِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سَبَتَتِ الْيَهُودُ إِذَا عَظَّمَتْ سَبْتَهَا وَالْمَعْنَى: إِنَّمَا جُعِلَ وَبَالُ السَّبْتِ وَهُوَ الْمَسْخُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَاخْتِلَافُهُمْ

(1) سورة الأنبياء: 21/ 108.

(2)

سورة الأعراف: 7/ 43.

(3)

سورة البقرة: 2/ 135.

ص: 611

فِيهِ: أَنَّهُمْ أَحَلُّوا الصَّيْدَ فِيهِ تَارَةً وَحَرَّمُوهُ تَارَةً، وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَّفِقُوا فِي تَحْرِيمِهِ عَلَى كلمة واحدة بعد ما حَتَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الصَّبْرَ عَنِ الصَّيْدِ فِيهِ، وَالْمَعْنَى فِي ذِكْرِ ذَلِكَ نَحْوَ الْمَعْنَى فِي ضَرْبِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ مَثَلًا، وَغَيْرِ مَا ذُكِرَ وَهُوَ الْإِنْذَارُ مِنْ سُخْطِ اللَّهِ عَلَى الْعُصَاةِ وَالْمُخَالِفِينَ لِأَوَامِرِهِ وَالْخَالِعِينَ رِبْقَةَ طَاعَتِهِ.

(فَإِنْ قُلْتَ) : فَمَا مَعْنَى الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ إِذَا كَانُوا جَمِيعًا مُحِلِّينَ أَوْ مُحَرِّمِينَ؟ (قُلْتُ) :

مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُجَازِيهِمْ جَزَاءَ اخْتِلَافِ فِعْلِهِمْ فِي كَوْنِهِمْ مُحَلِّينَ تَارَةً وَمُحْرِمِينَ أُخْرَى، وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ مُوسَى عليه السلام أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا فِي الْأُسْبُوعِ يَوْمًا لِلْعِبَادَةِ، وَأَنْ يَكُونَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ وَقَالُوا: نُرِيدُ الْيَوْمَ الَّذِي فَرَغَ اللَّهُ فِيهِ من خلق السموات وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّبْتُ، إِلَّا شِرْذِمَةً مِنْهُمْ قَدْ رَضُوا بِالْجُمُعَةِ، فَهَذَا اخْتِلَافُهُمْ فِي السَّبْتِ، لِأَنَّ بَعْضَهُمُ اخْتَارَهُ، وَبَعْضَهُمُ اخْتَارَ عَلَيْهِ الْجُمُعَةَ، فَأَذِنَ اللَّهُ لَهُمْ فِي السَّبْتِ، وَابْتَلَاهُمْ بِتَحْرِيمِ الصَّيْدِ فِيهِ، فَأَطَاعَ أَمْرَ اللَّهِ الرَّاضُونَ بِالْجُمُعَةِ فَكَانُوا لَا يَصِيدُونَ، وَأَعْقَابُهُمْ لَمْ يَصْبِرُوا عَنِ الصَّيْدِ فَمَسَخَهُمُ اللَّهُ دُونَ أُولَئِكَ. وَهُوَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُجَازِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ بِمَا يَسْتَوْجِبُهُ. وَمَعْنَى جَعَلَ السَّبْتَ: فَرَضَ عَلَيْهِمْ تَعْظِيمَهُ، وَتَرْكَ الِاصْطِيَادِ فِيهِ انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامٌ مُلَفَّقٌ مِنْ كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ قَبْلَهُ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: عُدِّيَّ جَعَلَ بِعَلَى، لِأَنَّ الْيَوْمَ صَارَ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ، لِارْتِكَابِهِمُ الْمَعَاصِيَ فِيهِ انْتَهَى. وَلِهَذَا قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّمَا جُعِلَ وَبَالُ السَّبْتِ.

وَقَالَ الْحَسَنُ: جُعِلَ السَّبْتُ لَعْنَةً عَلَيْهِمْ بِأَنْ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: ذَرُوا الْأَعْمَالَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَتَفَرَّغُوا فِيهِ لِعِبَادَتِي، فَقَالُوا: نُرِيدُ السَّبْتَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَغَ فِيهِ مِنْ خَلْقِ السموات وَالْأَرْضِ، فَهُوَ أَوْلَى بِالرَّاحَةِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: جَعَلَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْعَيْنِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ والأعمش: أنهما قرآ إِنَّمَا أَنْزَلْنَا السَّبْتَ، وَهِيَ تَفْسِيرُ مَعْنًى لَا قِرَاءَةٍ، لِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِسَوَادِ الْمُصْحَفِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، وَلِمَا اسْتَفَاضَ عَنِ الْأَعْمَشِ وَابْنِ مَسْعُودٍ أنهما قرآ كَالْجَمَاعَةِ.

ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ: أَمَرَ اللَّهِ تَعَالَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَدْعُوَ إِلَى دِينِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ بِتَلَطُّفٍ، وَهُوَ أَنْ يَسْمَعَ الْمَدْعُوُّ حُكْمَهُ، وَهُوَ الْكَلَامُ الصَّوَابُ

ص: 612

الْقَرِيبُ الْوَاقِعُ مِنَ النَّفْسِ أَجْمَلَ مَوْقِعٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْحِكْمَةَ الْقُرْآنُ، وَعَنْهُ: الْفِقْهُ.

وَقِيلَ: النُّبُوَّةُ. وَقِيلَ: مَا يَمْنَعُ مِنَ الْفَسَادِ مِنْ آيَاتِ رَبِّكَ الْمُرَغِّبَةِ وَالْمُرَهِّبَةِ. وَالْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ مَوَاعِظُ الْقُرْآنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْهُ أَيْضًا: الْأَدَبُ الْجَمِيلُ الَّذِي يَعْرِفُونَهُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: هِيَ الْعِبَرُ الْمَعْدُودَةُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: الْحِكْمَةُ الْمَعْرُوفَةُ بِمَرَاتِبِ الْأَفْعَالِ وَالْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ أَنْ تَخْتَلِطَ الرَّغْبَةُ بِالرَّهْبَةِ، وَالْإِنْذَارُ بِالْبِشَارَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ الْإِسْلَامِ، بِالْحِكْمَةِ بِالْمَقَالَةِ الْمُحْكَمَةِ الصَّحِيحَةِ، وَهِيَ الدَّلِيلُ الْمُوَضِّحُ لِلْحَقِّ الْمُزِيلِ لِلشُّبْهَةِ، وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَهِيَ الَّتِي لَا تَخْفَى عَلَيْهِمْ إِنَّكَ تُنَاصِحُهُمْ بِهَا وَتَقْصِدُ مَا يَنْفَعُهُمْ فِيهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ الْقُرْآنَ أَيِ: ادْعُهُمْ بِالْكِتَابِ الَّذِي هُوَ حِكْمَةٌ وَمَوْعِظَةٌ حَسَنَةٌ، وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ طُرُقِ الْمُجَادَلَةِ مِنَ الرِّفْقِ وَاللِّينِ مِنْ غَيْرِ فَظَاظَةٍ وَلَا تَعْنِيفٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ التَّخْوِيفُ وَالتَّرْجِئَةُ وَالتَّلَطُّفُ بِالْإِنْسَانِ بِأَنْ تُجِلَّهُ وَتُنَشِّطَهُ، وَتَجْعَلَهُ بصورة من قبل الْفَضَائِلَ وَنَحْوَ هَذَا. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هِيَ مُحْكَمَةٌ.

وَإِنْ عَاقَبْتُمْ أَطْبَقَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ التَّمْثِيلِ بِحَمْزَةَ وَغَيْرِهِ فِي يَوْمِ أُحُدٍ، وَوَقَعَ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَفِي كِتَابِ السِّيَرِ. وَذَهَبَ النَّحَّاسُ إِلَى أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ، وَالْمَعْنَى مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهَا اتِّصَالًا حَسَنًا، لِأَنَّهَا تَتَدَرَّجُ الذَّنْبَ مِنَ الَّذِي يَدَّعِي، وَتُوعَظُ إِلَى الَّذِي يُجَادِلُ، إِلَى الَّذِي يُجَازَى عَلَى فِعْلِهِ، وَلَكِنْ مَا رَوَى الْجُمْهُورُ أَثْبَتُ انْتَهَى.

وَذَهَبَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ سِيرِينَ وَمُجَاهِدٌ: إِلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ أُصِيبَ بِظُلَامَةٍ أَنْ لَا يَنَالَ مِنْ ظَالِمِهِ إِذَا تَمَكَّنَ الْأَمْثَلُ ظُلَامَتَهُ لَا يَتَعَدَّاهَا إِلَى غَيْرِهَا، وَسَمَّى الْمُجَازَاةَ عَلَى الذَّنْبِ مُعَاقَبَةً لِأَجْلِ الْمُقَابَلَةِ، وَالْمَعْنَى: قَابِلُوا مَنْ صَنَعَ بِكُمْ صَنِيعَ سُوءٍ بِمِثْلِهِ، وَهُوَ عَكْسُ: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ «1» . الْمَجَازُ فِي الثَّانِي وَفِي: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فِي الْأَوَّلِ. وَقَرَأَ ابْنُ سِيرِينَ: وَإِنْ عَقَّبْتُمْ فَعَقِّبُوا بِتَشْدِيدِ الْقَافَيْنِ أَيْ: وَإِنْ قَفَّيْتُمْ بِالِانْتِصَارِ فَقَفُّوا بِمِثْلِ مَا فُعِلَ بِكُمْ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى الْمَصْدَرِ الدَّالِّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ مُبْتَدَأً بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِمْ أَيْ: لِصَبْرِكُمْ وَلِلصَّابِرِينَ أَيْ: لَكُمْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ، فَوَضَعَ الصَّابِرِينَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ ثَنَاءً مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِصَبْرِهِمْ عَلَى الشَّدَائِدِ، وَبِصَبْرِهِمْ عَلَى الْمُعَاقَبَةِ. وَقِيلَ: يَعُودُ إِلَى جِنْسِ الصَّبْرِ، وَيُرَادُ بِالصَّابِرِينَ جِنْسُهُمْ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَالصَّبْرُ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ، فَيَنْدَرِجُ صَبْرُ الْمُخَاطَبِينَ فِي الصَّبْرِ،

(1) سورة آل عمران: 3/ 54.

ص: 613

وَيَنْدَرِجُونَ هُمْ فِي الصَّابِرِينَ. وَنَحْوُهُ: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ «1» وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى «2» وَلَمَّا خُيِّرَ الْمُخَاطَبُونَ فِي الْمُعَاقَبَةِ وَالصَّبْرِ عَنْهَا عَزَمَ عَلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَهُوَ الصَّبْرُ، فَأُمِرَ هُوَ وَحْدَهُ بِالصَّبْرِ. وَمَعْنَى بِاللَّهِ: بِتَوْفِيقِهِ وَتَيْسِيرِهِ وَإِرَادَتِهِ. وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِمْ يَعُودُ عَلَى الْكُفَّارِ، وَكَذَلِكَ فِي يَمْكُرُونَ كَمَا قَالَ: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ «3» وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْقَتْلَى الْمُمَثَّلِ بِهِمْ حَمْزَةَ، وَمَنْ مُثِّلَ بِهِ يَوْمَ أُحُدٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فِي ضَيْقٍ بِفَتْحِ الضَّادِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: بِكَسْرِهَا، وَرُوِيَتْ عَنْ نَافِعٍ، وَلَا يَصِحُّ عَنْهُ، وَهُمَا مَصْدَرَانِ كَالْقِيلِ وَالْقَوْلِ عِنْدَ بَعْضِ اللُّغَوِيِّينَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: بِفَتْحِ الضَّادِ مُخَفَّفٌ مِنْ ضَيِّقٍ أَيْ: وَلَا تَكُ فِي أَمْرٍ ضَيِّقٍ كَلَيْنٍ فِي لَيِّنٍ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: الصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ الضَّيْقُ لُغَةً فِي الْمَصْدَرِ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مُخَفَّفًا مِنْ ضَيِّقٍ لَزِمَ أَنْ تُقَامَ الصِّفَةُ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ إِذَا تَخَصَّصَ الْمَوْصُوفُ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ ذَلِكَ، وَالصِّفَةُ إِنَّمَا تَقُومُ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ إِذَا تَخَصَّصَ الْمَوْصُوفُ مِنْ نَفْسِ الصِّفَةِ كَمَا تَقُولُ: رَأَيْتُ ضَاحِكًا، فَإِنَّمَا تُخَصِّصُ الْإِنْسَانَ. وَلَوْ قُلْتَ: رَأَيْتُ بَارِدًا لَمْ يَحْسُنْ، وَبِبَارِدٍ مِثْلَ سِيبَوَيْهِ وَضَيِّقٌ لَا يُخَصِّصُ الْمَوْصُوفَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ زَيْدٍ: إِنَّ مَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ الْأَمْرِ بِالصَّبْرِ مَنْسُوخٌ، وَمَعْنَى الْمَعِيَّةِ هُنَا بِالنُّصْرَةِ وَالتَّأْيِيدِ والإعانة.

(1) سورة الشورى: 42/ 40.

(2)

سورة البقرة: 2/ 237.

(3)

سورة المائدة: 5/ 68.

ص: 614