الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اسْتَخْلَفَ عَلَى الرَّقَّةِ ابْنَهُ الْقَاسِمَ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ خُزَيْمَةُ بْنُ خَازِمٍ وَمِنْ نِيَّةِ الرَّشِيدِ الذَّهَابُ إِلَى خُرَاسَانَ لِغَزْوِ رَافِعِ بْنِ لَيْثٍ؛ الَّذِي كَانَ قَدْ خَلَعَ الطَّاعَةَ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى بِلَادٍ كَثِيرَةٍ مِنْ بِلَادِ سَمَرْقَنْدَ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ خَرَجَ الرَّشِيدُ فِي شَعْبَانَ قَاصِدًا خُرَاسَانَ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى بَغْدَادَ ابْنَهُ مُحَمَّدًا الْأَمِينَ، وَسَأَلَ الْمَأْمُونُ مِنْ أَبِيهِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُ خَوْفًا مِنْ غَدْرِ أَخِيهِ الْأَمِينِ، فَأَذِنَ لَهُ، فَسَارَ مَعَهُ وَقَدْ شَكَا الرَّشِيدُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ إِلَى بَعْضِ أُمَرَائِهِ جَفَاءَ بَنِيهِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ جَعَلَهُمْ وُلَاةَ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَرَاهُ دَاءً فِي جَسَدِهِ، وَقَالَ: إِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمِينِ وَالْمَأْمُونِ وَالْقَاسِمِ عِنْدِي عَيْنًا عَلَيَّ، وَهُمْ يَعُدُّونَ أَنْفَاسِي، وَيَتَمَنَّوْنَ انْقِضَاءَ أَيَّامِي وَذَلِكَ شَرٌّ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ. فَدَعَا لَهُ ذَلِكَ الْأَمِيرُ، ثُمَّ أَمَرَهُ الرَّشِيدُ بِالِانْصِرَافِ إِلَى عَمَلِهِ وَوَدَّعَهُ، وَكَانَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِ.
وَفِيهَا تَحَرَّكَ ثَرْوَانُ الْحَرُورِيُّ، وَقَتَلَ عَامِلَ السُّلْطَانِ بِطَفِّ الْبَصْرَةِ. وَفِيهَا قَتَلَ الرَّشِيدُ الْهَيْصَمَ الْيَمَانِيَّ. وَمَاتَ عِيسَى بْنُ جَعْفَرٍ وَهُوَ يُرِيدُ اللَّحَاقَ بِالرَّشِيدِ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ.
[مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ]
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَامِعِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ
أَبُو الْقَاسِمِ، أَحَدُ الْمَشَاهِيرِ بِالْغِنَاءِ، وَمِمَّنْ يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِيهِ، فَيُقَالُ: غِنَاءُ بْنُ جَامِعٍ. وَقَدْ كَانَ أَوَّلًا يَحْفَظُ الْقُرْآنَ ثُمَّ صَارَ إِلَى صِنَاعَةِ الْغِنَاءِ، وَذَكَرَ عَنْهُ أَبُو الْفَرَجِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ الْأَصْبَهَانِيُّ صَاحِبُ الْأَغَانِي حِكَايَاتٍ غَرِيبَةً؛ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ يَوْمًا مُشْرِفًا فِي غُرْفَةٍ بِحَرَّانَ إِذْ أَقْبَلَتْ جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ مَعَهَا قِرْبَةٌ تَسْتَقِي فِيهَا مِنْ مَشْرَعَةٍ فَجَلَسَتْ وَوَضَعَتْ قِرْبَتَهَا وَانْدَفَعَتْ تُغَنِّي.
إِلَى اللَّهِ أَشْكُو بُخْلَهَا وَسَمَاحَتِي
…
لَهَا عَسَلٌ مِنِّي وَتَبْذُلُ عَلْقَمَا
فَرُدِّي مُصَابَ الْقَلْبِ أَنْتِ قَتَلْتِهِ
…
وَلَا تُبْعِدِي فِيمَا تَجَشَّمْتِ كُلْثُمَا
قَالَ: فَسَمِعْتُ مَا لَا صَبْرَ لِي عَنْهُ، وَرَجَوْتُ أَنْ تُعِيدَهُ، فَقَامَتْ وَانْصَرَفَتْ، فَنَزَلْتُ وَانْطَلَقْتُ وَرَاءَهَا وَسَأَلْتُهَا أَنْ تُعِيدَهُ، فَقَالَتْ: إِنَّ عَلَيَّ خَرَاجًا كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمَانِ. فَأَعْطَيْتُهَا دِرْهَمَيْنِ فَأَعَادَتْهُ فَحَفِظْتُهُ وَسَلَكْتُهُ يَوْمِي ذَلِكَ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أُنْسِيتُهُ، فَأَقْبَلَتِ السَّوْدَاءُ فَسَأَلْتُهَا أَنْ تُعِيدَهُ فَلَمْ تَفْعَلْ إِلَّا بِدِرْهَمَيْنِ، ثُمَّ قَالَتْ: كَأَنَّكَ تَسْتَكْثِرُ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، كَأَنِّي بِكَ وَقَدْ أَخَذْتَ بِهِ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِينَارٍ. قَالَ ابْنُ جَامِعٍ: فَغَنَّيْتُهُ لَيْلَةً لِلرَّشِيدِ فَأَعْطَانِي أَلْفَ دِينَارٍ، ثُمَّ
اسْتَعَادَنِيهِ ثَلَاثًا أُخْرَى وَأَعْطَانِي ثَلَاثَةَ آلَافِ دِينَارٍ، فَتَبَسَّمْتُ فَقَالَ: مِمَّ تَتَبَسَّمُ؟ فَذَكَرْتُ لَهُ الْقِصَّةَ، فَضَحِكَ وَأَلْقَى إِلَيَّ كِيسًا آخَرَ فِيهِ أَلْفُ دِينَارٍ، وَقَالَ: لَا تُكْذِبِ السَّوْدَاءَ.
وَحُكِيَ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: أَصْبَحْتُ يَوْمًا بِالْمَدِينَةِ وَلَيْسَ مَعِي إِلَّا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، فَإِذَا جَارِيَةٌ عَلَى رَقَبَتِهَا جَرَّةٌ تُرِيدُ الرَّكِيَّ، وَهِيَ تَسْعَى وَتَتَرَنَّمُ بِصَوْتٍ شَجِيٍّ، وَتَقُولُ:
شَكَوْنَا إِلَى أَحْبَابِنَا طُولَ لَيْلِنَا
…
فَقَالُوا لَنَا مَا أَقْصَرَ اللَّيْلَ عِنْدَنَا
وَذَاكَ لِأَنَّ النَّوْمَ يَغْشَى عُيُونَهُمْ
…
سِرَاعًا وَلَا يَغْشَى لَنَا النَّوْمُ أَعْيُنَا
إِذَا مَا دَنَا اللَّيْلُ الْمُضِرُّ لِذِي الْهَوَى
…
جَزِعْنَا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ إِذَا دَنَا
فَلَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُلَاقُونَ مِثْلَ مَا
…
نُلَاقِي لَكَانُوا فِي الْمَضَاجِعِ مِثْلَنَا
قَالَ: فَاسْتَعَدْتُهُ مِنْهَا وَأَعْطَيْتُهَا الثَّلَاثَةَ دَرَاهِمَ، فَقَالَتْ: لَتَأْخُذَنَّ بَدَلَهَا أَلْفَ دِينَارٍ، وَأَلْفَ دِينَارٍ، وَأَلْفَ دِينَارٍ. فَأَعْطَانِي الرَّشِيدُ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِينَارٍ فِي لَيْلَةٍ عَلَى ذَلِكَ الصَّوْتِ.
بَكْرُ بْنُ النَّطَّاحِ أَبُو وَائِلٍ الْحَنَفِيُّ الْبَصْرِيُّ، الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ، نَزَلَ بَغْدَادَ فِي زَمَنِ الرَّشِيدِ، وَكَانَ يُعَاشِرُ أَبَا الْعَتَاهِيَةِ.
قَالَ أَبُو هِفَّانَ: أَشْعَرُ أَهْلِ الْغَزَلِ مِنَ الْمُحْدَثِينَ أَرْبَعَةٌ؛ أَوَّلُهُمْ بَكْرُ بْنُ النَّطَّاحِ.
وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ بْنَ رَجَاءٍ يَقُولُ: اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنَ الشُّعَرَاءِ وَمَعَهُمْ بَكْرُ بْنُ النَّطَّاحِ يَتَنَاشَدُونَ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ طِوَالِهِمْ أَنْشَدَ بَكْرُ بْنُ النَّطَّاحِ لِنَفْسِهِ:
مَا ضَرَّهَا لَوْ كَتَبَتْ بِالرِّضَا
…
فَجَفَّ جَفْنُ الْعَيْنِ أَوْ أُغْمِضَا
شَفَاعَةٌ مَرْدُودَةٌ عِنْدَهَا
…
فِي عَاشِقٍ تَنْدَمُ لَوْ قَدْ قَضَى
يَا نَفْسُ صَبْرًا وَاعْلَمِي أَنَّ مَا
…
يُأْمَلُ مِنْهَا مِثْلَ مَا قَدْ مَضَى
لَمْ تَمْرَضِ الْأَجْفَانُ مِنْ قَاتِلٍ
…
بِلَحْظِهِ إِلَّا لِأَنْ أَمْرَضَا
قَالَ: فَابْتَدَرُوهُ يُقَبِّلُونَ رَأْسَهُ.
وَلَمَّا مَاتَ رَثَاهُ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ فَقَالَ:
مَاتَ ابْنُ نَطَّاحٍ أَبُو وَائِلٍ
…
بَكْرٌ فَأَمْسَى الشِّعْرُ قَدْ بَانَا
بُهْلُولٌ الْمَجْنُونُ كَانَ يَأْوِي إِلَى مَقَابِرِ الْكُوفَةِ وَكَانَ يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَاتٍ حَسَنَةٍ، وَقَدْ لَقِيَ الرَّشِيدَ وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى الْحَجِّ، فَوَعَظَهُ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ، كَمَا تَقَدَّمَ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ الْأَزْدِيُّ الْكُوفِيُّ، سَمِعَ الْأَعْمَشَ وَابْنَ جُرَيْجٍ، وَشُعْبَةَ، وَمَالِكًا، وَخَلْقًا سِوَاهُمْ.
وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَاتٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَقَدِ اسْتَدْعَاهُ الرَّشِيدُ لِيُوَلِّيَهُ الْقَضَاءَ، فَقَالَ: لَا أَصْلُحُ. وَامْتَنَعَ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ، وَكَانَ قَدْ سَأَلَ قَبْلَهُ وَكِيعًا، فَامْتَنَعَ أَيْضًا، فَطَلَبَ حَفْصَ بْنَ غِيَاثٍ فَقَبِلَ.
وَأَطْلَقَ لِكُلِّ وَاحِدٍ خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ؛ عِوَضًا عَنْ كُلْفَةِ السَّفَرِ، فَلَمْ يَقْبَلْ وَكِيعٌ، وَلَا ابْنُ إِدْرِيسَ، وَقَبِلَ ذَلِكَ حَفْصٌ، فَحَلَفَ ابْنُ إِدْرِيسَ لَا يُكَلِّمُهُ أَبَدًا.
وَحَجَّ الرَّشِيدُ فِي بَعْضِ السِّنِينَ فَاجْتَازَ بِالْكُوفَةِ وَمَعَهُ الْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ وَالْأَمِينُ وَالْمَأْمُونُ، فَأَمَرَ الرَّشِيدُ بِجَمْعِ شُيُوخِ الْحَدِيثِ لِيُسْمِعُوا وَلَدَيْهِ، فَاجْتَمَعُوا إِلَّا ابْنَ إِدْرِيسَ هَذَا، وَعِيسَى بْنَ يُونُسَ، فَرَكِبَ الْأَمِينُ وَالْمَأْمُونُ بَعْدَ فَرَاغِهِمَا مِنْ سَمَاعِهِمَا إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ فَأَسْمَعَهُمَا مِائَةَ حَدِيثٍ، فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: يَا عَمِّ، إِنْ أَذِنْتَ لِي أَعَدْتُهَا مِنْ حِفْظِي. فَأَذِنَ لَهُ، فَأَعَادَهَا مِنْ حِفْظِهِ كَمَا سَمِعَهَا، فَتَعَجَّبَ لِحِفْظِهِ ابْنُ إِدْرِيسَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ الْمَأْمُونُ بِمَالٍ، فَلَمْ
يَقْبَلْ مِنْهُ شَيْئًا، ثُمَّ سَارَا إِلَى عِيسَى بْنِ يُونُسَ، فَسَمَّعَا عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ الْمَأْمُونُ بِعَشَرَةِ آلَافٍ، فَلَمْ يَقْبَلْهَا، فَظَنَّ أَنَّهُ اسْتَقَلَّهَا فَأَضْعَفَهَا، فَقَالَ: وَاللَّهِ وَلَا إِهْلِيلَجَةَ، لَوْ مَلَأْتَ لِي الْمَسْجِدَ مَالًا إِلَى سَقْفِهِ مَا قَبِلْتُ مِنْهُ شَيْئًا عَلَى حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَلَمَّا احْتُضِرَ ابْنُ إِدْرِيسَ بَكَتِ ابْنَتُهُ، فَقَالَ: لَا تَبْكِي فَقَدْ خَتَمْتُ الْقُرْآنَ فِي هَذَا الْبَيْتِ أَرْبَعَةَ آلَافِ خَتْمَةٍ.
