الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سَنَةُ أَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ]
[الْأَحْدَاثُ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا]
فِيهَا عَدَا أَهْلُ حِمْصَ عَلَى عَامِلِهِمْ أَبِي الْغَيْثِ مُوسَى بْنِ إِبْرَاهِيمَ الرَّافِقِيِّ وَكَانَ قَدْ قَتَلَ رَجُلًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ فَقَتَلُوا جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، وَأَخْرَجُوهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمُ الْمُتَوَكِّلُ أَمِيرًا عَلَيْهِمْ، وَقَالَ لِلسَّفِيرِ مَعَهُ: إِنْ قَبِلُوا وَإِلَّا فَأَعْلِمْنِي، فَقَبِلُوهُ، فَعَمِلَ فِيهِمُ الْأَعَاجِيبَ، وَأَهَانَهُمْ غَايَةَ الْإِهَانَةِ.
وَفِيهَا عَزَلَ الْمُتَوَكِّلُ يَحْيَى بْنَ أَكْثَمَ الْقَاضِي عَنْ قَضَاءِ الْقُضَاةِ، وَصَادَرَهُ بِمَا مَبْلَغُهُ ثَمَانُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَأَخَذَ مِنْهُ أَرَاضِيَ كَثِيرَةً فِي أَرْضِ الْبَصْرَةِ وَوَلَّى مَكَانَهُ جَعْفَرَ بْنَ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ عَلَى قَضَاءِ الْقُضَاةِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا تُوُفِّيَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادٍ بَعْدَ
ابْنِهِ بِعِشْرِينَ يَوْمًا.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي دُؤَادٍ الْقَاضِي
هُوَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادٍ وَاسْمُهُ الْفَرَجُ، وَقِيلَ: دُعْمِيٌّ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ اسْمَهُ كُنْيَتُهُ - ابْنُ جَرِيرٍ الْقَاضِي، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْإِيَادِيُّ الْمُعْتَزِلِيُّ.
قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ فِي نَسَبِهِ: هُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادٍ فَرَجِ بْنِ جَرِيرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ سَلَّامِ بْنِ عَبْدِ هِنْدِ بْنِ عَبْدِ لَخْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ قَنَصِ بْنِ مَنَعَةَ بْنِ بُرْجَانَ بْنِ دَوْسِ بْنِ الدُّئِلِ بْنِ أُمَيَّةَ
بْنِ حُذَاقَةَ بْنِ زُهْرِ بْنِ إِيَادِ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَلِيَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ قَضَاءَ الْقُضَاةِ لِلْمُعْتَصِمِ، ثُمَّ لِلْوَاثِقِ، وَكَانَ مَوْصُوفًا بِالْجُودِ وَالسَّخَاءِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ وَوُفُورِ الْأَدَبِ، غَيْرَ أَنَّهُ أَعْلَنَ بِمَذْهَبِ الْجَهْمِيَّةِ، وَحَمَلَ السُّلْطَانَ عَلَى امْتِحَانِ النَّاسِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، قَالَ الصُّولِيُّ: لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الْبَرَامِكَةِ أَكْرَمُ مِنْهُ، وَلَوْلَا مَا وَضَعَ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ مَحَبَّةِ الْمِحْنَةِ لَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْأَلْسُنُ. قَالُوا: وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ سِتِّينَ وَمِائَةٍ، وَكَانَ أَسَنَّ مِنْ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ بِعِشْرِينَ سَنَةً.
قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ وَأَصْلُهُ مِنْ بِلَادِ قِنِّسرِينَ وَكَانَ أَبُوهُ تَاجِرًا يَفِدُ إِلَى الشَّامِ ثُمَّ أَخَذَ وَلَدَهُ هَذَا مَعَهُ إِلَى الْعِرَاقِ، فَاشْتَغَلَ بِالْعِلْمِ، وَصَحِبَ هَيَّاجَ بْنَ الْعَلَاءِ السُّلَمِيَّ، أَحَدَ أَصْحَابِ وَاصِلِ بْنِ عَطَاءٍ فَأَخَذَ عَنْهُ الِاعْتِزَالَ، وَذُكِرَ أَنَّهُ كَانَ يَصْحَبُ يَحْيَى بْنَ أَكْثَمَ الْقَاضِي، وَيَأْخُذُ عَنْهُ الْعِلْمَ ثُمَّ سَرَدَ لَهُ تَرْجَمَةً طَوِيلَةً فِي كِتَابِ " الْوَفَيَاتِ ".
وَقَدِ امْتَدَحَهُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ، فَقَالَ:
رَسُولُ اللَّهِ وَالْخُلَفَاءُ مِنَّا
…
وَمِنَّا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادِ
فَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ:
فَقُلْ لِلْفَاخِرِينَ عَلَى نِزَارٍ
…
وَهُمْ فِي الْأَرْضِ سَادَاتُ الْعِبَادِ
رَسُولُ اللَّهِ وَالْخُلَفَاءُ مِنَّا
…
وَنَبْرَأُ مِنْ دَعِيِّ بَنِي إِيَادِ
وَمَا مِنَّا إِيَادٌ إِذْ أَقَرَّتْ
…
بِدَعْوَةِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي دُؤَادِ
فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ أَحْمَدَ بْنَ أَبِي دُؤَادٍ قَالَ: لَوْلَا أَنِّي أَكْرَهُ الْعُقُوبَةَ لَعَاقَبْتُ هَذَا الشَّاعِرَ عُقُوبَةً مَا فَعَلَهَا أَحَدٌ. وَعَفَا عَنْهُ.
قَالَ الْخَطِيبُ: حَدَّثَنِي الْأَزْهَرِيُّ، ثَنَا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ الْوَاعِظُ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَالِكٍ، حَدَّثَنِي جَرِيرُ بْنُ أَحْمَدَ أَبُو مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ أَبِي - يَعْنِي أَحْمَدَ بْنَ أَبِي دُؤَادٍ - إِذَا صَلَّى رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَخَاطَبَ رَبَّهُ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
مَا أَنْتَ بِالسَّبَبِ الضَّعِيفِ وَإِنَّمَا
…
نُجْحُ الْأُمُورِ بِقُوَّةِ الْأَسْبَابِ
وَالْيَوْمَ حَاجَتُنَا إِلَيْكَ وَإِنَّمَا
…
يُدْعَى الطَّبِيبُ لِسَاعَةِ الْأَوْصَابِ
ثُمَّ رَوَى الْخَطِيبُ أَنَّ أَبَا تَمَّامٍ دَخَلَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ أَبِي دُؤَادٍ يَوْمًا فَقَالَ لَهُ:
أَحْسَبُكَ عَاتِبًا. فَقَالَ: إِنَّمَا يُعْتَبُ عَلَى وَاحِدٍ، وَأَنْتَ النَّاسُ جَمِيعًا. فَقَالَ لَهُ: أَنَّى لَكَ هَذِهِ؟ فَقَالَ: مِنْ قَوْلِ أَبِي نُوَاسٍ:
وَلَيْسَ لِلَّهِ بِمُسْتَنْكَرٍ
…
أَنْ يَجْمَعَ الْعَالَمَ فِي وَاحِدِ
وَامْتَدَحَهُ أَبُو تَمَّامٍ يَوْمًا، فَقَالَ:
لَقَدْ أَنْسَتْ مَسَاوِئَ كُلِّ دَهْرٍ
…
مَحَاسِنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي دُؤَادِ
وَمَا سَافَرْتُ فِي الْآفَاقِ إِلَّا
…
وَمِنْ جَدْوَاكَ رَاحِلَتِي وَزَادِي
يُقِيمُ الظَّنُّ عِنْدَكَ وَالْأَمَانِي
…
وَإِنْ قَلِقَتْ رِكَابِي فِي الْبِلَادِ
فَقَالَ لَهُ: هَذَا الْمَعْنَى تَفَرَّدْتَ بِهِ، أَوْ أَخَذْتَهُ مَنْ غَيْرِكَ؟ فَقَالَ: هُوَ لِي غَيْرَ أَنِّي أَلْمَمْتُ بِقَوْلِ أَبِي نُوَاسٍ:
وَإِنْ جَرَتِ الْأَلْفَاظُ يَوْمًا بِمِدْحَةٍ
…
لِغَيْرِكَ إِنْسَانًا فَأَنْتَ الَّذِي نَعْنِي
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الصُّولِيُّ: وَمِنْ مُخْتَارِ مَدِيحِ أَبِي تَمَّامٍ لِأَحْمَدَ بْنِ أَبِي دُؤَادٍ قَوْلُهُ:
أَأَحْمَدُ إِنَّ الْحَاسِدِينَ كَثِيرُ
…
وَمَا لَكَ إِنْ عُدَّ الْكِرَامُ نَظِيرُ
حَلَلْتَ مَحَلًّا فَاضِلًا مُتَقَدِّمًا
…
مِنَ الْمَجْدِ وَالْفَخْرُ الْقَدِيمُ فَخُورُ
فَكُلُّ غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ فَإِنَّهُ
…
إِلَيْكَ وَإِنْ نَالَ السَّمَاءَ فَقِيرُ
إِلَيْكَ تَنَاهَى الْمَجْدُ مِنْ كُلِّ وِجْهَةٍ
…
يَصِيرُ فَمَا يَعْدُوكَ حَيْثُ تَصِيرُ
وَبَدْرُ إِيَادٍ أَنْتَ لَا يُنْكِرُونَهُ
…
كَذَاكَ إِيَادٌ لِلَأَنَامِ بُدُورُ
تَجَنَّبْتَ أَنْ تُدَعَى الْأَمِيرَ تَوَاضُعًا
…
وَأَنْتَ لِمَنْ يُدْعَى الْأَمِيرَ أَمِيرُ
فَمَا مِنْ نَدًى إِلَّا إِلَيْكَ مَحَلُّهُ
…
وَلَا رِفْعَةٍ إِلَّا إِلَيْكَ تَسِيرُ
قُلْتُ: قَدْ أَخْطَأَ الشَّاعِرُ فِي هَذَا خَطَأً كَبِيرًا، وَأَفْحَشَ فِي الْمُبَالَغَةِ كَثِيرًا. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادٍ يَوْمًا لِبَعْضِهِمْ: لِمَ لَا تَسْأَلُنِي؟ فَقَالَ لَهُ: لِأَنِّي لَوْ سَأَلْتُكَ أَعْطَيْتُكَ ثَمَنَ مَا تُعْطِينِي. فَقَالَ لَهُ: صَدَقْتَ. وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِخَمْسَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ.
وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ أَبِي دُؤَادٍ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى عِيرٍ، فَقَالَ:
يَا غُلَامُ، أَعْطِهِ عِيرًا وَبَغْلًا وَبِرْذَوْنًا وَفَرَسًا وَجَارِيَةً. ثُمَّ قَالَ لَهُ: لَوْ أَعْلَمُ مَرْكُوبًا غَيْرَ هَذَا لَأَعْطَيْتُكَ. ثُمَّ أَوْرَدَ الْخَطِيبُ بِأَسَانِيدِهِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ أَخْبَارًا تَدُلُّ عَلَى كَرَمِهِ وَفَصَاحَتِهِ وَأَدَبِهِ وَحِلْمِهِ وَمُبَادَرَتِهِ إِلَى قَضَاءِ الْحَاجَاتِ، وَعَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ الْخُلَفَاءِ.
وَذُكِرَ عَنْ مُحَمَّدٍ الْمُهْتَدِي ابْنِ الْوَاثِقِ أَنَّ شَيْخًا دَخَلَ يَوْمًا عَلَى الْوَاثِقِ فَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الْوَاثِقُ، بَلْ قَالَ: لَا سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بِئْسَ مَا أَدَّبَكَ مُعَلِّمُكَ ; قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] فَلَا حَيَّيْتَنِي بِأَحْسَنَ مِنْهَا، وَلَا رَدَدْتَهَا. فَقَالَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، الرَّجُلُ مُتَكَلِّمٌ. فَقَالَ: نَاظِرْهُ. فَقَالَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ: مَا تَقُولُ يَا شَيْخُ فِي الْقُرْآنِ، أَمَخْلُوقٌ هُوَ؟ فَقَالَ الشَّيْخُ: لَمْ تُنْصِفْنِي ; الْمَسْأَلَةُ لِي. فَقَالَ: قُلْ. فَقَالَ: هَذَا الَّذِي تَقُولُهُ، عَلِمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعْلَيٌّ أَوْ مَا عَلِمُوهُ؟ فَقَالَ: لَمْ يَعْلَمُوهُ. قَالَ: فَأَنْتَ عَلِمْتَ مَا لَمْ يَعْلَمُوا؟ فَخَجِلَ وَسَكَتَ. ثُمَّ قَالَ: أَقِلْنِي، بَلْ عَلِمُوهُ. قَالَ: فَلِمَ لَا دَعَوُا النَّاسَ إِلَيْهِ كَمَا دَعَوْتَهُمْ أَنْتَ، أَمَا وَسِعَكَ مَا وَسِعَهُمْ؟ فَسَكَتَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ، وَأَمَرَ الْوَاثِقُ لَهُ بِجَائِزَةٍ نَحْوَ أَرْبَعِمِائَةِ دِينَارٍ. قَالَ الْمُهْتَدِي: فَدَخَلَ أَبِي الْمَنْزِلَ وَاسْتَلْقَى عَلَى قَفَاهُ، وَجَعَلَ يُكَرِّرُ قَوْلَ الشَّيْخِ عَلَى نَفْسِهِ،
وَيَقُولُ: أَمَا وَسِعَكَ مَا وَسِعَهُمْ؟ ثُمَّ أَمَرَ بِإِطْلَاقِ الشَّيْخِ وَإِعْطَائِهِ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ وَرَدَّهُ إِلَى بِلَادِهِ، وَسَقَطَ مِنْ عَيْنَيْهِ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ وَلَمْ يَمْتَحِنْ بَعْدَهُ أَحَدًا. رَوَاهَا الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي تَارِيخِهِ بِإِسْنَادٍ فِيهِ بَعْضُ مَنْ لَا أَعْرِفُهُ، وَسَاقَهَا مُطَوَّلَةً وَفِيهَا نَكَارَةٌ.
