الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دَاوُدَ، عَلَى أَنْ يَحْمِلَ إِلَيْهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ نَائِبُ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ.
[مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ]
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ السَّلُولِيُّ. وَبِشْرُ بْنُ بَكْرٍ الدِّمَشْقِيُّ. وَأَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ. وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسِيُّ. وَيَعْقُوبُ الْحَضْرَمِيُّ. وَأَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَطِيَّةَ. وَقِيلَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
عَطِيَّةَ. وَقِيلَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَسْكَرٍ، أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ. أَصْلُهُ مِنْ وَاسِطٍ وَسَكَنَ قَرْيَةً غَرْبِيَّ دِمَشْقَ يُقَالُ لَهَا: دَارَيَّا.
وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِ، وَرَوَى عَنْهُ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ وَجَمَاعَةٌ. وَأَسْنَدَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِهِ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الرَّبِيعِ الزَّاهِدِ يَقُولُ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ أَدْهَمَ يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنُ عَجْلَانَ يَذْكُرُ عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَلَّى قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا غَفَرَ اللَّهُ ذُنُوبَهُ يَوْمَهُ ذَلِكَ» وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ: حُكِيَ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ قَالَ: اخْتَلَفْتُ إِلَى مَجْلِسِ قَاصٍّ فَأَثَّرَ كَلَامُهُ فِي قَلْبِي، فَلَمَّا قُمْتُ لَمْ يَبْقَ فِي قَلْبِي شَيْءٌ، فَعُدْتُ ثَانِيَةً فَأَثَّرَ كَلَامُهُ فِي قَلْبِي بَعْدَ مَا قُمْتُ وَفِي الطَّرِيقِ، ثُمَّ عُدْتُ ثَالِثَةً فَبَقِيَ أَثَرُ كَلَامِهِ فِي قَلْبِي حَتَّى رَجَعْتُ إِلَى مَنْزِلِي، وَكَسَرْتُ آلَاتِ الْمُخَالَفَاتِ وَلَزِمْتُ الطَّرِيقَ. فَحَكَيْتُ هَذِهِ الْحِكَايَةَ لِيَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ، فَقَالَ: عُصْفُورٌ اصْطَادَ كُرْكِيًّا. يَعْنِي بِالْعُصْفُورِ الْقَاصَّ، وَبِالْكُرْكِيِّ أَبَا سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيَّ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: سَمِعْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ يَقُولُ: لَيْسَ لِمَنْ أُلْهِمَ
شَيْئًا مِنَ الْخَيْرِ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ حَتَّى يَسْمَعَهُ مِنَ الْأَثَرِ فَإِذَا سَمِعَهُ مِنَ الْأَثَرِ عَمِلَ بِهِ، وَحَمِدَ اللَّهَ حِينَ وَافَقَ مَا فِي قَلْبِهِ.
وَقَالَ الْجُنَيْدُ: قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: رُبَّمَا يَقَعُ فِي قَلْبِي النُّكْتَةُ مِنْ نُكَتِ الْقَوْمِ أَيَّامًا فَلَا أَقْبَلُ مِنْهُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ؛ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ. قَالَ: وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ خِلَافُ هَوَى النَّفْسِ. وَقَالَ: لِكُلِّ شَيْءٍ عَلَمٌ وَعَلَمُ الْخِذْلَانِ تَرْكُ الْبُكَاءِ. وَقَالَ: لِكُلِّ شَيْءٍ صَدَأٌ وَصَدَأُ نُورِ الْقَلْبِ شِبَعُ الْبَطْنِ. وَقَالَ: كُلُّ مَا شَغَلَكَ عَنِ اللَّهِ؛ مِنْ أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ وَلَدٍ؛ فَهُوَ عَلَيْكَ مَشْئُومٌ. وَقَالَ: كُنْتُ لَيْلَةً فِي الْمِحْرَابِ أَدْعُو وَيَدَايَ مَمْدُودَتَانِ فَغَلَبَنِي الْبَرْدُ فَضَمَمْتُ إِحْدَاهُمَا وَبَقِيَتِ الْأُخْرَى مَبْسُوطَةً أَدْعُو بِهَا، وَغَلَبْتَنِي عَيْنِي فَنِمْتُ، فَهَتَفَ بِي هَاتِفٌ: يَا أَبَا سُلَيْمَانَ، قَدْ وَضَعْنَا فِي هَذِهِ مَا أَصَابَهَا، وَلَوْ كَانَتِ الْأُخْرَى لَوَضَعْنَا فِيهَا. قَالَ: فَآلَيْتُ عَلَى نَفْسِي أَلَّا أَدْعُوَ إِلَّا وَيَدَايَ
خَارِجَتَانِ، حَرًّا كَانَ أَوْ بَرْدًا. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: نِمْتُ لَيْلَةً عَنْ وِرْدِي فَإِذَا أَنَا بِحَوْرَاءَ تَقُولُ لِي: تَنَامُ وَأَنَا أُرَبَّى لَكَ فِي الْخُدُورِ مُنْذُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ؟
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: سَمِعْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ يَقُولُ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ أَنْهَارًا عَلَى شَاطِئِهَا خِيَامٌ فِيهِنَّ الْحُورُ، يُنْشِئُ اللَّهُ خَلْقَ إِحْدَاهُنَّ إِنْشَاءً فَإِذَا تَكَامَلَ خَلْقُهَا ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِنَّ الْخِيَامَ، جَالِسَةً عَلَى كُرْسِيٍّ مِيلٍ فِي مِيلٍ، قَدْ خَرَجَ عَجِيزَتُهَا مِنْ جَانِبِ الْكُرْسِيِّ، فَيَجِيءُ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ قُصُورِهِمْ يَتَنَزَّهُونَ مَا شَاءُوا ثُمَّ يَخْلُو كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ. قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: كَيْفَ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا حَالُ مَنْ يُرِيدُ يَفْتَضُّ الْأَبْكَارَ عَلَى شَاطِئِ الْأَنْهَارِ فِي الْجَنَّةِ؟
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: سَمِعْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيَّ يَقُولُ: رُبَّمَا مَكَثْتُ خَمْسَ لَيَالٍ لَا أَقْرَأُ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ إِلَّا بِآيَةٍ وَاحِدَةٍ أَتَفَكَّرُ فِي مَعَانِيهَا، وَلَرُبَّمَا جَاءَتِ الْآيَةُ مِنَ الْقُرْآنِ فَيَطِيرُ الْعَقْلُ، فَسُبْحَانَ مَنْ يَرُدُّهُ بَعْدُ! وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: أَصْلُ كُلِّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الْخَوْفُ مِنَ اللَّهِ عز وجل، وَمِفْتَاحُ الدُّنْيَا الشِّبَعُ، وَمِفْتَاحُ الْآخِرَةِ الْجُوعُ. وَقَالَ لِي يَوْمًا:
يَا أَحْمَدُ، جَوِّعْ قَلْبَكَ، وَذِلَّ قَلْبَكَ، وَعَرِّ قَلْبَكَ، وَفَقِّرْ قَلْبَكَ، وَصَبِّرْ قَلْبَكَ، وَقَدِ انْقَضَتْ عَنْكَ أَيَّامُ الدُّنْيَا.
وَقَالَ أَحْمَدُ: اشْتَهَى أَبُو سُلَيْمَانَ يَوْمًا رَغِيفًا حَارًّا بِمِلْحٍ، قَالَ: فَجِئْتُهُ بِهِ، فَعَضَّ مِنْهُ عَضَّةً ثُمَّ طَرَحَهُ، وَأَقْبَلَ يَبْكِي وَيَقُولُ: يَا رَبِّ عَجَّلْتَ لِي شَهْوَتِي، لَقَدْ أَطَلْتَ جَهْدِي وَشِقْوَتِي وَأَنَا تَائِبٌ فَاقْبَلْ تَوْبَتِي. فَلَمْ يَذُقِ الْمِلْحَ حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ عز وجل. قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَا رَضِيتُ عَنْ نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْأَرْضِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضَعُونِي كَاتِّضَاعِي عِنْدَ نَفْسِي مَا أَحْسَنُوا. وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَنْ رَأَى لِنَفْسِهِ قِيمَةً لَمْ يَذُقْ حَلَاوَةَ الْخِدْمَةِ. وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِذَا تَكَلَّفَ الْمُتَعَبِّدُونَ أَنْ لَا يَتَكَلَّمُوا إِلَّا بِالْإِعْرَابِ، ذَهَبَ الْخُشُوعُ. وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَنْ حَسُنَ ظَنُّهُ بِاللَّهِ، ثُمَّ لَا يَخَافُ فَهُوَ
