الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَغَبِيًّا يَتَبَالَغُ وَفَاجِرًا يَتَعَبَّدُ.
وَلَمَّا صُلِبَ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ وَنُودِيَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ سَمِعَهُ بَعْضُهُمْ وَقَدْ جِيءَ بِهِ لِيُصْلَبَ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى بَقَرَةٍ يَقُولُ: مَا أَنَا بِالْحَلَّاجِ وَلَكِنْ أُلْقِيَ عَلَيَّ شَبَهُهُ وَغَابَ. فَلَمَّا أُدْنِيَ إِلَى الْخَشَبَةِ لِيُصْلَبَ عَلَيْهَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ: يَا مُعِينُ الضَّنَا عَلَيَّ أَعِنِّي عَلَى الضَّنَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَمِعْتُهُ وَهُوَ مَصْلُوبٌ يَقُولُ: إِلَهِي أَصْبَحْتُ فِي دَارِ الرَّغَائِبِ أَنْظُرُ إِلَى الْعَجَائِبِ إِلَهِي إِنَّكَ تَتَوَدَّدُ إِلَى مَنْ يُؤْذِيكَ فَكَيْفَ بِمَنْ يُؤْذَى فِيكَ.
[صِفَةُ مَقْتَلِ الْحَلَّاجِ]
ذِكْرُ صِفَةِ مَقْتَلِ الْحَلَّاجِ
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ وَغَيْرُهُ: كَانَ الْحَلَّاجُ قَدْ قَدِمَ آخِرَ قَدْمَةٍ إِلَى بَغْدَادَ فَصَحِبَ الصُّوفِيَّةَ وَانْتَسَبَ إِلَيْهِمْ وَكَانَ الْوَزِيرَ إِذْ ذَاكَ حَامِدُ بْنُ الْعَبَّاسِ فَبَلَغَهُ أَنَّ الْحَلَّاجَ قَدْ أَضَلَّ خَلْقًا مِنَ الْحَشَمِ وَالْحُجَّابِ فِي دَارِ السُّلْطَانِ وَمِنْ غِلْمَانِ نَصْرٍ الْقُشُورِيِّ الْحَاجِبِ، وَجَعَلَ لَهُمْ فِي جُمْلَةِ مَا ادَّعَاهُ أَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّ الْجِنَّ يَخْدِمُونَهُ
وَيُحْضِرُونَ لَهُ مَا يَخْتَارُهُ وَيَشْتَهِيهِ، وَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ أَحْيَا عِدَّةً مِنَ الطَّيْرِ. وَذُكِرَ لِعَلِيِّ بْنِ عِيسَى أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْقُنَّائِيُّ الْكَاتِبُ يَعْبُدُ الْحَلَّاجَ وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى ذَلِكَ، فَطَلَبَهُ وَكَبَسَ مَنْزِلَهُ فَأَقَرَّ أَنَّهُ مِنْ أَصْحَابِ الْحَلَّاجِ وَوَجَدَ فِي مَنْزِلِهِ أَشْيَاءَ بِخَطِّ الْحَلَّاجِ مُكْتَتَبَةً بِمَاءِ الذَّهَبِ فِي وَرَقِ الْحَرِيرِ مُجَلَّدَةً بِأَفْخَرِ الْجُلُودِ، وَوَجَدَ عِنْدَهُ سَفَطًا فِيهِ مِنْ رَجِيعِ الْحَلَّاجِ وَبَوْلِهِ وَأَشْيَاءَ مِنْ آثَارِهِ وَبَقِيَّةِ خُبْزٍ مِنْ زَادِهِ، فَطَلَبَ الْوَزِيرُ مِنَ الْمُقْتَدِرِ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي أَمْرِ الْحَلَّاجِ فَفَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَيْهِ فَاسْتَدْعَى بِجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَلَّاجِ فَتَهَدَّدَهُمْ فَاعْتَرَفُوا لَهُ أَنَّهُ قَدْ صَحَّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ إِلَهٌ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَأَنَّهُمْ كَاشَفُوا الْحَلَّاجَ فَجَحَدَ ذَلِكَ وَكَذَّبَهُمْ، وَقَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَدَّعِيَ الرُّبُوبِيَّةَ أَوِ النُّبُوَّةَ وَإِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ أَعْبُدُ اللَّهَ وَأُكْثِرُ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ وَفِعْلَ الْخَيْرِ، وَلَا أَعْرِفُ غَيْرَ ذَلِكَ. وَجَعَلَ لَا يَزِيدُ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ وَالتَّوْحِيدِ، وَيُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: سُبْحَانَكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ عَمِلْتُ سُوءًا وَظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ. وَكَانَتْ عَلَيْهِ مِدْرَعَةٌ سَوْدَاءُ وَفِي رِجْلَيْهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَيْدًا وَهِيَ وَاصِلَةٌ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ يُصَلِّي فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَلْفَ رَكْعَةٍ.
