المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المسألة الثانية: تفرق أهل الجاهلية في عباداتهم ودينهم - شرح مسائل الجاهلية

[صالح الفوزان]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌بداية الشرح

- ‌المراد بالكتابيين

- ‌المراد بالجاهلية

- ‌الإجابة عن سؤال: ماالداعي غلى ذكر مسائل الجاهلية

- ‌أعظم مسائل الجاهلية وأخطرها:

- ‌المسألة الأولى: دعاء الأولياء والصالحين

- ‌المسألة الثانية: تفرق أهل الجاهلية في عباداتهم ودينهم

- ‌المسألة الثالثة: أعتبارهم مخالفة ولي الأمر فضيلة

- ‌المسألة الرابعة: التقليد الأعمى ومضاره

- ‌المسألة الخامسة: الاحتجاج بما عليه الأكثرون دون نظر إلى مستنده

- ‌المسألة السادسة: الاحتجاج بما عليه الأقدمون دون نظر إلى مستنده

- ‌المسألة السابعة: الاستدلال بما عليه أهل القوة بأنه هو الحق

- ‌المسألة الثامنة: الاستدلال بأن ما عليه الضعفاء ليس حقاً

- ‌المسألة التاسعة[اقْتِدَاؤُهُمْ بِفَسَقَةِ العُلَمَاءِ وَجُهَّالِ العُبَّادِ

- ‌المسألة العاشرة: رميهم أهل الدين بقلة فهمهم وعدم حفظهم

- ‌المسألتان الحادية عشرة والثانية عشرة: اعتمادهم على القياس الفاسد وإنكار القياس الصحيح

- ‌المسألة الثالثة عشرة: الغلو بأهل العلم والصلاح

- ‌المسألة الرابعة عشرة: نفيهم الحق وإثباتهم الباطل

- ‌المسألة الخامسة عشرة: اعتذارهم عن قبول الحق بعذر باطل

- ‌المسألة السادسة عشرة: اعتياض اليهود عن الثورة بكتب السحر

- ‌المسألة السابعة عشرة: نسبتهم الباطل إلى الأنبياء

- ‌المسألة الثامنة عشرة: انتسابهم إلى الأنبياء مع مخالفتهم

- ‌المسألة التاسعة عشرة: عيب الصالحين بفعل بعض المنسبين غليهم

- ‌المسألة العشرون: اعتقادهم أن أفعال السحرة والكهان من كرامات الأولياء

- ‌المسألة الحادية والعشرون: تعبدهم الله بالصفير والتصفيق

- ‌المسألة الثانية والعشرون: اتخاذهم الدين لهواً ولعباً

- ‌المسالةالرابعة والعشرون: زهدهم في الحق إذا كان عليه الضعفاء

- ‌المسألة الخامسة والعشرون: الاستدلال على كون الشيء باطلاً بسبق الضعفاء إليه

- ‌المسألة السادسة والعشرون: تحريف أدلة الكتاب بعد معرفتها لتوافق أهواءهم

- ‌المسألة السابعة والعشرون: تأليف الكتب الباطلة ونسبتها إلى الله

- ‌المسألة الثامنة والعشرون: رفضهم ما عند غيرهم منالحق

- ‌المسألة التالسعة والعشرون: لا يعملون بقول من يزعمون أنهم يتبعونهم

- ‌المسألة الثلاثون: الأخذ بالافتراق وترك الاجتماع

- ‌المسألة الحادية والثلاثون: عداوتهم للدين الحق، ومحبتهم للدين الباطل

- ‌المسألة الثانية والثلاثون: كفرهم بالحق الذي مع غيرهم ممن لا يهوونه

- ‌المسأةلالثالثة والثلاثون: تناقضهم في الإقرار والإنكار

- ‌المسألة الرابعة والثلاثون: كل فرقة تزكي نفسها دون غيرها

- ‌المسألة الخامسة والثلاثون: تقربهم إلى الله بفعل المحرم

- ‌المسألة السادسة والثلاثون: تقربهم إلى الله بتحريم الحلال وتحليل الحرام

- ‌المسألة السابعة والثلاثون: اتخاذهم الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله

- ‌المسألة الثامنة والثلاثون: إلحادهم في أسماء الله وصفاته

- ‌المسألة التاسعة والثلاثون: الإلحاد في أسماء الله تعالى

- ‌المسألة الأربعون: جحود الرب سبحانه وتعالى

- ‌المسألة الحادية والأربعون: وصف الله بالنقص

- ‌المسألة الثانية والأربعون[الشِّرْكُ فِي المُلْكِ

- ‌المسألة الثالثة والأربعون: جحودهم لقدر الله

- ‌المسالة الرابعة والأربعون: الاعتذار عن كفرهم بأن الله تعالى قدره عليهم

- ‌المسألة الخامسة والأربعون: دعواهم التناقض بين شرع الله وقدره

- ‌المسألة السادسة والأربعون: نسبتهم الحوادث إلى الدهر ومسبتهم له

- ‌المسألة السابعة والأربعون: كفرهم بنعم الله تعالى

- ‌المسألة الثامنة والأربعون: كفرهم بآيات الله جملة

- ‌المسألة التاسعة والأربعون: كفرهم ببعض آيات الله تعالى

- ‌المسألة الخمسون: جحودهم إنزال الكتب على الرسل

- ‌المسألة الحادية والخمسون: وصفهم للقرآن بأنه من كلام البشر

- ‌المسألة الثانية والخمسون: نفيهم الحكمة عن أفعال الله تعالى

- ‌المسألة الثالثة والخمسون: تحيلهم لإبطال شرع الله تعالى

- ‌المسألة: الرابعة والخمسون: الإقرار بالحق، للتوصل إلى دفعه

- ‌المسألةالخامسة والخمسون: تعصبهم لما هم عليه من الباطل

- ‌المسألة السادسة والخمسون: تسميتهم التوحيد شركاً

- ‌المسألتان السابعة والثامنة والخمسون: التحريف ولي الألسنة في كتاب الله تعالى

- ‌المسألة التاسعة والخمسون: تلقيبيهم أهل الجق بالألقاب المنفرة

- ‌المسألتان الستون والحادية والستون[افتراءُ الكَذِب على الله والتَّكذِيب بالحقِّ]

- ‌المشألتان الثانية والستونك استنفار الملوك ضد أهل الحق

- ‌المسألة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والستون: رميهم أهل الحق بما هم برءاء منه

- ‌المسألة الثامنة والستون: مدحهم أنفسهم بما ليس فيهم

- ‌المسلة الحادية والسبعون: تركهم ما أوجب الله عليهم من باب الورع

- ‌المسألتان الثانية والثالثة والسبعون: تقربهم إلى الله بترك الطيبات من الرزق وبترك الزينة

- ‌المسألة الرابعة والسبعون[دَعْوَتُهُمُ النَّاسَ إِلَى الضَّلَالِ

- ‌المسألة الخامسة والسبعون: دعوتهم الناس إلى الكفر، مع العلم

- ‌المسألة السادسة والسبعون: المكر الشديد لتثبيت الشرك ودفع الحق

- ‌المسألة السابعة والسبعون: اقتداؤهم بمن لا يصلح للقدوة

- ‌المسألة الثامنة والسبعون: تناقضهم في محبة الله

- ‌المسألة التاسعة والسبعون: اعتمادهم على الأماني الكاذبة

- ‌المسألة الثمانون: غلوهم في الأشخاص

- ‌المسألة الحادية والثمانون: الغلو في آثار الأنبياء

- ‌المسألة الثانية والثمانون: اتخاذهم لوسائل الشرك

- ‌المسالة الثالثة والثمانون: عكوفهم عند القبور

- ‌المسالة الرابعة والثمانون: تقربهم إلى الله بالذبح عند القبور

- ‌المسألتان الخامسة والسادسة والثمانون: احتفاظهم بآثار المعظمين

- ‌المسال السابعة والثامنة والتاسعة والثمانون، والتسعون: من خصال الجاهلية الباقية في بعض هذه الأمة

- ‌المسألة الحادية والتسعون: قيام مجتمعهم على البغي

- ‌المسالة الثانية والتسعون: الفخر بغير الحق أو بحق

- ‌المسألة الثالثة والتسعون: التعصب الممقوت

- ‌المسألة الرابعة والتسعون: أخذ البريء بجريمة غيره

- ‌المسألة الخامسة والتسعون: تغيير الرجل بنقص في غيره

- ‌المسألة السادسة والتسعون: افتخارهم بأعمالهم الطيبة

- ‌المسألة السابعة والتسعون: افتخارهم بانتسابهم إلى الطيبين مع مخالفتهم لهم

- ‌المسألة الثامنة والتسعون: افتخارهم بصنائعهم على من دونهم في ذلك

- ‌المسألة التاسعة والتسعون: نظرتهم إلى الدنيا نظرة إعجاب

- ‌المسألة المائة: الاستدراك والاقتراح على الله

- ‌المسألة الحادية بعد المائة: احتقارهم للفقراء

- ‌المسألة الثانية بعد المائة: اتهامهم لأهل الإيمان في نياتهم ومقاصدهم

- ‌المسائل: الثالثة، والرابعة، والخامسة، والسادسة، والسابعة، والثامنة بعد المائة

- ‌المسالة التاسعة بعد المائة: تكذيبهم لبعض ماأخبرت به الرسل

- ‌المسألة العاشرة بعد المائة: اعتداؤهم على دعاة الحق

- ‌المسألة الحادية عشرة بعد المائة: الإيمان الباطل

- ‌المسألة الثانية عشرة بعد المائة: تفضيلهم الكفر على الإيمان

- ‌المسألة الثالثة عشرة بعدالمائة: خلط الحق بالباطل ليقبل الباطل

- ‌المسألة الرابعة عشرة بعد المائة[كِتْمَانُ الحَقِّ مَعَ العِلْمِ بِهِ]

- ‌املسألة الخامسة عشرة بعد المائة: القول على اله بغير علم

- ‌السمألة السادسة عشرة بعد المائة: تناقض أقوالهم وتضاربها

- ‌المسألة السابعة عشرة بعد المائة: الإيمان ببعض ما أنزل دون بعض

- ‌المسألة الثامنة عشرة بعد المائة: الإيمان ببعض الرسل دون بعض

- ‌المسألة التاسعة عشرة بعد المائة: المحاجة فيما ليس لهم به علم

- ‌المسألة العشرون بعد المائة: تناقضهم في اتباعهم لغيرهم

- ‌المسألة الثانية والعشرون بعد المائة: موالاة الكفار

- ‌المسائل الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والعشرون بعد المائة:اعتمادهم على الخرافات

الفصل: ‌المسألة الثانية: تفرق أهل الجاهلية في عباداتهم ودينهم

‌المسألة الثانية: تفرق أهل الجاهلية في عباداتهم ودينهم

تفرق أهل الجاهلية في عبادتهم ودينهم

المسألة الثانية

[إِنَّهُم مُتَفرِّقُونَ فِي دِينِهِم، كَمَا قَالَ تَعَالىَ: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 32] وَكَذَلِكَ فِي دُنْيَاهُم، وَيَرَوْنَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الصَّوَابُ، فَأَتَى بالاجْتِمَاع فِي الدِّينِ بِقَوْلِهِ:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]، وَقَالَ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] وَنَهَانَا عَنْ مُشَابَهَتِهِمْ بِقَوْلِهِ: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105]، وَنَهَانَا عَنِ التَّفَرُّقِ فِي الدُّنْيَا بِقَوْلِهِ:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] .

الشرح

هذه هي المسألة الثانية من المسائل التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية، وهي أن أهل الجاهلية كانوا

ص: 32

متفرقين في دينهم وفي دنياهم، وصفتهم التفرق والاختلاف، كما قال سبحانه وتعالى:{وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 31،32] ، هذه صفة أهل الجاهلية من اليهود والنصارى والوثنيين، وسائر الملل الجاهلية كانوا على هذا النمط، متفرقين في دينهم، كل منهم له دين ينادي به وينتسب إليه، النصرانية تدعو إلى النصرانية، واليهودية تدعو إلى اليهودية، وكل من الديانتين يكفّر الديانة الأخرى، كما قال تعالى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 113] الذين لا يعلمون هم المشركون؛ لأنهم لا كتاب لهم وليس لهم دين سماوي، وهم أيضاً يكفر بعضهم بعضاً، ويخالف بعضهم بعضاً. {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [البقرة: 113] أي بين الله سبحانه وتعالى من هو على الحق ومن هو على الباطل، ودين الله واحد، كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وقال:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] .

فدين الله واحد لجميع الخلق من يهودي ونصراني

ص: 33

ووثني وعربي وعجمي، فدين الله واحد، وهو عبادته وحده لا شريك له؛ لكن هؤلاء فرقوا دينهم وصار لكل طائفة منهم دين يختلف عن الدين الآخر، فاليهود أنفسهم كانوا مختلفين فيما بينهم، والنصارى كانوا مختلفين، كانوا فرقاً مختلفة، وهم إلى الآن على اختلاف.

وكذلك العرب الوثنيون متفرقون في عبادتهم، منهم من يعبد الشمس، ومنهم من يعبد القمر، ومنهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد الأولياء والصالحين، ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار.

هذه حالة أهل الجاهلية من كتابيين وأميين، لا يجمعهم دين، وعندهم حزبيات {) كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 32] وهذا من تمام العقوبة والابتلاء؛ كون الإنسان يفرح بما هو عليه من الباطل، كان الواجب العكس، وأن الإنسان يخاف من الضلال، ويخاف من الانحراف، ويخاف من الهلاك، لكن هؤلاء بالعكس {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 32] دون النظر إلى كون ما هو عليه حقاً أو باطلاً، المهم أنها نِحْلَةُ آبائهم وأجدادهم وقومهم وعشيرتهم، ولا فرح الإنسان بالباطل، فهذه عقوبة؛ لأنه إذا فرح بالباطل فلن يتحول عنه.

ص: 34

هذه صفة أهل الجاهلية، والله جل وعلا نهانا عن ذلك، فقال تعالى:{وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً} [الروم: 31، 32] وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام:159]، وأنزل على رسوله {) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] هذا هو الذي شرعه الله، إقامة الدين الذي هو دين نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، صلى الله وسلم عليهم أجمعين، وهو دين الأنبياء جميعاً، لكن ذكر هؤلاء؛ لأنهم أفضل الرسل وأولو العزم، الخمسة، نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد –صلى الله وسلم عليهم –هم أولو العزم وأفضل الرسل، وأخذ الله وسلم عليهم- هم أولو العزم وأفضل الرسل، وأخذ الله ميثاق من جميع الرسل، وعلى الخصوص على هؤلاء الخمسة، قال تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} [الأحزاب:7] وجميع الرسل دينهم واحد، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، هذا دين جميع الرسل عموماً، والخمسة خصوصاً، لا يقبل الاختلاف ولا التفرق، فلا يكن لكل واحد دين، ولا لكل طائفة دين، وإنما دين

ص: 35

الجميع واحد، هو دين الله جل وعلا على جميع الخلق {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] .

جميع الخلق الجن والإنس يجب أن يكون دينهم واحد، هو التوحيد، وإفراد الله بالعبادة جل وعلا، والعبادة بينها على ألسن الرسل، ما وكلها إلى الناس؛ بل أنزل علينا كتاباً وأرسل إلينا رسلاً، وقال: هذا هو الدين، وهذه هي العبادة. وهي توفيقية، والدين توقيفي، ليس من حق الناس أن يشرعوا لهم الدين {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] ، هذا إنكار منه سبحانه وتعالى، عليهم ما شرعه الله، وأنزله في كتبه، وعلى ألسن رسله، عليهم الصلاة والسلام، فهو توقيفي، والرسل إنما هم مبلغون عن الله جل وعلا، يبلغون عن الله ما شرعه لعباده، هذه وظيفة الرسل عليهم الصلاة والسلام، وهم متعبدون بهذا الدين مثل غيرهم، عباد يعبدون الله جل وعلا بهذا الدين الذي شرعه لهم، ولأممهم.

وقال سبحانه وتعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105] هذا نهي لنا نكون مثل أن نكون مثل أهل الجاهلية الذين تفرقوا في دينهم

ص: 36

واختلفوا، ولم يكن هذا عن جهل منهم، وإنما هو عن هوى {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} تركزا البينات واتبعوا الهوى، فالذي حملهم على هذا التفرق هو الهوى-؛ والعياذ بالله- اتخذوا أهواءهم آلهة من دون الله عز وجل، والله جل وعلا لم يترك حجة لأحد، أرسل الرسل وأنزل الكتب {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 38،39] .

فالله جل وعلا ما ترك الناس، منذ أن أهبط آدم إلى الأرض، لم يترك الناس بلا دين وبلا نبي؛ بل ما زال جل وعلا يرسل الرسل متتابعة، ويشرع للناس الدين ويبينه لهم، إلى أن ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، الذي لا تنسخ ملته حتى تقوم الساعة، ومدادها الكتاب والسنة، فما فيه وقت من الأوقات إلا وهناك دين لله جل وعلا جاءت به الرسل، {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] ، {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] ليس لأحد حجة {أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} [المائدة: 19] فالله جل وعلا أقام الحجة على الخلق.

لكن أهل الجاهلية خالفوا ما جاءت به الرسل، لا عن

ص: 37

جهل، وإنما هو عن عناد واتباع للهوى، خصوصاً اليهود والنصارى فهم على علم بذلك؛ ولذلك سماهم أهل الله أهل الكتاب، من باب العيب عليهم، أنهم أهل كتاب وأهل علم، ومع هذا يخالفون أمر الله سبحانه وتعالى، ويتبعون أهواءهم. نهى الله هذه الأمة أن تسلك هذا المسلك الجاهلي، وأمرهم أن يتمسكوا بالدين الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم، والذي سار عليه صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وخلفاؤه الراشدون، هذا هو الدين الذي يجب أن تتمسك به الأمة إلى أن تقوم الساعة، وإذا اختلفوا في شيء أن يردوه إلى الكتاب والسنة {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء:59] .

والاختلاف من طبيعة البشر، لكن الله جل وعلا أحالنا على الكتاب والسنة إذا اختلفنا ولا ندري أيُّنا المصيب، نرجع إلى الكتاب والسنة، فمن شهد له الكتاب والسنة بأنه حق أخذنا به، وما شهدا أنه غير حق تركناه؛ لأن هدفنا اتباع الحق، لا الانتصار للآراء، أو تعظيم الآباء والأجداد أو الشيوخ، ليس هذا شأن المسلمين، الحق هو ضالة المؤمن؛ أين وجده أخذه، الهدف الحق {ِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ} [النساء:59] من بقائكم على النزاع {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59] يعني: أحسن عاقبة. وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى لنا؛

ص: 38

أنه أبقى فينا ما يحل النزاع ويدل على الحق، وهو كتابه، ولهذا قال:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ} [آل عمران: 103] وهو القرآن {جَمِيعاً} ليس بعضكم فقط، بل جميعاً، أي جميع الخلق عموماً، وهذه الأمة خصوصاً {وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران: 103] {شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّار} دين الجاهلية {فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران: 103] أنقذكم بالإسلام، وبهذا القرآن، فاشكروا نعمة الله عز وجل. والاعتصام بحبل الله هو الاعتصام بالكتاب؛ لأن الكتاب هو حبل الله الممدود الذي من تمسك به نجا، ومن أفلت منه هلك.

هذا ما قصّه علينا من حالة أهل الجاهلية: أنهم {فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 32] ، ثم نهانا عن ذلك، نهانا أن نتشبه بهم، ثم أمرنا بالاعتصام بكتابه الذي هو أمان من الاختلاف وأمان من النزاع والهلاك، فلا نجاة إلا بالاعتصام بكتاب الله جل وعلا، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] ، فأهل الجاهلية متفرقون في دينهم، كما قال تعالى:{كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 32] مسرورون بمذهبهم، وإن كان

ص: 39

باطلاً. وكذلك كانوا متفرقين في دنياهم؛ لأن من ضيع الدين ضيع الدنيا، فكانوا في دنياهم متفرقين لا يجمعهم جماعة؛ بل كل قبيلة تحكم نفسها بنفسها، وكل قبيلة تستبيح دماء القبيلة الأخرى وأموالها.

هذه حالة العرب قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، لما ضيعوا دينهم ضيعوا دنياهم، وصار الخوف والقلق والجوع ملازماً لهم دائماً، وكانت الجاهلية كلها حروب، وكلها غارات وثارات، حتى الإخوة يتقاتلون في الجاهلية، فالأوس والخزرج في المدينة هم أخوة من ناحية النسب، قبيلة واحدة قحطانية، لكن قامت بينهم حرب طاحنة استمرت أكثر من مائة سنة، يسمونها "حرب بعاث" بين الأوس والخزرج، وكان اليهود يوقدونها، فلما بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وهاجر إلى المدينة، جمعهم الله به، وطفئت الحروب، وتآخى المسلمون، وصاروا يداً واحدة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا ما ذكَّرهم الله به {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران: 103] ألف الله بين قلوبهم بالإسلام، وانطفأت الحروب التي بينهم، وصلحت دنياهم كذلك بقية قبائل العرب لما دخلوا في الإسلام، صلحت دنياهم لما صلح دينهم، وأمنوا على دمائهم وأموالهم، وصاروا يسيرون في الأرض آمنين،

ص: 40

وصار العربي يلقى العربي الآخر من أي قبيلة فلا يعرض له بسوء؛ بل سادت المحبة بينهم، تآخوا في دين الله عز وجل.

وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] هذه براءة من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، أي: أحزاباً؛ لأن المطلوب أن يكون الدين واحداً، وأن يكون الناس جماعة واحدة على الدين، هذا هو الذي أمر الله به سبحانه وتعالى، فمن كان كذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم يواليه، وهو وليه، أما من فَرَّق دينه وبقي على النزاع، وبقي على أمر الجاهلية، فالرسول بريء منه.

يبقى أن نعرف حقيقة الاختلاف، أو الخلاف، في المسائل الفقهية. فالخلاف واقع وموجود الآن في أمور الفقه، فهل هذا من الاختلاف المذموم؟

نقول: الاختلاف على قسمين:

القسم الأول: الاختلاف في الدين، كالاختلاف في العبادة والعقيدة، وهذا اختلاف مذموم ومحرم؛ لأن الدين ليس مجالاً للاجتهاد، وليس مجالاً للآراء، بل الدين توقيفي، والعقيدة توقيفية، لا مجال للاجتهاد فيها، علينا أن نتمسك بما شرعه الله لنا من الدين ومن العقيدة، دون أن نتدخل بآرائنا واجتهاداتنا، كذلك العبادة توقيفية؛ ما جاءنا به دليل علمنا به،

ص: 41

وما ليس عليه دليل فإنه بدعة يجب علينا تركه؛ لحديث: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"1، وحديث:"وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار" 2، فأمور العقيدة وأمور العبادة وأمور الدين عموماً لا مجال للخلاف فيها أبداً، وإنما تتبع فيها النصوص من الكتاب والسنة، وما كان عليه سلف هذه الأمة.

القسم الثاني: الاختلاف فيما للرأي فيه مجال، أو ما هو مسرح للاجتهاد من مسائل الفقه، واستنباط الأحكام من الأدلة، هذا يقع فيه الاختلاف؛ لأن مدارك الناس تختلف في الاستنباط من النصوص، ومسائل الإجماع محصورة، ولا يجوز مخالفتها. لكن ما ليس عليه إجماع من المسائل الاجتهادية التي هي مجال للاجتهاد فالله جل وعلا أعطى كل عالم بحسب ما خصه به من المدارك والفهم، وما يصل إليه من النصوص، والاجتهاد مشروع في ذلك، وقد حصل الاجتهاد في عهده صلى الله عليه وسلم كما هو معروف، فهذا اختلاف

1 تقدم ص 25.

2 أخرجه النسائي 3/209-210 رقم 1577 واللفظ له وأبو داود 5/12-13 رقم 4607 وابن ماجه 1/30-31 رقم 42 والترمذي 5/44 رقم 2681 بنحوه وأخرج الإمام مسلم قطعة منه "وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" رقم 867.

ص: 42

في الاجتهاد، وليس اختلافاً في العقيدة ولا في الدين، وإنما هو اختلاف في مسائل الفقه، وكان الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يجتهدون ويختلفون. وهذا الاجتهاد على قسمين:

قسم ظهر الدليل مع أحد الطرفين المختلفين فيه فيجب أخذ ما عليه الدليل، وترك ما لم يقم عليه الدليل، فتعرض آراء الفقهاء على الدليل، فما دل عليه الدليل وجب الأخذ به وترك ما خالفه، ويجب على المجتهد الذي لم يوفق للصواب وخالف الدليل أن يقبل الحق ويرجع إلى الصواب، ولا يجوز له الاستمرار في الاجتهاد الخاطئ، ولا يجوز لنا أن نتبعه على الاجتهاد الخاطئ، والأئمة يوصوننا بهذا ويقولون: اعرضوا أقوالنا على الكتاب والسنة، فالإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول:"إذا جاء الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء الحديث عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء الحديث عن التابعين فنحن رجال وهم رجال". هذا كلام الإمام أبي حنيفة، أقدم الأئمة الأربعة.

والإمام مالك رحمه الله يقول: "كلنا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر" يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول رحمه الله: "أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل،

ص: 43

تركنا ما نزل به جبريل على محمد لجدل هؤلاء؟! " هذا كلام الإمام مالك رحمه الله.

ويقول رحمه الله: "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها"، ما هو الذي أصلح أولها؟ الكتاب والسنة. وهذا كلام الإمام مالك رحمه الله.

والإمام الشافعي رحمه الله يقول: "أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن له أن يدعها لقول أحد"، ويقول رحمه الله:"إذا خالف قولي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاضربوا بقول عرض الحائط"، ويقول رحمه الله:"إذا صح الحديث فهو مذهبي". هذه كلمات الشافعي رحمه الله 1.

والإمام أحمد رحمه الله يقول: "عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان! والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا ردَّ بعض قوله – يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم – أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك".

1 انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء 10/34-35.

ص: 44

إذاً، هذه أقوال الأئمة المجتهدين، اجتهدوا عن علم وعن أهلية للاجتهاد، لكن لم يدَّعوا لأنفسهم العصمة، بل أوصوا أن يؤخذ من أقوالهم ما وافق الدليل، فيجب على الحنبلي إذا رأى الدليل مع الشافعي أن يأخذ بقول الشافعي، وواجب على الشافعي إذا رأى الدليل مع الحنفي أن يأخذ بقول الحنفي، وواجب على المالكي إذا رأى الدليل مع الحنبلي أن يأخذ بقول الحنبلي؛ لأن الغرض هو اتباع الدليل، ليس الغرض قول فلان ولا فلان، فلا يتعصبون لأئمتهم، وإنما يتعصبون للدليل فقط. وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم والإمام محمد بن عبد الوهاب كلهم يأمرون بهذا ويقولون: انظروا في أقوال العلماء، فخذوا ما قام عليه الدليل. وكلامهم في هذا معلوم من كتبهم.

هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، لا تعصب، لكن ليس معنى هذا أن نرفض المذاهب ونتركها؛ بل نستفيد من المذاهب ومن فقه الأئمة؛ لأنه ثروة عظيمة، لكن نتابع الدليل، من كان معه دليل أخذنا بقوله، هذا هو الواجب.

ومن لا يعرف الدليل يسأل أهل العلم، قال تعالى:{فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] ؛ لأنك تريد براءة الذمة، فإذا كنت تعرف، فالحمد لله، خذ بالدليل

ص: 45

وإذا كنت لا تعرف تسأل أهل العلم، هذا هو الواجب.

القسم الثاني من هذا: الاجتهاد الفقهي ما لم يظهر فيه دليل مع أحد القولين؛ بل كلا القولين محتمل، فهذا لا إنكار في مسائل الاجتهاد، ما دام لم يترجح شيء منها بالدليل، فلا إنكار على من أخذ بقول من الأقوال؛ شريطة ألا يكون عنده تعصب أو هوى، وإنما قصده الحق؛ لذلك لا ينكر الحنبلي على الشافعي، ولا ينكر الشافعي على المالكي، والأئمة الأربعة وأتباعهم إخوة على مدار الزمان، ولله الحمد، ما وقع بينهم عداوات، ولا وقع بينهم حزازات، وإن وقع شيء من ذلك فإنما هو من بعض المتعصبة، الذين لا عبرة بهم، لكن جمهور أصحاب المذاهب الأربعة – والحمد لله – ليس بينهم عداء ولا تفرق ولا حزازات، يتزاوجون، ويصلي بعضهم خلف بعض، ويسلم بعضهم على بعض، ويتآخون، مع أن عندهم اختلاف في بعض المسائل الاجتهادية المحتملة، التي لم يظهر رجحان بعضها على بعض، ومن هنا قالوا الكلمة المشهور:"لا إنكار في مسائل الاجتهاد".

فإذا كان أهل بلد على قول من هذه الأقوال الاجتهادية التي لم يظهر ما يخالفها ولا ما يعرضها، مجتمعين على رأي من هذه الآراء الفقهية، فلا يسوغ لأحد أن يفرق هذا الاجتماع، بل ينبغي الوفاق وعدم الاختلاف.

ص: 46