الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سَنَةُ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ]
[الْأَحْدَاثُ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا]
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ مُفْلِحٍ وَبَيْنَ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ الطَّالِبِيِّ فَهَزَمَهُ مُفْلِحٌ وَدَخَلَ آمُلَ طَبَرِسْتَانَ وَحَرَقَ مَنَازِلَ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ، ثُمَّ سَارَ وَرَاءَهُ إِلَى الدَّيْلَمِ.
وَفِيهَا كَانَتْ مُحَارَبَةٌ شَدِيدَةٌ بَيْنَ يَعْقُوبَ بْنِ اللَّيْثِ وَبَيْنَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ قُرَيْشِ بْنِ شِبْلٍ فَبَعَثَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ رَجُلًا مِنْ جِهَتِهِ يُقَالُ لَهُ: طَوْقُ بْنُ الْمُغَلِّسِ فَصَابَرَهُ أَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ، ثُمَّ ظَفِرَ يَعْقُوبُ بِطَوْقٍ فَأَسَرَهُ وَأَسَرَ وُجُوهَ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ سَارَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ هَذَا فَأَسَرَهُ أَيْضًا، وَأَخَذَ بِلَادَهُ - وَهِيَ كَرْمَانُ - فَأَضَافَهَا إِلَى مَا بِيَدِهِ مِنْ مَمْلَكَةِ سِجِسْتَانَ ثُمَّ بَعَثَ يَعْقُوبُ بْنُ اللَّيْثِ بِهَدِيَّةٍ سَنِيَّةٍ إِلَى الْمُعْتَزِّ بِاللَّهِ ; دَوَابًّ وَبُزَاةٍ وَثِيَابٍ فَاخِرَةٍ.
وَفِيهَا وَلَّى الْخَلِيفَةُ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ نِيَابَةَ بَغْدَادَ وَالسَّوَادِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا.
وَفِيهَا أَخَذَ صَالِحُ بْنُ وَصِيفٍ أَحْمَدَ بْنَ إِسْرَائِيلَ كَاتِبَ الْمُعْتَزِّ وَالْحَسَنَ بْنَ مَخْلَدٍ كَاتِبَ قَبِيحَةَ أَمِّ الْمُعْتَزِّ، وَأَبَا نُوحٍ عِيسَى بْنَ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانُوا قَدْ تَمَالَئُوا عَلَى أَكْلِ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ، وَكَانُوا دَوَّاوِينَ وَغَيْرَهُمْ فَضَرَبَهُمْ وَأَخَذَ
خُطُوطَهُمْ بِأَمْوَالٍ جَزِيلَةٍ يَحْمِلُونَهَا، وَذَلِكَ بِغَيْرِ رِضًا مِنَ الْمُعْتَزِّ فِي الْبَاطِنِ، وَاحْتِيطَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَحَوَاصِلِهِمْ وَضِيَاعِهِمْ، وَسُمُّوا الْكُتَّابَ الْخَوَنَةَ وَوَلَّى الْخَلِيفَةُ عَنْ قَهْرٍ غَيْرَهُمْ.
وَفِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ عِيسَى بْنُ جَعْفَرٍ، وَعَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ الْحَسَنِيَّانِ بِالْكُوفَةِ، وَقَتَلَا بِهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ بْنِ عِيسَى وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُمَا بِهَا.
