المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌سبب تأليفه للكتاب ومقاصده - شرح مقدمة التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي

[مساعد الطيار]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الشرح

- ‌سبب تأليفه للكتاب ومقاصده

- ‌الباب الأولنزول القرآن الكريم

- ‌جمع المصحف وكتابته

- ‌ترتيب السور

- ‌نقط المصحف

- ‌أسماء القرآن

- ‌الباب الثانيالسور المكية والمدنية

- ‌الباب الثالثفي المعاني والعلوم التي تضمَّنها القرآن

- ‌الباب الرابعفنون العلم التي تتعلق بالقرآن

- ‌العلم الأول من علوم القرآن: التفسير

- ‌الإجماع والاختلاف في التفسير

- ‌الفرق بين التفسير والتأويل

- ‌العلم الثاني من علوم القرآن: القراءات

- ‌العلم الثالث: أحكام القرآن

- ‌العلم الرابع: النسخ

- ‌العلم الخامس: الحديث

- ‌العلم السادس: القصص

- ‌العلم السابع: التصوف

- ‌العلم الثامن: أصول الدين

- ‌العلم التاسع: أصول الفقه

- ‌العلم العاشر: اللغة

- ‌العلم الحادي عشر: النحو

- ‌العلم الثاني عشر: علم البيان

- ‌الباب الخامسأسباب الخلاف بين المفسرين ووجوه الترجيح

- ‌وجوه الترجيح

- ‌الباب السادسطبقات المفسرين

- ‌الباب السابعفي الناسخ والمنسوخ

- ‌الباب الثامنالقراءات

- ‌الباب التاسعالوقف

- ‌الباب العاشرالفصاحة والبلاغة وأدوات البيان

- ‌الباب الحادي عشرإعجاز القرآن

- ‌الباب الثاني عشرفي فضائل القرآن

- ‌فهرس المصادر والمراجع

الفصل: ‌سبب تأليفه للكتاب ومقاصده

‌سبب تأليفه للكتاب ومقاصده

قال المصنف رحمه الله (1): الحمد لله العزيز الوهَّاب، مالك الملوك وربِّ الأرباب، هو الذي أنزل على عبده الكتاب هدًى وذكرى لأولي الألباب، وأودعه من العلوم النافعة، والبراهين القاطعة غاية الحكمة وفصل الخطاب، وخصَّه بالخصائص العليَّة، واللطائف الخفيَّة، والدلائل الجليَّة، والأسرار الربَّانية العُجاب، بكل عجب عجاب، وجعله في الطبقة العليا من البيان حتى أعجز الإنسان والجانّ، واعترف زعماء أرباب اللسان بما تضمَّنه من الفصاحة والبراعة والبلاغة والإعراب والإغراب، ويسَّر حفظه في الصدور، وضمن حفظه من التبديل والتغيير، فلم يتغير، ولا يتغير على طول الدهور وتوالي الأحقاب، وجعله قولاً فصلاً، وحكماً عدلاً، وآية بادية، ومعجزة باقية يشاهدها من شهد الوحي ومن غاب، وتقوم بها الحجة للمؤمن الأوَّاب، والحجَّة على الكافر المرتاب، وهدى الخلق بما شرع فيه من الأحكام، وبيَّن من الحلال والحرام، وعلَّم من شعائر الإسلام، وصرف من النواهي والأوامر، والمواعظ والزواجر، والبشارة بالثواب، والنذارة بالعقاب، وجعل أهل القرآن أهل الله وخاصَّته، واصطفاهم من عباده وأورثهم الجنة وحسن المآب.

فسبحان المولى الكريم الذي خصَّنا بكتابه، وشرَّفنا بخطابه، فيا له من نعمة سابغة، وحجة بالغة، أوزعنا الله الكريم القيام بواجب شكرها، وتوفية حقها، ومعرفة قدرها، وما توفيقي إلا بالله هو ربي لا إله إلا هو

(1) كُتبَت هذه المقدمة اعتماداً على تحقيق الدكتور: محمد بن سيدي محمد بن مولاي للتفسير الذي طبع أثناء تنقيح هذا الشرح ومراجعته، فوثقت هذه المقدمة منه.

ص: 7

عليه توكلت وإليه متاب، وصلاة الله وسلامه وتحياته وبركاته وإكرامه على من دلَّنا على الله، وبلَّغنا رسالة الله، وجاءنا بالقرآن العظيم وبالآيات والذكر الحكيم، وجاهد في الله حق الجهاد، وبذل جهده في الحرص على نجاة العباد، وعلَّم ونصح وبيَّن وأوضح حتى قامت الحجة، ولاحت المحَجَّة، وتبيَّن الرشد من الغي، وظهر طريق الحق والصواب، وانقشعت ظلمات الشك والارتياب، ذلك سيدنا ومولانا محمد النبي الأمي القرشي الهاشمي المختار من لُباب اللباب، والمصطفى من أطهر الأنساب، وأشرف الأحساب، الذي أيده الله بالمعجزات الظاهرة، والآيات الباهرة، والجنود القاهرة، والسيوف الباترة الغضاب، وجمع له بين شرف الدنيا والآخرة، وجعله قائداً للغر المحجَّلين والوجوه الناضرة، فهو أول من يشفع يوم الحساب، وأول من يدخل الجنة ويقرع الباب، فصلى الله عليه وعلى آله الطيبين وأصحابه الأكرمين خير أهل وأكرم أصحاب، صلاة زاكية نامية لا يحصر مقدارها العد والحساب، ولا يبلغ إلى أدنى وصفها ألسنة البلغاء ولا أقلام الكتَّاب، أما بعد:

فإن علم القرآن العظيم هو أرفع العلوم قدراً، وأجلها خطراً، وأعظمها أجراً، وأشرفها ذكراً، وأن الله أنعم عليَّ بأن شغلني بخدمة القرآن وتعلُّمه وتعليمه، وشغفني بتفهم معانيه وتحصيل علومه، فاطلعت على ما صنفه العلماء رضي الله عنهم في تفسير القرآن من التصانيف المختلفة الأوصاف، المتباينة الأصناف، فمنهم من آثر الاختصار، ومنهم من طوَّل حتى أكثر الأسفار، ومنهم من تكلَّم في بعض فنون العلم دون بعض، ومنهم من اعتمد على نقل أقوال الناس، ومنهم من عوَّل على النظر والتحقيق والتدقيق، وكل أحد سلك طريقاً نحاه، وذهب مذهباً ارتضاه، وكلاًّ وعد الله الحسنى، فرغبتُ في سلوك طريقهم، والانخراط في سلك فريقهم، وصنفتُ هذا الكتاب في تفسير القرآن العظيم وسائر ما يتعلق به من العلوم، وسلكت مسلكاً نافعاً؛ إذ جعلته وجيزاً جامعاً، قصدت به أربع مقاصد تتضمن أربع فوائد:

ص: 8

الفائدة الأولى: جمع كثير من العلم في كتاب صغير الحجم؛ تسهيلاً على الطالبين، وتقريباً على الراغبين، فلقد احتوى هذا الكتاب على ما تضمَّنته الدواوين الطويلة من العلم ولكن بعد تلخيصها وتمحيصها، وتنقيح فصولها، وحذف حشوها وفضولها، ولقد أودعته من كل فن من فنون علم القرآن اللباب المرغوب فيه دون القشر المرغوب عنه من غير إفراط ولا تفريط، ثم إني عزمت على إيجاز العبارة، وإفراط الاختصار، وترك التطويل والتكرار.

الفائدة الثانية: ذكر نُكت عجيبة وفوائد غريبة قلَّما توجد في كتاب؛ لأنها من بنات صدري ونتائج فكري، ومما أخذته عن شيوخي رضي الله عنهم، أو مما التقطته من مستظرفات النوادر، الواقعة في غرائب الدفاتر.

الفائدة الثالثة: إيضاح المشكلات، إما بحل العُقَد المقفلات، وإما بحسن العبارة ورفع الاحتمالات وبيان المجملات.

الفائدة الرابعة: تحقيق أقوال المفسرين والتفرقة بين السقيم منها والصحيح، وتمييز الراجح من المرجوح؛ وذلك أن أقوال الناس على مراتب، فمنها الصحيح الذي يعوَّل عليه، ومنها الباطل الذي لا يلتفت إليه، ومنها ما يحتمل الصحة والفساد، ثم إن هذا الاحتمال قد يكون متساوياً أو متفاوتاً، والتفاوت قد يكون قليلاً أو كثيراً. وإني جعلت لهذه الأقسام عبارات مختلفة تعرف بها كل مرتبة وكل قول، فأدناها ما أُصرِّحُ بأنه خطأ أو باطل، ثم ما أقول فيه: إنه ضعيف أو بعيد، ثم ما أقول: إن غيره أرجح منه أو أقوى أو أظهر أو أشهر، ثم ما أقدم غيره عليه إشعاراً بترجيح المتقدم، أو بالقول فيه: قيل، كذا قصداً للخروج من عهدته.

وأما إذا صرحت باسم قائل القول فإني أفعل ذلك لأحد أمرين: إما للخروج عن عهدته، وإما لنصرته إذا كان قائله ممن يُقتدى به، على أني لا أنسب الأقوال إلى أصحابها إلا قليلاً؛ وذلك لقلة صحة إسنادها إليهم، أو لاختلاف الناقلين في نسبتها إليهم، وأما إذا ذكرت شيئاً دون حكاية قوله عن أحد؛ فذلك إشارة إلى أني أتقلده وأرتضيه سواء كان من تلقاء

ص: 9

نفسي أو مما أختاره من كلام غيري، وإذا كان القول في غاية السقوط والبطلان لم أذكره تنزيهاً للكتاب عنه، وربما ذكرته تحذيراً منه، وهذا الذي ارتكبت من الترجيح والتصحيح مبني على القواعد العلمية، أو على ما تقتضيه اللغة العربية، وسنذكر بعد هذا باباً في موجبات الترجيح بين الأقوال إن شاء الله.

وسميت هذا الكتاب كتاب «التسهيل لعلوم التنزيل» ، وقدمت في أوله مقدمتين: إحداهما: في أبواب نافعة، وقواعد كلية جامعة، والأخرى: فيما كثر دوره من اللغات الواقعة.

وأنا أرغب إلى الله العظيم الكريم أن يجعل تصنيف هذا الكتاب عملاً مبروراً، وسعياً مشكوراً، ووسيلة توصلني إلى جنات النعيم، وتنقذني من عذاب الجحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (1).

(1) انظر التسهيل بتحقيق الدكتور: محمد بن مولاي 1/ 47 - 50.

ص: 10

بدأ المؤلف كتابه بالحمد والثناء على الله سبحانه، والصلاة والسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر أن علم القرآن هو أرقى العلوم قدراً، وأجلها خطراً، وأعظمها أجراً، وهذه القضية لا يكاد يختلف عليها علماء المسلمين، فعِلم القرآن هو أجل العلوم الإسلامية؛ لأن القرآن هو كلام الله سبحانه، ومنه تؤخذ الشريعة والعقائد، وكل علوم الإسلام ترجع إلى هذا الكتاب، وذكر أن العلماء قد خدموه إقراء وتفسيراً وتدبراً واستنباطاً، وذكر أيضاً أن من نِعم الله عليه أنه شغله بخدمة القرآن وتعلمه وتعليمه، وهذا نراه كثيراً في كلام العلماء، وهو التنبيه على ما منَّ الله عليهم به من التفرغ لخدمة كتاب الله سبحانه وتعالى بأنواع من الخدمة، فنجد بعض العلماء قد تفرغ للإقراء فقط؛ يصحِّح للطلاب القراءة، ولا تكاد تجده يُحسن غير هذا، وهذه نعمة، فلو أردت منه غير هذا ما استطاع، فهذا علم من علوم القرآن قد ميَّز به سبحانه بعض الناس، وهناك أناس قد تفرغوا لتفسيره والاستنباط منه.

ثم ذكر تصنيفات العلماء في التفسير، وذكر لها أوصافاً، كأنه يريد أن يبين السبب الموجب لتأليفه التفسير، ولعلنا نذكر لكل نوع مثالاً من هذه المصنفات التي صُنِّفت قبل ابن جزي ـ أي: قبل عام 741هـ.