مَخْدُوعٌ. وَقَالَ: يَنْبَغِي لِلْخَوْفِ أَنْ يَكُونَ أَغْلَبَ مِنَ الرَّجَاءِ، فَإِذَا غَلَبَ الرَّجَاءُ عَلَى الْخَوْفِ فَسَدَ الْقَلْبُ. وَقَالَ لِي يَوْمًا: هَلْ فَوْقَ الصَّبْرِ مَنْزِلَةٌ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. يَعْنِي الرِّضَا. قَالَ: فَصَرَخَ صَرْخَةً غُشِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: إِذَا كَانَ الصَّابِرُونَ يُوفَّوْنَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ، فَمَا ظَنُّكَ بِالْآخَرِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ رَضِيَ عَنْهُمْ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَمِعْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ يَقُولُ: مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي الدُّنْيَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا أُنْفِقُهُ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ، وَأَنِّي أَغْفُلُ عَنِ اللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: قَالَ زَاهِدٌ لِزَاهِدٍ: أَوْصِنِي. فَقَالَ: لَا يَرَاكَ اللَّهُ حَيْثُ نَهَاكَ وَلَا يَفْقِدُكَ حَيْثُ أَمَرَكَ. فَقَالَ: زِدْنِي. فَقَالَ: مَا عِنْدِي زِيَادَةٌ. وَقَالَ أَيْضًا: مَنْ أَحْسَنَ فِي نَهَارِهِ كُوفِئَ فِي لَيْلِهِ، وَمَنْ أَحْسَنَ فِي لَيْلِهِ كُوفِئَ فِي نَهَارِهِ، وَمَنْ صَدَقَ فِي تَرْكِ شَهْوَةٍ ذَهَبَ اللَّهُ بِهَا مِنْ قَلْبِهِ، وَاللَّهُ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُعَذِّبَ قَلْبًا بِشَهْوَةٍ
تُرِكَتْ لَهُ. وَقَالَ: إِذَا سَكَنَتِ الدُّنْيَا الْقَلْبَ تَرَحَّلَتْ مِنْهُ الْآخِرَةُ. وَقَالَ: إِذَا كَانَتِ الْآخِرَةُ فِي الْقَلْبِ جَاءَتِ الدُّنْيَا تَزْحَمُهَا، وَإِذَا كَانَتِ الدُّنْيَا فِي الْقَلْبِ لَمْ تَزْحَمْهَا الْآخِرَةُ؛ إِنَّ الْآخِرَةَ كَرِيمَةٌ وَالدُّنْيَا لَئِيمَةٌ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: بِتُّ لَيْلَةً عِنْدَ أَبِي سُلَيْمَانَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: وَعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ لَئِنْ طَالَبْتَنِي بِذُنُوبِي لَأُطَالِبَنَّكَ بِعَفْوِكَ وَلَئِنْ طَالَبْتَنِي بِبُخْلِي لَأُطَالِبَنَّكَ بِسَخَائِكَ، وَلَئِنْ أَمَرْتَ بِي إِلَى النَّارِ لَأُخْبِرَنَّ أَهْلَ النَّارِ أَنِّي أُحِبُّكَ. وَكَانَ أَبُو سُلَيْمَانَ يَقُولُ: لَوْ شَكَّ النَّاسُ كُلُّهُمْ فِي الْحَقِّ مَا شَكَكْتُ فِيهِ وَحْدِي. وَكَانَ يَقُولُ: مَا خَلَقَ اللَّهُ خَلْقًا أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِبْلِيسَ، وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَتَعَوَّذَ مِنْهُ مَا تَعَوَّذْتُ مِنْهُ أَبَدًا، وَلَوْ بَدَا لِي مَا لَطَمْتُ
إِلَّا صَفْحَةَ وَجْهِهِ. وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ اللِّصَّ لَا يَجِيءُ إِلَى خَرِبَةٍ يَنْقُبُ حِيطَانَهَا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الدُّخُولِ إِلَيْهَا مِنْ أَيِّ مَكَانٍ شَاءَ، وَإِنَّمَا يَجِيءُ إِلَى بَيْتٍ مَعْمُورٍ، كَذَلِكَ إِبْلِيسُ لَا يَجِيءُ إِلَّا إِلَى كُلِّ قَلْبٍ عَامِرٍ لِيَسْتَنْزِلَهُ عَنْ شَيْءٍ.