وَقَدْ أَنْشَدَ ثَعْلَبٌ عَنْ أَبِي حَجَّاجٍ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ:
نَكَسْتَ الدِّينَ يَا ابْنَ أَبِي دُؤَادِ
…
فَأَصْبَحَ مَنْ أَطَاعَكَ فِي ارْتِدَادِ
زَعَمْتَ كَلَامَ رَبِّكَ كَانَ خَلْقًا
…
أَمَا لَكَ عِنْدَ رَبِّكَ مِنْ مَعَادِ
كَلَامُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ بِعِلْمٍ
…
وَأَنْزَلَهُ عَلَى خَيْرِ الْعِبَادِ
وَمَنْ أَمْسَى بِبَابِكَ مُسْتَضِيفًا
…
كَمَنْ حَلَّ الْفَلَاةَ بِغَيْرِ زَادِ
لَقَدْ أَطْرَفْتَ يَا ابْنَ أَبِي دُؤَادِ
…
بِقَوْلِكَ إِنَّنِي رَجْلٌ إِيَادِي
ثُمَّ قَالَ الْخَطِيبُ: أَنْبَأَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ طَاهِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّبَرِيُّ قَالَ: أَنْشَدَنَا الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الصُّولِيِّ لِبَعْضِهِمْ يَهْجُو ابْنَ أَبِي دُؤَادٍ:
لَوْ كُنْتَ فِي الرَّأْيِ مَنْسُوبًا إِلَى رَشَدٍ
…
وَكَانَ عَزْمُكَ عَزْمًا فِيهِ تَوْفِيقُ
لَكَانَ فِي الْفِقْهِ شُغْلٌ لَوْ قَنِعْتَ بِهِ
عَنْ أَنْ تَقُولَ كَتَابُ اللَّهِ مَخْلُوقُ
…
مَاذَا عَلَيْكَ وَأَصْلُ الدِّينِ يَجْمَعُهُمْ
مَا كَانَ فِي الْفَرْعِ لَا فِي الْجَهْلِ وَالْمُوقِ
وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْأَبْيَاتُ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ عَنْ يَحْيَى الْجَلَّاءِ أَوْ عَلِيٍّ ابْنِ الْمُوَفَّقِ أَنَّهُ قَالَ: نَاظَرَنِي رَجُلٌ مِنَ الْوَاقِفِيَّةِ فِي خَلْقِ الْقُرْآنِ فَنَالَنِي مِنْهُ مَا أَكْرَهُ، فَلَمَّا أَمْسَيْتُ أَتَيْتُ امْرَأَتِي فَوَضَعَتْ لِيَ الْعَشَاءَ فَلَمْ أَقْدِرْ أَنْ أَنَالَ مِنْهُ شَيْئًا، وَنِمْتُ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، وَهُنَاكَ حَلْقَةٌ فِيهَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَصْحَابُهُ، وَحَلْقَةٌ فِيهَا ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ وَأَصْحَابُهُ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ} [الأنعام: 89] وَيُشِيرُ إِلَى حَلْقَةِ ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام: 89] وَيُشِيرُ إِلَى حَلْقَةِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَصْحَابِهِ رحمهم الله.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ لَيْلَةَ مَاتَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ كَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ: هَلَكَ اللَّيْلَةَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادٍ. فَقُلْتُ لَهُ: وَمَا سَبَبُ هَلَاكِهِ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ أَغْضَبَ
اللَّهَ عَلَيْهِ فَغَضِبَ عَلَيْهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَأَيْتُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ كَأَنَّ النَّارَ زَفَرَتْ زَفْرَةً عَظِيمَةً، فَخَرَجَ مِنْهَا اللَّهَبُ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ: هَذِهِ اتُّخِذَتْ لِابْنِ أَبِي دُؤَادٍ
وَقَدْ كَانَ مَوْتُهُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ الْعَبَّاسُ، وَدُفِنَ فِي دَارِهِ بِبَغْدَادَ وَعُمْرُهُ يَوْمَئِذٍ ثَمَانُونَ سَنَةً، وَابْتَلَاهُ اللَّهُ بِالْفَالِجِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِأَرْبَعِ سِنِينَ وَبَقِيَ طَرِيحًا فِي فِرَاشِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُحَرِّكَ شَيْئًا مِنْ جَسَدِهِ.
وَقَدْ دَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا جِئْتُكَ عَائِدًا وَإِنَّمَا جِئْتُ لِأَحْمَدَ اللَّهَ عَلَى أَنْ سَجَنَكَ فِي جَسَدِكَ. وَقَدْ صُودِرَ فِي الْعَامِ الْمَاضِي بِأَمْوَالٍ جَزِيلَةٍ جِدًّا، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ كَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ سِتِّينَ وَمِائَةٍ. قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا يَكُونُ أَسَنَّ مِنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَمِنْ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ الَّذِي ذَكَرَ ابْنُ خِلِّكَانَ
أَنَّهُ كَانَ سَبَبَ اتِّصَالِ ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ بِالْخَلِيفَةِ الْمَأْمُونِ فَحَظِيَ عِنْدَهُ، بِحَيْثُ إِنَّهُ أَوْصَى بِهِ إِلَى أَخِيهِ الْمُعْتَصِمِ، فَوَلَّاهُ الْمُعْتَصِمُ الْقَضَاءَ وَعَزَلَ ابْنَ أَكْثَمَ، وَكَانَ لَا يَقْطَعُ أَمْرًا دُونَهُ، فَكَانَ عِنْدَهُ خِصِّيصًا ; وَلَّاهُ الْقَضَاءَ وَالْمَظَالِمَ، وَكَانَ ابْنُ الزَّيَّاتِ الْوَزِيرُ يُبْغِضُهُ، وَجَرَتْ بَيْنَهُمَا مُنَافَسَاتٌ وَهَجْوٌ، كَمَا تَقَدَّمَ وَقَدْ بَالَغَ ابْنُ خِلِّكَانَ فِي تَرْجَمَتِهِ وَمَدْحِهِ، وَذَكَرَ مِنْ مَآثِرِهِ وَمَحَاسِنِهِ فَأَطْنَبَ وَأَكْثَرَ وَمَا أَطْيَبَ، وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ مَسَاوِئِهِ، بَلْ ذَكَرَ امْتِحَانَهُ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ذِكْرًا مُوجَزًا بِأَطْرَافِ الْأَنَامِلِ، وَهِيَ الْمِحْنَةُ الَّتِي هِيَ أُسُّ مَا بَعْدَهَا مِنَ الْمِحَنِ، وَالْفِتْنَةُ الَّتِي فَتَحَتْ عَلَى النَّاسِ بَابَ الْفِتَنِ.
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ خِلِّكَانَ مَا ضُرِبَ بِهِ مِنَ الْفَالِجِ، وَمَا صُودِرَ بِهِ مِنَ الْمَالِ الرَّابِحِ، وَأَنَّ ابْنَهُ أَبَا الْوَلِيدِ مُحَمَّدًا صُودِرَ بِأَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ أَبِيهِ بِشَهْرٍ.
وَأَمَّا الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فَإِنَّهُ بَسَطَ الْقَوْلَ فِي تَرْجَمَتِهِ وَشَرَحَهَا شَرْحًا مَلِيحًا. وَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ أَدِيبًا فَصِيحًا كَرِيمًا جَوَادًا مُمَدَّحًا، يُؤْثِرُ الْعَطَاءَ عَلَى الْمَنْعِ، وَالتَّفْرِقَةَ عَلَى الْجَمْعِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ بِإِسْنَادِهِ أَنَّهُ جَلَسَ