الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: قَالَ رَجُلٌ لِأَحْمَدَ: هَذَا الْعِلْمُ تَعَلَّمْتَهُ لِلَّهِ؟ فَقَالَ: هَذَا شَرْطٌ شَدِيدٌ، وَلَكِنْ حُبِّبَ إِلَيَّ شَيْءٌ فَجَمَعْتُهُ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَقَالَ: إِنَّ أُمِّي زَمِنَةٌ مُقْعَدَةٌ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً، وَقَدْ بَعَثَتْنِي إِلَيْكَ لِتَدْعُوَ اللَّهَ لَهَا، فَكَأَنَّهُ غَضِبَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: نَحْنُ أَحْوَجُ أَنْ تَدْعُوَ هِيَ لَنَا. ثُمَّ دَعَا اللَّهَ عز وجل لَهَا. فَرَجَعَ الرَّجُلُ إِلَى أُمِّهِ فَدَقَّ الْبَابَ فَخَرَجَتْ إِلَيْهِ عَلَى رِجْلَيْهَا، وَقَالَتْ قَدْ وَهَبَنِي اللَّهُ الْعَافِيَةَ.
وَرَوِيَ أَنْ سَائِلًا سَأَلَ فَأَعْطَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ قِطْعَةً، فَقَامَ رَجُلٌ إِلَى السَّائِلِ فَقَالَ: هَبْنِي هَذِهِ الْقِطْعَةَ حَتَّى أُعْطِيَكَ عِوَضَهَا، مَا يُسَاوِي دِرْهَمًا فَأَبَى فَرَقَّاهُ إِلَى خَمْسِينَ وَهُوَ يَأْبَى، فَقَالَ: إِنِّي أَرْجُو مَنْ بَرَكَتِهَا مَا تَرْجُوهُ أَنْتَ مَنْ بَرَكَتِهَا.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رحمه الله:
[مِحْنَةُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ]
بَابُ ذِكْرِ مَا جَاءَ فِي مِحْنَةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، رضي الله عنه
فِي أَيَّامِ الْمَأْمُونِ ثُمَّ الْمُعْتَصِمِ، ثُمَّ الْوَاثِقِ بِسَبَبِ الْقُرْآنِ، وَمَا أَصَابَهُ مِنَ الْحَبْسِ الطَّوِيلِ وَالضَّرْبِ الشَّدِيدِ، وَالتَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ بِسُوءِ الْعَذَابِ وَأَلِيمِ الْعِقَابِ وَقِلَّةِ مُبَالَاتِهِ بِمَا كَانَ مِنْهُمْ مَنْ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَصَبْرِهِ عَلَيْهِ، وَتَمَسُّكِهِ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ الْقَوِيمِ وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.
وَكَانَ أَحْمَدُ عَالِمًا بِمَا وَرَدَ بِمِثْلِ حَالِهِ مِنَ الْآيَاتِ الْمَتْلُوَّةِ وَالْآثَارِ الْمَأْثُورَةِ، وَبَلَغَهُ مَا أُوصِيَ بِهِ فِي الْمَنَامِ وَالْيَقَظَةِ، فَرَضِيَ وَسَلَّمَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَفَازَ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَنَعِيمِ الْآخِرَةِ، وَهَيَّأَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ مِنْ ذَلِكَ لِبُلُوغِ أَعْلَى مَنَازِلِ أَهْلِ الْبَلَاءِ فِي اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، وَأَلْحَقَ بِهِ مُحِبِّيهِ فِيمَا نَالَ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ تَعَالَى، إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ غَيْرِ بَلِيَّةٍ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ وَالْعِصْمَةُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1]
[لُقْمَانَ: 17] فِي آيٍ سِوَاهَا فِي مَعْنَى مَا كَتَبْنَا.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ الْمُمْتَحَنَ فِي مُسْنَدِهِ قَائِلًا فِيهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ، سَمِعْتُ مُصْعَبَ بْنَ سَعْدٍ، يُحَدِّثُ عَنْ سَعْدٍ قَالَ:«سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ فَقَالَ: الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، ثُمَّ يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ رَقِيقَ الدِّينِ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ صُلْبَ الدِّينِ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ، وَمَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالرَّجُلِ حَتَّى يَمْشِيَ فِي الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، ثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثَةٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَقَدْ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ ; مَنْ
كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ» وَأَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، ثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، ثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو السَّكْسَكِيُّ، ثَنَا عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ السَّكُونِيُّ، ثَنَا عَاصِمُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ يَقُولُ: إِنَّكُمْ لَمْ تَرَوْا إِلَّا بَلَاءً وَفِتْنَةً، وَلَنْ يَزْدَادَ الْأَمْرُ إِلَّا شَدَّةً، وَلَا الْأَنْفُسُ إِلَّا شُحًّا. وَبِهِ، قَالَ مُعَاذٌ:" لَنْ تَرَوْا مِنَ الْأَئِمَّةِ إِلَّا غِلْظَةً وَلَنْ تَرَوْا أَمْرًا يَهُولُكُمْ وَيَشْتَدُّ عَلَيْكُمْ إِلَّا حَضَرَ بَعْدَهُ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ ". قَالَ الْبَغَوِيُّ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ رَضِينَا. يَمُدُّ بِهَا صَوْتَهُ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ قَالَ: بَعَثَنِي الشَّافِعِيُّ بِكِتَابٍ مِنْ مِصْرَ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فَأَتَيْتُهُ وَقَدِ انْفَتَلَ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَدَفَعْتُ إِلَيْهِ الْكِتَابَ فَقَالَ: أَقَرَأْتَهُ؟ فَقُلْتُ: لَا. فَأَخَذَهُ فَقَرَأَهُ فَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، وَمَا فِيهِ؟ فَقَالَ: يَذْكُرُ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ لَهُ: " اكْتُبْ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَاقْرَأْ عَلَيْهِ مِنِّي السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ: إِنَّكَ سَتُمْتَحَنُ، وَتُدْعَى إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ فَلَا تُجِبْهُمْ، يَرْفَعُ اللَّهُ لَكَ عَلَمًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ الرَّبِيعُ: فَقُلْتُ: حَلَاوَةُ الْبِشَارَةِ. فَخَلَعَ قَمِيصَةُ الَّذِي يَلِي جِلْدَهُ فَأَعْطَانِيهِ، فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى الشَّافِعِيِّ أَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: إِنِّي لَسْتُ أَفْجَعُكَ فِيهِ، وَلَكِنْ بُلَّهُ بِالْمَاءِ وَأَعْطِنِيهِ حَتَّى أَتَبَرَّكَ بِهِ.
ذِكْرُ مُلَخَّصِ الْفِتْنَةِ وَالْمِحْنَةِ مَجْمُوعًا مِنْ كَلَامِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ، رحمهم الله وَأَثَابَهُمُ الْجَنَّةَ
قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَأْمُونَ كَانَ قَدِ اجْتَمَعَ بِهِ وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، فَأَزَاغُوهُ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، وَزَيَّنُوا لَهُ الْقَوْلَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَنَفْيِ الصِّفَاتِ عَنِ اللَّهِ عز وجل.
قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: وَلَمْ يَكُنْ فِي الْخُلَفَاءِ قَبْلَهُ لَا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ وَلَا مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ خَلِيفَةٌ إِلَّا عَلَى مَنْهَجِ السَّلَفِ، حَتَّى وَلِيَ هُوَ الْخِلَافَةَ، فَاجْتَمَعَ بِهِ هَؤُلَاءِ فَحَمَلُوهُ عَلَى ذَلِكَ. قَالُوا: وَاتَّفَقَ خُرُوجُهُ إِلَى طَرَسُوسَ لِغَزْوِ بِلَادِ الرُّومِ فَعَنَّ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى نَائِبِ بَغْدَادَ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُصْعَبٍ يَأْمُرُهُ أَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَاتَّفَقَ ذَلِكَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشُهُورٍ مِنْ سَنَةِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ.