قوله: (ومنهم من آثر الاختصار) مثاله: تفسير الوجيز للواحدي (ت468هـ).

قوله: (ومنهم من طوَّل حتى أكثر الأسفار) مثاله: تفسير الرازي (ت606هـ).

قوله: (ومنهم من تكلم في بعض فنون العلم دون بعض) مثاله: ابن العربي (ت543هـ) في (أحكام القرآن) حيث خصَّه بنوع مما يتعلق بالتفسير وإن كان الكتاب ينحو منحًى فقهياً لكن المقصد من ذلك أنه تكلم على جزء من علم التفسير، وكذا كتب غريب القرآن أو كتب معاني القرآن التي اختصت بنوع من علم التفسير دون الأخذ بكل معلومات التفسير.

قوله: (ومنهم من اعتمد على نقل أقوال الناس) مثاله: الثعلبي (ت427هـ)، وابن أبي حاتم (ت327هـ)، والماوردي (ت450هـ) وابن الجوزي (ت597هـ)، فهؤلاء يُعدون نَقَلَةً للتفسير.

قوله: (ومنهم من عوَّل على النظر والتحقيق والتدقيق) مثل: ابن جرير (ت310هـ)، وابن عطية (ت542هـ)، وغيرهم.

المقصود أن هذه الأوصاف العامة التي ذكرها يمكن أن توصف بها بعض التفاسير، وبعضها قد يجتمع فيه أكثر من وصف.

ثم قال بعد ذلك: (فرغبت في سلوك طريقهم، والانخراط في مساق فريقهم).

يثير قوله هذا سؤالاً، وهو: ما الفائدة أن يُخرج العالم تفسيراً، فالتفاسير كثيرة؟

ص: 11

الجواب: إن من أهم المقاصد التي يقصدها المؤلف ويرجوها، بركةَ ذلك العمل؛ بأن يكون ممَّن ألف في التفسير، وممَّن يعتمد الناس كتابه في الرجوع إليه والاستفادة منه، فيترحَّمون عليه، لذا فإنه ينظر في ذلك إلى الأجر الأخروي؛ ولهذا لا نستغرب عندما نرى علماء المسلمين يحرصون على أن يُخلِّفوا أثراً بعدهم، ولقد كان من أثر ذلك أن حرص العلماء على تخليد علومهم في كتب تناقلتها الأجيال، حتى إننا نجد اليوم من التفاسير ما كُتب في القرن الهجري الأول والثاني والثالث والرابع

إلخ، وكثرة المخطوطات في تفسير القرآن تدل على أن هذا المقصدَ من المقاصدِ المهمةِ للعالِمِ؛ لأنه يريد أن يخلف أثراً بعده يستفاد منه.

قوله: (وصنفت هذا الكتاب في تفسير القرآن العظيم، وسائر ما يتعلق به من العلوم).

يظهر من قوله هذا أنه قصد أن يكون كتابه في علمين:

الأول: تفسير القرآن، وهو الذي عبَّر عنه بقوله:(وصنفت هذا الكتاب في تفسير القرآن العظيم).

الثاني: علوم القرآن ممَّا عدا التفسير، وهو الذي عُطفت عليه جملة:(وسائر ما يتعلق به من العلوم)، بل قد يدخل في هذه العبارة كل ما يتعلق بالقرآن من معلومات، سواءٌ أكانت من علوم القرآن والتفسير، أم كانت من علوم أخرى، لكن سيأتي في عباراته ما يدلُّ على أنه يريد علوم القرآن العظيم (1).

قوله: (وسلكت مسلكاً نافعاً؛ إذ جعلته وجيزاً جامعاً).

لو قُمتَ بموازنة بين تفسير ابن جُزي وبين أحد التفاسير التي ذكرها مثل: تفسير المهدوي (ت440هـ) أو مكي بن أبي طالب (ت437هـ) أو

(1) ينظر التعليق على قوله: (ولقد أودعته من كل فن من فنون علم القرآن)(ص14).

ص: 12

غيرهما فإنك ستجدُ أن تلك التفاسير أطول من تفسيره بكثير، وأن طريقتَها في التصنيف الاستيعابُ والاستطرادُ، وهي خلافُ طريقة ابن جُزي الذي عَمَد إلى الاختصار، فالاستطرادات عنده قليلة بالنسبة للكمِّ الذي كتبه في هذا التفسير؛ لذا يصح أن يطلق عليه: التفسير الوجيز الجامع، فهو جامع للأقوال مع وجازة العبارة.

قوله: (قصدت فيه أربع مقاصد) هنا فائدة مهمة وهي أنه يحسن بنا أن نعرف مقاصد المؤلفين في تآليفهم، فابن جزي ألف كتابه هذا لمقاصد أربع ذكرها، وكان قد سبق أن أشار إلى مقصد عام، وهو أن ينخرط في سلك المفسرين.

وهذه المقاصد الأربعة التي نصَّ عليها تُعدُّ خطة العمل التي أراد ابن جُزيٍّ أن يقوم عليها كتابه، فكأنه يقول: إن هذه المقاصد ستكون موجودة في كتابه (1).

فالمؤلف أراد أن يحقق أربع فوائد وهي: (الفائدة الأولى: جمع كثير من العلم في كتاب صغير الحجم؛ تسهيلاً على الطالبين، وتقريباً على الراغبين) وهذه الفائدة تتعلق بقضية الإيجاز؛ أي: أنه قصد أن

(1) فائدة في دراسة منهج المفسر:

حينما يريد الباحث أن يدرس منهج مفسِّر، والمفسِّر قد نصَّ على خطة عمله في مقدمة التفسير ـ كما فعل ابن جُزيٍّ، فإنه سيحاكمه إلى مقاصده في تأليف كتابه، ولا يصحَّ ـ كما يقع من بعض الباحثين ـ أن نحاكمه إلى مقاصد أخرى لم ينصَّ عليها، وهذه قاعدة علمية يجب على الباحث أن ينتبه لها، فيقف مع مقاصد المؤلف وشرطه في كتابه دون أن يفتعل عليه غيرها ويحاكمه إليها، فإذا قال المؤلف ـ مثلاً ـ:«اشترطت في كتابي هذا أن أذكر رواية من روايات المذهب» ، وأطلق فلا يجوز أن يأتي إنسان ويقول:«من عيوب المؤلف أنه يذكر روايات ضعيفة في المذهب» ؛ فهذا الاستدراك غير صحيح؛ لأن المؤلف لم يشترط أن يميز الصحيح والضعيف، وإنما اشترط على نفسه أن يذكر رواية في المذهب، فإذا لم يذكر رواية من روايات المذهب وذكر رواية من روايات مذهب آخر فإنه يقال: إنه خالف شرطه، فذكر من غير روايات المذهب مع وجود رواية في المذهب.