وَكَانَ يَقُولُ: إِذَا أَخْلَصَ الْعَبْدُ انْقَطَعَ عَنْهُ كَثْرَةُ الْوَسْوَاسِ وَالرِّيَاءِ وَالرُّؤْيَا. وَقَالَ: مَكَثْتُ عِشْرِينَ سَنَةً لَمْ أَحْتَلِمْ، فَدَخَلْتُ مَكَّةَ فَفَاتَتْنِي صَلَاةُ الْعِشَاءِ فِي جَمَاعَةٍ فَاحْتَلَمْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ. وَقَالَ: إِنَّ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ قَوْمًا لَا يَشْغَلُهُمُ الْجِنَانُ وَمَا فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ عَنْهُ، فَكَيْفَ تَشْتَغِلُونَ بِالدُّنْيَا؟ وَقَالَ: الدُّنْيَا عِنْدَ اللَّهِ أَقَلُّ مِنْ جَنَاحِ بَعُوضَةٍ، فَمَا الزُّهْدُ فِيهَا؟ وَإِنَّمَا الزُّهْدُ فِي الْجِنَانِ وَالْحُورِ الْعِينِ، حَتَّى لَا يَرَى اللَّهُ فِي قَلْبِكَ غَيْرَهُ.
وَقَالَ الْجُنَيْدُ: شَيْءٌ يُرْوَى عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَا اسْتَحْسَنْتُهُ كَثِيرًا؛ قَوْلُهُ: مَنِ
اشْتَغَلَ بِنَفْسِهِ شُغِلَ عَنِ النَّاسِ، وَمَنِ اشْتَغَلَ بِرَبِّهِ شُغِلَ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنِ النَّاسِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ أَبُو سُلَيْمَانَ يَقُولُ: خَيْرُ السَّخَاءِ مَا وَافَقَ الْحَاجَةَ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا حَلَالًا وَاسْتِعْفَافًا عَنِ الْمَسْأَلَةِ وَاسْتِغْنَاءً عَنِ النَّاسِ، لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ يَلْقَاهُ وَوَجْهُهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَمَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا حَلَالًا، مُفَاخِرًا وَمُكَاثِرًا لَقِيَ اللَّهَ عز وجل يَوْمَ يَلْقَاهُ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا مَرْفُوعًا.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: إِنَّ قَوْمًا طَلَبُوا الْغِنَى فَحَسِبُوا أَنَّهُ فِي جَمْعِ الْمَالِ، أَلَا وَإِنَّمَا الْغِنَى فِي الْقَنَاعَةِ، وَطَلَبُوا الرَّاحَةَ فِي الْكَثْرَةِ، وَإِنَّمَا الرَّاحَةُ فِي الْقِلَّةِ، وَطَلَبُوا الْكَرَامَةَ مِنَ الْخَلْقِ، أَلَا وَهِيَ فِي التَّقْوَى، وَطَلَبُوا النِّعْمَةَ فِي اللِّبَاسِ الرَّقِيقِ اللَّيِّنِ، وَفِي طَعَامٍ طَيِّبٍ، وَالنِّعْمَةُ فِي
الْإِسْلَامِ وَالسَّتْرِ وَالْعَافِيَةِ. وَكَانَ يَقُولُ: لَوْلَا قِيَامُ اللَّيْلِ مَا أَحْبَبْتُ الْبَقَاءَ فِي الدُّنْيَا، وَمَا أُحِبُّ الْبَقَاءَ فِي الدُّنْيَا لِتَشْقِيقِ الْأَنْهَارِ وَلَا لِغَرْسِ الْأَشْجَارِ.