فَلَمَّا وَصَلَ الْكِتَابُ كَمَا ذَكَرْنَا اسْتَدْعَى جَمَاعَةً مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ فَدَعَاهُمْ إِلَى ذَلِكَ فَامْتَنَعُوا، فَتَهَدَّدَهُمْ بِالضَّرْبِ، وَقَطْعِ الْأَرْزَاقِ، فَأَجَابَ أَكْثَرُهُمْ مُكْرَهِينَ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى الِامْتِنَاعِ فِي ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نُوحٍ
الْجُنْدَيْسَابُورِيُّ، فَحُمِلَا عَلَى بَعِيرٍ، وَسَيَّرَهُمَا إِلَى الْخَلِيفَةِ عَنْ أَمْرِهِ بِذَلِكَ، وَهُمَا مُقَيَّدَانِ مُتَعَادِلَانِ فِي مَحْمَلٍ عَلَى بَعِيرٍ وَاحِدٍ، فَلَمَّا كَانُوا بِبِلَادِ الرَّحْبَةِ جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَعْرَابِ مِنْ عُبَّادِهِمْ يُقَالُ لَهُ: جَابِرُ بْنُ عَامِرٍ. فَسَلَّمَ عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَقَالَ لَهُ: يَا هَذَا، إِنَّكَ وَافِدُ النَّاسِ، فَلَا تَكُنْ مَشْئُومًا عَلَيْهِمْ، وَإِنَّكَ رَأْسُ النَّاسِ الْيَوْمَ، فَإِيَّاكَ أَنْ تُجِيبَ فَيُجِيبُوا، وَإِنْ كُنْتَ تُحِبُّ اللَّهَ فَاصْبِرْ عَلَى مَا أَنْتَ فِيهِ فَإِنَّ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ إِلَّا أَنْ تُقْتَلَ، وَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُقْتَلْ تَمُتْ، وَإِنْ عِشْتَ عِشْتَ حَمِيدًا. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: فَكَانَ ذَلِكَ مَا قَوَّى عَزْمِي عَلَى مَا أَنَا فِيهِ مِنَ الِامْتِنَاعِ مِنْ ذَلِكَ. فَلَمَّا اقْتَرَبُوا مِنْ جَيْشِ الْمَأْمُونِ وَنَزَلُوا دُونَهُ بِمَرْحَلَةٍ جَاءَ خَادِمٌ، وَهُوَ يَمْسَحُ دُمُوعَهُ بِطَرَفِ ثِيَابِهِ وَهُوَ يَقُولُ: يَعِزُّ عَلَيَّ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَنُّ الْمَأْمُونُ قَدْ سَلَّ سَيْفًا لَمْ يَسُلَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَبَسَطَ نِطْعًا لَمْ يَبْسُطْهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يُقْسِمُ بِقَرَابَتِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَئِنْ لَمْ تُجِبْهُ إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ لَيَقْتُلَنَّكَ بِذَلِكَ السَّيْفِ. قَالَ: فَجَثَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَرَمَقَ بِطَرْفِهِ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قَالَ: سَيِّدِي غَرَّ حِلْمُكَ هَذَا الْفَاجِرَ حَتَّى يَتَجَبَّرَ عَلَى أَوْلِيَائِكَ بِالضَّرْبِ وَالْقَتْلِ، اللَّهُمَّ فَإِنْ يَكُنِ الْقُرْآنُ كَلَامُكَ غَيْرَ مَخْلُوقٍ فَاكْفِنَا مُؤْنَتَهُ. قَالَ: فَجَاءَهُمُ الصَّرِيخُ بِمَوْتِ الْمَأْمُونِ فِي الثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ.
