الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثالثة والأربعون: جحودهم لقدر الله
…
جحودهم لقدر الله
المسألة الثالثة والأربعون
[جُحُودُ القَدَرِ] .
الشرح
القدر هو: علم الله بالأشياء، وتقديره لها –جل وعلا- قبل وقوعها، وكتابتها في اللوح المحفوظ، ثم خلقه لها. والإيمان بذلك ركن من أركان الإيمان الستة، قال صلى الله عليه وسلم:"الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"1.
وقال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] ، والقدر من أفعال الله سبحانه وتعالى، ولا يقع شيء في ملكه وإلا وقد قدره وشاءه سبحانه، وذلك أن الله عَلِمَ ما كان وما يكون، بعلمه الأزلي الذي هو موصوف به أزلاً وأبداً، ثم كتب ذلك في اللوح المحفوظ، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي
1 أخرجه البخاري (رقم50) ، ومسلم (رقم 10) .
الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22] أي: نخلقها: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:"واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطأك لم يكن ليصيبك 1"، "رفعت الأقلام وجفت الصحف" 2، فلا يكون شيء إلا بمشيئة الله سبحانه وتعالى، ولا يحصل شيء إلا والله خالقه {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] خلق الخير وخلق الشر، وقدر الخير وقدر الشر، وهذا ما يسمى: مراتب الإيمان بالقدر:
أولاً: الإيمان بان الله علم كل شيء.
ثانياً: أن الله كتب كل شيء في اللوح المحفوظ.
ثالثاً: الإيمان بأن الله شاء كل شيء يقع في هذا الكون، فلا يقع شيء إلا بمشيئته سبحانه وتعالى.
رابعاً: الإيمان بأن الله خالق كل شيء، وهو على كل شيء وكيل.
هذا هو الإيمان بالقدر. والجاهلية كانوا ينكرون القدر،
1 أخرجه أبو داود (5/51- 52 رقم 4699، 4700) ، وابن ماجه (1/59- 60 رقم 77) .
2 جزء من حديث وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس: "يا غلام إني معلمك كلمات
…
" أخرجه أحمد (1/293) وصححه الشيخ أحمد شاكر (رقم 2669) وكذا الشيخ الألباني في صحيح الجامع (رقم 7957) .
والدليل على ذلك: ثلاث آيات في القرآن: الأولى في سورة الأنعام: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148]، وفي سورة النحل:{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل: 35]، وفي سورة الزخرف:{وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:20] .
والعلماء في تفسير هذه الآيات على قولين:
القول الأول: أن المراد بقولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 148] : نفي القدر، يقولون: لو كان لله مشيئة ما تركنا نعمل هذه الأشياء. فقصدهم نفي القدر، وأنهم هم الذين يفعلون هذه الأشياء بدون مشيئة الله سبحانه وتعالى، فنفوا القدر، وأضافوا هذه الأفعال إلى أنفسهم واستقلالهم، فيكون هذا نظير مذهب المعتزلة تماماً؛ لأنهم يقولون: ليس لله مشيئة في الكفر والإيمان والخير والشر، وإنما هذا من صنع العباد. فيكون المعتزلة قالوا بقول أهل الجاهلية.
القول الثاني: أن المراد بقولهم: "لو شاء الله ما أشركنا" أي أن الله جل وعلا راضٍ عن أفعالنا هذه؛ لأنه لو لم يرض لم يتركنا نعمل هذا، فيكونون يؤمنون بالقدر، لكن يحتجون به على تسويغ كفرهم، بل يبلغ الأمر إلى أن يقولوا:
إن هذا طاعة لله؛ لأن الله شاء، ونحن أطعنا مشيئته وأطعنا قدره.
فالقول الثاني – وهو الاحتجاج بالقدر على فعلهم القبيح، وأن الله شاء ذلك منهم – هو قول الجبرية، حيث أثبتوا القدر واحتجوا به على استحسان أفعالهم القبيحة، ويقولون: إن العبد مجبر على أفعاله. فهم ورثة أهل الجاهلية في هذا.
فالآية تدل على أحد معنيين، إما نفي القدر، وإما إثبات القدر والاحتجاج به على الله سبحانه وتعالى، فرد الله عليهم بقوله:{قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام: 148] ، أي ما هي الحجة على القول – وهو أن الله لم يشأ هذا الكفر -؟
وعلى التفسير الثاني: ما هي الحجة على أن الله رضي لكم هذه الأفعال، وهذا الكفر، وهذا الشرك، وهذه الفواحش؟ ما دليلكم أن الله رضيها؟ أين الدليل؟ {هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 148، 149] ، الله جل وعلا يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، لحكمة منه سبحانه وتعالى، ويعلم من يستحق الهداية، ويعلم من لا يستحق الهداية، فلا يضع الهداية إلا في موضعها الصحيح اللائق بها. ورد عليهم بأنه لو كان راضياً بأفعالهم لما
بعث الرسل بإنكار الشرك، والأمر بالتوحيد:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] ، فلو كان راضياً بعبادة الطاغوت وراضياً بالكفر والشرك – على زعمكم – لما أرسل الرسل تنهى عن ذلك، فدل هذا على أنه لا يرضى الكفر ولا الشرك ولا المعاصي والمخالفات، بل يبغضها وينكرها سبحانه وتعالى.
وكذلك في سورة الزخرف رد عليهم بقوله: {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف: 20]، وبقوله:{هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام: 148] ، فهم يتقوّلون على الله سبحانه وتعالى ما لا يعلمون، وهذه الأمور لا يجوز الكلام فيها إلا بدليل من الشارع، دليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يعتمد فيها على العقول والأفكار والآراء.