وَقَالَ: أَهْلُ الطَّاعَةِ فِي لَيْلِهِمْ أَلَذُّ مِنْ أَهْلِ اللَّهْوِ فِي لَهْوِهِمْ. وَقَالَ: رُبَّمَا اسْتَقْبَلَنِي الْفَرَحُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، وَرُبَّمَا رَأَيْتُ الْقَلْبَ يَضْحَكُ ضَحِكًا.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْحَوَارِيِّ: سَمِعْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ يَقُولُ: بَيْنَا أَنَا سَاجِدٌ، إِذْ ذَهَبَ بِيَ النَّوْمُ، فَإِذَا أَنَا بِهَا - يَعْنِي الْحَوْرَاءَ - قَدْ رَكَضَتْنِي بِرِجْلِهَا، فَقَالَتْ: حَبِيبِي، أَتَرْقُدُ عَيْنَاكَ وَالْمَلِكُ يَقْظَانُ يَنْظُرُ إِلَى الْمُتَهَجِّدِينَ فِي
تَهَجُّدِهِمْ؟ بُؤْسًا لَعِينٍ آثَرَتْ لَذَّةَ نَوْمَةٍ عَلَى لَذَّةِ مُنَاجَاةِ الْعَزِيزِ، قُمْ فَقَدْ دَنَا الْفَرَاغُ وَلَقِيَ الْمُحِبُّونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَمَا هَذَا الرُّقَادُ؟ حَبِيبِي وَقُرَّةَ عَيْنِي، أَتَرْقُدُ عَيْنَاكَ وَأَنَا أُرَبَّى لَكَ فِي الْخُدُورِ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا؟ فَوَثَبْتُ فَزِعًا وَقَدْ عَرِقْتُ اسْتِحْيَاءً مِنْ تَوْبِيخِهَا إِيَّايَ، وَإِنَّ حَلَاوَةَ مَنْطِقِهَا لَفِي سَمْعِي وَقَلْبِي.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي سُلَيْمَانَ فَإِذَا هُوَ يَبْكِي، فَقُلْتُ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: زُجِرْتُ الْبَارِحَةَ فِي مَنَامِي. قُلْتُ: مَا الَّذِي حَلَّ بِكَ؟ قَالَ: بَيْنَا أَنَا قَدْ غَفَوْتُ فِي مِحْرَابِي إِذْ وَقَفَتْ عَلَيَّ جَارِيَةٌ تَفُوقُ الدُّنْيَا حُسْنًا، وَبِيَدِهَا وَرَقَةٌ وَهِيَ تَقُولُ: أَتَنَامُ يَا شَيْخُ؟ فَقُلْتُ: مَنْ غَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ نَامَ. فَقَالَتْ: كَلَّا إِنَّ طَالِبَ الْجَنَّةِ لَا يَنَامُ. ثُمَّ قَالَتْ: أَتَقْرَأُ؟ فَأَخَذْتُ الْوَرَقَةَ مِنْ يَدِهَا، فَإِذَا فِيهَا مَكْتُوبٌ:
لَهَتْ بِكَ لَذَّةٌ عَنْ حُسْنِ عَيْشٍ
…
مَعَ الْخَيْرَاتِ فِي غُرَفِ الْجِنَانِ
تَعِيشُ مُخَلَّدًا لَا مَوْتَ فِيهَا
…
وَتَنْعَمُ فِي الْجِنَانِ مَعَ الْحِسَانِ
تَيَقَّظْ مِنْ مَنَامِكَ إِنَّ خَيْرًا
…
مِنَ النَّوْمِ التَّهَجُّدُ بِالْقُرَانِ
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: أَمَا يَسْتَحِي أَحَدُهُمْ أَنْ يَلْبَسَ عَبَاءَةً بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ وَفِي قَلْبِهِ شَهْوَةٌ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ؟ وَقَالَ أَيْضًا: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُظْهِرَ لِلنَّاسِ الزُّهْدَ وَالشَّهَوَاتُ فِي قَلْبِهِ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنْ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا، جَازَ أَنْ يُظْهِرَ لِلنَّاسِ الزُّهْدَ بِلُبْسِ الْعَبَاءِ، فَإِنَّهَا عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ الزُّهَّادِ، وَلَوْ لَبِسَ ثَوْبَيْنِ أَبْيَضَيْنِ لِيَسْتُرَ بِهِمَا أَبْصَارَ النَّاسِ عَنْهُ كَانَ أَسْلَمَ لِزُهْدِهِ. وَكَانَ يَقُولُ أَيْضًا: إِذَا رَأَيْتَ الصُّوفِيَّ يَتَنَوَّقُ فِي لُبْسِ الصُّوفِ، فَلَيْسَ بِصُوفِيٍّ، وَخِيَارُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَصْحَابُ الْقُطْنِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَأَصْحَابُهُ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: إِنَّمَا الْأَخُ الَّذِي يَعِظُكَ بِرُؤْيَتِهِ قَبْلَ كَلَامِهِ، وَقَدْ كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَى الْأَخِ مِنْ أَصْحَابِي بِالْعِرَاقِ فَأَنْتَفِعُ بِرُؤْيَتِهِ شَهْرًا. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " عَبْدِي، إِنَّكَ مَا اسْتَحْيَيْتَ مِنِّي أَنْسَيْتُ النَّاسَ عُيُوبَكَ، وَأَنْسَيْتُ بِقَاعَ الْأَرْضِ ذُنُوبَكَ، وَمَحَوْتُ زَلَّاتِكَ مِنْ أُمِّ الْكِتَابِ، وَلَا أُنَاقِشُكَ فِي الْحِسَابِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ ".
