الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة السابعة: الاستدلال بما عليه أهل القوة بأنه هو الحق
…
الاستدلال بما عليه أهل القوة بأنه هو الحق
المسألة السابعة
[الاستدلال بقوم أعطوا قوى في الأفهام والأعمال، وفي الملك والمال والجاه، فرد الله ذلك بقوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} [الأحقاف:26]، وقوله:{َكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89]، وقوله:{يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] .
الشرح
من مسائل الجاهلية: أنهم يستدلون أنَّ ما كان عليه الأقوياء من الناس وأصحاب الجاه وأصحاب الذكاء، أنه هو الحق. فهذا هو الضابط عندهم لمعرفة الحق؛ أنهم ينظرون في الناس، فما كان عليه أهل القوة والمال والترف والجاه اعتبروه هو الحق، وما كان عليه الضعفاء والفقراء يعتبرونه باطلاً. هذه حالة أهل الجاهلية.
وهذا الضابط باطل، فإن الله عز وجل أخبر عن الأمم
السابقة الكافرة أنها كانت على قوة، وأنها كانت على ثروة، في آيات كثيرة، وأنهم أهل جاه، وعندهم ذكاء وأفهام، لكن ما نفعهم ذلك، بل كانوا على الباطل، وقد ذكر الله هذا في آيات كثيرة، منها قوله تعالى:{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} [مريم:73]، فقال تعالى رداً عليهم:{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً} [مريم:74]، وقال تعالى:{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} [فاطر:44]، وقال تعالى:{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً} [قّ:36]، وقال تعالى:{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} [الأنعام:6] .
فهذه الآيات وأمثالها تدل على أن العبرة ليست بالقوة والمال، إذا كان أهل ذلك على ضلال، فإن هذه القوة، وهذا المال وهذا الثراء لا ينفعهم.
وبين سبحانه أنه يعطي الكفار من أجل استدراجهم، كما قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ
{شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45،44]، وقال تعالى:{فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:44،45]، وقال تعالى:{وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: 178] .
فالله يعطيهم هذه الثروة ويمكنهم في الأرض ويعطيهم الملك والسلطة، ويمكنهم من المخترعات والصناعات، كما عليه الكفار في هذا الوقت، وهذا لا يدل أن ما هم عليه حق، ولا يدل على أن الله راضٍ عنهم في إعطائه لهم، وإنما هذا من باب الاستدراج لهم والإملاء؛ ليزدادوا إثماً. إنما يستدل بهذا الدليل أهل الجاهلية. أما أهل البصيرة فإنهم ينظرون إلى ما عليه الأمم، فإن كان حقاً قبلوه وإن كانوا فقراء. وإن كان باطلاً ردُّوه وإن كانوا أغنياء.
والآيات في هذا كثيرة، منها ما ذكره الشيخ هنا، وهو قول الله تعالى لما ذكر هلاك قوم عاد: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ
…
} [الأحقاف: 26]، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} [الفجر: 6-8]
رأي: قبيلة إرم، أو البلد الذي كانت تسكنه، تسمى إرماً {ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} [الفجر: 7-9] ينحتون الجبال وينقشونها، ويجعلونها مساكن لهم، وهي موجودة إلى الآن، على طريق القوافل إلى الشام {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 58] ، {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل: 52] .
فهؤلاء أعطاهم الله من القوة الشيء العظيم، وهم كفار، ولما جاءهم أنبياؤهم اغتروا بما عندهم من القوة، ومن الثروة، ومن الأبهة، فتكبروا على الرسل، وبقوا على شركهم، ولم يقبلوا الحق؛ غروراً بما هم عليه من القوة، حتى إن الله ذكر عن عاد أنهم اغتروا بقوتهم {وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15] .
وأما الاستدلال بالفهم، فبنو إسرائيل، اليهود، أعطاهم الله فهماً وعلماً، وكانوا يعرفون من صفات النبي صلى الله عليه وسلم الذي سيبعث في آخر الزمان، بما عندهم في التوراة والإنجيل، وأنه سيبعث نبي هو خاتم الأنبياء، وأن صفاته كذا وكذا، وكان بينهم وبين العرب في المدينة – من الأوس والخزرج – حروب، {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 89]
يقولون: سيبعث النبي الذي في آخر الزمان، ونتبعه، ونقتلكم معه، {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89] أي: لما بعث محمد صلى الله عليه وسلم؛ وكان من بني إسماعيل، حسدوه؛ لأنهم يريدون أن تكون النبوة في بني إسرائيل، ويحتجزونها لأنفسهم، فلما كانت في بني إسماعيل، حسدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يعرفون أنه رسول الله؛ ما نفعهم فهمهم ومعرفتهم.
فما كل من عرف الحق يعمل به، فقد يصرفه صارف: إما الحسد، وإما الكبر، وإما الطمع في الدنيا، أو الطمع في الرياسة، هناك صوارف تصرف الإنسان عن الحق وهو يعرفه.
فالهداية والتوفيق من الله سبحانه وتعالى، ليست عن المعرفة وعن العلم والفهم، فالأمر راجع إلى الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يكثر من قول:"يا مقلب القلوب والأبصار، ثبت قلبي على دينك" 1، فمجرد المعرفة والعلم والفهم والفقه، كلها أسباب جيدة، لكن لا تكفي. فهذا مما يعطي المؤمن الحذر، وعدم الاغترار بعلمه، عدم الاغترار بفهمه، وأن يسأل ربه الثبات على الحق والهداية
1 أخرجه الترمذي 5/573 رقم 3596 والحاكم 2/211 رقم 1970، وابن ماجه 1/132 رقم 199 وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم 7987، 7988.
للصواب دائماً وأبداً، كما أنه لا يغتر بالقوة، ويقال: هذه دولة قوية، ما يمكن أن يتغلب عليها أحد؛ لأنها دولة قوية محصنة بالأسلحة والذخيرة الفتاكة والقنابل الذرية، قال تعالى:{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25] .
فهذه مسألة عظيمة، يغفل عنها كثير من الناس، ويحتج بالقوة والثروة والجاه والأبهة، ويقولون: هذه أمة راقية، مما يدل أنها على حق، وما توصلت إلى هذا المستوى إلا وهي على حق؛ لأن عندهم حضارة وعندهم ثقافة وفهم. وهكذا يقول بعض المغرورين، دون نظر إلى ما هم عليه من الكفر.