صَعْصَعَةُ بْنُ سَلَّامٍ وَيُقَالُ: ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الدِّمَشْقِيُّ، ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى الْأَنْدَلُسِ فَاسْتَوْطَنَهَا فِي زَمَنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَابْنِهِ هِشَامٍ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَدْخَلَ عِلْمَ الْحَدِيثِ وَمَذْهَبَ الْأَوْزَاعِيِّ إِلَى الْأَنْدَلُسِ، وَوَلِيَ الصَّلَاةَ بِقُرْطُبَةَ، وَفِي أَيَّامِهِ غُرِسَتِ الْأَشْجَارُ بِالْمَسْجِدِ الْجَامِعِ هُنَاكَ، كَمَا يَرَاهُ الْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّامِيُّونَ، وَيَكْرَهُهُ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ.
وَقَدْ رَوَى عَنْ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ؛ مِنْهُمْ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ الْفَقِيهُ، وَذَكَرَهُ فِي كِتَابِ
" الْفُقَهَاءِ " وَذَكَرَهُ ابْنُ يُونُسَ فِي تَارِيخِهِ " " تَارِيخِ مِصْرَ " " وَالْحُمَيْدِيُّ فِي " " تَارِيخِ الْأَنْدَلُسِ " " وَحَرَّرَ وَفَاتَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَعْنِي سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ.
وَحَكَى عَنْ شَيْخِهِ ابْنِ حَزْمٍ أَنَّ صَعْصَعَةَ هَذَا أَوَّلُ مَنْ أَدْخَلَ مَذْهَبَ الْأَوْزَاعِيِّ إِلَى الْأَنْدَلُسِ.
وَقَالَ ابْنُ يُونُسَ هُوَ أَوَّلُ مَنْ أَدْخَلَ عِلْمَ الْحَدِيثِ إِلَيْهَا. وَذَكَرَ أَنَّهُ تُوُفِّيَ قَرِيبًا مِنْ سَنَةِ ثَمَانِينَ وَمِائَةٍ، وَالَّذِي حَرَّرَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَثْبَتُ.
عَلِيُّ بْنُ ظَبْيَانَ، أَبُو الْحَسَنِ الْعَبْسِيُّ الْكُوفِيُّ، قَاضِي الشَّرْقِيَّةِ مِنْ بَغْدَادَ زَمَنَ الرَّشِيدِ، كَانَ ثِقَةً عَالِمًا مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، ثُمَّ وَلَّاهُ الرَّشِيدُ قَاضِيَ الْقُضَاةِ، وَكَانَ الرَّشِيدُ يَخْرُجُ مَعَهُ إِذَا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، مَاتَ بِقَرْمِيسِينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
الْعَبَّاسُ بْنُ الْأَحْنَفِ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ طَلْحَةَ، الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ كَانَ مِنْ
عَرَبِ خُرَاسَانَ وَنَشَأَ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ لَطِيفًا ظَرِيفًا مَقْبُولًا، حَسَنَ الشَّعْرِ.
قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ: لَوْ قِيلَ لِي مَنْ أَحْسَنُ النَّاسِ شِعْرًا تَعْرِفُهُ؟ لَقُلْتُ: الْعَبَّاسُ
قَدْ سَحَّبَ النَّاسُ أَذْيَالَ الظُّنُونِ بِنَا
…
وَفَرَّقَ النَّاسُ فِينَا قَوْلَهُمْ فِرَقَا
فَكَاذِبٌ قَدْ رَمَى بِالْحُبِّ غَيْرَكُمْ
…
وَصَادِقٌ لَيْسَ يَدْرِي أَنَّهُ صَدَقَا
وَقَدْ طَلَبَهُ الرَّشِيدُ ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ، فَانْزَعَجَ لِذَلِكَ وَخَافَ نِسَاؤُهُ، فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيِ الرَّشِيدِ قَالَ لَهُ: وَيْحَكَ، إِنَّهُ قَدْ عَنَّ لِي بَيْتٌ فِي جَارِيَةٍ لِي، فَأَحْبَبْتُ أَنْ تَشْفَعَهُ بِمِثْلِهِ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا خِفْتُ قَطُّ أَعْظَمَ مِنْ هَذِهِ اللَّيْلَةِ. فَقَالَ: وَلِمَ؟ فَذَكَرَ لَهُ دُخُولَ الْحَرَسِ عَلَيْهِ فِي اللَّيْلِ، ثُمَّ جَلَسَ حَتَّى سَكَنَ رَوْعُهُ، ثُمَّ قَالَ: مَا قُلْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ:
جِنَانٌ قَدْ رَأَيْنَاهَا
…
فَلَمْ نَرَ مِثْلَهَا بَشَرَا
فَقَالَ الْعَبَّاسُ:
يَزِيدُكَ وَجْهُهَا حُسْنًا
…
إِذَا مَا زِدْتَهُ نَظَرَا
فَقَالَ الرَّشِيدُ: زِدْ. فَقَالَ:
إِذَا مَا اللَّيْلُ مَالَ عَلَيْ
…
كَ بِالْإِظْلَامِ وَاعْتَكَرَا
وَدَجَّ فَلَمْ تَرَ قَمَرًا
…
فَأَبْرِزْهَا تَرَى قَمَرَا
فَقَالَ: إِنَّا قَدْ رَأَيْنَاهَا وَقَدْ أَمَرْنَا لَكَ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ.
وَمِنْ شَعْرِهِ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِهِ بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ وَأَثْبَتَهُ فِي سِلْكِ الشُّعَرَاءِ بِسَبَبِهِ قَوْلُهُ:
أَبْكَي الَّذِينَ أَذَاقُونِي مَوَدَّتَهُمْ
…
حَتَّى إِذَا أَيْقَظُونِي لِلْهَوَى رَقَدُوا
وَاسْتَنْهَضُونِي فَلَمَّا قُمْتُ مُنْتَصِبًا
…
بِثِقْلِ مَا حَمَّلُونِي مِنْهُمْ قَعَدُوا
وَلَهُ أَيْضًا:
وَحَدَّثْتَنِي يَا سَعْدُ عَنْهَا فِزِدْتَنِي
…
جُنُونًا فَزِدْنِي مِنْ حَدِيثِكَ يَا سَعْدُ
هَوَاهَا هَوًى لَمْ يَعْرِفِ الْقَلْبُ غَيْرَهُ
…
فَلَيْسَ لَهُ قَبْلٌ وَلَيْسَ لَهُ بَعْدُ
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: دَخَلْتُ عَلَى الْعَبَّاسِ بْنِ الْأَحْنَفِ بِالْبَصْرَةِ وَهُوَ طَرِيحٌ عَلَى فِرَاشِهِ يَجُودُ بِنَفْسِهِ وَهُوَ يَقُولُ:
يَا بَعِيدَ الدَّارِ عَنْ وَطَنِهِ
…
مُفْرَدًا يَبْكِي عَلَى شَجَنِهْ
كُلَّمَا شَدَّ النُّجَاءُ بِهِ
…
زَادَتِ الْأَسْقَامُ فِي بَدَنِهْ
ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ انْتَبَهَ بِصَوْتِ طَائِرٍ عَلَى شَجَرَةٍ فَقَالَ:
وَلَقَدْ زَادَ الْفَؤَادَ شَجًى
…
هَاتِفٌ يَبْكِي عَلَى فَنَنِهْ
شَاقَهُ مَا شَاقَنِي فَبَكَى
…
كُلُّنَا يَبْكِي عَلَى سَكَنِهْ
قَالَ: ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أُخْرَى، فَحَرَّكْتُهُ، فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ.
قَالَ الصُّولِيُّ: كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَحَكَى الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ أَنَّهُ تُوُفِّيَ بَعْدَهَا.
وَقِيلَ: سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ بَقِيَ بَعْدَ الرَّشِيدِ
عِيسَى بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، أَخُو زُبَيْدَةَ، كَانَ نَائِبًا عَلَى الْبَصْرَةِ فِي أَيَّامِ الرَّشِيدِ، فَمَاتَ فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ السَّنَةِ.
الْفَضْلُ بْنُ يَحْيَى بْنِ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ، أَخُو جَعْفَرٍ وَإِخْوَتِهِ، كَانَ هُوَ وَالرَّشِيدُ يَتَرَاضَعَانِ، أَرْضَعَتِ الْخَيْزُرَانُ فَضْلًا هَذَا وَأَرْضَعَتْ أُمُّ الْفَضْلِ - وَهِيَ زُبَيْدَةُ بِنْتُ سِنِينَ بَرْبَرِيَّةٌ - هَارُونَ الرَّشِيدَ وَكَانَتْ زُبَيْدَةُ هَذِهِ مِنْ
مُوَلَّدَاتِ الْمَدِينَةِ وَقَدْ قَالَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
كَفَى لَكَ فَضْلًا أَنَّ أَفْضَلَ حُرَّةٍ
…
غَذَتْكَ بِثَدِيٍ وَالْخَلِيفَةَ وَاحِدِ
لَقَدْ زِنْتَ يَحْيَى فِي الْمَشَاهِدِ كُلِّهَا
…
كَمَا زَانَ يَحْيَى خَالِدًا فِي الْمَشَاهِدِ
قَالُوا: وَكَانَ الْفَضْلُ أَكْرَمَ مِنْ أَخِيهِ جَعْفَرٍ، وَلَكِنْ كَانَ فِيهِ كِبْرٌ شَدِيدٌ، وَكَانَ عَبُوسًا، وَكَانَ جَعْفَرٌ أَحْسَنَ بِشْرًا مِنْهُ، وَأَطْلَقَ وَجْهًا، وَأَقَلَّ عَطَاءً، وَكَانَ النَّاسُ إِلَيْهِ أَمْيَلَ.
وَقَدْ وَهَبَ الْفَضْلُ لِطَبَّاخِهِ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَعَاتَبَهُ أَبُوهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا أَبَتِ، إِنَّ هَذَا كَانَ يَصْحَبُنِي فِي الْعُسْرِ وَالْعَيْشِ الْخَشِنِ، وَاسْتَمَرَّ مَعِي فِي هَذَا الْحَالِ فَأَحْسَنَ صُحْبَتِي، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنَّ الْكِرَامَ إِذَا مَا أُسْهَلُوا ذَكَرُوا
…
مَنْ كَانَ يُؤْنِسُهُمْ فِي الْمَنْزِلِ الْخَشِنِ
وَوَهَبَ يَوْمًا لِبَعْضِ الْأُدَبَاءِ عَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ، فَبَكَى الرَّجُلُ، فَقَالَ لَهُ: مِمَّ تَبْكِي، أَسْتَقْلَلْتَهَا؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ؛ وَلَكِنِّي أَبْكِي أَسَفًا أَنَّ الْأَرْضَ تُوَارِي مِثْلَكَ!
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْجَهْمِ عَنْ أَبِيهِ: أَصْبَحْتُ يَوْمًا لَا أَمْلِكُ شَيْئًا وَلَا عَلَفَ الدَّابَّةِ، فَقَصَدْتُ الْفَضْلَ بْنَ يَحْيَى فَإِذَا هُوَ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ فِي مَوْكِبٍ مِنَ النَّاسِ، فَلَمَّا رَآنِي رَحَّبَ بِي، وَقَالَ: هَلُمَّ. فَسِرْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ سَمِعَ غُلَامًا يَدْعُو جَارِيَةً مِنْ دَارٍ، وَإِذَا هِيَ بَاسِمِ جَارِيَةٍ لَهُ يُحِبُّهَا، فَانْزَعَجَ لِذَلِكَ وَشَكَا إِلَيَّ مَا لَقِيَ مِنْ ذَلِكَ، فَقُلْتُ: أَصَابَكَ مَا أَصَابَ أَخَا بَنِي عَامِرٍ حَيْثُ يَقُولُ:
وَدَاعٍ دَعَا إِذْ نَحْنُ بِالْخَيْفِ مِنْ مِنًى
…
فَهَيَّجَ أَحْزَانَ الْفُؤَادِ وَلَا يَدْرِي
دَعَا بِاسْمِ لَيْلَى غَيْرَهَا فَكَأَنَّمَا
…
أَطَارَ بِلَيْلَى طَائِرًا كَانَ فِي صَدْرِي
فَقَالَ: اكْتُبْ لِي هَذَيْنَ الْبَيْتَيْنِ. قَالَ: فَذَهَبْتُ إِلَى بَقَّالٍ، فَرَهَنْتُ عِنْدَهُ خَاتِمِي عَلَى ثَمَنِ وَرَقَةٍ، وَكَتَبْتُهُمَا لَهُ فَأَخَذَهُمَا وَقَالَ: انْطَلِقْ رَاشِدًا. فَرَجَعْتُ إِلَى مَنْزِلِي، فَقَالَ لِي غُلَامِي: هَاتِ خَاتِمَكَ حَتَّى نَرْهَنَهُ عَلَى طَعَامٍ لَنَا وَعَلَفٍ لِلدَّابَّةِ. فَقُلْتُ: إِنِّي رَهَنْتُهُ. فَمَا أَمْسَيْنَا حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيَّ الْفَضْلُ بِثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَعَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ سَلَفًا لِشَهْرَيْنِ مِنْ رِزْقٍ أَجْرَاهُ عَلَيَّ.
وَدَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْأَكَابِرِ، فَأَكْرَمَهُ الْفَضْلُ وَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ،
فَشَكَا إِلَيْهِ الرَّجُلُ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَسَأَلَهُ أَنْ يُكَلِّمَ فِي ذَلِكَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: نَعَمْ، وَكَمْ دَيْنُكَ؟ قَالَ: ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ مَهْمُومٌ لِضَعْفِ رَدِّهِ عَلَيْهِ، ثُمَّ مَالَ إِلَى بَعْضِ إِخْوَانِهِ، فَاسْتَرَاحَ عِنْدَهُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ فَإِذَا الْمَالُ قَدْ سَبَقَهُ إِلَيْهِ، وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ فِيهِ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
لَكَ الْفَضْلُ يَا فَضْلُ بْنُ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ
…
وَمَا كُلُّ مَنْ يُدْعَى بِفَضْلٍ لَهُ الْفَضْلُ
رَأَى اللَّهُ فَضْلًا مِنْكَ فِي النَّاسِ وَاسِعًا
…
فَسَمَّاكَ فَضْلًا فَالْتَقَى الِاسْمُ وَالْفِعْلُ
وَقَدْ كَانَ الْفَضْلُ أَكْبَرَ رُتْبَةً مِنْ جَعْفَرٍ، وَلَكِنَّ جَعْفَرًا أَحْظَى عِنْدَ الرَّشِيدِ مِنْهُ وَأَخَصُّ. وَقَدْ وَلِيَ الْفَضْلُ أَعْمَالًا كِبَارًا، مِنْهَا نِيَابَةُ خُرَاسَانَ وَغَيْرُهَا.
فَلَمَّا قَتَلَ الرَّشِيدُ جَعْفَرًا وَحَبَسَ الْبَرَامِكَةَ، جَلَدَ الْفَضْلَ بْنَ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ مِائَةَ سَوْطٍ، وَخَلَّدَهُ فِي السِّجْنِ حَتَّى مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، قَبْلَ الرَّشِيدِ بِشُهُورٍ خَمْسَةٍ بِالرَّقَّةِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ بِالْقَصْرِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ أُخْرِجَتْ جِنَازَتُهُ، فَصَلَّى عَلَيْهَا النَّاسُ، وَدُفِنَ هُنَاكَ وَلَهُ خَمْسٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً، وَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ ثِقَلٌ أَصَابَهُ فِي لِسَانِهِ اشْتَدَّ بِهِ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ وَتُوُفِّيَ قَبْلَ أَذَانِ الْغَدَاةِ مِنْ يَوْمِ السَّبْتِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَذَلِكَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ ": كَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ أَطَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ تَرْجَمَتَهُ، وَذَكَرَ طَرَفًا صَالِحًا مِنْ مَحَاسِنِهِ وَمَكَارِمِهِ، مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ وَرَدَ بَلْخَ حِينَ كَانَ نَائِبًا عَلَى خُرَاسَانَ وَكَانَ بِهَا بَيْتُ النَّارِ الَّتِي كَانَتْ تَعْبُدُهَا الْمَجُوسُ، وَقَدْ كَانَ جَدُّهُ بَرْمَكُ مِنْ خُدَّامِهَا، فَهَدَمَ بَعْضَهُ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ هَدْمِهِ كُلِّهِ؛ لِقُوَّةِ إِحْكَامِهِ وَبَنَى مَكَانَهُ مَسْجِدًا لِلَّهِ تَعَالَى. وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ يَتَمَثَّلُ فِي السِّجْنِ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
إِلَى اللَّهِ فِيمَا نَالَنَا نَرْفَعُ الشَّكْوَى
…
فَفِي يَدِهِ كَشْفُ الْمَضَرَّةِ وَالْبَلْوَى
خَرَجْنَا مِنَ الدُّنْيَا وَنَحْنُ مِنْ أَهْلِهَا
…
فَلَا نَحْنُ فِي الْأَمْوَاتِ فِيهَا وَلَا الْأَحْيَا
إِذَا جَاءَنَا السَّجَّانُ يَوْمًا لِحَاجَةٍ
…
عَجِبْنَا وَقُلْنَا جَاءَ هَذَا مِنَ الدُّنْيَا
وَمُحَمَّدُ بْنُ أُمَيَّةَ، الشَّاعِرُ الْكَاتِبُ، وَهُوَ مِنْ بَيْتٍ كُلُّهُمْ شُعَرَاءُ، وَقَدِ اخْتَلَطَ أَشْعَارُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ وَلَهُ شِعْرٌ رَائِقٌ، وَمَدِيحٌ فَائِقٌ.
مَنْصُورُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ بْنِ سَلَمَةَ، أَبُو الْفَضْلِ النُّمَيْرِيُّ، الشَّاعِرُ، امْتَدَحَ الرَّشِيدَ. وَأَصْلُهُ مِنَ الْجَزِيرَةِ وَأَقَامَ بِبَغْدَادَ، وَيُقَالُ لِجَدِّهِ: مُطْعِمُ الْكَبْشِ الرَّخَمَ. وَذَلِكَ أَنَّهُ أَضَافَ قَوْمًا، فَجَعَلَتِ الرَّخَمُ تُحَمْلِقُ حَوْلَهُمْ، فَأَمَرَ بِكَبْشٍ يُذْبَحُ لِلرَّخَمِ حَتَّى لَا يَتَأَذَّى بِهَا أَضْيَافُهُ، فَقِيلَ لَهُ ذَلِكَ لِذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّاعِرُ:
أَبُوكَ زَعِيمُ بَنِي قَاسِطٍ
…
وَخَالُكَ ذُو الْكَبْشِ يَقْرِي الرَّخَمَ
وَلَهُ أَشْعَارٌ حَسَنَةٌ، وَكَانَ يَرْوِي عَنْ كُلْثُومِ بْنِ عَمْرٍو، وَكَانَ شَيْخَهُ الَّذِي أَخَذَ عَنْهُ الْغِنَاءَ.
يُوسُفُ بْنُ الْقَاضِي أَبِي يُوسُفَ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ السَّرِيِّ بْنِ يَحْيَى، وَيُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَنَظَرَ فِي الرَّأْيِ، وَتَفَقَّهَ، وَوَلِيَ قَضَاءَ الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ بِبَغْدَادَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ، وَصَلَّى بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ، عَنْ أَمْرِ الرَّشِيدِ. تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَهُوَ قَاضٍ بِبَغْدَادَ.