مَقْتَلُ الْخَلِيفَةِ الْمُعْتَزِّ بِاللَّهِ
وَلِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ خُلِعَ الْخَلِيفَةُ الْمُعْتَزُّ بِاللَّهِ وَلِلَيْلَتَيْنِ مَضَتَا مِنْ شَعْبَانَ أُظْهِرَ مَوْتُهُ. وَكَانَ سَبَبَ خَلْعِهِ أَنَّ الْجُنْدَ اجْتَمَعُوا فَطَلَبُوا مِنْهُ أَرْزَاقَهُمْ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُعْطِيهِمْ فَسَأَلَ مِنْ أُمِّهِ أَنْ تُقْرِضَهُ مَالًا يَدْفَعُهُمْ عَنْهُ بِهِ فَلَمْ تُعْطِهِ وَأَظْهَرَتْ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عِنْدَهَا فَاجْتَمَعَ الْأَتْرَاكُ عَلَى خَلْعِهِ فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ ; لِيَخْرُجَ إِلَيْهِمْ فَاعْتَذَرَ بِأَنَّهُ قَدْ شَرِبَ دَوَاءً وَأَنَّ عِنْدَهُ ضَعْفًا، وَلَكِنْ لِيَدْخُلْ إِلَيَّ بَعْضُكُمْ. فَدَخَلَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ فَتَنَاوَلُوهُ بِالدَّبَابِيسِ يَضْرِبُونَهُ وَجَرُّوا بِرِجْلِهِ وَأَخْرَجُوهُ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ مُخَرَّقٌ مُلَطَّخٌ بِالدَّمِ فَأَقَامُوهُ فِي وَسَطِ دَارِ الْخِلَافَةِ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ حَتَّى جَعَلَ يُرَاوِحُ بَيْنَ قَدَمَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَلْطِمُهُ وَهُوَ يَبْكِي، وَيَقُولُ لَهُ الضَّارِبُ: اخْلَعْهَا وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ. ثُمَّ
أَدْخَلُوهُ حُجْرَةً مُضَيَّقًا عَلَيْهِ فِيهَا.
وَمَا زَالُوا عَلَيْهِ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ حَتَّى خَلَعَ نَفْسَهُ مِنَ الْخِلَافَةِ وَوَلِيَ بَعْدَهُ الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ، كَمَا سَيَأْتِي، ثُمَّ سَلَّمُوهُ إِلَى مَنْ يَسُومُهُ سُوءَ الْعَذَابِ بِأَنْوَاعِ الْمَثُلَاتِ وَمُنِعَ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى جَعَلَ يَطْلَبُ شَرْبَةً مِنْ مَاءِ الْبِئْرِ فَلَمْ يُسْقَ ثُمَّ أَدْخَلُوهُ سِرْبًا فِيهِ جَصُّ جِيرٍ فَدَسُّوهُ فِيهِ فَأَصْبَحَ مَيِّتًا فَاسْتَلُّوهُ مِنَ الْجَصِّ سَلِيمَ الْجَسَدِ فَأَشْهَدُوا عَلَيْهِ جَمَاعَةً مِنَ الْأَعْيَانِ أَنَّهُ مَاتَ وَلَيْسَ بِهِ أَثَرٌ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَكَانَ يَوْمَ السَّبْتِ وَصَلَّى عَلَيْهِ الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ وَدُفِنَ مَعَ أَخِيهِ الْمُنْتَصِرِ إِلَى جَانِبِ قَصْرِ الصَّوَامِعِ، عَنْ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً.
وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ أَرْبَعَ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ وَثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَكَانَ طَوِيلًا جَسِيمًا وَسِيمًا أَقْنَى الْأَنْفِ مُدَوَّرَ الْوَجْهِ حَسَنَ الضَّحِكِ أَبْيَضَ، أَسْوَدَ الشَّعْرِ جَعْدَهُ كَثِيفَهُ كَثِيفَ اللِّحْيَةِ حَسَنَ الْعَيْنَيْنِ وَالْوَجْهِ ضَيِّقَ الْجَبِينِ أَحْمَرَ الْوَجْنَتَيْنِ رحمه الله.
وَقَدْ أَثْنَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَلَى جَوْدَةِ ذِهْنِهِ وَحُسْنِ فَهْمِهِ وَأَدَبِهِ حِينَ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ الْمُتَوَكِّلِ بِسَامَرَّا، كَمَا قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَرْبٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى الْمُعْتَزِّ بِاللَّهِ فَمَا رَأَيْتُ خَلِيفَةً أَحْسَنَ وَجْهًا مِنْهُ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ سَجَدْتُ فَقَالَ: يَا شَيْخُ تَسْجُدُ لِأَحَدٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ فَقُلْتُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ النَّبِيلُ،
ثَنَا بَكَّارُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا رَأَى مَا يَفْرَحُ بِهِ، أَوْ بُشِّرَ بِمَا يَسُرُّهُ، سَجَدَ شُكْرًا لِلَّهِ عز وجل» .
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: صِرْتُ إِلَى الْمُعْتَزِّ وَهُوَ أَمِيرٌ، فَلَمَّا سَمِعَ بِقُدُومِي خَرَجَ مُسْتَعْجِلًا إِلَيَّ فَعَثَرَ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
يَمُوتُ الْفَتَى مِنْ عَثْرَةٍ بِلِسَانِهِ
…
وَلَيْسَ يَمُوتُ الْمَرْءُ مِنْ عَثْرَةِ الرِّجْلِ
فَعَثْرَتُهُ مِنْ فِيهِ تَرْمِي بِرَأْسِهِ
…
وَعَثْرَتُهُ فِي الرِّجْلِ تَبْرَأُ عَلَى مَهْلِ
وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: أَنَّ الْمُعْتَزَّ لَمَّا حَذَقَ الْقُرْآنَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ الْمُتَوَكِّلِ اهْتَمَّ أَبُوهُ لِذَلِكَ وَاجْتَمَعَتِ الْأُمَرَاءُ الْكُبَرَاءُ وَالرُّؤَسَاءُ بِسُرَّ مَنْ رَأَى، وَاخْتَلَفُوا لِذَلِكَ أَيَّامًا عَدِيدَةً وَجَرَتْ أَحْوَالٌ عَظِيمَةٌ. وَلَمَّا جَلَسَ وَهُوَ صَبِيٌّ عَلَى الْمِنْبَرِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِيهِ بِالْخِلَافَةِ، وَخَطَبَ النَّاسَ نُثِرَتِ الْجَوَاهِرُ فِي الصَّوَانِيِ، وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ عَلَى الْخَوَاصِّ وَالْعَوَامِّ بِدَارِ الْخِلَافَةِ، فَكَانَ قِيمَةُ مَا نُثِرَ مِنَ الْجَوَاهِرِ مَا يُسَاوِي مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَمِثْلَهَا ذَهَبًا، وَأَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، غَيْرَ مَا كَانَ مِنْ خِلَعٍ وَأَسْمِطَةٍ وَأَقْمِشَةٍ مِمَّا يَفُوتُ الْحَصْرَ وَكَانَ وَقْتًا مَشْهُودًا لَمْ يَكُنْ سُرُورٌ بِدَارِ الْخِلَافَةِ أَبْهَجَ مِنْهُ وَلَا أَحْسَنَ وَخَلَعَ الْخَلِيفَةُ عَلَى أُمِّ وَلَدِهِ الْمُعْتَزِّ - وَهِيَ قَبِيحَةُ - خِلَعًا سَنِيَّةً وَأَعْطَاهَا وَأَجْزَلَ لَهَا الْعَطَاءَ، وَكَذَلِكَ خَلَعَ عَلَى مُؤَدَّبِ الْمُعْتَزِّ - وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ - مِنَ الْجَوْهَرِ وَالذَّهَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
خِلَافَةُ الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَاثِقِ هَارُونَ بْنِ الْمُعْتَصِمِ
وَكَانَتْ بَيْعَتُهُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِلَّيْلَةِ بَقِيَتْ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بَعْدَ خَلْعِ الْمُعْتَزِّ نَفْسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَإِشْهَادِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنِ الْقِيَامِ بِأَمْرِ الْخِلَافَةِ، وَأَنَّهُ قَدْ رَغِبَ إِلَى مَنْ يَقُومُ بِأَعْبَائِهَا مُحَمَّدِ بْنِ الْوَاثِقِ بِاللَّهِ. ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ فَبَايَعَهُ قَبْلَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، ثُمَّ بَايَعَهُ الْخَاصَّةُ ثُمَّ كَانَتْ بَيْعَةُ الْعَامَّةِ وَكُتِبَ عَلَى الْمُعْتَزِّ كِتَابٌ أُشْهِدَ عَلَيْهِ فِيهِ بِالْخَلْعِ وَالْعَجْزِ وَالْمُبَايَعَةِ لِلْمُهْتَدِي.
وَفِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ هَذَا وَقَعَتْ بِبَغْدَادَ فِتْنَةٌ هَائِلَةٌ وَثَبَتَ فِيهَا الْعَامَّةُ عَلَى نَائِبِهَا سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ وَدَعَوْا إِلَى بَيْعَةِ أَبِي أَحْمَدَ ابْنِ الْمُتَوَكِّلِ أَخِي الْمُعْتَزِّ ; وَذَلِكَ لِعَدَمِ عِلْمِ أَهْلِ بَغْدَادَ بِمَا وَقَعَ بِسَامَرَّا مِنْ بَيْعَةِ الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ ابْنِ الْوَاثِقِ، وَقُتِلَ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ وَغَرِقَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ لَمَّا بَايَعَ النَّاسُ بَيْعَةَ الْعَامَّةِ لِلْمُهْتَدِي بِاللَّهِ فِي سَابِعِ شَعْبَانَ، وَبَلَغَ أَهْلَ بَغْدَادَ ذَلِكَ، سَكَنُوا وَاسْتَقَرَّتِ الْأُمُورُ وَاسْتَقَلَّ الْمُهْتَدِي بِالْخِلَافَةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ عِنْدَ قَبِيحَةَ أُمِّ الْمُعْتَزِّ أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ، وَجَوَاهِرُ نَفِيسَةٌ ; كَانَ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ مَا يُقَارِبُ أَلْفَيْ أَلْفِ دِينَارٍ وَمِنَ الزُّمُرُّدِ الَّذِي لَمْ يُرَ مِثْلُهُ مِقْدَارُ مَكُّوكٍ، وَمِنَ الْحَبِّ الْكِبَارِ مَكُّوكٌ وَكَيْلَجَةُ يَاقُوتٍ أَحْمَرَ مِمَّا لَمْ يُرَ مِثْلُهُ أَيْضًا. وَقَدْ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ مُخْتَفِيَةً عِنْدَ صَالِحِ بْنِ وَصِيفٍ
ثُمَّ نَزَحَتْ عَنْهُ، فَكَانَتْ تَدْعُو عَلَيْهِ ; تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَخْزِ صَالِحَ بْنَ وَصِيفٍ كَمَا هَتَكَ سِتْرِي، وَقَتَلَ وَلَدِي وَبَدَّدَ شَمْلِي وَأَخَذَ مَالِي وَغَرَّبَنِي عَنْ بَلَدِي، وَرَكِبَ الْفَاحِشَةَ مِنِّي. هَذَا وَقَدْ كَانَ الْأَتْرَاكُ قَدْ طَلَبُوا مِنَ ابْنِهَا الْمُعْتَزِّ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ تُصْرَفُ فِي أَرْزَاقِهِمْ وَضَمِنُوا لَهُ أَنْ يَقْتُلُوا صَالِحَ بْنَ وَصِيفٍ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فَطَلَبَ مِنْ أُمِّهِ قَبِيحَةَ - قَبَّحَهَا اللَّهُ - أَنْ تُقْرِضَهُ ذَلِكَ، فَأَظْهَرَتْ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عِنْدَهَا. ثُمَّ لَمَّا قُتِلَ ابْنُهَا - وَكَانَ مَا كَانَ - ظَهَرَ عِنْدَهَا مِنَ الْأَمْوَالِ مَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ كَانَ لَهَا مِنَ الْغَلَّاتِ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَا يَعْدِلُ عَشَرَةَ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَاسْتَقَرَّتِ الْخِلَافَةُ لِلْمُهْتَدِي بِاللَّهِ وَكَانَ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - خَلِيفَةً صَالِحًا. قَالَ يَوْمًا لِلْأُمَرَاءِ: إِنِّي لَيْسَتْ لِي أُمٌّ لَهَا مِنَ الْغَلَّاتِ مَا يُقَاوِمُ عَشَرَةَ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَلَسْتُ أُرِيدُ إِلَّا الْقُوتَ فَقَطْ، وَلَا أُرِيدُ فَضْلًا عَلَى ذَلِكَ إِلَّا لِإِخْوَتِي فَإِنَّهُمْ قَدْ مَسَّتْهُمُ الْحَاجَةُ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ أَمَرَ صَالِحُ بْنُ وَصِيفٍ بِضَرْبِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْرَائِيلَ الَّذِي كَانَ وَزِيرًا، وَأَبِي نُوحٍ عِيسَى بْنِ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي كَانَ نَصْرَانِيًّا فَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، وَكَانَ كَاتِبَ قَبِيحَةَ فَضُرِبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَمِائَةِ سَوْطٍ بَعْدَ اسْتِخْلَاصِ أَمْوَالِهِمَا، ثُمَّ طِيفَ بِهِمَا عَلَى بَغْلَيْنِ مُنَكَّسَيْنِ فَمَاتَا، وَهُمَا كَذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَنْ رِضَا الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ، وَلَكِنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى
الْإِنْكَارِ عَلَى صَالِحِ بْنِ وَصِيفٍ فِي بَادِئِ الْأَمْرِ.
وَفِي رَمَضَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بِبَغْدَادَ أَيْضًا بَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَوْسٍ وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الشَّاكِرِيَّةِ وَالْجُنْدِ وَغَيْرِهِمْ وَبَيْنَ الْعَامَّةِ وَالرَّعَاعِ فَاجْتَمَعَ مِنَ الْعَامَّةِ نَحْوٌ مَنْ مِائَةِ أَلْفٍ، وَكَانَ بَيْنَ النَّاسِ قِتَالٌ بِالنِّبَالِ وَالرِّمَاحِ وَالسُّيُوفِ، وَقُتِلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ انْهَزَمَ مُحَمَّدُ بْنُ أَوْسٍ وَأَصْحَابُهُ فَنَهَبَتِ الْعَامَّةُ مَا وَجَدُوا مِنْ أَمْوَالِهِ، وَكَانَ مِنْهُ شَيْءٌ يُعَادِلُ أَلْفَيْ أَلْفٍ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.
ثُمَّ اتَّفَقَ الْحَالُ عَلَى إِخْرَاجِ مُحَمَّدِ بْنِ أَوْسٍ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى أَيْنَمَا أَرَادَ مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا طَرِيدًا ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ النَّاسِ مَرْضِيَّ السِّيرَةِ بَلْ كَانَ جَبَّارًا عَنِيدًا، وَشَيْطَانًا مَرِيدًا وَفَاسِقًا شَدِيدًا وَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ بِأَنْ يُنْفَى الْقِيَانُ وَالْمُغَنِّيُونَ مَنْ سَامَرَّا، وَأَمَرَ بِقَتْلِ السِّبَاعِ وَالنُّمُورِ الَّتِي فِي دَارِ السُّلْطَانِ، وَالْكِلَابِ الْمُعَدَّةِ لِلصَّيْدِ أَيْضًا، وَإِبْطَالِ الْمَلَاهِي وَرَدِّ الْمَظَالِمِ، وَأَنْ يُؤْمَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَيُنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَجَلَسَ لِلْعَامَّةِ.
وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ وَالدُّنْيَا كُلُّهَا مِنْ أَرْضِ الشَّامِ وَغَيْرِهَا مُفْتَرِقَةٌ، ثُمَّ اسْتَدْعَى الْخَلِيفَةُ الْمُهْتَدِي مُوسَى بْنَ بُغَا الْكَبِيرِ إِلَى حَضْرَتِهِ ; لِيَتَقَوَّى بِهِ عَلَى مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْأَتْرَاكِ ; لِتَجْتَمِعَ كَلِمَةُ الْخِلَافَةِ وَاعْتَذَرَ مِنَ اسْتِدْعَائِهِ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْجِهَادِ بِتِلْكَ الْبِلَادِ.