قَالَ أَحْمَدُ: فَفَرِحْتُ بِذَلِكَ، ثُمَّ جَاءَ الْخَبَرُ بِأَنَّ الْمُعْتَصِمَ قَدْ وَلِيَ الْخِلَافَةَ، وَقَدِ انْضَمَّ إِلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادٍ، وَأَنَّ الْأَمْرَ شَدِيدٌ، فَرَدُّونَا إِلَى بَغْدَادَ فِي سَفِينَةٍ مَعَ
بَعْضِ الْأُسَارَى، وَنَالَنِي مَعَهُمْ أَذًى كَثِيرٌ، وَكَانَ فِي رِجْلَيْهِ الْقُيُودُ، وَمَاتَ صَاحِبُهُ مُحَمَّدُ بْنُ نُوحٍ فِي الطَّرِيقِ وَصَلَّى عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فَلَمَّا رَجَعَ أَحْمَدُ إِلَى بَغْدَادَ دَخَلَهَا وَهُوَ مَرِيضٌ وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ، فَأُودِعَ السِّجْنَ نَحْوًا مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا. وَقِيلَ: نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ شَهْرًا. ثُمَّ أُخْرِجَ إِلَى الضَّرْبِ بَيْنَ يَدِيِ الْمُعْتَصِمِ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَةُ. وَقَدْ كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي بِأَهْلِ السِّجْنِ وَعَلَيْهِ قُيُودٌ فِي رِجْلَيْهِ.
ذِكْرُ ضَرْبِهِ رضي الله عنه، بَيْنَ يَدِيِ الْمُعْتَصِمِ
لَمَّا أَحْضَرَهُ الْمُعْتَصِمُ مِنَ السِّجْنِ زِيدَ فِي قُيُودِهِ، قَالَ أَحْمَدُ: فَلَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَمْشِيَ بِهَا فَرَبَطْتُهَا فِي التِّكَّةِ وَحَمَلْتُهَا بِيَدِي، ثُمَّ جَاءُونِي بِدَابَّةٍ فَحُمِلْتُ عَلَيْهَا فَكِدْتُ أَنْ أَسْقُطَ عَلَى وَجْهِي مِنْ ثِقَلِ الْقُيُودِ، وَلَيْسَ مَعِي أَحَدٌ يُمْسِكُنِي، فَسَلَّمَ اللَّهُ حَتَّى جِئْنَا دَارَ الْخِلَافَةِ فَأُدْخِلْتُ فِي بَيْتٍ، وَأُغْلِقَ عَلَيَّ، وَلَيْسَ عِنْدِي سِرَاجٌ فَأَرَدْتُ الْوُضُوءَ فَمَدَدْتُ يَدِي فَإِذَا إِنَاءٌ فِيهِ مَاءٌ فَتَوَضَّأْتُ مِنْهُ، ثُمَّ قُمْتُ أَصْلِي، وَلَا أَعْرِفُ الْقِبْلَةَ فَلَمَّا أَصْبَحْتُ إِذَا أَنَا عَلَى الْقِبْلَةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
قَالَ: ثُمَّ دُعِيتُ فَأُدْخِلْتُ عَلَى الْمُعْتَصِمِ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيَّ، وَعِنْدَهُ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ قَالَ: أَلَيْسَ قَدْ زَعَمْتُمْ أَنَّهُ حَدَثُ السِّنِّ، وَهَذَا شَيْخٌ مُكْتَهِلٌ؟ فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنْهُ وَسَلَّمْتُ قَالَ لِيَ: ادْنُهْ. فَلَمْ يَزَلْ يُدْنِينِي حَتَّى قَرُبْتُ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: اجْلِسْ. فَجَلَسْتُ وَقَدْ أَثْقَلَنِي الْحَدِيدُ، فَمَكَثْتُ سَاعَةً، ثُمَّ قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِلَامَ دَعَا إِلَيْهِ ابْنُ عَمِّكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. قُلْتُ: فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. قَالَ: ثُمَّ ذَكَرْتُ لَهُ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ، ثُمَّ قُلْتُ: فَهَذَا الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: ثُمَّ تَكَلَّمَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ بِكَلَامٍ لَمْ أَفْهَمْهُ، وَذَلِكَ لِأَنِّي لَمْ أَتَفَقَّهْ كَلَامَهُ، ثُمَّ قَالَ الْمُعْتَصِمُ: لَوْلَا أَنَّكَ كُنْتَ فِي يَدِ مَنْ كَانَ قَبْلِي لَمْ أَتَعَرَّضْ إِلَيْكَ، ثُمَّ قَالَ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، أَلَمْ آمُرْكَ أَنْ تَرْفَعَ الْمِحْنَةَ؟ قَالَ أَحْمَدُ: فَقُلْتُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، هَذَا فَرَجٌ لِلْمُسْلِمِينَ. ثُمَّ قَالَ: نَاظِرُوهُ، يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ كَلِّمْهُ. فَقَالَ لِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ: مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ؟ فَلَمْ أُجِبْهُ، فَقَالَ الْمُعْتَصِمُ: أَجِبْهُ. فَقُلْتُ: مَا تَقُولُ فِي الْعِلْمِ؟ فَسَكَتَ، فَقُلْتُ: الْقُرْآنُ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ فَقَدْ كَفَرَ بِاللَّهِ. فَسَكَتَ، فَقَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، كَفَّرَكَ وَكَفَّرَنَا. فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى ذَلِكَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: كَانَ اللَّهُ وَلَا قُرْآنَ؟ فَقُلْتُ: كَانَ اللَّهُ وَلَا
عِلْمَ؟ فَسَكَتَ. فَجَعَلُوا يَتَكَلَّمُونَ مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَعْطُونِي شَيْئًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، أَوْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى أَقُولَ بِهِ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ: وَأَنْتَ لَا تَقُولُ إِلَّا بِهَذَا وَهَذَا؟ فَقُلْتُ: وَهَلْ يَقُومُ الْإِسْلَامُ إِلَّا بِهِمَا؟
وَجَرَتْ بَيْنَهُمَا مُنَاظَرَاتٌ طَوِيلَةٌ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] وَعَنْهُ فِي ذَلِكَ أَجْوِبَةٌ بِحَدَثِ إِنْزَالِهِ، أَوْ ذِكْرٌ غَيْرُ الْقُرْآنِ مُحْدَثٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَرَشَّحَ هَذَا بُقُولِهِ {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص: 1] يَعْنِي بِهِ الْقُرْآنَ بِخِلَافِ الذِّكْرِ فَإِنَّهُ غَيْرُ الْقُرْآنِ. وَبِقَوْلِهِ {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16] وَأَجَابَ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ بِقَوْلِهِ {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 25] فَقَالَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ: هُوَ وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ضَالٌّ مُضِلٌّ مُبْتَدِعٌ، وَهَؤُلَاءِ قُضَاتُكَ وَالْفُقَهَاءُ فَسَلْهُمْ. فَقَالَ لَهُمْ: مَا تَقُولُونَ فِيهِ: فَأَجَابُوا بِمِثْلِ مَا قَالَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ، ثُمَّ أَحْضَرُوهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَنَاظَرُوهُ أَيْضًا، ثُمَّ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَنَاظَرُوهُ أَيْضًا، وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ يَعْلُو صَوْتُهُ عَلَيْهِمْ، وَتَغْلِبُ حُجَّتُهُ حُجَجَهُمْ. قَالَ: فَإِذَا سَكَتُوا فَتَحَ الْكَلَامَ عَلَيْهِمُ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ، وَكَانَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِالْعِلْمِ
وَالْكَلَامِ، وَقَدْ تَنَوَّعَتْ بِهِمُ الْمَسَائِلُ فِي الْمُجَادَلَةِ، وَلَا عِلْمَ لَهُمْ بِالنَّقْلِ، فَجَعَلُوا يُنْكِرُونَ الْآثَارَ، وَيَرُدُّونَ الِاحْتِجَاجَ بِهَا.
وَقَالَ أَحْمَدُ: سَمِعْتُ مِنْهُمْ مَقَالَاتٍ لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّ أَحَدًا يَقُولُهَا، وَقَدْ تَكَلَّمَ مَعِي بُرْغُوثٌ بِكَلَامٍ طَوِيلٍ ذَكَرَ فِيهِ الْجِسْمَ وَغَيْرَهُ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي مَا تَقُولُ إِلَّا أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ أَحَدٌ صَمَدٌ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، فَسَكَتَ عَنِّي.
وَقَدْ أَوْرَدْتُ لَهُمْ حَدِيثَ الرُّؤْيَةِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فَحَاوَلُوا أَنْ يُضَعِّفُوا إِسْنَادَهُ، وَيُلَفِّقُوا عَنْ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ كَلَامًا يَتَسَلَّقُونَ بِهِ إِلَى الطَّعْنِ فِيهِ، وَهَيْهَاتَ {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [سبأ: 52] وَفِي غُبُونِ ذَلِكَ كُلِّهِ يَتَلَطَّفُ بِهِ الْخَلِيفَةُ، وَيَقُولُ: يَا أَحْمَدُ، أَجِبْنِي إِلَى هَذَا حَتَّى أَجْعَلَكَ مِنْ خَاصَّتِي، وَمِمَّنْ يَطَأُ بِسَاطِي. فَأَقُولُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، يَأْتُونِي بِآيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أُجِيبَهُمْ إِلَيْهَا.
وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ عَلَيْهِمْ حِينَ أَنْكَرُوا الِاحْتِجَاجَ بِالْآثَارِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 42] وَبُقُولِهِ {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] وَبِقَوْلِهِ:
{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه: 14]، وَبِقَوْلِهِ:{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54] وَبِقَوْلِهِ {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ لَهُمْ مَعَهُ حُجَّةٌ عَدَلُوا إِلَى اسْتِعْمَالِ جَاهِ الْخَلِيفَةِ فِي ذَلِكَ، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَذَا كَافِرٌ ضَالٌّ مُضِلٌّ. وَقَالَ لَهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ نَائِبُ بَغْدَادَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَيْسَ مِنْ تَدْبِيرِ الْخِلَافَةِ أَنْ تُخَلِّيَ سَبِيلَهُ وَيَغْلِبَ خَلِيفَتَيْنِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ حَمِيَ وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، وَكَانَ أَلْيَنَهُمْ عَرِيكَةً، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ. قَالَ أَحْمَدُ: فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ لِي: لَعَنَكَ اللَّهُ، طَمِعْتُ فِيكَ أَنْ تُجِيبَنِي فَلَمْ تَجْبُنِي. ثُمَّ قَالَ: خُذُوهُ وَاخْلَعُوهُ وَاسْحَبُوهُ.