وَكَانَ قَبْلَ احْتِيَاطِ الْوَزِيرِ حَامِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ عَلَيْهِ فِي حُجْرَةٍ مِنْ دَارِ نَصْرٍ الْقُشُورَيِّ الْحَاجِبِ مَأْذُونًا لِمَنْ يَدْخُلُ إِلَيْهِ، وَكَانَ يُسَمِّي نَفْسَهُ تَارَةً بِالْحُسَيْنِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَتَارَةً مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ الْفَارِسِيَّ، وَكَانَ نَصْرٌ الْحَاجِبُ هَذَا قَدِ افْتُتِنَ بِهِ،
وَظَنَّ أَنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ وَكَانَ قَدْ أَدْخَلَهُ عَلَى الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ فَرَقَاهُ مِنْ وَجَعٍ حَصَلَ فَاتَّفَقَ زَوَالُهُ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ لِوَالِدَتِهِ السَّيِّدَةِ أُمِّ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ فَزَالَتْ عِلَّتُهَا فَنَفَقَ سُوقُهُ وَحَظِيَ فِي دَارِ السُّلْطَانِ، فَلَمَّا انْتَشَرَ الْكَلَامُ فِيهِ سُلِّمَ إِلَى الْوَزِيرِ حَامِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ، فَحَبَسَهُ فِي قُيُودٍ كَثِيرَةٍ فِي رِجْلَيْهِ وَجَمَعَ لَهُ الْفُقَهَاءَ، فَأَجْمَعُوا عَلَى كُفْرِهِ وَزَنْدَقَتِهِ وَأَنَّهُ سَاحِرٌ مُمَخْرِقٌ، وَرَجَعَ عَنْهُ رَجُلَانِ صَالِحَانِ مِمَّنْ كَانَ اتَّبَعَهُ، أَحَدُهُمَا أَبُو عَلِيٍّ هَارُونُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْأُورَاجِيُّ، وَالْآخَرُ يُقَالُ لَهُ الدَّبَّاسُ فَذَكَرَا مِنْ فَضَائِحِهِ وَمَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ النَّاسَ مِنَ الْكَذِبِ وَالْفُجُورِ وَالْمَخْرَقَةِ وَالسِّحْرِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَكَذَلِكَ أُحْضِرَتْ زَوْجَةُ ابْنِهِ سُلَيْمَانَ فَذَكَرَتْ عَنْهُ فَضَائِحَ كَثِيرَةً، مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَغْشَاهَا وَهِيَ نَائِمَةٌ، فَانْتَبَهَتْ، فَقَالَ: قُومِي إِلَى الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَطَأَهَا وَأَمَرَتْهَا ابْنَتُهُ بِالسُّجُودِ لَهُ، فَقَالَتْ: أَوَيَسْجُدُ بِشَرٌ لِبَشَرٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، إِلَهٌ فِي السَّمَاءِ وَإِلَهٌ فِي الْأَرْضِ. ثُمَّ أَمَرَهَا أَنْ تَأْخُذَ مِنْ تَحْتِ بَارِيَةٍ هُنَالِكَ مَا أَحَبَّتْ، فَوَجَدَتْ تَحْتَهَا دَنَانِيرَ كَثِيرَةً مَبْدُورَةً.
وَلَمَّا كَانَ مُعْتَقَلًا فِي دَارِ حَامِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ دَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْغِلْمَانِ وَمَعَهُ طَبَقُ فِيهِ طَعَامٌ لِيَأْكُلَ مِنْهُ، فَوَجَدَهُ قَدْ مَلَأَ الْبَيْتَ مِنْ سَقْفِهِ إِلَى أَرْضِهِ، فَذُعِرَ ذَلِكَ الْغُلَامُ، وَأَلْقَى مَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ ذَلِكَ الطَّبَقِ وَالطَّعَامِ وَرَجَعَ مَحْمُومًا فَمَرِضَ عِدَّةَ أَيَّامٍ.
وَلَمَّا كَانَ آخِرُ مَجْلِسٍ أُحْضِرَ الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ وَجِيءَ بِالْحَلَّاجِ وَقَدْ أُحْضِرَ لَهُ كِتَابٌ مِنْ دُورِ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، وَفِيهِ: مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ
وَلَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ فَلْيَبْنِ فِي دَارِهِ بَيْتًا لَا يَنَالُهُ شَيْءٌ مِنَ النَّجَاسَةِ وَلَا يُمَكِّنُ أَحَدًا مِنْ دُخُولِهِ فَإِذَا كَانَ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلْيَطُفْ بِهِ كَمَا يُطَافُ بِالْكَعْبَةِ ثُمَّ يَفْعَلُ فِي دَارِهِ مَا يَفْعَلُهُ الْحَجِيجُ بِمَكَّةَ ثُمَّ يَسْتَدْعِي بِثَلَاثِينَ يَتِيمًا فَيُطْعِمُهُمْ مِنْ طَعَامِهِ وَيَتَوَلَّى خِدْمَتَهُمْ بِنَفْسِهِ ثُمَّ يَكْسُوهُمْ قَمِيصًا قَمِيصًا وَيُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَبْعَةَ دَرَاهِمَ - أَوْ قَالَ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ - فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ قَامَ لَهُ مَقَامَ الْحَجِّ، وَإِنَّ مَنْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يُفْطِرُ إِلَّا فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ عَلَى وَرَقَاتِ هِنْدَبَا أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عَنْ صِيَامِ رَمَضَانَ.
وَمَنْ صَلَّى فِي لَيْلَةٍ رَكْعَتَيْنِ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ إِلَى آخِرِهِ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَنَّ مَنْ جَاوَرَ بِمَقَابِرِ الشُّهَدَاءِ بِمَقَابِرِ قُرَيْشٍ عَشَرَةَ أَيَّامٍ يُصَلِّي وَيَدْعُو وَيَصُومُ ثُمَّ لَا يُفْطِرُ إِلَّا عَلَى شَيْءٍ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ وَالْمِلْحِ الْجَرِيشِ أَغْنَاهُ ذَلِكَ عَنِ الْعِبَادَةِ فِي بَقِيَّةِ عُمُرِهِ.
فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ: مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا؟ فَقَالَ مِنْ كِتَابِ " الْإِخْلَاصِ " لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. فَقَالَ لَهُ: كَذَبْتَ يَا حَلَالَ الدَّمِ قَدْ سَمِعْنَا كِتَابَ " الْإِخْلَاصِ " لِلْحَسَنِ بِمَكَّةَ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا. فَأَقْبَلَ الْوَزِيرُ حَامِدُ بْنُ الْعَبَّاسِ عَلَى الْقَاضِي أَبِي عُمَرَ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ قُلْتَ: يَا حَلَالَ الدَّمِ فَاكْتُبْ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْوَرَقَةِ. وَأَلَحَّ عَلَيْهِ وَقَدَّمَ لَهُ الدَّوَاةَ فَكَتَبَ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْوَرَقَةِ، وَكَتَبَ مَنْ حَضَرَ خُطُوطَهُمْ فِيهَا، وَأَنْفَذَهَا الْوَزِيرُ إِلَى الْمُقْتَدِرِ، وَجَعَلَ الْحَلَّاجُ يَقُولُ لَهُمْ: ظَهْرِي حِمًى وَدَمِي حَرَامٌ وَمَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَتَأَوَّلُوا عَلَيَّ وَاعْتِقَادِي الْإِسْلَامُ وَمَذْهَبِي السُّنَّةُ، وَتَفْضِيلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلَيٍّ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ وَسَعِيدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ
الْجَرَّاحِ وَلِي كُتُبٌ فِي السُّنَّةِ مَوْجُودَةٌ فِي الْوَرَّاقِينَ فَاللَّهَ اللَّهَ فِي دَمِي. فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ، وَجَعَلَ يُكَرِّرُ ذَلِكَ وَهُمْ يَكْتُبُونَ خُطُوطَهُمْ بِمَا كَانَ مِنَ الْأَمْرِ وَرُدَّ الْحَلَّاجُ إِلَى مَحْبِسِهِ وَتَأَخَّرَ جَوَابُ الْمُقْتَدِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى سَاءَ ظَنُّ الْوَزِيرِ حَامِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ، فَكَتَبَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ أَمْرَ الْحَلَّاجِ قَدِ اشْتَهَرَ وَلَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ اثْنَانِ وَقَدِ افْتَتَنَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِهِ. فَجَاءَ الْجَوَابُ بِأَنْ يُسَلَّمَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ صَاحِبِ الشُّرْطَةِ فَلْيَضْرِبْهُ أَلْفَ سَوْطٍ فَإِنْ مَاتَ وَإِلَّا ضُرِبَتُ عُنُقُهُ. فَفَرِحَ الْوَزِيرُ بِذَلِكَ وَطَلَبَ صَاحِبَ الشُّرْطَةِ فَسَلَّمَهُ إِلَيْهِ وَبَعَثَ مَعَهُ طَائِفَةً مِنْ غِلْمَانِهِ يُوَصِّلُونَهُ مَعَهُ إِلَى مَحَلِّ الشُّرْطَةِ مِنَ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُسْتَنْقَذَ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَذَلِكَ بَعْدَ عِشَاءِ الْآخِرَةِ فِي لَيْلَةِ الثُّلَاثَاءِ لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى بَغْلٍ عَلَيْهِ إِكَافٌ وَحَوْلَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْوَانِ السِّيَاسَةِ عَلَى مِثْلِ شَكْلِهِ، فَاسْتَقَرَّ مَنْزِلُهُ بِدَارِ الشُّرْطَةِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ فَذُكِرَ أَنَّهُ بَاتَ يُصَلِّي فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَيَدْعُو دُعَاءً كَثِيرًا.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الشَّاشِيَّ يَقُولُ: قَالَ أَبُو الْحَدِيدِ - يَعْنِي - الْمِصْرِيَّ: لَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي قُتِلَ فِي صَبِيحَتِهَا الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورٍ قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى مَا شَاءَ اللَّهُ فَلَمَّا كَانَ آخِرَ اللَّيْلِ قَامَ قَائِمًا فَتَغَطَّى بِكِسَائِهِ وَمَدَّ يَدَهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ فَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ جَائِزِ الْحِفْظِ، فَكَانَ مِمَّا حَفِظْتُ أَنْ قَالَ: نَحْنُ شَوَاهِدُكَ فَلَوْ دَلَّتْنَا عِزَّتُكَ لَتَبَدَّى مَا شِئْتَ مِنْ شَأْنِكَ وَمَشِيئَتِكَ، وَأَنْتَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ، تَتَجَلَّى لِمَا تَشَاءُ مِثْلَ تَجَلِّيكَ فِي مَشِيئَتِكَ
كَأَحْسَنِ الصُّورَةِ، وَالصُّورَةُ فِيهَا الرُّوحُ النَّاطِقَةُ بِالْعِلْمِ وَالْبَيَانِ وَالْقُدْرَةِ، ثُمَّ أَوْعَزْتَ إِلَيَّ شَاهِدَكَ لِأَنِّي فِي ذَاتِكَ الْهُوِيُّ، كَيْفَ أَنْتَ إِذَا مَثَلْتَ بِذَاتِي عِنْدَ عَقِيبِ كَرَاتِي، وَدَعَوْتَ إِلَى ذَاتِي بِذَاتِي، وَأَبْدَيْتَ حَقَائِقَ عُلُومِي وَمُعْجِزَاتِي، صَاعِدًا فِي مَعَارِجِي إِلَى عُرُوشِ أَزَلِيَّاتِي عِنْدَ الْقَوْلِ مِنْ بِرِيَّاتِي، إِنِّي احْتُضِرْتُ وَقُتِلْتُ وَصُلِبْتُ وَأُحْرِقْتُ وَاحْتُمِلْتُ سَافِيَاتِي الذَّارِيَاتِ، وَلَجَجْتُ فِي الْجَارِيَاتِ وَإِنَّ ذَرَّةً مِنْ يَنْجُوجٍ مَكَانَ هَالُوكِ مُتَجَلَّيَاتِي لَأَعْظَمُ مِنَ الرَّاسِيَاتِ. ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
أَنْعَى إِلَيْكَ نُفُوسًا طَاحَ شَاهِدُهَا
…
فِيمَا وَرَا الْحَيْثِ أَوْ فِي شَاهِدِ الْقِدَمِ
أَنْعَى إِلَيْكَ قُلُوبًا طَالَمَا هَطَلَتْ
…
سَحَائِبُ الْوَحْيِ فِيهَا أَبْحُرُ الْحِكَمِ
أَنْعَى إِلَيْكَ لِسَانَ الْحَقِّ مِنْكَ وَمَنْ
…
أَوْدَى وَتَذْكَارُهُ فِي الْوَهْمِ كَالْعَدَمِ
أَنْعَى إِلَيْكَ بَيَانًا تَسْتَكِينُ لَهُ
…
أَقْوَالُ كُلِّ فَصِيحٍ مِقْوَلٍ فَهِمِ
أَنْعَى إِلَيْكَ إِشَارَاتِ الْعُقُولِ مَعًا
…
لَمْ يَبْقَ مِنْهُنَّ إِلَّا دَارِسُ الْعِلْمِ
أَنْعَى وَحُبِّكَ أَخْلَاقًا لِطَائِفَةٍ
…
كَانَتْ مَطَايَاهُمْ مِنْ مَكْمَدِ الْكِظَمِ
مَضَى الْجَمِيعُ فَلَا عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ
…
مُضِيَّ عَادٍ وَفِقْدَانَ الْأُلَى إِرَمِ
وَخَلَّفُوا مَعْشَرًا يَحْذُونَ لِبْسَتَهُمْ
…
أَعْمَى مِنَ الْبُهْمِ بَلْ أَعْمَى مِنَ النَّعَمِ
قَالُوا: وَلَمَّا أُخْرِجَ الْحَلَّاجُ مِنَ الْمَنْزِلِ الَّذِي بَاتَ فِيهِ لِيُذْهَبَ بِهِ إِلَى الْقَتْلِ أَنْشَدَ:
طَلَبْتُ الْمُسْتَقَرَّ بِكُلِّ أَرْضٍ
…
فَلَمْ أَرَ لِي بِأَرْضٍ مُسْتَقَرَّا
أَطَعْتُ مَطَامِعِي فَاسْتَعْبَدَتْنِي
…
وَلَوْ أَنِّي قَنَعْتُ لَعِشْتُ حُرَّا
وَقِيلَ: إِنَّهُ قَالَهَا حِينَ قَدِمَ إِلَى الْجِذْعِ لِيُصْلَبَ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ مَشَى وَهُوَ يَتَبَخْتَرُ فِي مِشْيَتِهِ وَفِي رِجْلَيْهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَيْدًا، وَجَعَلَ يُنْشِدُ وَيَتَمَايَلُ:
نَدِيمِي غَيْرُ مَنْسُوبٍ
…
إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْحَيْفِ
سَقَانِي مِثْلَ مَا يَشْرَ
…
بُ فِعْلَ الضَّيْفِ بِالضَّيْفِ
فَلَمَّا دَارَتِ الْكَأْسُ
…
دَعَا بِالنِّطْعِ وَالسَّيْفِ
كَذَا مَنْ يَشْرَبُ الرَّاحَ
…
مَعَ التِّنِّينِ فِي الصَّيْفِ
ثُمَّ قَالَ: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} [الشورى: 18] ثُمَّ لَمْ يَنْطِقْ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى فُعِلَ بِهِ مَا فُعِلَ، قَالُوا: ثُمَّ قُدِّمَ فَضُرِبَ أَلْفَ سَوْطٍ ثُمَّ قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ سَاكِتٌ مَا نَطَقَ بِكَلِمَةٍ، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ جَعَلَ يَقُولُ مَعَ كُلِّ سَوْطٍ أَحَدٌ أَحَدٌ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَلِيٍّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عِيسَى الْقَصَّارَ يَقُولُ: آخِرُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا الْحَلَّاجُ حِينَ قُتِلَ أَنْ قَالَ: حَسْبُ الْوَاحِدِ إِفْرَادُ الْوَاحِدِ لَهُ. فَمَا سَمِعَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ أَحَدٌ مِنَ الْمَشَايِخِ إِلَّا رَقَّ لَهُ وَاسْتَحْسَنَ هَذَا الْكَلَامَ مِنْهُ.
وَقَالَ السُّلَمِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الْبَجَلِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا الْفَاتِكِ الْبَغْدَادِيَّ وَكَانَ صَاحِبَ الْحَلَّاجِ قَالَ: رَأَيْتُ فِي النَّوْمِ بَعْدَ ثَلَاثٍ مِنْ قَتْلِ الْحَلَّاجِ كَأَنِّي وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّي عز وجل وَأَنَا أَقُولُ: يَا رَبِّ مَا فَعَلَ الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورٍ؟ فَقَالَ: كَاشَفْتُهُ بِمَعْنًى فَدَعَا الْخَلْقَ إِلَى نَفْسِهِ، فَأَنْزَلْتُ بِهِ مَا رَأَيْتَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ جَزِعَ عِنْدَ ذَلِكَ جَزَعًا شَدِيدًا وَبَكَى بُكَاءً كَثِيرًا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْخَطِيبُ: ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ الصَّيْرَفِيُّ قَالَ: قَالَ لَنَا أَبُو عُمَرَ بْنُ حَيَّوَيْهِ: لَمَّا أُخْرِجَ الْحُسَيْنُ الْحَلَّاجُ لِيُقْتَلَ مَضَيْتُ فِي جُمْلَةِ النَّاسِ وَلَمْ أَزَلْ أُزَاحِمُ حَتَّى رَأَيْتُهُ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: لَا يَهُولَنَّكُمْ هَذَا الْأَمْرُ فَإِنِّي عَائِدٌ إِلَيْكُمْ بَعْدَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، ثُمَّ قُتِلَ.
وَذَكَرَ الْخَطِيبُ أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ يُضْرَبُ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ وَالِي الشُّرْطَةِ: ادْعُ بِي إِلَيْكَ فَإِنَّ عِنْدِي نَصِيحَةً تَعْدِلُ فَتْحَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ. فَقَالَ لَهُ: قَدْ قِيلَ لِي
إِنَّكَ سَتَقُولُ مِثْلَ هَذَا وَلَيْسَ إِلَى رَفْعِ الضَّرْبِ عَنْكَ سَبِيلٌ، ثُمَّ قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ، وَحُزَّ رَأْسُهُ، وَأُحْرِقَتْ جُثَّتُهُ، وَأُلْقِيَ بِرَمَادِهَا فِي دِجْلَةَ وَنُصِبَ الرَّأْسُ يَوْمَيْنِ بِبَغْدَادَ عَلَى الْجِسْرِ ثُمَّ حُمِلَ إِلَى خُرَاسَانَ وَطِيفَ بِهِ فِي تِلْكَ النَّوَاحِي، وَجَعَلَ أَصْحَابُهُ يَعِدُونَ أَنْفُسَهُمْ بِرُجُوعِهِ إِلَيْهِمْ بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا.
وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ رَأَى الْحَلَّاجَ مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى حِمَارٍ فِي طَرِيقِ النَّهْرَوَانِ فَقَالَ: لَعَلَّكَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْبَقَرِ الَّذِينَ ظَنُّوا أَنِّي أَنَا هُوَ الْمَضْرُوبُ الْمَقْتُولُ إِنِّي لَسْتُ بِهِ وَإِنَّمَا أُلْقِيَ شَبَهِي عَلَى رَجُلٍ فَفُعِلَ بِهِ مَا رَأَيْتُمْ. وَكَانُوا بِجَهْلِهِمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا قُتِلَ عَدُوٌّ مِنْ أَعْدَاءِ الْحَلَّاجِ وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ ذَلِكَ الزَّمَانِ: إِنْ كَانَ هَذَا الرَّأْيُ صَادِقًا فَلَعَلَّ دَابَّةً - يَعْنِي مِنَ الشَّيَاطِينِ - تَبَدَّى عَلَى صُورَتِهِ لِيُضِلَّ بِهِ النَّاسَ كَمَا ضَلَّتْ فِرْقَةُ النَّصَارَى بِالْمَصْلُوبِ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَاتَّفَقَ أَنَّ دِجْلَةَ زَادَتْ فِي هَذَا الْعَامِ زِيَادَةً كَثِيرَةً، فَقَالُوا: إِنَّمَا زَادَتْ لِأَنَّ رَمَادَ الْحَلَّاجِ خَالَطَهَا، وَنُودِيَ بِبَغْدَادَ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ أَحَدٌ مِنْ كُتُبِ الْحَلَّاجِ شَيْئًا وَلَا يَبِيعُهُ. وَكَانَ قَتْلُ الْحَلَّاجِ فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ بِبَغْدَادَ، وَذَكَرَهُ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ فِي " الْوَفَيَاتِ " وَحَكَى اخْتِلَافَ النَّاسِ فِيهِ، وَنَقَلَ عَنِ الْغَزَالِيِّ فِي " مِشْكَاةِ الْأَنْوَارِ " أَنَّهُ كَانَ يَتَأَوَّلُ كَلَامَهُ وَيَحْمِلُهُ عَلَى مَا يَلِيقُ، ثُمَّ نَقَلَ عَنْ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ
كَانَ يَذُمُّهُ وَيَقُولُ إِنَّهُ اتَّفَقَ هُوَ وَالْجَنَّابِيُّ وَابْنُ الْمُقَفَّعِ عَلَى إِفْسَادِ عَقَائِدِ النَّاسِ وَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ، فَكَانَ الْجَنَّابِيُّ فِي هَجَرَ وَالْبَحْرَيْنِ وَابْنُ الْمُقَفَّعِ بِبِلَادِ التُّرْكِ وَدَخَلَ الْحَلَّاجُ الْعِرَاقَ فَحَكَمَ صَاحِبَاهُ عَلَيْهِ بِالْهَلَكَةِ لِعَدَمِ انْخِدَاعِ أَهْلِ الْعِرَاقِ بِالْبَاطِلِ.
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ وَهَذَا لَا يَنْتَظِمُ فَإِنَّ ابْنَ الْمُقَفَّعِ كَانَ قَبْلَ الْحَلَّاجِ بِدَهْرٍ، فَإِنَّهُ كَانَ فِي أَيَّامِ السَّفَّاحِ وَالْمَنْصُورِ وَمَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ أَوْ قَبْلَهَا وَلَعَلَّ إِمَامَ الْحَرَمَيْنِ أَرَادَ ابْنَ الْمُقَفَّعِ الْخُرَاسَانِيَّ الَّذِي ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ، وَأَدْنَى الْقَمَرَ وَاسْمُهُ عَطَاءٌ، وَقَدْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِالسُّمِّ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ، وَلَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُ مَعَ الْحَلَّاجِ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُصَحِّحَ كَلَامَ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَنَذْكُرَ ثَلَاثَةً قَدِ اجْتَمَعُوا فِي وَقْتٍ عَلَى مَا ذَكَرَ، فَيَكُونُ أَرَادَ بِذَلِكَ الْحَلَّاجَ، وَابْنَ الشَّلْمَغَانِيِّ - يَعْنِي أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ - وَالْقِرْمِطِيَّ الْجَنَّابِيَّ، وَهُوَ أَبُو طَاهِرٍ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْحَسَنِ بْنِ بَهْرَامَ، الَّذِي قَتَلَ الْحُجَّاجَ وَأَخَذَ الْحَجَرَ، وَرَدَمَ زَمْزَمَ بِالْقَتْلَى وَنَهَبَ أَسْتَارَ الْكَعْبَةِ، كَمَا سَيَأْتِي ذَلِكَ مَبْسُوطًا، ذَكَرَهُ الْقَاضِي مُلَخَّصًا هَاهُنَا.