ذِكْرُ خَارِجِيٍّ آخَرَ ادَّعَى أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ ظَهَرَ بِالْبَصْرَةِ
وَفِي النِّصْفِ مِنْ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ رَجُلٌ بِظَاهِرِ الْبَصْرَةِ زَعَمَ أَنَّهُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عِيسَى بْنِ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَلَمْ يَكُنْ صَادِقًا فِي دَعْوَاهُ هَذَا النَّسَبَ، وَإِنَّمَا كَانَ عَبْقَسِيًّا - مَنْ عَبْدِ الْقَيْسِ - وَاسْمُهُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ، وَأُمُّهُ قُرَّةُ بِنْتُ عَلِيِّ بْنِ رَحِيبِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَكِيمٍ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَأَصْلُهُ مِنْ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الرَّيِّ. قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
قَالَ: وَقَدْ خَرَجَ أَيْضًا فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ بِالْبَحْرَيْنِ فَادَّعَى أَنَّهُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَدَعَا النَّاسَ بِهَجَرَ إِلَى طَاعَتِهِ فَاتَّبَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِهَا، فَوَقَعَ بِسَبَبِهِ قِتَالٌ كَثِيرٌ وَفِتَنٌ كِبَارٌ وَحُرُوبٌ كَثِيرَةٌ وَمُنْتَشِرَةٌ.
وَلَمَّا خَرَجَ خَرْجَتَهُ هَذِهِ الثَّانِيَةَ بِظَاهِرِ الْبَصْرَةِ الْتَفَّ عَلَيْهِ خَلْقٌ مِنَ الزَّنْجِ الَّذِينَ كَانُوا يَكْسَحُونَ السِّبَاخَ فَعَبَرَ بِهِمْ دِجْلَةَ فَنَزَلَ الدِّينَارِيَّ، وَكَانَ يَزْعُمُ لِبَعْضِ الْجَهَلَةِ مِنْ أَتْبَاعِهِ أَنَّهُ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْمَقْتُولُ بِنَاحِيَةِ الْكُوفَةِ وَكَانَ يَدَّعِي أَنَّهُ حَفِظَ سُوَرًا مِنَ الْقُرْآنِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ جَرَى بِهَا لِسَانُهُ لَا يَحْفَظُهَا غَيْرُهُ فِي مُدَّةٍ ; وَهُنَّ " سُبْحَانَ " وَالْكَهْفُ " وَص " وَأَنَّهُ فَكَّرَ يَوْمًا وَهُوَ فِي الْبَادِيَةِ إِلَى أَيِّ الْبِلَادِ يَصِيرُ، فَخُوطِبَ مِنْ سَحَابَةٍ أَنْ يَقْصِدَ الْبَصْرَةَ فَقَصَدَهَا، وَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْهَا وَجَدَ أَهْلَهَا مُفْتَرِقِينَ عَلَى شُعْبَتَيْنِ ; سَعْدِيَّةٍ وَبِلَالِيَّةٍ فَطَمِعَ أَنْ يَنْضَمَّ إِلَيْهِ إِحْدَاهُمَا فَيَسْتَعِينَ بِهَا عَلَى الْأُخْرَى فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ، فَارْتَحَلَ إِلَى بَغْدَادَ فَأَقَامَ بِهَا سَنَةً وَانْتَسَبَ بِهَا إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عِيسَى بْنِ زَيْدٍ، وَكَانَ يَزْعُمُ بِهَا أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي ضَمَائِرِ أَصْحَابِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ فَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ جَهَلَةٌ مِنَ الطَّغَامِ، وَطَائِفَةٌ مِنْ رَعَاعِ النَّاسِ الْعَوَامِّ.