قَالَ أَحْمَدُ: فَأُخِذْتُ وَسُحِبْتُ وَخُلِعْتُ وَجِيءَ بِالْعُقَابَيْنِ وَالسِّيَاطِ، وَأَنَا أَنْظُرُ، وَكَانَ مَعِي شَعْرٌ مِنْ شَعْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَصْرُورٌ فِي ثَوْبِي فَجَرَّدُونِي مِنْهُ، وَصِرْتُ بَيْنَ الْعُقَابَيْنِ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهَ اللَّهَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ. .» وَتَلَوْتُ الْحَدِيثَ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ»
فَبِمَ تَسْتَحِلُّ دَمِي، وَلَمْ آتِ شَيْئًا مِنْ هَذَا، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اذْكُرْ وُقُوفَكَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ كَوُقُوفِي بَيْنَ يَدَيْكَ. فَكَأَنَّهُ أَمْسَكَ، ثُمَّ لَمْ يَزَالُوا يَقُولُونَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ ضَالٌّ مُضِلٌّ كَافِرٌ. فَأَمَرَ بِي فَأُقِمْتُ بَيْنَ الْعُقَابَيْنِ، وَجِيءَ بِكُرْسِيٍّ فَأُقِمْتُ عَلَيْهِ، وَأَمَرَنِي بَعْضُهُمْ أَنْ آخُذَ بِيَدِي بِأَيِّ الْخَشَبَتَيْنِ فَلَمْ أَفْهَمْ، فَتَخَلَّعَتْ يَدَايَ، وَجِيءَ بِالضَّرَّابِينَ، وَمَعَهُمُ السِّيَاطُ فَجَعَلَ أَحَدُهُمْ يَضْرِبُنِي سَوْطَيْنِ، وَيَقُولُ لَهُ يَعْنِي الْمُعْتَصِمُ: شُدَّ، قَطَّعَ اللَّهُ يَدَكَ! وَيَجِيءُ الْآخَرُ فَيَضْرِبُنِي سَوْطَيْنِ، ثُمَّ الْآخَرُ كَذَلِكَ، فَضَرَبُونِي أَسْوَاطًا فَأُغْمِيَ عَلَيَّ، وَذَهَبَ عَقْلِي مِرَارًا، فَإِذَا سَكَنَ الضَّرْبُ يَعُودُ إِلَيَّ عَقْلِي، وَقَامَ الْمُعْتَصِمُ إِلَيَّ يَدْعُونِي إِلَى قَوْلِهِمْ فَلَمْ أُجِبْهُ، وَجَعَلُوا يَقُولُونَ: وَيْحَكَ، الْخَلِيفَةُ عَلَى رَأْسِكَ. فَلَمْ أَقْبَلْ، فَأَعَادُوا الضَّرْبَ، ثُمَّ عَادَ إِلَيَّ فَلَمْ أُجِبْهُ، فَأَعَادُوا الضَّرْبَ، ثُمَّ جَاءَ إِلَيَّ الثَّالِثَةَ، فَدَعَانِي فَلَمْ أَعْقِلْ مَا قَالَ مِنْ شِدَّةِ الضَّرْبِ، ثُمَّ أَعَادُوا الضَّرْبَ فَذَهَبَ عَقْلِي فَلَمْ أُحِسَّ بِالضَّرْبِ، وَأَرْعَبَهُ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِي، وَأَمَرَ بِي فَأُطْلِقْتُ، وَلَمْ أَشْعُرْ إِلَّا وَأَنَا فِي حُجْرَةٍ مِنْ بِيْتٍ وَقَدْ أُطْلِقَتِ الْأَقْيَادُ مِنْ رِجْلِي، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْيَوْمِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ مِنْ سَنَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، ثُمَّ أَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِإِطْلَاقِهِ إِلَى أَهْلِهِ، وَكَانَ جُمْلَةُ مَا ضُرِبَ نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ سَوْطًا، وَقِيلَ: ثَمَانِينَ سَوْطًا لَكِنْ كَانَ ضَرْبًا مُبَرِّحًا شَدِيدًا جِدًّا.
وَقَدْ كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَجُلًا طُوَالًا رَقِيقًا أَسْمَرَ اللَّوْنِ كَثِيرَ التَّوَاضُعِ، رحمه الله،
وَرَضِيَ عَنْهُ، وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.