ص: 13

يكون الكتاب صغير الحجم سهلاً على من أراد أن يطلب علم التفسير، وهذا المقصد هو الذي أراده الواحدي (ت468هـ) لما كتب كتابه:(الوجيز) ليسهل على من أراد أن يقرأ التفسير استظهار كتابه أو حفظه، قال: «

إلى إيجاز كتاب في التفسير، يقربُ على من تناوله، ويسهل على من تأمله، من أوجز ما عمل في بابه، وأعظمه فائدة على متحفِّظيه وأصحابه.

وهذا كتاب أنا فيه نازل إلى درجة أهل زماننا، تعجيلاً لمنفعتهم، وتحصيلاً للمثوبة في إفادتهم ما تمنَّوه طويلاً، فلم يُغْنِ عنهم أحدٌ فتيلاً

» (1).

إذن هذا المقصد يحسن أن يكون مقصداً لمن أراد أن يؤلف لعامة الناس، فليس كل الناس يستطيع أن يقرأ المجلدات الكبار، وكأن ابن جُزيٍّ رحمه الله أراد أن يقرِّب التفسير للراغبين فيه فقال:(صغير الحجم تسهيلاً على الراغبين).

ثم وصف كتابه فقال: (فلقد احتوى هذا الكتاب على ما تضمنته الدواوين الطويلة من العلم، ولكن بعد تلخيصها وتمحيصها، وتنقيح فصولها، وحذف حشوها وفضولها).

كأن المؤلف ينتقد بعض الكتب ـ وإن لم يذكرها ـ ويشير إلى أن فيها مشكلة من جهة الإطالة في العبارة أو الحشو، والمراد به: زيادة ما لا داعي له، وكأنه أراد أن يقول:(سأجعل كتابي مختصراً)، ويدل لذلك العبارة التي ستأتي في قوله:(من غير إفراط ولا تفريط).

ثم قال بعد ذلك: (ولقد أودعته من كل فن من فنون علم القرآن) نلاحظ أنه قال أولاً: (صنفت هذا الكتاب في تفسير القرآن العظيم وسائر

(1) الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، للواحدي، تحقيق صفوان داوودي، ص87.

ص: 14

ما يتعلق به من العلوم) ثم رجع مرة أخرى وقال: (ولقد أودعته من كل فن من فنون علم القرآن اللباب المرغوب فيه دون القشر المرغوب عنه).

وهذا يشير إلى ما ذكرته سابقاً من أن إدخال مسائل بعض أنواع علوم القرآن من مقاصد ابن جزي في تفسيره هذا.

ثم قال: (من غير إفراط ولا تفريط) كأنه يقول: جعلته وجيزاً مختصراً ليس فيه ذلك الحشو ولا ذلك التطويل.

ثم قال: (ثم إني عزمت على إيجاز العبارة وإفراط الاختصار وترك التطويل والتكرار)، بدأ بذكر الأسلوب الكتابي الذي سينتهجه في عباراته في هذا التفسير (1).

ثم قال رحمه الله: (الفائدة الثانية: ذكر نكت عجيبة وفوائد غريبة قلما توجد في كتاب؛ لأنها من نبات صدري، وينابيع ذكري، ومما أخذته عن شيوخي رضي الله عنهم، أو مما التقطته من مستظرفات النوادر، الواقعة في غرائب الدفاتر).

(1) وقد لاحظ صاحب كتاب «منهج ابن جزي في التفسير» أن هذا الإفراط في الاختصار قد يصل إلى أن يكون فيه غموض في العبارة، والكاتب ـ وهو يكتب أحياناً ـ يكتب ما في ذهنه، فيُحسُّ ـ وهو يكتب ـ أنه قد أبان العبارة، وأن من سيقرأ له سيفهم عنه، والواقع أن العبارة قد تكون مضغوطة جداً وتحتاج إلى فكٍّ واستشراح، لذا تجد في بعض عبارات العلماء بسبب هذا الإفراط في الاختصار وضغط العبارة؛ تجد أن من يأتي بعدهم يتعبُ، بل قد يحارُ في فَكِّ هذه العبارة.

ومن كُتب التفسير التي تتميز بضغط العبارة، واحتياجها إلى استشراح وفكٍّ = تفسير البيضاوي (ت685هـ)، ففي بعض عباراته ضغط شديد يصل إلى حد الغموض؛ ولعل هذا الغموض في العبارة أحد أسباب اعتماد هذا الكتاب منهجاً تدريسياً عند علماء الأتراك بحيث إن الطالب يحتاج إلى المعلم لفك عبارات هذا الكتاب.

ونجد هذا أيضاً في «تفسير الجلالين» في بعض المواطن، فالإفراط في الاختصار إذا كان مؤدياً إلى الغموض فإنه يعد من عيوب التأليف؛ لأن المقصد من التأليف أن يفهم الطالب، وليس المقصد أن يبحث الطالب عن المراد من هذه العبارة ولماذا وردت هكذا؟

ص: 15

يتحدث المؤلف عن المقصد الثاني من هذا التأليف، وهو (ذكر نكت عجيبة وفوائد غريبة)، وغالباً ما تكون في باب المُلَح أو الاستنباطات الطريفة.

ثم قال عنها: (قلما توجد في كتاب) أي: لا يوجد كتاب يحوي هذه النكت، ولا يزال الناس إلى اليوم ينشدون كتاباً يجمع هذه النكت، وهذا صعب، فهي كثيرة جداً، ولا يمكن حصرها.

ثم ذكر رحمه الله مصادره في هذه النكت والفوائد:

1 -

قال: (من بنات صدري ونتائج فكري).