ثُمَّ عَادَ إِلَى أَرْضِ الْبَصْرَةِ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ فَاجْتَمَعَ مَعَهُ بَشَرٌ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ عُدَدٌ يُقَاتِلُونَ بِهَا فَأَتَاهُمْ جَيْشٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَصْرَةِ فَاقْتَتَلُوا جَمِيعًا، فَلَمْ يَكُنْ فِي جَيْشِ هَذَا الْخَارِجِيِّ سِوَى ثَلَاثَةِ أَسْيَافٍ وَأُولَئِكَ الْجَيْشُ مَعَهُمْ عُدَدٌ وَعَدَدٌ وَلَبُوسٌ وَمَعَ هَذَا هَزَمَ أَصْحَابُ هَذَا الْخَارِجِيِّ ذَلِكَ الْجَيْشَ وَكَانُوا فِي أَرْبَعَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ ثُمَّ مَضَى نَحْوَ الْبَصْرَةِ بِمَنْ
مَعَهُ فَأَهْدَى لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ جُبَّا فَرَسًا، فَلَمْ يَجِدْ لَهَا سَرْجًا وَلَا لِجَامًا، فَأَلْقَى عَلَيْهَا حَبْلًا وَرَكِبَهَا، وَشَنَقَ حَنَكَهَا بِلِيفٍ، ثُمَّ صَادَرَ رَجُلًا فَتَهَدَّدَهُ بِالْقَتْلِ فَأَخَذَ مِنْهُ مِائَةً وَخَمْسِينَ دِينَارًا وَأَلْفَ دِرْهَمٍ فَكَانَ هَذَا أَوَّلَ مَالٍ غَنِمَهُ مِنْ هَذِهِ الْبِلَادِ، وَأَخَذَ مِنْ آخَرَ ثَلَاثَةَ بَرَاذِينَ، وَأَخَذَ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ شَيْئًا مِنَ الْأَسْلِحَةِ وَالْأَمْتِعَةِ، فَسَارَ فِي جَيْشِهِ قَلِيلُ سِلَاحٍ وَخُيُولٍ، ثُمَّ جَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جُيُوشٍ مِنْ جِهَةِ نَائِبِ الْبَصْرَةِ وَقْعَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ يَهْزِمُهُمْ فِيهَا وَكُلُّ مَا لِأَمْرِهِ يَقْوَى وَيَتَزَايَدُ أَصْحَابُهُ وَيَعْظُمُ جَيْشُهُ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يَتَعَرَّضُ لِأَمْوَالِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَخْذَ أَمْوَالِ السُّلْطَانِ.
وَقَدِ انْهَزَمَ أَصْحَابُهُ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْحُرُوبِ هَزِيمَةً فَظِيعَةً ثُمَّ تَرَاجَعُوا إِلَيْهِ وَاجْتَمَعُوا حَوْلَهُ، ثُمَّ كَرُّوا إِلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا وَأَسَرُوا آخَرِينَ، فَكَانَ لَا يُؤْتَى بِأَحَدٍ مِنَ الْأَسْرَى إِلَّا قَتَلَهُ، ثُمَّ قَوِيَ أَمْرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَخَافَهُ أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَبَعَثَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهَا مَدَدًا يَكُونُونَ لَهُمْ عَلَى صَاحِبِ الزَّنْجِ - هَذَا الْخَارِجِيِّ قَبَّحَهُ اللَّهُ - ثُمَّ أَشَارَ عَلَيْهِ رُءُوسُ أَصْحَابِهِ أَنْ يَهْجُمَ بِهِمْ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَيَدْخُلُونَهَا عَنْوَةً، فَهَجَّنَ آرَاءَهُمْ، وَقَالَ: بَلْ نَكُونُ مِنْهَا قَرِيبًا حَتَّى يَكُونُوا هُمُ الَّذِينَ يَطْلُبُونَنَا إِلَيْهَا، وَيَخْطُبُونَنَا عَلَيْهَا. وَسَيَأْتِي مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ،