الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْعَطْفِ عَلَى مَحَلِّ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ أَوْ لَفْظِهِ فَتْحًا فِي مَوْضِعِ الْجَرِّ إِشْكَالٌ، لِأَنَّ قَوْلَكَ: لَا يَعْزُبُ عَنْهُ شَيْءٌ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُشْكِلٌ انْتَهَى. وَإِنَّمَا أَشْكَلَ عِنْدَهُ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ يَصِيرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ فَيَعْزُبُ، وَهَذَا كَلَامٌ لَا يَصِحُّ. وَخَرَّجَهُ أَبُو الْبَقَاءِ عَلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ تَقْدِيرُهُ: لَكِنْ هُوَ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، وَيَزُولُ بِهَذَا التَّقْدِيرِ الْإِشْكَالُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: أَجَابَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ، وَالْآخَرُ أَنَّ الْعُزُوبَ عِبَارَةٌ عَنْ مُطْلَقِ الْبُعْدِ، وَالْمَخْلُوقَاتُ قِسْمٌ أَوْجَدَهُ اللَّهُ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ كَالْمَلَائِكَةِ والسموات وَالْأَرْضِ، وَقِسْمٌ أَوْجَدَهُ بِوَاسِطَةِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِثْلَ الْحَوَادِثِ الْحَادِثَةِ فِي عَالَمِ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ، وَهَذَا قَدْ يَتَبَاعَدُ فِي سِلْسِلَةِ الْعِلِيَّةِ وَالْمَمْلُوكِيَّةِ عَنْ مَرْتَبَةِ وُجُودِ وَاجِبِ الْوُجُودِ، فَالْمَعْنَى: لَا يَبْعُدُ عَنْ مَرْتَبَةِ وُجُودِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ إِلَّا وَهُوَ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، كَتَبَهُ اللَّهُ، وَأَثْبَتَ صُوَرَ تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ فِيهَا انْتَهَى، وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ صَاحِبُ النَّظْمِ: إِلَّا بِمَعْنَى الْوَاوِ أَيْ: وَهُوَ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ. وَالْعَرَبُ تَضَعُ إِلَّا مَوْضِعَ وَاوِ النَّسَقِ كَقَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ ظُلِمَ «1» إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ «2» انْتَهَى. وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ لَمْ يَثْبُتَ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ وُضِعَ إِلَّا مَوْضِعَ الْوَاوِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ «3» وَسَيَأْتِي عَلَى قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ ظُلِمَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
[سورة يونس (10) : الآيات 62 الى 70]
أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَاّ يَخْرُصُونَ (66)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)
(1) سورة النمل: 27/ 11.
(2)
سورة البقرة: 2/ 150.
(3)
سورة البقرة: 2/ 150.
أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ: أَوْلِيَاءُ اللَّهِ هُمُ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ بِالطَّاعَةِ وَيَتَوَلَّاهُمْ بِالْكَرَامَةِ. وَقَدْ فَسَّرَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ «1»
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ فَقَالَ: «هُمُ الَّذِينَ يُذَكِّرُونَ اللَّهَ بِرُؤْيَتِهِمْ»
يَعْنِي السَّمْتَ وَالْهَيْئَةَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْإِخْبَاتُ وَالسَّكِينَةُ. وَقِيلَ: هُمُ الْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ يُعْطِي ظَاهِرُهَا أَنَّ مَنْ آمَنَ وَاتَّقَى فَهُوَ دَاخِلٌ فِي أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الشَّرِيعَةُ فِي الْوَلِيِّ، وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا هَذَا التَّنْبِيهَ حَذَرًا مِنْ مَذْهَبِ الصُّوفِيَّةِ وَبَعْضِ الْمُلْحِدِينَ فِي الْوَلِيِّ انْتَهَى. وَإِنَّمَا قَالَ: حَذَرًا مِنْ مَذْهَبِ الصُّوفِيَّةِ، لِأَنَّ بَعْضَهُمْ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّ الْوَلِيَّ أَفْضَلُ مِنَ النَّبِيِّ، وَهَذَا لَا يَكَادُ يَخْطُرُ فِي قَلْبِ مُسْلِمٍ. وَلِابْنِ الْعَرَبِيِّ الطَّائِيِّ كَلَامٌ فِي الْوَلِيِّ وَفِي غَيْرِهِ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهُ.
وَعَنْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ عِبَادًا مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ بِمَكَانِهِمْ مِنَ اللَّهِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ هُمْ؟ قَالَ: «قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرَوْحِ اللَّهِ عَلَى غير أرحام ولا
(1) سورة يونس: 10/ 63.
أموال يتعاطونها، فو الله إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَتَنُّورٌ، وَإِنَّهُمْ لَعَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ، وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ، ثُمَّ قَرَأَ: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ»
الْآيَةَ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الصِّفَةِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، أَوْ عَلَى الْبَدَلِ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، أَوْ بِإِضْمَارِ أَمْدَحُ، وَمَرْفُوعًا عَلَى إِضْمَارِهِمْ، أَوْ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرِ لَهُمُ الْبُشْرَى. وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ رَفْعَهُ عَلَى مَوْضِعِ أَوْلِيَاءَ نَعْتًا، أَوْ بَدَلًا، وَأُجِيزَ فِيهِ الْخَبَرُ بَدَلًا مِنْ ضَمِيرِ عَلَيْهِمْ. وَفِي قَوْلِهِ: وَكَانُوا يَتَّقُونَ، إِشْعَارٌ بِمُصَاحَبَتِهِمْ لِلتَّقْوَى مُدَّةَ حَيَاتِهِمْ، فَحَالُهُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَحَالِهِمْ فِي الْمَاضِي. وَبُشْرَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا تَظَاهَرَتِ الرِّوَايَاتُ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إِنَّهَا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُؤْمِنُ» أَوْ «تُرَى لَهُ»
فَسَّرَهَا بِذَلِكَ وَقَدْ سُئِلَ.
وَعَنْهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «لَمْ يَبْقَ مِنَ الْمُبَشِّرَاتِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ»
وَقَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: هِيَ مَا يُبَشَّرُ بِهِ الْمُؤْمِنُ عِنْدَ مَوْتِهِ وَهُوَ حَيٌّ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ. وَقِيلَ: هِيَ مَحَبَّةُ النَّاسِ لَهُ، وَالذِّكْرُ الْحَسَنُ.
وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرَّجُلِ يَعْمَلُ الْعَمَلَ لِلَّهِ وَيُحِبُّهُ النَّاسُ؟ فَقَالَ: «تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ»
وَعَنْ عَطَاءٍ: لَهُمُ الْبُشْرَى عِنْدَ الْمَوْتِ تَأْتِيهِمُ الْمَلَائِكَةُ بِالرَّحْمَةِ. قَالَ تَعَالَى: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ «1» الْآيَةَ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ بُشْرَى الدُّنْيَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْآيَاتِ الْمُبَشِّرَاتِ، وَيُقَوِّي ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ يُعَارِضُهُ
قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «هِيَ الرُّؤْيَا»
إِلَّا إِنْ قُلْنَا: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى مِثَالًا مِنَ الْبُشْرَى وَهِيَ تَعُمُّ جَمِيعَ الْبَشَرِ. وَبُشْرَاهُمْ فِي الْآخِرَةِ تَلَقِّى الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُمْ مُسَلِّمِينَ مُبَشِّرِينَ بِالنُّورِ وَالْكَرَامَةِ، وَمَا يَرَوْنَ مِنْ بَيَاضِ وُجُوهِهِمْ، وَإِعْطَاءِ الصُّحُفِ بِأَيْمَانِهِمْ، وَمَا يقرأون مِنْهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْبِشَارَاتِ.
لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ، لَا تَغْيِيرَ لِأَقْوَالِهِ، وَلَا خُلْفَ فِي مَوَاعِيدِهِ كَقَوْلِهِ: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ «2» وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى التَّبْشِيرِ وَالْبُشْرَى فِي مَعْنَاهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِمْ مُبَشَّرِينَ فِي الدَّارَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِشَارَةٌ إِلَى النَّعِيمِ الَّذِي وَقَعَتْ بِهِ الْبُشْرَى.
وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ أُرِيدَ بِهِ بَعْضُ أَفْرَادِهِ وَهُوَ التَّكْذِيبُ وَالتَّهْدِيدُ وَمَا يَتَشَاوَرُونَ بِهِ فِي أَمْرِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، فَيَكُونُ مِنْ إِطْلَاقِ الْعَامِّ وَأُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ. وإما أن
(1) سورة فصلت: 41/ 30.
(2)
سورة ق: 50/ 29.
يَكُونَ مِمَّا حُذِفَتْ مِنْهُ الصِّفَةُ الْمُخَصِّصَةُ أَيْ: قَوْلُهُمُ الدَّالُّ عَلَى تَكْذِيبِكَ وَمُعَانَدَتِكَ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا أَيْ: لَا عِزَّةَ لَهُمْ وَلَا مَنَعَةَ، فَهُمْ لَا يَقْدِرُونَ لَكَ عَلَى شَيْءٍ وَلَا يُؤْذُونَكَ، إِنَّ الْغَلَبَةَ وَالْقَهْرَ لِلَّهِ، وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، فَلَا يُعَازُّهُ شَيْءٌ وَلَا يُغَالِبُهُ. وَكَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: لِمَ لَا يُحْزِنْهُ قَوْلُهُمْ وَهُوَ مِمَّا يُحْزِنُ؟ فَقِيلَ: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، لَيْسَ لَهُمْ مِنْهَا شَيْءٌ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: أَنَّ الْعِزَّةَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَلَيْسَ مَعْمُولًا لِقَوْلِهِمْ: لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُحْزِنُ الرسول صلى الله عليه وسلم، إِذْ هُوَ قَوْلٌ حَقٌّ. وَخُرِّجَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى التَّعْلِيلِ أَيْ: لَا يَقَعُ مِنْكَ حُزْنٌ لِمَا يَقُولُونَ، لِأَجْلِ أَنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا. وَوُجِّهَتْ أَيْضًا عَلَى أَنْ يَكُونَ أَنْ الْعِزَّةَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِمْ وَلَا يَظْهَرُ هَذَا التَّوْجِيهُ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَنْ جَعَلَهُ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِمْ ثُمَّ أَنْكَرَهُ، فَالْمُنْكَرُ هُوَ تَخْرِيجُهُ لَا مَا أَنْكَرَهُ مِنَ الْقُرْآنِ. وَقَالَ الْقَاضِي: فَتْحُهَا شَاذٌّ يُقَارِبُ الْكُفْرَ، وَإِذَا كُسِرَتْ كَانَ اسْتِئْنَافًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَضِيلَةِ عِلْمِ الْإِعْرَابِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لَا يَجُوزُ فَتْحُ إِنَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَهُوَ كُفْرٌ وَغُلُوٌّ، وَإِنَّمَا قَالَ القاضي وابن قتيبة ذلك بِنَاءً مِنْهُمَا عَلَى أَنَّ مَعْمُولَةٌ لِقَوْلِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَوْجِيهَ ذَلِكَ عَلَى التَّعْلِيلِ وَهُوَ تَوْجِيهٌ صَحِيحٌ. هُوَ السَّمِيعُ لِمَا يَقُولُونَ، الْعَلِيمُ لِمَا يُرِيدُونَ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَأْمِينٌ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم من إِضْرَارِ الْكُفَّارِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُدِيلُهُ عَلَيْهِمْ وَيَنْصُرُهُ. كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي «1» إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا «2» وَقَالَ الْأَصَمُّ: كَانُوا يَتَعَزَّزُونَ بِكَثْرَةِ خَدَمِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَسْلُبَ مِنْهُمْ مِلْكَ الْأَشْيَاءِ، وَأَنْ يَنْصُرَكَ وَيَنْقُلَ إِلَيْكَ أَمْوَالَهُمْ وَدِيَارَهُمُ انْتَهَى. وَلَا تَضَادَّ بَيْنَ قَوْلِهِ: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، وَقَوْلِهِ: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ «3» لِأَنَّ عِزَّتَهُمْ إِنَّمَا هِيَ بِاللَّهِ، فَهِيَ كُلُّهَا لِلَّهِ. أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ.
الْمُنَاسَبَةُ ظَاهِرَةٌ فِي هَذِهِ الْآيَةُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْعِزَّةَ لَهُ تَعَالَى وَهِيَ الْقَهْرُ وَالْغَلَبَةُ، ذَكَرَ مَا يُنَاسِبُ الْقَهْرَ وَهُوَ كَوْنُ الْمَخْلُوقَاتِ مِلْكًا لَهُ تَعَالَى، وَمِنَ الْأَصْلِ فِيهَا أَنْ تَكُونَ لِلْعُقَلَاءِ، وَهُنَا هِيَ شَامِلَةٌ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ عَلَى حُكْمِ التَّغْلِيبِ، وَحَيْثُ جِيءَ بِمَا كَانَ تَغْلِيبًا لِلْكَثْرَةِ إِذْ أَكْثَرُ الْمَخْلُوقَاتِ لَا تَعْقِلُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي الْعُقَلَاءَ الْمُمَيِّزِينَ وَهُمُ الملائكة والثقلان،
(1) سورة المجادلة: 58/ 21.
(2)
سورة غافر: 40/ 51.
(3)
سورة المنافقون: 63/ 8.
وَإِنَّمَا خَصَّهُمْ لِيُؤْذِنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ إِذَا كَانُوا لَهُ فِي مِلْكِهِ فَهُمْ عَبِيدٌ كُلُّهُمْ، لَا يَصْلُحُ أَحَدٌ مِنْهُمْ لِلرُّبُوبِيَّةِ، وَلَا أَنْ يكون شريكا له فِيهَا، فَمَا دُونَهُمْ مِمَّا لَا يَعْقِلُ أَحَقُّ أَنْ لَا يَكُونَ نِدًّا وَشَرِيكًا.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنِ اتَّخَذَ غَيْرَهُ رَبًّا مِنْ مَلَكٍ أَوْ إِنْسِيٍّ فَضْلًا عَنْ صَنَمٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَهُوَ مُبْطِلٌ تَابِعٌ لِمَا أَدَّى إِلَيْهِ التَّقْلِيدُ وَتَرْكُ النَّظَرِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا نَافِيَةٌ، وشركاء مَفْعُولُ يَتَّبِعُ، وَمَفْعُولُ يَدْعُونَ مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ الْمَعْنَى تَقْدِيرُهُ: آلِهَةً أَوْ شُرَكَاءَ أَيْ: أَنَّ الَّذِينَ جَعَلُوهُمْ آلِهَةً وَأَشْرَكُوهُمْ مَعَ اللَّهِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ لَيْسُوا شُرَكَاءَ حَقِيقَةً، إِذِ الشَّرِكَةُ فِي الْأُلُوهِيَّةِ مُسْتَحِيلَةٌ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ أَطْلَقُوا عَلَيْهِمُ اسْمَ الشُّرَكَاءِ. وَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ مَا اسْتِفْهَامِيَّةً فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بيتبع، وَشُرَكَاءَ مَنْصُوبٌ بِيَدْعُونَ أَيْ: وَأَيُّ شَيْءٍ يَتَّبِعُ عَلَى تَحْقِيرِ الْمُتَّبَعِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ يَدْعُو شَرِيكًا لِلَّهِ لَا يَتَّبِعُ شَيْئًا. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً عَطْفًا عَلَى مِنْ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَيْ: وَالَّذِي يَتَّبِعُهُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ أَيْ: وَلَهُ شُرَكَاؤُهُمْ.
وَأَجَازَ غَيْرُهُ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ:
وَالَّذِي يَتَّبِعُهُ الْمُشْرِكُونَ بَاطِلٌ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ: تَدْعُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَهِيَ قِرَاءَةٌ غَيْرُ مُتَّجِهَةٍ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طالب رضي الله عنه تَدْعُونَ بِالتَّاءِ
، وَوَجْهُهُ أَنْ يُحْمَلَ وَمَا يَتَّبِعُ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ أَيْ: وَأَيُّ شَيْءٍ يَتَّبِعُ الَّذِينَ تَدْعُونَهُمْ شُرَكَاءَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ، يَعْنِي: أَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ اللَّهَ تَعَالَى وَيُطِيعُونَهُ، فَمَا لَكَمَ لَا تَفْعَلُونَ فِعْلِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ «1» انْتَهَى. وَإِنْ نَافِيَةٌ أَيْ: مَا يَتَّبِعُونَ إِلَّا ظَنَّهُمْ أَنَّهُمْ شُرَكَاءُ. ويخرصون: يَقْدِرُونَ. وَمَنْ قَرَأَ تَدْعُونَ بِالتَّاءِ كَانَ قَوْلُهُ: إِنْ يَتَّبِعُونَ الْتِفَاتًا، إِذْ هُوَ خُرُوجٌ مِنْ خِطَابٍ إِلَى غَيْبَةٍ.
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ: هَذَا تَنْبِيهٌ مِنْهُ تَعَالَى عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ وَشُمُولِ نِعْمَتِهِ لِعِبَادِهِ، فَهُوَ الْمُسْتَحَقُّ لِأَنْ يُفْرَدَ بِالْعِبَادَةِ لِتَسْكُنُوا فِيهِ مِمَّا تُقَاسُونَ مِنَ الْحَرَكَةِ وَالتَّرَدُّدِ فِي طَلَبِ الْمَعَاشِ وَغَيْرِهِ بِالنَّهَارِ، وَأَضَافَ الْأَبْصَارَ إِلَى النَّهَارِ مَجَازًا، لِأَنَّ الْأَبْصَارَ تَقَعُ فِيهِ كَمَا قَالَ:
وَنِمْتُ وَمَا لَيْلُ الْمَطِيِّ بِنَائِمِ أَيْ: يُبْصِرُونَ فِيهِ مَطَالِبَ مَعَايِشِهِمْ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: يُقَالُ أَظْلَمَ اللَّيْلُ صَارَ ذَا ظُلْمَةٍ، وَأَضَاءَ النَّهَارُ وَأَبْصَرَ أَيْ صَارَ ذَا ضِيَاءٍ وَبَصَرٍ انْتَهَى. وَذَكَرَ عِلَّةَ خَلْقِ اللَّيْلِ وَهِيَ قَوْلُهُ: لِتَسْكُنُوا فيه،
(1) سورة الإسراء: 17/ 57. [.....]