وهذا ما يقع له حسب اجتهاده وتدبره في الكتاب العزيز، ولا يعني هذا ألا يكون قد سُبِق إليها، لكنه حسب علمه لم يطلع عليها، وإن وقع لك وأنت تقرأ كتابه شيئاً ادَّعى افتراعه وابتداعه، ثم رأيته لأحد ممن تقدمه، فاعلم أن الأمر كما يقال:(وقع الحافر على الحافر)، فاتفق هو مع المتقدم عليه دون اطلاع سابق، وذلك كثير في كتب أهل العلم.

2 -

قال: (مما أخذته عن شيوخي بالمشافهة، فهي غير مسطرة في كتاب).

هذه الدرر التي يأخذها عن شيوخه كالتي يصل إليها بمحض اجتهاده، وقيدها عنده أنها غير مدونة في كتب أهل العلم، فهي من بنات أفكار شيوخه، لكن لا يلزم ألا يكون وصل إليها أحد قبلهم ـ كما مرَّ التنبيه على ذلك في الفقرة السابقة.

ومن باب الفائدة، فإن الطالب لو جعل له كرَّاساً يجمع فيه الفوائد واللطائف التي يسمعها من أساتذته في شتى العلوم والمعارف لحفظ من فوائد العلم شيئاً كثيراً.

ولقد كان عمِل بهذه الفكرة أحد أصحابي، ورأيت كُنَّاشةً جمع فيها فوائد ولطائف وأشعار مما كان يسمعه من الأستاذين في سني دراسته في

ص: 16

الكلية، وكان فيها من اللطائف والمعارف الشيء الكثير، حتى كأنك تسير في حديقة غنَّاء مليئة بأنواع الثمار والفواكه والزهور.

وأذكر من فوائد ما علِق في ذاكرتي من أثناء دراستي في الجامعة تعليقاً لأحد أساتذة التربية على قوله تعالى: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير: 22]، قال ما معناه: جاء لفظ صاحب للردِّ على زعمهم بأن محمداً صلى الله عليه وسلم مجنون؛ إذ كيف تتهمونه بالجنون، وهو مصاحب لكم تعلمون جميع أحواله، وأنتم أشد الناس معرفة بصدقه وأمانته.

3 -

قال: (أو مما التقطته من مستظرفات النوادر الواقعة في غرائب الدفاتر).

أي: أنه أخذها من مصادر لا يتصور أنها من مراجع علم التفسير، فقد تكون من كتاب فقهي أو كتاب أدبي أو كتاب لغوي، والقارئ قد يقع على شيء من علم التفسير في غير مظانِّه، ومن هذه الكتب ـ على سبيل المثال ـ: كتاب «نتائج الفكر» للسيهلي (ت581هـ)، فهذا الكتاب ـ وهو في علم النحو ـ لا يُتوقَّع أن يوجد فيه شيء مما يتعلق بالتفسير؛ فأنَّى لك أن تكتشف أن فيه من النكت والطرائف والفوائد التفسيرية الشيء الكثير العجيب، وإنك واجد فيه مِنْ براعة السهيلي في استنباط الكثير من بلاغة القرآن ولطائف لغته ودقائقها الشيء الكثير، وقد استفاد منه ابن القيم (ت751هـ) كثيراً في كتابه:«بدائع الفوائد» .

ذكر السهيلي (ت581هـ) بحثاً ماتعاً حول سؤال قال فيه: (فإن قيل: كيف جاز {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1]، {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} [المزمل: 8]، والمقصود بالذكر والتسبيح هو الرب تبارك وتعالى، لا اللفظ الدال عليه؟

قلنا: هذا سؤال قد كعَّ عنه أكثر المحصِّلين، ونكتة عجز عنها أكثر المتأولين

والقول السديد في ذلك ـ والله المستعان ـ أن نقول: الذِّكر

ص: 17

على الحقيقة محله القلب؛ لأنه ضدُّ النسيان، والتسبيح نوع من الذكر، فلو أطلق الذكر والتسبيح لما فُهِم منه إلا ذلك، دون اللفظ باللسان، والله عز وجل إنما تعبَّدنا بالأمرين جميعاً، ولم يتقبل من الإيمان إلا ما كان قولاً باللسان، واعتقاداً بالجَنان، فصار معنى الآيتين على هذا: اذكر ربك وسبح ربك بقلبك ولسانك، ولذلك أقحم الاسم تنبيهاً على هذا المعنى حتى لا يخلو الذكر والتسبيح من اللفظ باللسان؛ لأن الذكر بالقلب مُتَعَلَّقُه المسمى المدلول عليه بالاسم دون سواه، والذكر باللسان متعلَّقه اللفظ وما يدلَّ عليه؛ لأن اللفظ لا يراد لنفسه، فلا يتوهم أحد أن اللفظ هو المسبَّح دون ما يدل عليه من المعنى، هذا ما لا يذهب إليه خاطر، ولا يتوهَّمُه ضمير، فقد وضحت تلك الحكمة التي من أجلها أُقحِم ذكر الاسم، وأنه به كملت الفائدة، وظهر الإعجاز في النظم والبلاغة في الخطاب.

فهذه نكتة لمتدبرها خير من الدنيا بحذافيرها، والحمد لله على ما فَهَّمَ وعَلَّم) (1).

ومن لطيف ما نقله ابن القيم (ت751هـ) عن شيخه ابن تيمية (ت728هـ) في هذه الآية قوله: «وعبَّر لي شيخنا أبو العباس ابن تيمية ـ قدس الله روحه ـ عن هذا المعنى بعبارة لطيفة وجيزة فقال: المعنى: سبِّح ناطقاً باسم ربك متكلماً به، وكذا سبح اسم ربك؛ «المعنى: سبِّح ربك ذاكراً اسمه، وهذه الفائدة تساوي رحلة، لكن لمن يعرف قدرها، فالحمد لله المنان بفضله ونسأله تمام نعمته» (2).

ثم قال رحمه الله: (الفائدة الثالثة: إيضاح المشكلات إما بحل العقد المقفلات، وإما بحسن العبارة ورفع الاحتمالات وبيان المجملات).

(1) نتائج الفكر، للسهيلي، تحقيق محمد البنا، ص44، 45.

(2)

بدائع الفوائد 1/ 19.

ص: 18

يشير بهذه الفائدة إلى أن هناك مشكلات؛ سواء ما يقال فيه: «مشكل القرآن» أو فيما يُشكِل من المسائل العلمية التي يذكرها العلماء، فنبَّه أنه سيعمل على حلِّ هذه العقد المقفلات:

• إما بحسن العبارة فتكون واضحة بحيث تنفك المشكلة، ويزول الغموض.

• وإما برفع الاحتمالات بأن يذكر القول الصواب فيها، إن كانت تحتاج إلى بيان القول الصواب، أو بأن يبين عن المراد باللفظة أو الجملة إذا احتملت أكثر من معنى.

وإما ببيان المجملات بأن يذكر المعنى البيِّن من هذه الأقوال التي فيها إجمال، فحسن العبارة وطريقة التعبير عنها كفيل بإيضاح وإفهام هذه القضايا المشكلة.

ثم تحدث ابن جزي عن الفائدة الرابعة فقال: (الفائدة الرابعة: تحقيق أقوال المفسرين والتفرقة بين السقيم منها والصحيح، وتمييز الراجح من المرجوح ....).

المؤلف جعل من مقاصد التأليف عنده تحقيق أقوال المفسرين أي: تمييز الصحيح من الضعيف، وتمييز الصحيح من الباطل، وهذا المقصد موجود في بعض التفاسير؛ لأن بعض الكتب يغلب عليها النقل وعدم التحقيق، وأما الكتب التي تتميز بالتحقيق فمن أهمها: تفسير الإمام الطبري (ت310هـ) رحمه الله تعالى فهو من الكتب التي تعتمد تمييز الراجح من المرجوح والتحقيق في أقوال المفسرين، وكذلك تفسير ابن عطية (ت542هـ)، وتفسير القرطبي (ت671هـ)، وتفسير البحر المحيط لأبي حيان (ت745هـ)، وتفسير ابن كثير (ت774هـ)، وتفسير الألوسي (ت1270هـ)، وتفسير الطاهر ابن عاشور (ت1393هـ) وهو «التحرير والتنوير» ، هذه بعض الكتب التي عملت بما يذكره المؤلف وإن لم تذكر ـ

ص: 19

في الغالب ـ نصّاً منظماً كنصِّ المؤلف، وهذه الكتب المحررة ستجد فيها نقاشات علمية وترجيحات وتحريرات في التفسير، فابن جزي قدَّم تنظيراً متكاملاً، ثم سيذكر التطبيقات في التفسير.

وقد جعل المؤلف أقوال الناس على مراتب؛ منها:

1 -

الصحيح الذي يعول عليه.

2 -

والباطل الذي لا يلتفت إليه (1).

3 -

وما يحتمل الصحة والفساد، ثم يذكر مع هذا الاحتمال قد يكون متساوياً وقد يكون متفاوتاً، والتفاوت قد يكون قليلاً أو كثيراً.

(1) مقاصد التأليف جزء من المنهج، والمؤلف أراد بكتابه أن يكون وجيزاً جامعاً محققاً للأقوال فيه، ولكن عند النظر في تعامله رحمه الله مع هذه المقاصد وتطبيقه لها نجد أن في ذلك إشكالية، فقد وقع فيه تفسير باطل كما أنه تفسير طويل، وقد نبَّه الزبيري الذي كتب في منهج ابن جزي على هذا، وذكر من الأمثلة على الإطالة في التفسير ما ذكره عند قوله:{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ} [الشورى: 38] قال: «قيل يعني: الأنصار؛ لأنهم استجابوا لما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم الى الإسلام، ويظهر لي أن هذه الآية إشارة إلى ذكر الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم؛ لأنه بدأ أولاً بصفات أبي بكر الصديق ثم صفات عمر بن الخطاب ثم صفات عثمان بن عفان ثم صفات علي بن أبي طالب فكونه جمع هذه الصفات ورتبها على هذا الترتيب يدل على أنه قصد بها من اتصف بذلك، فأما صفات أبي بكر فقوله: {

لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى: 36] وإنما جعلناها صفة أبي بكر وإن كان جميعهم متصفاً بها لأن أبا بكر كانت له فيها مزية لم تكن لغيره»، ثم ذكر بعد ذلك صفات عمر فقال:«وأما صفات عمر فقوله: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37]» جعلها في عمر فسار على هذا الأسلوب فقسَّم الآية على الخلفاء الراشدين ثم قال في عثمان: «أما صفات عثمان فقوله: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 38]، ثم انتقل إلى صفة علي فقال: «وأما صفة عليٍّ فقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39] لأنه لما قاتلته الفئة الباغية قاتلها انتصاراً للحق» ، إلى أن ذكر بعد ذلك ما فيه إشارة إلى الحسن والحسين رضي الله عنهما وإشارة إلى بني أمية في كلام طويل مخالف لعقلية ابن جزي المحقق، ولكن كما تعلمون الكمال عزيز، فوقع في مثل هذا المثال مما يمكن أن يستدرك عليه المستدرك، فقد وقع فيما نهى عنه في قضية التمييز بين الصحيح والباطل، لكن هذا لا يشوش على الكتاب إطلاقاً ولا يفقده تميزه.

ص: 20

هذه التفصيلات التي ذكرها في حال العمل التفسيري قد لا نحتاج إليها كثيراً؛ أي: أننا لا نعمل بها في حال الاختلاف، ولا ننظر هل هذا من هذا القسم أو من ذاك؛ لذا لو أردنا أن نمثل لما يكون متساوياً أو ما يكون متفاوتاً لصعب علينا في كل مثال يقع فيه اختلاف، وهذه إن ذُكرت في باب التنظير، فلا يلزم أن يوجد لها تطبيقات كثيرة في التفاسير في كل الأحوال.

أما الصحيح والضعيف، أو الصحيح والباطل فهذا يوجد، ويمكن التمثيل له فنقول: هذا تفسير صحيح وهذا تفسير ضعيف.

قوله: (وإني جعلت لهذه الأقسام عبارات مختلفة تعرف بها كل مرتبة وكل قول).

المؤلف لم يجعل القارئ يستقرئ طريقته في قضية الترجيح، بل ذكر طريقته تلك في هذه المقدمة بوضوح، فذكرها بالترقي من الأدنى إلى الأعلى.

• فأدناها: ما صرَّح بأنه خطأ أو باطل، فهو أضعف الأقوال.

• ثم ما ذكر أنه ضعيف أو بعيد، وهذا مرتبته أعلى قليلاً من الذي قبله.

• ثم ما يقول فيه: إن غيره أقوى أو أرجح أو أظهر أو أشهر، وهذا أعلى من سابقه.

• ثم ما يقدم غيره عليه إشعاراً بترجيح المتقدم وأن الذي بعده أقل منه عند المؤلف.

ثم قال: (وأما إذا صرَّحت باسم قائل القول فإني أفعل ذلك لأحد أمرين: إما للخروج عن عهدته، وإما لنصرته إذا كان قائله ممن يقتدى به).

الأصل عند ابن جزي عدم التصريح بالأسماء، وقد ذكر سبب ذكره الأسماء في بعض المواطن:

ص: 21

الأول: إذا أراد أن يخرج من عهدة القول.

الثاني: إذا أراد أن ينصر القول؛ لأن قائل هذا القول إمام معتبر فهذه قاعدته في التصريح بالأسماء.

ثم علَّل سبب عدم تصريحه بالأسماء، فقال:(على أني لست أنسب الأقوال إلى أصحابها إلا قليلاً؛ وذلك لقلة صحة إسنادها إليهم، أو لاختلاف الناقلين في نسبتها إليهم).

أوجز المؤلف قضية اختلاف الناقلين في نسبتها إلى أصحابها وهي تحتاج إلى تأمل، والظاهر من العبارة أنه يقصد مفسري السلف؛ لأن غيرهم من العلماء كالطبري (ت310هـ) أو ابن عطية (ت542هـ) وغيرهم إن نَسَبَ إليهم شيئاً فسينظر في كتبهم التي بين يدينا ويعرف صحته من عدمه، لكن الذين قد لا يصح الإسناد إليهم، أو يكون للواحد منهم أكثر من قول، هم مفسرو السلف، وهذا يدل على أن عنده مشكلتين تحفَّان ببعض تفسيرات السلف:

الأولى: قلة صحة الإسناد إليهم.

الثانية: اختلاف الناقلين في نسبتها إليهم.

وهاتان المشكلتان تحتاجان إلى نظر آخر غير ما ذكره الإمام ابن جزي رحمه الله، وهو:

أولاً: إن ما يتعلق بصحة الإسناد لم يكن مشكلة جوهرية عند المفسرين، فلم يتوقف ابن جزي أو من قبله أو بعده من المفسرين من الاستفادة من مرويات السلف بهذه الأسانيد التي فيها ما هو ضعيف وليس باطلاً أو موضوعاً، وأخذوا منها بيان معاني القرآن، ورجحوا بها أقوالهم على أقوال المتأخرين، والمقصود أن قضية صحة الإسناد في آثار السلف في التفسير لا تمثل مشكلة كبيرة؛ بدلالة أن علماءنا منذ القرن الثاني ومن بعده لم يتوقفوا في هذه الأسانيد وقبلوها وعملوا بما فيها مع

ص: 22

علمهم التام بما في بعضها من كلام؛ كما في رواية الضحاك (ت105هـ) عن ابن عباس (ت68هـ) فإن فيها انقطاعاً؛ لأن الضحاك لم يلق ابن عباس. وكذلك رواية العوفيين عن جدهم عطية العوفي (ت111هـ) عن ابن عباس فإن فيها ضعفاً ـ أيضاً ـ وهذا معروف عند علماء الحديث والتفسير، ومع ذلك أخذوا بهذه الروايات من حيث الجملة.

وهنا ينبه إلى فائدة مهمة قد تخفى على بعض طلاب العلم، وهو أن عمل العلماء وتتابعهم على قبول هذه الرواية محكَّم معتبرٌ، وكذا هو الحال في كثير من روايات السلف التي عُلمت مخارجها، أو كانت نُسخاً تروى عن أصحابها بالإسناد إليهم، كنسخة عطية العوفي (ت111هـ) عن ابن عباس، أو نسخة علي بن أبي طلحة (ت145هـ) عن ابن عباس.

ثانياً: إن قضية اختلاف الناقلين في نسبتها إليهم، فيها نظر؛ لأن المختلف في نسبته إلى الناقلين يحتاج أن نثبت وقوع الاختلاف فيه؛ فقد ينسبه راوٍ إلى عكرمة (ت105هـ) وآخر ينسبه إلى مجاهد (ت104هـ) فاختلفت النسبة لكن قد يكون هذا القول قال به مجاهد وقال به عكرمة فليس هناك اختلاف؛ لأن غالب ما ينقل عنهم هو من باب اختلاف التنوع الذي يكون بين جميع المفسرين من السلف ويكون عن المفسر الواحد؛ ولذا تجد رواية عن ابن عباس بمعنى ورواية أخرى بمعنى آخر وليس بينهما تضاد، وإنما هو من باب التنوع، فهذا القول صحيح، والقول الآخر صحيح، والمقصود أن اختلاف نقل الناقلين عنهم لا يُعدُّ مشكلة.

ثم ذكر طريقته في الأقوال الباطلة فقال: (وإذا كان القول في غاية السقوط والبطلان لم أذكره تنزيهاً للكتاب، وربما ذكرته تحذيراً منه) بمعنى أنه إذا ورد تفسير باطل أو ضعيف في كتابه فقد يذكره للتحذير منه والتنبيه عليه.

ثم ذكر بعد ذلك مصطلح الترجيح والتصحيح، ولا نستطيع من

ص: 23

خلال عبارة المؤلف أن نميز ونفرِّق بينهما، ولا نقول: إن العطف يقتضي المغايرة؛ لأن المؤلف قد يكون ذكر هذا من باب تنويع العبارة وليس من باب المغايرة، ثم قال:(وسنذكر بعد هذا باباً في موجبات الترجيح)، ويلاحظ أنه غيَّر المصطلح، فسمَّاها قبل ذلك قواعد الترجيح، ثم سمَّاها هنا موجبات الترجيح، ثم سمَّاها وجوه الترجيح في بابها الذي سيناقش فيه ذلك، وتنوع مصطلحات العالم قد يكون من باب تنويع العبارة، وقد يكون له مقصد لا نعرفه.

ثم قال: (وسميته كتاب التسهيل لعلوم التنزيل).

الأصل في هذا الكتاب أنه كتاب تفسير، فنُصَنِّفه في كتب علوم التفسير؛ لكن المؤلف أراد أن يضيف إليه أنواعاً من علوم القرآن، وهذا ظاهر من تسمية المؤلف له حيث جعله في «علوم التنزيل» ، أي:«علوم القرآن» .

لذا أقول: من أراد أن يكتب في تصنيف علوم القرآن فلا بد أن يذكر هذا الكتاب أثناء كتابته عن تطور علوم القرآن في المراحل التاريخية؛ لأن علوم القرآن مقصد من مقاصد التأليف عند المؤلف ونصَّ عليها في أكثر من موطن، ولما سمَّى كتابه لم يسمِّه «تفسيراً» ، بل سمَّاه:«التسهيل لعلوم التنزيل» ، فيجب أن نعرف أن للعلماء مناهج في الحديث عن علوم القرآن فبعضهم ألف مؤلفات مفردة كالناسخ والمنسوخ، وأحكام القرآن والمكي والمدني، وبعضهم ألف كتباً فيها جمع لعددٍ من علوم القرآن، ومن أشهرها: كتاب البرهان للزركشي (ت794هـ)، والإتقان للسيوطي (ت911هـ).

والمشكلة التي قد تقع لبعضنا في الوقت الحاضر أنه لا يفهم أنواع علوم القرآن إلا من خلال ما كتبه «صاحب البرهان» و «صاحب الإتقان» ، فأي كتاب لا يتمثَّل فيه صبغة البرهان وصبغة الإتقان فإنه عنده ليس من كتب علوم القرآن.

ص: 24

وتنظير أنواع علوم القرآن من خلال هذين الكتابين فحسب فيه نظر، بل الصواب أن نتتبع المراحل التاريخية، ونرى كيف تعامل العلماء مع أنواع علوم القرآن، وننظر في مقاصد كتبهم، فإن كان واضحاً من مقصدهم التأليف في أنواع علوم القرآن فلا يجدر بنا أن نغفله عند الحديث عن تاريخ علوم القرآن والمؤلفات فيه (1).

قوله: (وقدمت في أوله مقدمتين: إحداهما: في أبواب نافعة، وقواعد كلية جامعة، والأخرى: فيما كثر دوره من اللغات الواقعة).

هذه مقدمة المقدمة، أمَّا المقدمة التي سيذكر فيها ما يتعلق بعلوم القرآن وأصول التفسير فهي المقدمة الأولى التي سنشرحها.

وأما المقدمة الثانية، فقد ذكر فيها الألفاظ التي يكثر دورانها في القرآن وبيّن معانيها فجعلها كأنها كتاب في مفردات ألفاظ القرآن بحيث لا يحتاج إلى أن يذكر معاني هذه الكلمات في كل موضع ترد فيه.

وهذه الطريقة لها جانب حسن، ولها جانب غير ذلك، وذلك مبني على مدى استفادة القارئ منهما؛ لأن قارئ التفسير ـ مثلاً ـ قد يقرأ في

(1) هناك كتب لم تُعَنْوَن بأنها في «علوم القرآن» ، ولكن حقيقتها أنها في علوم القرآن، ككتاب «فهم القرآن» للحارث المحاسبي (ت243هـ) الذي ضمَّن كتبه جملة من أنواع علوم القرآن؛ كفضائل القرآن، والناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، وأساليب القرآن من التقديم والتأخير والإضمار وغيرهما.

كما أن هناك كتباً قد اشتملت على جملة من أنواع علوم القرآن، وإن لم تكن في علوم القرآن؛ ككتاب الإيضاح للأندرابي (ت470هـ) الذي ضمَّن مقدمته جملة من أنواع علوم القرآن بالإضافة إلى أنواع علوم الإقراء وما يتعلق بها، فقد ذكر في الأبواب التي ربت على الخمسين باباً جملة من أنواع علوم القرآن، منها: الباب الأول: في ذكر بعض ما جاء في فضائل القرآن وأهله وأخلاقهم ونعوتهم وصفاتهم.

الباب الرابع: في ذكر تأليف القرآن وجمعه في المصحف، ومن جمعه؟ وكيف جُمع؟ وما السبب الداعي إلى جمعه واجتماع الناس عليه؟

الباب العاشر: في ذكر تنزيل الكتب وترتيب نزول السورة المكية والمدنية، وكم نزلت منها بمكة، وكم نزلت بالمدينة؟

إلخ من الأبواب التي ذكرها في مقدمة كتابه.

ص: 25

سورةٍ ما، ولا يجد تفسير لفظة من الآية، فيظن أن المؤلف قد أهملها، وإنما تركها لأنه ذكرها في هذه المقدمة التي فسَّر فيها الألفاظ.

وإذا كان القارئ يعلم عن منهج المؤلف، فإنه سيضطر للرجوع إلى هذه المقدمة ليعرف ما قاله المؤلف في بيان معنى هذه اللفظة، وهذا فيه تطويل في تحصيل الفائدة في غير مظنتها.

وأما محاسن جمع تفسير الألفاظ في محلٍّ واحد، فمن جهة أن من أراد أن يقرأ مفردات القرآن عند ابن جزي يجدها مجموعة في مكان واحد.

فوائد علمية مستخلصة من هذه المقدمة:

يمكن استخراج النتائج والفوائد من هذه المقدمة التي جعلها تمهيداً للمقدمتين الأولى والثانية، فمن هذا الفوائد:

1 -

تفريق المؤلف بين علوم التفسير وعلوم القرآن.

2 -

أن علوم القرآن مقصد من مقاصد التأليف عند المؤلف؛ أي: ليس الكتاب تفسيراً، وإنما هو تفسير قصد فيه ذكر مسائل علوم القرآن.

3 -

وضوح مقاصد تأليف الكتاب عند المؤلف.

4 -

وضوح منهج المؤلف.

5 -

عناية المؤلف بتحقيق الأقوال التفسيرية.

6 -

اعتماد المؤلف على القواعد العلمية في الترجيح بين الأقوال.

ص: 26