وَلَمَّا حُمِلَ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ إِلَى دَارِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ صَائِمٌ، أَتَوْهُ بِسَوِيقٍ وَمَاءٍ ; لِيُفْطِرَ مِنَ الضَّعْفِ فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَتَمَّ صَوْمَهُ، وَحِينَ حَضَرَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ صَلَّى مَعَهُمْ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ سَمَاعَةَ الْقَاضِي: صَلَّيْتَ فِي دَمِكَ؟ فَقَالَ لَهُ أَحْمَدُ: قَدْ صَلَّى عُمَرُ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا. فَسَكَتَ.
وَيُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا أُقِيمَ لِيُضْرَبَ انْقَطَعَتْ تِكَّةُ سَرَاوِيلِهِ فَخَشِيَ أَنْ يَسْقُطَ سَرَاوِيلُهُ فَتُكْشَفَ عَوْرَتَهُ، فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِدُعَاءٍ فَعَادَ سَرَاوِيلُهُ كَمَا كَانَ. وَيُرْوَى أَنَّهُ قَالَ: يَا غَيَّاثَ الْمُسْتَغِيثِينَ يَا إِلَهَ الْعَالَمِينَ، إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي قَائِمٌ لَكَ بِحَقٍّ فَلَا تَهْتِكْ لِي عَوْرَةً.
وَلَمَّا رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ جَاءَهُ الْجَرَّايِحِيُّ فَقَطَعَ لَحْمًا مَيِّتًا مِنْ جَسَدِهِ، وَجَعَلَ يُدَاوِيهِ، وَالنَّائِبُ يَبْعَثُ كَثِيرًا فِي كُلِّ وَقْتٍ يَسْأَلُ عَنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُعْتَصِمَ نَدِمَ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ إِلَى أَحْمَدَ نَدَمًا كَثِيرًا، وَجَعَلَ يَسْأَلُ النَّائِبَ عَنْهُ، وَالنَّائِبُ يَسْتَعْلِمُ خَبَرَهُ، فَلَمَّا عُوفِيَ فَرِحَ الْمُعْتَصِمُ وَالْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ، وَلَمَّا شَفَاهُ اللَّهُ بِالْعَافِيَةِ بَقِيَ مُدَّةً وَإِبْهَامَاهُ يُؤْذِيهِمَا الْبَرْدُ، وَجَعَلَ كُلَّ مَنْ سَعَى فِي أَمْرِهِ فِي حِلٍّ إِلَّا
أَهْلَ الْبِدْعَةِ، وَكَانَ يَتْلُو فِي ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22] وَيَقُولُ: مَاذَا يَنْفَعُكَ أَنْ يُعَذَّبَ أَخُوكَ الْمُسْلِمُ فِي سَبِيلِكَ؟ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] وَيُنَادَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ: " لِيَقُمْ مَنْ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ " فَلَا يَقُومُ إِلَّا مَنْ عَفَا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ: مَا نَقَصَ مَالٌ مِنْ صَدَقَةٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ» .
وَكَانَ الَّذِينَ ثَبَتُوا عَلَى الْمِحْنَةِ فَلَمْ يُجِيبُوا بِالْكُلِّيَّةِ أَرْبَعَةٌ: أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَهُوَ رَئِيسُهُمْ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نُوحِ بْنِ مَيْمُونٍ الْجُنْدَيْسَابُورِيُّ، وَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ حِينَ ذَهَبَ هُوَ وَأَحْمَدُ إِلَى الْمَأْمُونِ وَنُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ الْخُزَاعِيُّ، وَقَدْ مَاتَ فِي السِّجْنِ، وَأَبُو يَعْقُوبَ الْبُوَيْطِيُّ، وَقَدْ مَاتَ فِي سِجْنِ الْوَاثِقِ عَلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، لَمْ يُجِبْهُمْ إِلَى ذَلِكَ. وَكَانَ مُثْقَلًا بِالْحَدِيدِ، وَأَوْصَى أَنْ يُدْفَنَ فِيهَا، وَأَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ الْخُزَاعِيُّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا كَيْفِيَّةَ قَتْلِهِ رحمه الله فِي أَيَّامِ الْوَاثِقِ.