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: سَأَلْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ عَنِ الصَّبْرِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّكَ لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ فِي الَّذِي تُحِبُّ، فَكَيْفَ فِيمَا تَكْرَهُ؟ قَالَ أَحْمَدُ: تَنَهَّدْتُ عِنْدَهُ يَوْمًا، فَقَالَ: إِنَّكَ مَسْئُولٌ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى ذَنْبٍ سَلَفَ فَطُوبَى لَكَ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الدُّنْيَا فَوَيْلٌ لَكَ. وَقَالَ: إِنَّمَا رَجَعَ مِنَ الطَّرِيقِ قَبْلَ الْوُصُولِ، وَلَوْ وَصَلُوا إِلَى اللَّهِ مَا رَجَعُوا. وَقَالَ: إِنَّمَا عَصَى اللَّهَ مَنْ عَصَاهُ لِهَوَانِهِمْ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَرُمُوا عَلَيْهِ لَحَجَزَهُمْ عَنْ مَعَاصِيهِ. وَقَالَ: جُلَسَاءُ الرَّحْمَنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ جَعَلَ فِيهِمْ خِصَالًا: الْكَرَمَ وَالْحِلْمَ، وَالْعِلْمَ وَالْحِكْمَةَ، وَالرِّقَّةَ، وَالرَّحْمَةَ، وَالْفَضْلَ، وَالصَّفْحَ، وَالْإِحْسَانَ وَالْبِرَّ، وَالْعَفْوَ وَاللُّطْفَ.
وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ فِي كِتَابِ " " مِحَنِ الْمَشَايِخِ " "، أَنَّ أَبَا سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ أُخْرِجَ مِنْ دِمَشْقَ وَقَالُوا: إِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَرَى الْمَلَائِكَةَ
وَيُكَلِّمُونَهُ. فَخَرَجَ إِلَى بَعْضِ الثُّغُورِ فَرَأَى بَعْضُ أَهْلِ دِمَشْقَ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِمْ هَلَكُوا، فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهِ وَتَشَفَّعُوا إِلَيْهِ، حَتَّى رَدُّوهُ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي وَفَاتِهِ عَلَى أَقْوَالٍ؛ فَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَتَيْنِ. وَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسٍ وَمِائَتَيْنِ. وَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ. وَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ مَرْوَانُ الطَّاطَرِيُّ يَوْمَ مَاتَ أَبُو سُلَيْمَانَ: لَقَدْ أُصِيبَ بِهِ أَهْلُ الْإِسْلَامِ كُلُّهِمْ.
قُلْتُ: وَقَدْ دُفِنَ فِي قَرْيَةِ دَارَيَّا، وَقَبْرُهُ بِهَا مَشْهُورٌ وَعَلَيْهِ بِنَاءٌ، وَقِبْلَتُهُ مَسْجِدٌ بَنَاهُ الْأَمِيرُ نَاهِضُ الدِّينِ عُمَرُ الْمِهْرَانِيُّ، وَوَقَفَ عَلَى الْمُقِيمِينَ عِنْدَهُ وَقْفًا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ مِنْهُ غَلَّةٌ، وَقَدْ جَدَّدَ مَزَارَهُ فِي زَمَانِنَا هَذَا، وَلَمْ أَرَ الْحَافِظَ ابْنَ عَسَاكِرَ تَعَرَّضَ لِمَوْضِعِ دَفْنِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَهَذَا عَجَبٌ مِنْهُ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْحَوَارِيِّ قَالَ: كُنْتُ أَشْتَهِي أَنْ أَرَى أَبَا سُلَيْمَانَ فِي الْمَنَامِ فَرَأَيْتُهُ بَعْدَ سَنَةٍ، فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ يَا مُعَلِّمُ؟ فَقَالَ: يَا أَحْمَدُ، دَخَلْتُ يَوْمًا مِنْ بَابِ الصَّغِيرِ فَرَأَيْتُ حِمْلَ شِيحٍ، فَأَخَذْتُ مِنْهُ عُودًا، فَمَا أَدْرِي تَخَلَّلْتُ بِهِ أَوْ رَمَيْتُهُ، فَأَنَا فِي
حِسَابِهِ إِلَى الْآنِ.
وَقَدْ تُوُفِّيَ ابْنُهُ سُلَيْمَانُ بَعْدَهُ بِنَحْوٍ مِنْ سَنَتَيْنِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى.