الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سَنَةُ عَشْرٍ وَمِائَتَيْنِ]
[الْأَحْدَاثُ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا]
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عَشْرٍ وَمِائَتَيْنِ
فِي صَفَرٍ مِنْهَا دَخَلَ نَصْرُ بْنُ شَبَثٍ إِلَى بَغْدَادَ حِينَ بَعَثَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ مِنَ الرَّقَّةِ فَدَخَلَهَا وَلَمْ يَتَلَقَّهُ أَحَدٌ مِنَ الْجُنْدِ بَلْ دَخَلَهَا وَحْدَهُ فَأُنْزِلَ فِي مَدِينَةِ أَبِي جَعْفَرٍ، ثُمَّ حُوِّلَ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، وَفِي هَذَا الشَّهْرِ ظَفِرَ الْمَأْمُونُ بِجَمَاعَةٍ مِنْ كُبَرَاءِ مَنْ كَانَ بَايَعَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْمَهْدِيِّ فَعَاقَبَهُمْ وَحَبَسَهُمْ فِي الْمُطْبِقِ.
[ظُهُورُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ بَعْدَ اخْتِفَائِهِ]
وَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الْأَحَدِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً بَقِيَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْهَا اجْتَازَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ وَكَانَ مُخْتَفِيًا مُدَّةَ سِتِّ سِنِينَ وَشُهُورٍ مُنْتَقِبًا فِي زِيِّ امْرَأَةٍ وَمَعَهُ امْرَأَتَانِ فِي بَعْضِ دُرُوبِ بَغْدَادَ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ، فَقَامَ الْحَارِسُ فَقَالَ: إِلَى أَيْنَ هَذِهِ السَّاعَةَ؟ وَمِنْ أَيْنَ؟ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُمْسِكَهُنَّ، فَأَعْطَاهُ إِبْرَاهِيمُ خَاتَمًا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ يَاقُوتٍ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ الْحَارِسُ اسْتَرَابَ وَقَالَ: إِنَّمَا هَذَا خَاتَمُ رَجُلٍ كَبِيرِ الشَّأْنِ. فَذَهَبَ بِهِنَّ إِلَى مُتَوَلِّي اللَّيْلِ، فَأَمَرَهُنَّ أَنْ يُسْفِرْنَ عَنْ وُجُوهِهِنَّ، فَتَمَنَّعَ
إِبْرَاهِيمُ فَكَشَفُوا عَنْ وَجْهِهِ فَإِذَا هُوَ هُوَ، فَعَرَفَهُ فَذَهَبَ بِهِ إِلَى صَاحِبِ الْحَرَسِ فَسَلَّمَهُ إِلَيْهِ، فَرَفَعَهُ الْآخَرُ إِلَى بَابِ الْمَأْمُونِ فَأَصْبَحَ فِي دَارِ الْخِلَافَةِ وَنِقَابُهُ عَلَى رَأْسِهِ وَالْمِلْحَفَةُ فِي صَدْرِهِ لِيَرَاهُ النَّاسُ، وَلِيَعْلَمُوا كَيْفَ أُخِذَ. فَأَمَرَ الْمَأْمُونُ بِالِاحْتِفَاظِ بِهِ وَالِاحْتِرَاسِ عَلَيْهِ مُدَّةً، ثُمَّ أَطْلَقَهُ وَرَضِيَ عَنْهُ. هَذَا وَقَدْ صَلَبَ جَمَاعَةً مِمَّنْ كَانَ سَجَنَهُمْ بِسَبَبِهِ لِكَوْنِهِمْ أَرَادُوا الْفَتْكَ بِالْمُوَكَّلِينَ بِالسِّجْنِ، فَصَلَبَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةً.
وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْمَهْدِيِّ لَمَّا أُوقِفَ بَيْنَ يَدَيِ الْمَأْمُونِ شَرَعَ فِي تَأْنِيبِهِ، فَتَرَقَّقَ لَهُ عَمُّهُ إِبْرَاهِيمُ كَثِيرًا، وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ تُعَاقِبْ فَبِحَقِّكَ، وَإِنْ تَعْفُ فَبِفَضْلِكَ. فَقَالَ: بَلْ أَعْفُو يَا إِبْرَاهِيمُ، إِنَّ الْقُدْرَةَ تُذْهِبُ الْحَفِيظَةَ، وَالنَّدَمُ تَوْبَةٌ، وَبَيْنَهُمَا عَفْوُ اللَّهِ عز وجل، وَهُوَ أَكْبَرُ مِمَّا تَسْأَلُهُ. فَكَبَّرَ إِبْرَاهِيمُ وَسَجَدَ شُكْرًا لِلَّهِ عز وجل.
وَقَدِ امْتَدَحَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ ابْنَ أَخِيهِ الْمَأْمُونَ بِقَصِيدَةٍ بَالَغَ فِيهَا، فَلَمَّا سَمِعَهَا الْمَأْمُونُ قَالَ: أَقُولُ كَمَا قَالَ يُوسُفُ لِإِخْوَتِهِ: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92] وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ الْمَأْمُونَ لَمَّا عَفَا عَنْ عَمِّهِ إِبْرَاهِيمَ أَمَرَهُ أَنْ يُغَنِّيَهُ شَيْئًا، فَقَالَ: إِنِّي تَرَكْتُهُ. فَأَمَرَهُ فَأَخَذَ الْعُودَ فِي حِجْرِهِ، وَقَالَ:
هَذَا مَقَامُ مُسَوَّدٍ
…
خَرِبَتْ مَنَازِلُهُ وَدُورُهْ
نَمَّتْ عَلَيْهِ عِدَاتُهُ
كَذِبًا فَعَاقَبَهُ أَمِيرُهْ
ثُمَّ عَادَ فَقَالَ:
ذَهَبْتُ مِنَ الدُّنْيَا وَقَدْ ذَهَبَتْ مِنِّى
…
لَوَى الدَّهْرُ بِي عَنْهَا وَوَلَّى بِهَا عَنِّي
فِإِنْ أَبْكِ نَفْسِي أَبْكِ نَفْسًا عَزِيزَةً
…
وَإِنْ أَحْتَقِرْهَا أَحْتَقِرْهَا عَلَى ضَنِّ
وَإِنِّي وَإِنْ كُنْتُ الْمُسِيءَ بِعَيْنِهِ
…
بِرَبِّي تَعَالَى جَدُّهُ حَسَنُ الظَّنِّ
عَدَوْتُ عَلَى نَفْسِي فَعَادَ بِعَفْوِهِ
…
عَلَيَّ فَعَادَ الْعَفْوُ مَنًّا عَلَى مَنِّ
فَقَالَ الْمَأْمُونُ: أَحْسَنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا. فَرَمَى بِالْعُودِ مِنْ حِجْرِهِ، وَوَثَبَ قَائِمًا فَزِعًا مِنْ هَذَا الْكَلَامِ، فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: اقْعُدْ وَاسْكُنْ، مَرْحَبًا بِكَ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِشَيْءٍ تَتَوَهَّمُهُ، وَوَاللَّهِ لَا رَأَيْتَ طُولَ أَيَّامِي شَيْئًا تَكْرَهُهُ، وَتَغْتَمُّ بِهِ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِرَدِّ جَمِيعِ مَا كَانَ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالضِّيَاعِ وَالدُّورِ، فَرُدَّتْ إِلَيْهِ، وَأَمَرَ لَهُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ مُكْرَمًا مُعَظَّمًا.