الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب السادس
طبقات المفسرين
قال المصنف رحمه الله: الباب السادس في ذكر المفسرين، اعلم أن السلف الصالح انقسموا على فرقتين: فمنهم من فسر القرآن وتكلم في معانيه وهم الأكثرون، منهم من توقف عن الكلام فيه احتياطاً، لما ورد من التشديد في ذلك، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر من القرآن إلا آيات تعد علّمه إياهن جبريل، وقال صلى الله عليه وسلم:«من قال في القرآن برأيه وأصاب فقد أخطأ» . وتأول المفسرون حديث عائشة رضي الله عنه بأنها في مغيبات القرآن التي لا تعلم إلا بتوقيف من الله تعالى، وتأولوا الحديث الآخر بأنه فيمن تكلم في القرآن بغير علم ولا أدوات، لا فيمن تكلم فيما تقتضيه أدوات العلوم ونظر في أقوال العلماء المتقدمين، فإن هذا لم يقل في القرآن برأيه.
واعلم أن المفسرين على طبقات:
فالطبقة الأولى: الصحابة رضي الله عنهم، وأكثرهم كلاماً في التفسير: ابن عباس، وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يثني على تفسير ابن عباس ويقول: كأنما ينظر إلى الغيب من سترٍ رقيق، وقال ابن عباس: ما عندي من تفسير القرآن فهو عن علي بن أبي طالب.
ويتلوهما عبد الله بن مسعود، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وكل ما جاء من التفسير عن الصحابة فهو حسن.
والطبقة الثانية: التابعون، وأحسنهم كلاماً في التفسير، الحسن بن
أبي الحسن البصري وسعيد بن جبير، ومجاهد مولى ابن عباس، وعلقمة صاحب عبد الله بن مسعود، ويتلوهم عكرمة، وقتادة، والسدي، والضحاك بن مزاحم، وأبو صالح، وأبو العالية.
ثم حمل تفسير القرآن عدول كل خلف، وألف الناس فيه: كالمفضل، وعبد الرزاق، وعبد بن حميد، والبخاري، وعلي بن أبي طلحة، وغيرهم.
ثم إن محمد بن جرير الطبري جمع أقوال المفسرين، وأحسن النظر فيها.
وممن صنف في التفسير أيضاً أبو بكر النقاش، والثعلبي، والماوردي إلا أن كلامهم يحتاج إلى تنقيح، وقد استدرك الناس على بعضهم.
وصنف أبو محمد بن قتيبة في غريب القرآن ومشكله وكثير من علومه.
وصنف في معاني القرآن جماعة من النحويين كأبي إسحاق الزجاج، وأبي علي الفارسي، وأبي جعفر النحاس.
وأما أهل المغرب والأندلس فصنف القاضي منذر بن سعيد البلوطي كتاباً في غريب القرآن وتفسيره.
ثم صنف المقرئ أبو محمد مكي بن أبي طالب كتاب «الهداية في تفسير القرآن» ، وكتاباً في غريب القرآن، وكتاباً في ناسخ القرآن ومنسوخه، وكتاباً في إعراب القرآن إلى غير ذلك من تآليفه، فإنها نحو ثمانين تأليفاً، أكثرها في علوم القرآن من القراءات والتفسير وغير ذلك.
وأما أبو عمرو الداني فتآليفه تنيف على مائة وعشرين إلا أن أكثرها في القراءات ولم يؤلف في التفسير إلا قليلاً.
وأما أبو العباس المهدي فمتقن التآليف، حسن الترتيب، جامع لفنون علوم القرآن.
ثم جاء القاضيان أبو بكر بن العربي، وأبو محمد عبد الحق بن عطية فأبدع كل واحدٍ وأجمل، واحتفل وأكمل، فأما ابن العربي فصنف كتاب «أنوار الفجر» في غاية الاحتفال والجمع لعلوم القرآن، فلما تلف تلافاه بكتاب «قانون التأويل» إلا أنه اخترمته المنية قبل تخليصه وتلخيصه، وألف في سائر علوم القرآن تآليف مفيدة.
وأما ابن عطية فكتابه في التفسير أحسن التآليف وأعدلها، فإنه اطلع على تآليف من كان قبله فهذبها ولخصها، وهو مع ذلك حسن العبارة، مسدد النظر، محافظ على السنة.
ثم ختم علم القرآن بالأندلس وسائر المغرب بشيخنا الأستاذ أبي جعفر بن الزبير، ولقد قطع عمره في خدمة القرآن، وآتاه الله بسطة في علمه، وقوة في فهمه، وله فيه تحقيق، ونظر دقيق.
ومما بأيدينا من تآليف أهل المشرق تفسير أبي القاسم الزمخشري، وأبي الفضل الغزنوي، وأبي الفضل بن الخطيب.
فأما الزمخشري، فمسدد النظر، بارع في الإعراب، متقن في علم البيان، إلا أنه ملأ كتابه من مذهب المعتزلة ونصرهم، وحمل آيات القرآن على طريقتهم، فتكدر صفوه، وتَمَرَّرَ حُلْوُه، فخذ منه ما صفا، ودع ما كدر.
وأما الغزنوي، فكتابه مختصر جامع، وفيه من التصوف نكت بديعة.
وأما ابن الخطيب، فتضمن كتابه ما في كتاب الزمخشري، وزاد عليه إشباع الكلام في قواعد علم الكلام، ونَمَّقَهُ بترتيب المسائل، وتدقيق النظر في بعض المواضع، وهو على الجملة كتاب كبير الجرم، وربما احتاج إلى تنخيل وتلخيص، والله ينفع الجميع بخدمة كتابه، ويجزيهم أفضل ثوابه (1).
(1) التسهيل 1/ 74 - 81.
هذا الباب في ذكر طبقات المفسرين:
الطبقة الأولى: السلف الصالح (1).
قال المؤلف: (واعلم أن السلف الصالح انقسموا إلى فرقتين) وعند استقرائنا للتفاسير التي وردت بالأسانيد سنجد أنها لم تخرج عن الطبقات الآتية:
1 -
طبقة الصحابة.
2 -
طبقة التابعين.
3 -
طبقة أتباع التابعين.
وبعد جيل أتباع التابعين اعتمد أهل السنة على النقل من مأثورهم عن هذه الطبقات الثلاث، ولم يظهر من تصدى للتفسير وعُرف به، وأغلب من كتب ـ في هذه الفترة ـ أو شارك في التفسير كان ناقلاً، حتى ظهر ابن جرير الطبري (ت310هـ) بمنهج المفسر الناقد والمرجح بين الأقاويل.
وممن كتب في هذه الفترة تفسيراً روائياً: آدم بن أبي إياس (ت220هـ)، وأحمد بن حنبل (ت240هـ)، وكذلك عبد بن حميد (ت249هـ).
ويرد هاهنا سؤال مهم، وهو: ألا يوجد تميُّز بين هذه الطبقات الثلاث؟
والجواب: إن الأصل في هذا تقديم قول الصحابي، وأخص ما يقع فيه تقديم قول الصحابي ما كان مرتبطاً بالنزول، وبأحوال من نزل
(1) المراد بالسلف «الصحابة والتابعون وأتباعهم» ، وبعض من يتعاطى التفسير من المعاصرين يطلق السلف بالإطلاق اللغوي، وهو كل من سبق من علمائنا، وهذا صحيح، لكن المراد بالسلف هنا هم من ذكرت.
فيهم الخطاب، فهم الذين عاصروا التنزيل، وشاهدوا تنَزُّلاته، وعرفوا الأحوال المحيطة به، والأحوال المرتبطة بمن نزل فيهم القرآن الكريم.
وقد نبَّه إلى هذه الحيثية جماعة من أهل العلم، منهم الحاكم في كتابه «معرفة علوم الحديث» ، فقد ذكر في النوع الخامس «معرفة الموقوفات» هذه المسألة، فقال:«حدثناه أحمد بن كامل القاضي، ثنا يزيد بن الهيثم، ثنا محمد بن جعفر الفيدي، ثنا ابن فضيل عن أبي سنان، عن عبد الله بن أبي الهذيل، عن أبي هريرة رضي الله عنه في قول الله عز وجل: {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} [المدثر: 29] قال: «تلقاهم جهنم يوم القيامة فتلفحهم لفحة فلا تترك لحماً على عظم إلا وضعت على العراقيب» .
قال: وأشباه هذا من الموقوفات تُعدُّ في تفسير الصحابة، فأما ما نقول في تفسير الصحابي مسند (1)، فإنما نقوله في غير هذا النوع، فإنه كما أخبرناه أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار، حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، ثنا إسماعيل بن أبي أويس، حدثني مالك بن أنس، عن محمد بن المنكدر عن جابر قال:«كانت اليهود تقول: من أتى امرأته من دبرها في قُبلها جاء الولد أحول، فأنزل الله عز وجل: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة: 223]» قال الحاكم: هذا الحديث وأشباهه مسندة عن آخرها، وليست بموقوفة، فإن الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل فأخبر عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا وكذا فإنه حديث مسند، ومما يلزم طالب الحديث معرفته نوع من الموقوفات، وهي مرسلة قبل الوصول إلى الصحابة» (2).
(1) يقصد أن له حكم المرفوع.
(2)
معرفة علوم الحديث، تحقيق فارس السلوم، ص148 - 151.
وأما ما يقوله الصحابي برأيه، فإن مصادرهم الكبرى في تفسيراتهم الاجتهادية هي:«القرآن والسنة واللغة» ، وهذه المصادر يشترك معهم فيها كل من جاء بعدهم، وفي تقديم قول الصحابي في هذه الحال تفصيل ـ بعد القول بأن الأصل تقديم قوله مطلقاً ـ يظهر من تطبيقات علماء التفسير المحرِّرين؛ كابن جرير الطبري (ت310هـ)، وابن عطية الأندلسي (ت542هـ)، وابن كثير الدمشقي (ت774هـ)، فإنهم قد يقدمون قول غيرهم عليهم في حال كون التفسير من باب الاجتهاد لاعتبارات علمية.
ومما يحسن أن يلاحظ في هذه الطبقات جهة تاريخية دقيقة، وهي أن هذه الطبقات الثلاث متداخلة، وإن كانت طبقة الصحابة معروفة متميزة، إلا أنا نجد في طبقة التابعين وتابعي التابعين تداخلاً بين كبار التابعين وصغارهم من جهة، وبين صغار التابعين وكبار أتباع التابعين من جهة أخرى، لكن يمكن الاستفادة من تحديد نهاية فترة أتباع التابعين بما حدَّها ابن حجر العسقلاني (ت852هـ) في كتابه «تقريب التهذيب» فقد ذكر عبد الرزاق (ت211هـ) نموذجاً على صغار أتباع التابعين، وإن كان لا يلزم أن من توفي في زمنه أن يكون لقي التابعين، وهذا يُعرف من كتب الجرح والتعديل التي تحرص على ذكر شيوخ المترجم له وذكر تلاميذه.
ومن باب الفائدة: فإن بعض التابعين كانوا يتكلمون في التفسير أثناء وجود الصحابة، فتلاميذ ابن عباس (ت68هـ) الآفاقيون؛ كسعيد بن جبير (ت94هـ)، وأبي الشعثاء جابر بن زيد (ت93هـ)، كانوا يفسرون القرآن في بلدانهم، وكذا كانوا بعد وفاة شيخهم ابن عباس (ت68هـ)، إذ لا زال صغار الصحابة متوافرون؛ كعبد الله بن عمر (ت73هـ)، وأنس بن مالك (ت93هـ)، وقد ظهر هؤلاء التابعون واشتهروا بالتفسير، بل فاقت شهرتهم من كان في عهدهم من الصحابة.
قال المؤلف: (واعلم أن السلف الصالح انقسموا إلى فرقتين: فمنهم من فسر القرآن وتكلم في معانيه وهم الأكثرون، ومنهم من توقف عن الكلام فيه احتياطاً، لما ورد من التشديد في ذلك).
أما المفسرون للقرآن من الصحابة والتابعين فكثير، وهم أكثر ممن نُقل عنهم التحرُّج في التفسير، وفي طبقة الصحابة لا يكاد يوجد من توقَّف عن القول في كتاب الله بالكلية، فالتحرج التام لم يكن مشهوراً في جيل الصحابة بل ظهر في جيل التابعين، خصوصاً أهل المدينة وأهل الكوفة.
وبعض التابعين الذين نُقل عنهم التحرُّج من القول في التفسير، أو التشديد فيه، نجد أن لهم فيه أقوالاً، مما يعني أنهم أرادوا القول بالرأي المذموم الذي يكون عن غير علم، أما إذا كان المفسر آثراً لقول، وعارفاً به، فإنه يخرج من دائرة التحرُّج، وتراه يفسر القرآن، ومثال ذلك سعيد بن المسيب (ت94هـ)، فإنه رُوي عنه التشدُّد في التفسير، ومن ذلك ما رواه الطبري (ت310هـ) في مقدمة تفسيره عن تلاميذه، فقد روى بسنده عن يحيى بن سعيد، قال:«سمعت رجلاً يسأل سعيد بن المسيب عن آيةٍ من القرآن، فقال: لا أقول في القرآن شيئاً» (1).
وفي رواية أخرى عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب:«أنه كان إذا سُئل عن تفسير آية من القرآن، قال: أنا لا أقول في القرآن شيئاً» (2).
وروى بسنده ـ أيضاً ـ عن حماد بن زيد، قال:«حدثنا عُبيد الله بن عمر، قال: لقد أدركت فقهاء المدينة، وإنهم ليُغلظون القول في التفسير، منهم: سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيَّب، ونافع» (3).
(1) تفسير الطبري، تحقيق التركي 1/ 79.
(2)
تفسير الطبري، تحقيق التركي 1/ 79.
(3)
تفسير الطبري، تحقيق التركي 1/ 79.
وقد بيَّن تلميذه (يحيى بن سعيد) الراوي عنه في الرواية الأولى هذا التحرُّز، فقد أورد الطبري بسنده عنه، عن ابن المسيَّب:«أنه كان لا يتكلم إلا في المعلوم من القرآن» (1)، فدلَّ هذا على أنه كان يفسر القرآن، لكنه لا يفسر إلا ما علِمه فقط.
تنبيه:
لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن تفسير القرآن، بل الوارد عنه الدعاء لابن عمه (ابن عباس) بالتفقيه في الدين، وتعليم التأويل.
قال المؤلف: (فقد قالت عائشة رضي الله عنها: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر من القرآن إلا آيات تُعد علَّمه إياهنَّ جبريل، وقال صلى الله عليه وسلم: «من قال في القرآن برأيه وأصاب فقد أخطأ». وتأول المفسرون حديث عائشة رضي الله عنه بأنها في مغيبات القرآن التي لا تعلم إلا بتوقيف من الله تعالى، وتأولوا الحديث الآخر بأنه فيمن تكلم في القرآن بغير علم ولا أدوات، لا فيمن تكلم فيما تقتضيه أدوات العلوم ونظر في أقوال العلماء المتقدمين، فإن هذا لم يقل في القرآن برأيه).
أما الأحاديث التي ذكرها المؤلف في سبب التوقف فهي أحاديث ضعيفة جداً، وليس فيها ما يحتج به من جهة الإسناد، فالحديث الأول: لا يحتج به مطلقاً.
قال الطبري ـ بعد تخريجه لمعنى هذا الأثر (2) الوارد عن عائشة ـ:
(1) تفسير الطبري، تحقيق التركي 1/ 79 - 80.
(2)
أما الخبر الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنه لم يكن يفسِّر من القرآن شيئاً إلا آياً بعَددٍ، فإن ذلك مصحِّح ما قلنا من القول في الباب الماضي قَبْل، وهو: أنّ من تأويل القرآن ما لا يُدرك علمُه إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم. وذلك تفصيل جُمَلِ ما في آيه من أمر الله ونَهْيه وحلاله وحرامه، وحدوده وفرائضه، وسائر معاني شرائع دينه، الذي هو مجمَلٌ في ظاهر التنزيل، وبالعباد إلى تفسيره الحاجة ـ لا يدرَك علمُ تأويله إلا ببيان من عند الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أشبه ذلك مما تحويه آيُ القرآن، من سائر =
والحديث الثاني: «من قال في القرآن برأيه وأصاب فقد أخطأ» (2)، قال فيه الترمذي:«هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي سُهَيْلِ بْنِ أَبِي حَزْمٍ» .
= حُكْمه الذي جعلَ الله بيانه لخلقه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلا يعلم أحدٌ من خلق الله تأويل ذلك إلا ببيان الرّسول صلى الله عليه وسلم، ولا يعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بتعليم الله إيَّاه ذلك بوحْيه إليه، إما مع جبريل، أو مع من شاء من رُسله إليه. فذلك هو الآيُ التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسِّرها لأصحابه بتعليم جبريل إياه، وهنَّ لا شك آيٌ ذوات عَددٍ.
ومن آي القرآن ما قد ذكرنا أن الله جل ثناؤه استأثرَ بعلم تأويله، فلم يُطلعْ على علمه مَلَكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً ولكنهم يؤمنون بأنه من عنده، وأنه لا يعلم تأويله إلا الله.
فأما ما لا بُدَّ للعباد من علم تأويله، فقد بيّن لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم ببيان الله ذلك له بوحيه مع جبريل. وذلك هو المعنى الذي أمره الله ببيانه لهم فقال له جل ذكره:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44].
ولو كان تأويل الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يفسر من القرآن شيئاً إلا آياً بعَددٍ ـ هو ما يسبقُ إليه أوهامُ أهل الغباء، من أنه لم يكن يفسّر من القرآن إلا القليل من آيه واليسير من حروفه، كان إنما أُنزلَ إليه صلى الله عليه وسلم الذكرُ ليَترك للناس بيانَ ما أنزل إليهم، لا ليبين لهم ما أُنزل إليهم.
وفي أمر الله جلّ ثناؤه نبيَّه صلى الله عليه وسلم ببلاغ ما أنزل إليه، وإعلامه إياه أنه إنما نزل إليه ما أنزل ليبين للناس ما نزل إليهم، وقيامِ الحجة على أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قد بلّغ وأدّى ما أمره الله ببلاغه وأدائِه على ما أمره به، وصحةِ الخبر عن عبد الله بن مسعود بقيله: كان الرجل منا إذا تعلم عشرَ آيات لم يجاوزهُن حتى يعلم معانيهنّ والعملَ بهنّ ـ ما ينبئ عن جهل من ظنَّ أو توهَّم ـ أنّ معنى الخبر الذي ذكرنا عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه لم يكن يفسر من القرآن شيئا إلا آياً بعَددٍ، هو أنه لم يكن يبين لأمته من تأويله إلا اليسير القليل منه».
(1)
تفسير الطبري، تحقيق التركي 1/ 83.
(2)
أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن من حديث جندب بن عبد الله، برقم (2952).
وهذا الأثر له معنى صحيح، وهو أن يقول في القرآن بلا علم فيصيب المعنى الصحيح لكنه أخطأ طريق الوصول إليه، فهو يأثم من هذه الجهة؛ لأنه سيقول قولاً على الله بغير علم، ولهذا قال: (وتأول الحديث الآخر بأنه في من تكلم في القرآن بغير علم ولا أدوات، لكن من تكلم فيما تقتضيه أدوات العلم
…
)، ومثل هذا تخريج الطبري (ت310هـ) لمعنى هذا الأثر، فقد قال:«يعني صلى الله عليه وسلم أنه أخطأ في فعله، بقيله فيه برأيه، وإن وافق قِيلُه ذلك عينَ الصَّواب عند الله؛ لأن قِيله فيه برأيه، ليس بِقِيلِ عالمٍ أنَّ الذي قال فيه من قول حقٌّ وصوابٌ، فهو قائل على الله ما لا يعلم، آثم بفعله ما قد نهى عنه وحُظِر عليه» (1).
وابن جزي ـ رحمه الله تعالى ـ كأنه يشير إلى أن الرأي نوعان: رأي مذموم وهو غير مقبول، ورأي محمود وهو مقبول.
والرأي المذموم سببه أحد أمرين:
1 -
الجهل الذي أشار له الحديث، فإن كان جاهلاً وفسر القرآن، فإنه يأثم حتى لو أصاب؛ لأنه من القول على الله بغير علم، وهو محرم كما في قوله سبحانه وتعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} إلى أن قال في آخر الآية: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] ويشمل هذا القول عليه في الأحكام وتفسير كلامه، فالتفسير بجهل يدخل في القول على الله بلا علم.
فإن قال قائل: عندما أقرأ القرآن قد تظهر لي معانٍ، فهل يدخل هذا في القول على الله بغير علم؟
نقول: ما دام مجرد تفكير لا يأثم فيه، لكن يلزمه ألا ينشر هذا الفهم حتى يرجع إلى أهل العلم، أما إذا تصدى لنشر هذا الفهم دون أن يكون عالماً، فإنه يأثم.
(1) تفسير الطبري، تحقيق التركي 1/ 74.
ومن أمثلة وقوع الفهم وسؤال أهل العلم فيه: ما وقع من الصحابة رضي الله عنهم لما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82]، فإنهم فهِمُوا أن المراد عموم الظلم، وقالوا:«وأينا لم يظلم نفسه» (1)، ولم يسكتوا على فهمهم هذا أو ينشروه، بل راجعوا النبي صلى الله عليه وسلم، واستفهموا منه.
وهذا المسلك ليس فيه تحجير على العقول كما قد يظنُّ بعض الناس، بل نقول: إن لكل علمٍ أصولاً، ومن لا يعلم أصول العلم فإنه لا يُقبل منه، وإذا كان لا يعرف الأصول، وكان قد فهم فهماً، فإنه لا ينشره حتى يسأل أهل العلم.
2 -
الهوى، ولا يقع ـ عادة ـ إلا من عالم: إما لأجل نصرة مذهبٍ، وإما لنصرة شيخ.
والعالم قد يكون عنده نقص في العلم في جهة معينة، فيقع منه الخطأ، وهذا ليس عيباً في العالم، إذ لا يلزم أن يحيط العالم بكل العلم حتى لا يُظنَّ منه الخطأ.
فائدة:
بعض الناس قد يقول بقولٍ ولا يستطيع التراجع عنه، فتجده يدافع عنه دفاعاً مستميتاً مع علمه اليقيني أن قوله خطأ، لكونه لم يؤدب نفسه على أنه إذا أخطأ قال: أخطأت، كما فعل مالك (ت179هـ) رحمه الله لما ردَّ على السائل وقال:«لا أدري» ، فالهوى يدخل في القول على الله بغير علم؛ لأنه مخالف للحق.
(1) أخرحه البخاري في كتاب استتابة المرتدين من حديث عبد الله بن مسعود، ورقم الحديث (6937).
أما الرأي المحمود فهذا يكون عن علم، ولهذا قال المؤلف:(لا فيمن تكلم بما تقتضيه أدوات العلوم ونظر في أقوال العلماء المتقدمين فإن هذا لم يقل في القرآن برأيه)، فلا بد من العلم، ولا بد من معرفة الأدوات التي يستطيع أن يصل بها إلى فهم القرآن، فإذا كان عنده هذه الأدوات وأخطأ صار من المجتهدين الذين أخطؤوا، لكن قد يدخل عليه الهوى فيجعله من أهل القول على الله بغير علم.
قوله: (واعلم أن المفسرين على طبقات:
فالطبقة الأولى: الصحابة رضي الله عنهم، وأكثرهم كلاماً في التفسير ابن عباس، وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يثني على تفسير ابن عباس ويقول: كأنما ينظر إلى الغيب من سترٍ رقيق. وقال ابن عباس: ما عندي من تفسير القرآن فهو عن علي بن أبي طالب).
ذكر في الطبقة الأولى الصحابة، وذكر أشهرهم على الإطلاق، وهو ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم ابن عباس رضي الله عنه، وذكر ثناءَ ابنِ عمه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والثناء عليه لم يكن من ابن عمه فقط، بل كان جملة من الصحابة يظهرون الثناء على تفسير ابن عباس رضي الله عنه.
وقد أوتي ابن عباس في هذا العلم ما لم يُؤت غيره من الصحابة، وذلك أثر من آثار بركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:«اللهم فقِّهه في الدين، وعَلِّمه الكتاب» ، وفي رواية:«وعَلِّمه التأويل» (1).
أما قول ابن عباس: «ما عندي من تفسير القرآن فهو عن علي بن أبي طالب» ، فهذا ـ إن صح ـ من كمال تواضع ابن عباس؛ لأنه
(1) سبق تخريجه ص144.
ينسب العلم إلى شيخه علي رضي الله عنه، ومما يلحظ أن علياً رضي الله عنه توفي سنة أربعين، وابن عباس رضي الله عنه توفي سنة ثماني وستين؛ أي: بقي ابن عباس رضي الله عنه ثماني وعشرين سنة بعد عليٍّ رضي الله عنه، ولا شك أنه حصَّل في هذه السنين كثيراً من العلوم، لكن لا يمنع أن يكون استفاد من علي رضي الله عنه استفادة كبيرة لا سيما أن ابن عباس رضي الله عنه كان حريصاً على أخذ العلم عن كبار الصحابة، وعلي رضي الله عنه كان أطول الخلفاء الأربعة عُمُراً، وأكثرُهم تفرغاً، فتلقى ابن عباس منه شيئاً كثيراً، ولا شك أن علياً رضي الله عنه كان يقدم ابن عباس ويحبه؛ لذا ولَاّه على البصرة لما آلت الخلافة إليه.
أما عِلْمُ علي رضي الله عنه بالقرآن فهذا لا خلاف فيه، وقد وقف على المنبر ـ لما كان في الكوفة ـ وقال:«لا يسألني أحد عن آية من كتاب الله إلا أخبرته» ، فقام ابن الكواء ـ وهو من الخوارج ـ وسأله عن الذاريات {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} [الذاريات: 1]، وغيرها.
وفي رواية عن أبي الطفيل قال علي رضي الله عنه: «لا تسألني عن كتابٍ ناطقٍ ولا عن سنةٍ ماضية إلا حدثتكم، فسأله ابن الكواء عن الذاريات فقال: هي الرياح» .
والرواية الأخرى عن أبي الطفيل قال: شهدت علي يخطب وهو يقول: «سلوني، ووالله لا تسألوني عن شيءٍ إلا أخبرتكم، وسلوني عن كتاب الله، فوالله ما من آية وإلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار، أم في سهلٍ أم في جبل» (1). فعِلمُ علي رضي الله عنه لا يُخْتَلف فيه، فهو عالم بالقرآن، لكن الرواية عنه أقلُّ من الرواية عن ابن عباس، فأكثر المروي عن ابن عباس، ثم عن ابن مسعود، ثم عن علي بن أبي طالب.
(1) أخرجه الحاكم في مستدركه في كتاب التفسير، ورقم الحديث (3788).
قوله: (ويتلوهما عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وكل ما جاء من التفسير عن الصحابة فهو حسن).
إن كان المراد بالفقه في التفسير، فتمييز ذلك صعب، وإن كان من باب عدد المروي، فقد سبق أن المروي عن ابن مسعود أكثر من المروي عن علي.
أما زيد بن ثابت (ت45هـ) فالروايه عنه في التفسير قليلة جدّاً، وقد اختص بعلمي «القراءة والفرائض» ، وقد يكون الصحابي عالماً في جانب من العلوم الشرعية ويجعله بعض المتأخرين عالماً في علوم أخرى لم تشتهر الرواية عنه فيها، ونحن لا نثبت ولا ننفي، لكنا لا نجد روايات كثيرة لزيد بن ثابت، ولا لعبد الله بن عمر (ت73هـ)، ولا لعبد الله بن عمرو، فالمنقولات في التفسير عن هؤلاء الثلاثة قليلة جداً.
ولا خلاف في كون هؤلاء الثلاثة من علماء الصحابة، لكن لم يشتهر عنهم أنهم تصدوا للتفسير، وهذا لا ينفي عنهم العلم وإنما ينفي عنهم مسألة التصدي للتفسير.
قوله: (وكل ما جاء من التفسير عن الصحابة، فهو حسن).
وذلك لاحتمال أن يكون الصحابي سمع التفسير من النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم يكن سمع التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد شاهد التنزيل وأحواله، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم وسنته وأحواله، وعرف أحوال من نزل فيهم الخطاب، وهو صاحب اللغة التي نزل بها القرآن، وهذه المقومات تجعل فهمه وإدراكه للمقاصد والمعاني أكثر من فهم غيره.
وهذه مسألة عقلية لا يصحُّ الجدل فيها، إذ لو تصورنا ـ مثلاً ـ أن كتاب «الشعر» لأرسطو قد شرحه أحد تلاميذه، وبيَّن مقاصد شيخه في هذا الكتاب، ثم جاء متأخر من المعاصرين وقال: أخطأ تلميذ أرسطو
في فهم كلام أرسطو، فالذي يُقبل ـ عقلاً ـ قول التلميذ؛ لأنه أوثق بشيخه وأعرف بمقاصده وأعرف بأساليبه، كذلك القرآن لما كان نازلاً بلغة الصحابة وعندهم من مشاهدات الأحوال ما ليس عند غيرهم فقولهم لا شك أنه أصوب مِنْ قولِ مَنْ جاء بعدهم.
قوله: (والطبقة الثانية: التابعون، وأحسنهم كلاماً في التفسير الحسن بن أبي الحسن البصري، وسعيد بن جبير، ومجاهد مولى ابن عباس، وعلقمة صاحب عبد الله بن مسعود، ويتلوهم عكرمة، وقتادة، والسدي، والضحاك بن مزاحم، وأبو صالح، وأبو العالية).
لما ذكر الطبقة الأولى «الصحابة» أتبعها بالطبقة الثانية «التابعين» ، والمشهور أن المقدم في التفسير مجاهد (ت104هـ)، بيد أن المؤلف قدَّم الحسن بن الحسن البصري (ت110هـ)، لذا قال عنه سفيان الثوري (ت161هـ):«إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به» (1)، ثم سعيد بن جبير (ت95هـ)، وإن كان قد انشغل ببعض القضايا التي نتج عنها قتله، فلم يُسْتَفَدْ منه كثيراً بخلاف مجاهد الذي كان متفرغاً للتعليم أكثر منهم، أما علقمة (ت62هـ) صاحب ابن مسعود (ت32هـ) فالتفسير المروي عنه قليل، وبعض تفسيره مأخوذ من تفسير شيخه، ويظهر أن سبب ذلك راجع إلى أسلوب التعليم أو التلقي عند أصحاب ابن مسعود، فكان رضي الله عنه يشدد على أصحابه فيقول لهم:«اتبعوا ولا تبتدعوا» ، ولهذا قلَّ المفسرون من أصحاب ابن مسعود، وغلب عليهم نقل تفسيره، بخلاف أصحاب ابن عباس، فإنهم كثيرون، كما أنهم يقولون بأقوال تخالف قول شيخهم، وهي من باب اختلاف التنوع، لكنها لا تناقض قوله.
قوله: (يتلوهم عكرمة، وقتادة، والسدي، والضحاك بن مزاحم، وأبو صالح، وأبو العالية).
(1) تفسير الطبري، المقدمة 1/ 85.
هؤلاء من التابعين، ويقع السؤال السابق في مراده بهذا الترتيب، هل هو من جهة جودة التفسير أم من جهة أخرى، والأقرب أنه يريد جودة التفسير، والمفاضلة في جودة التفسير صعبة، ولا حاجة لنا بها.
قوله: (ثم حمل تفسير القرآن عدول كل خلف، وألف الناس فيه كالمفضل، وعبد الرزاق، وعبد بن حميد، والبخاري، وعلي بن أبي طلحة، وغيرهم).
يلاحظ في كلام المؤلف أمور:
الأول: أن المؤلف رحمه الله لم يرتب العلماء حسب وَفَياتهم، بل قدَّم وأخَّر.
الثاني: أنه أدخل أتباع التابعين ومن جاء بعدهم، ولم يذكر المشهورين منهم كابن جريج (ت150هـ)، ومقاتل بن حيان (ت150هـ)، ومقاتل بن سليمان (ت150هـ)، وابن زيد (ت182هـ)، والتفسير الوارد عن هؤلاء كثيرٌ جداً.
وقد ذكر المفضل، ولم ينسبه، ولعله يقصد المفضل بن سلمة (ت290هـ) وله كتاب «ضياء القلوب في معاني القرآن» ، وعبد الرزاق الصنعاني (ت211هـ) وتفسيره مطبوع، وعبد بن حميد (ت249هـ) وطبعت قطعة صغيرة من تفسيره، والبخاري (ت256هـ)، وعلي بن أبي طلحة (ت143هـ).
ومما يلحظ على عبد الرزاق وعبد بن حميد وعلي بن أبي طلحة أنهم رووا التفسير فهم نقلة له، وهذه هي الصفة الغالبة على الجيل الذي جاء بعد أتباع التابعين، حتى ظهر المفسر الناقد في الطبقة التي تليهم.
وأما البخاري، فإن تفسيره مفقود، وتجد في صحيحه أنه كان صاحب اختيار وانتقاء في التفسير؛ لأن تراجم أبوابه تدلُّ على ذلك.
ويمكن أن نختصر القول في هذه الطبقات من حيث الرواية والدراية إلى الآتي:
1 -
جيل الصحابة كان جيل رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن بعضهم البعض، وإن كان ظهور الدراية فيهم أكثر.
2 -
جيل التابعين كان جيل رواية ودراية، وكانت الدراية فيه كثيرة.
3 -
جيل أتباع التابعين كان جيل دراية، وإن كانت الرواية فيه كثيرة جدّاً.
4 -
ما بعد جيل أتباع التابعين كان جيل رواية، ولم يظهر فيه مفسر صاحب اختيار، حتى ظهر ابن جرير الطبري (ت310هـ)، وكان بداية عهد جديد للتفسير، وبه برز المفسر الناقد والمرجح بين الأقوال.
قوله: (ثم إن محمد بن جرير الطبري جمع أقوال المفسرين، وأحسن النظر فيها).
كان منهج الطبري (ت310هـ) يقوم على جمع الروايات، ثم الترجيح بينها إن كان المقام يحتاج إلى ترجيح، وكتابه أفضل كتب التفسير في المادة التطبيقية على فهم المعنى، والترجيح بين الأقاويل المختلفة في التفسير؛ لأن جُلَّ الكتاب مبني على التفسير، ولا يكثر من المسائل العلمية التي تكون ملتصقة بالآية والمشكلات وغيرها.
قوله: (وممن صنف في التفسير أشياء أبو بكر النقاش والثعلبي والماوردي، إلا أن كلامهم يحتاج إلى تنقيح، وقد استدرك الناس على بعضهم).
محمد بن الحسن أبو بكر النقاش (ت351هـ) كان عالماً بالقراءات والتفسير، وكان أول أمره يتعاطَى نقش السقوف والحيطان فسُمي النقاش، أما كتابه فاسمه:«شفاء الصدور في تفسير القرآن» ، وهو مختصر من كتابه «مختصر التفسير» (1)، قال النقاش في تفسير قوله تعالى:
(1) قال النقاش في مقدمة تفسيره: «فصرفت عنايتي، وشغلت همتي لتفسير مختصر، فيه بغية العالِم، وفائدة المتعلِّم، وحذفتُ منه الطُّرق والأسانيد؛ لأنا أودعنا ذلك =
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ}
…
وألّف كتاباً آخر وهو: «الإشارة في غريب القرآن» وكتاب «الموضح في معاني القرآن» ، وله كتاب في القراءات أيضاً.
وهذا الكتاب فيه فوائد، ومن لطائف هذا الكتاب مقدمته، ومن عجيب ما ذكره فيه فصل سمَّاه:«شواذ التفسير» ، وذكر بعض التفاسير
= واختصرناه في كتابنا الموسوم بـ «مختصر التفسير»
…
وقد اشتمل كتابنا هذا على علوم كثيرة، فمن أراد الاستقصاء في نوع من هذه الأنواع، فلينظر فيما ذكرنا فإنه يصادف بغيته، مع أن كتابنا المختصر قد اشتمل على كثير من الأخبار المسندات والمراسيل، والتفاسير بالروايات، والقراءات الشاذة والمشهورة، والآيات الناسخات والمنسوخات، والمجملات والمفسرات، والمتشابهات والأقسام والجوابات، وما تعلق من التفسير بالإعراب، واللغات، والتصريح والكنايات، والخاص والعام، والمقدم والمؤخَّر، والمكي والمدني، والموصول الذي لا يجوز قطعه، فمن قطعه تحرف من معناه فذاك غير جهته، والمفصل الذي أوله غير متعلق بمعنى ما بعده وما بعده يتعلق بأوله، ومواضع الاختصار التي لا تظهر، والإشارة والإضافة، وكلام يدخل بين كلامين ليس منه، وسؤال عن حجة قرر الله العباد فلم يردوا جواباً، والحروف التي افتتح الله بها السور وما لا يعلم إلا الله برواية وأثر، والوعد والوعيد، والمدح الذي لا يصير ذماً، والذم الذي لا يصير مَدحاً، ومواضع بيان الحيرة عن الجواب، والنظائر والوجوه والأمر والنهي، والحلال والحرام، وما يطول تعداده عن علم الظاهر والباطن حتى خفت أن يخرج هذا الكتاب عن حد الاختصار، ويبلغ ذلك ثمانية آلاف ورقة، فأحببت اختصار هذا المختصر؛ ليسهل ذلك على من أراد حفظه، أو أراد الوقوف على كل آية، وما فيها من حرف حرف، ومعانيها، فيطلع على غوامض الأمور المشكلة، والأنباء المجهولة، ويجعل ما كان منها بعيداً قريباً، وما كان منها عسيراً يسيراً، وما كان منها لطيفاً جليلاً، وأسأل الله التوفيق والتأييد والتسديد، وما كان من هذا المختصر من صواب فمن الله عز وجل، وما كان من خطأ أو زلل فمني، أستغفر الله تعالى منه».
(1)
رسالة دكتوراه بجامعة أم القرى «أبو بكر النقاش ومنهجه في تفسير القرآن الكريم» للدكتور علي بن إبراهيم الناجم.
التي يرى أنها ضعيفة جداً مثل: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ} [الجن: 18] المساجد المراد بها أعضاء السجود، وهو قول مروي عن عكرمة (ت104)، وقد ذكر أمثلة غيره.
ثم ذكر بعده أبو إسحاق الثعلبي أحمد بن محمد بن إبراهيم (ت427هـ)، وله مقدمة في تفسيره مفيدة جداً، وذكر فيها طرق التفسير التي رواها عن أشياخه، واستفاد من بعض كتب التفاسير المعاصرة له وكتب كتابه، ومن لطائف مقدمته أنه صنف الذين كتبوا في التفسير؛ نذكرها من باب الفائدة، يقول:«فألفيت المصنفين في هذا الباب فرقاً على طرق، فرقة منهم أهل البدع والأهواء ـ ثم قال ـ وفرقة ألَّفوا وقد أحسنوا غير أنهم خلطوا أباطيل المبتدعة بأقوال السلف الصالحين، وفرقة اقتصروا على الرواية والنقل دون الدراية والنقد، وقسم خرم الإسناد الذي هو الركن والعماد، وقسم حازوا قصب السبق لكنهم طولوا الكتب بالمُعادات وكثرة الطرق والروايات، وقسمٌ جنوا التفسير دون الأحكام وبيان الحلال والحرام والمشكلات» (1).
لما ذكر هؤلاء ذكر أنه يريد الاستفادة من جميع هذه المناهج، وأنه سيذكر في كتابه أربعة وعشرين فناً.
أما الماوردي علي بن محمد بن حبيب (ت450هـ) فقد جمع بين أقاويل السلف والخلف، وحذف الإسناد وأشار فقط إلى صاحب القول، وأدخل فيها أقاويل المعتزلة في كتابه، ولم ينتقد في كتابه إلا قليلاً؛ ولهذا طُعِنَ عليه بسبب نقله لأقوال المعتزلة وعدم استدراكه عليهم حتى قيل إنه من المعتزلة، وهذا القول فيه نظر؛ لأنه لم يكن يتبنى مذهبهم تبنياً صريحاً، ولأنه وضع الكتاب مختصراً بأسلوب ذكرِ القولِ، ومن قال به، دون الاعتراض على التفسيرات التي ذكرها، فهذا لم يكن من منهجه.
(1) تفسير الكشف والبيان للثعلبي 1/ 74.
وقد أضاف إلى نقولاته ما ظهر له من المحتملات في التفسير، فإذا قال:«يحتمل» فهذا من قوله، ولهذا قال عنه:«وذاكراً ما سنح به الخاطر من معنى يحتمل، عبرت عنه بأنه محتمل» (1).
وقوله: (إلا أن كلامهم يحتاج إلى تنقيح) يريد كتاب النقاش والثعلبي والماوردي، لما في تفاسيرهم من الملاحظات التي تحتاج إلى استدراكات، خصوصاً ما أدخله الماوردي من أقوال المعتزلة.
قوله: (وقد استدرك الناس بعضهم على بعض) يدل على أن الاعتراض بين المفسرين، والاستدراك على المتقدمين له تاريخ طويل، وهو موضوع بحاجة إلى بحث يُنظر فيه إلى أنواع الاستدراكات، وأسبابها، وأقسامها، إذ قد يكون الاستدراك على المنهج العام للمفسرين، كما وقع من استدراك الثعلبي على كتب التفسير قبله (2)، وقد يكون على تفسير مفسر لآية، وقد يكون غير ذلك. وتجلية تاريخ الاستدراك مفيد في معرفة أصول التفسير عند هؤلاء المفسرين.
وقوله: (وصنف أبو محمد بن قتيبة في غريب القرآن ومشكله وكثيرٌ من علومه).
صنّف ابن قتيبة كتابين في علوم القرآن، وهما من العلوم المشتركة مع علوم العربية: تفسير غريب القرآن، وتأويل مشكل القرآن، وهما كتابان متممان لبعضهما كما أشار إلى ذلك ابن قتيبة (3).
أما أن يكون لابن قتيبة كتب أخرى في علوم القرآن فإن هذا فيه
(1) النكت والعيون 1/ 21.
(2)
ينظر: مقدمة الثعلبي لتفسيره، هذا ومن الاستدراكات التي كانت على تفسير الثعلبي؛ كتاب (مباحث التفسير) لأحمد بن محمد بن المظفر الرازي (ت:631)، وقد طُبع في دار كنوز أشبيليا بتحقيق الأخ الفاضل حاتم بن عابد القرشي.
(3)
تفسير غريب القرآن، المقدمة، 3.
نظر؛ لأنه لا يُعرف لابن قتيبة (ت276هـ) مشاركة في التفسير أو في علوم القرآن إلا في هذين الكتابين، وهناك كتاب فيه بعض الأسئلة التي وردت له عن التفسير.
قوله: (وصنف في معاني القرآن جماعة من النحويين كأبي إسحاق الزجاج، وأبي علي الفارسي، وأبي جعفر النحاس).
ما ذكره المؤلف من مؤلفات النحويين إنما هو مثال، ولم يكن من شرط المؤلف استقراء المؤلفات، وهؤلاء النحويون الذين ذكرهم قد سُبقوا إلى الكتابة في معاني القرآن، فقد كتب قبلهم جماعة؛ كقطرب (ت206هـ)، والفراء (ت207هـ)، والأخفش (ت215هـ)، وغيرهم.
وأبو إسحاق الزجاج (ت311هـ) كتابه معروف وهو «معاني القرآن وإعرابه» مطبوع في خمسة مجلدات ويحتاج إلى إعادة تحقيق؛ لأن التحقيق الموجود فيه أخطاء.
أما أبو علي الفارسي (ت377هـ) فله في معاني القرآن كتاب «الإغفال» لما أغفله الزجاج في معانيه، فشيخه الزجاج كتب معاني القرآن وإعرابه وأبو علي الفارسي تعقبه وأغلب التعقبات نحوية.
أما أبو جعفر النحاس (ت338هـ) فله كتب في علوم القرآن وهي كتاب «معاني القرآن» ، وكتاب «إعراب القرآن» ، وكتاب «الناسخ والمنسوخ» ، وكتاب «القطع والائتناف» ، وكتبه نفيسة جداً، ومما يلحظُ أنه استفاد في جميع كتبه من تفسير الطبري في ترجيحاته ومروياته.
قوله: (وأما أهل المغرب والأندلس فصنف القاضي منذر بن سعيد البلوطي كتاباً في غريب القرآن وتفسيره).
بعد أن ذكر أهل المشرق ذكر أهل المغرب والأندلس، وابتدأ بذكر القاضي منذر بن سعيد البلوطي (ت355هـ)، وذكر له كتاب «غريب القرآن وتفسيره» وقد اجتهدت في البحث عن هذا الكتاب في الطبقات والتراجم
فلم أجد له ذِكْراً، وقد ذكروا له كتاباً في «الناسخ والمنسوخ» ، وكتاباً آخر في أحكام القرآن يسمى «الإنباه على استنباط الأحكام من كتاب الله» ، واستقرأت من خلال الحاسوب بعض المنقول عن منذر بن سعيد عند ابن عطية (ت542هـ) ومن جاء بعده، وكانت النقول المنسوبة إليه قليلة.
ومما ذكره عنه ابن عطية واستدركه عليه؛ قوله في الجنة هل هي مخلوقة أو لا؟ ونسبه إلى المعتزلة. وقد أكَّد أبو حيان الأندلسي (ت745هـ) هذه النسبة، فهو ظاهري في الفروع، ومعتزلي في العقائد كما تذكر كتب الطبقات.
قوله: (ثم صنف المقرئ أبو محمد مكي بن أبي طالب كتاب «الهداية في تفسير القرآن»، وكتاباً في غريب القرآن، وكتاباً في ناسخ القرآن ومنسوخه، وكتاباً في إعراب القرآن إلى غير ذلك من تآليفه، فإنها نحو ثمانين تأليفاً أكثرها في علوم القرآن، والقراءات، والتفسير، وغير ذلك).
أبو محمد مكي بن أبي طالب (ت437هـ) المشهور بالتصنيف في علوم القرآن، أغلب علمه وكتبه في علوم القرآن والكتب التي ذكرها كتاب «الهداية في تفسير القرآن» محقق في رسائل جامعية، وقد طُبِع مؤخَّراً، وكتاب «غريب القرآن» مطبوع، وكتاب «الناسخ والمنسوخ» مطبوع، وكتاب «إعراب القرآن» مطبوع، وله كتاب «المشكل في غريب القرآن» والبعض يسميه تفسير غريب القرآن، وكتابه الذي يعنينا هو التفسير واسمه:«الهداية إلى بلوغ النهاية في علم معاني القرآن وتفسيره وأحكامه وجمل من فنون علومه» ، وقد نبهت ـ سابقاً ـ أن بعض المؤلفين لهم طريقة في تصنيف علوم القرآن، وهي إدخال علوم القرآن في كتب التفسير، وهذا الكتاب منها.
قوله: (وأما أبو عمرو الداني فتآليفه تنيف على مائة وعشرين إلا أن أكثرها في القراءات ولم يؤلف في التفسير إلا قليلاً).
ألّف أبو عمرو الداني (ت444هـ) أغلب كتبه في علم القراءات، وهو إمام في القراءات والرسم والضبط، أما التفسير فلا أذكر أن له تفسيراً، لكن كتبه لا تخلو من التعرض للتفسير وبيان معانيه.
قوله: (وأما أبو العباس المهدي فمتقن التآليف، حسن الترتيب، جامع لفنون علوم القرآن).
أبو العباس المهدي أو المهدوي (ت440هـ) ممن اختص بعلم القرآن، وله كتابه هذا «التحصيل» ، وهذا الكتاب كما قال:«جامع لفنون علوم القرآن» ، وقد رتبه على خمسة علوم: على التفسير والإعراب والأحكام والنسخ، والتفسير والقراءات والإعراب (1)، وطريقته صعبة كما قال ابن عطية (2)؛ لأنه يذكر مقطعاً من الآيات، ثم يفسرها، ثم يعربها، ثم ينتقل إلى الأحكام والناسخ والمنسوخ، ثم ينتقل إلى القراءات وتوجيهها ويذكرها، ثم إذا انتهى منها تكلم عما فيها من فرش الحروف مما يتعلق بالقراءات، أو ما يتعلق ببعض القضايا المتعلقة بالرسم، وهذه الطريقة صعَّبت الاستفادة من الكتاب، وهي من طرائق التأليف التي دمجت بين علوم القرآن والتفسير.
قوله: (ثم جاء القاضيان أبو بكر بن العربي، وأبو محمد عبد الحق بن عطية، فأبدع كل واحدٍ وأجمل، واحتفل وأكمل، فأما ابن العربي فصنف كتاب «أنوار الفجر» في غاية الاحتفال، والجمع لعلوم
(1) يُنظر تحقيق سورتي الفاتحة والبقرة للباحث علي بن محمد وسعيد هرموش.
(2)
قال: «ورأيت أن تصنيف التفسير كما صنع المهدوي رحمه الله مُفرِّقٌ للنظر، مشعِّبٌ للفكر» (ط قطر 1:11) هذا في وصف ترتيب كتابه، وقد قدمه في موطن آخر (1:32) فقال: «وأبو العباس المهدوي متقن التأليف» .
القرآن، فلما تلف تلافاه بكتاب «قانون التأويل» إلا أنه اخترمته المنية قبل تخليصه وتلخيصه، وألف في سائر علوم القرآن تآليف مفيدة).
كتاب ابن العربي (ت543هـ)«أنوار الفجر» يذكر المؤلف أنه تلف، ويبدو أنه اعتمد على قول ابن العربي رحمه الله:«وقد كنا أملينا في كتاب «أنوار الفجر» ثمانين ألف ورقة؛ تفرقت بين أيدي الناس، وحصل عند كل طائفة منها فنٌّ، وندبتهم أن يجمعوا منها ولو عشرين ألفاً
…
».
وفي بعض الروايات تذكر أنه باقٍ، فقد ورد عن يوسف المغربي الحزَّام الذي كان يحزم كتب السلطان أبي عنان المريني أنه رآه في ثمانين مجلداً لم ينقص منه شيء (1).
وهذا يعني أنه قد نفذت نسخة فريدة لم يطلع عليها ابن العربي (ت543هـ) آنذاك، والكتاب ـ فيما يبدو ـ ليس موجوداً الآن، ولعله إن كان موجوداً أن يمنَّ الله على أحد المحققين بملاقاته.
أما كتابه «قانون التأويل» ، فقد كتب ابن العربي تحت هذا العنوان كتابين:
الأول: «واضح السبيل إلى معرفة قانون التأويل في فوائد التنزيل» ، وهذا الكتاب قد وقع اختلاف في تسميته، ويظهر أن ابن جزي قد اختصر عنوانه، وهو مقصوده بالكتاب الحافل الذي ألَّفه ابن العربي بعد كتاب أنوار الفجر، وقد استظهر الدكتور محمد السليماني أن يكون ابن العربي قد ألف هذا الكتاب في آخر عمره (2)، لكنه لم يتمَّه كما أشار إلى ذلك ابن جزي.
(1) انظر المقدمة الحافلة التي قدَّمها الأستاذ الدكتور المحقق البارع محمد السليماني لكتاب «قانون التأويل» ، وقد أجاد أيما إجادة في الكلام عن مؤلفات ابن العربي؛ انظر ص148، وانظر: الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب 2/ 255.
(2)
مقدمة الدكتور محمد السليماني لكتاب قانون التأويل، ص125.
الثاني: «قانون التأويل» ، وهو في مجلد، وفيه حشد لمسائل متنوعة في علوم شتى، وفيها مسائل متعلقة بعلوم القرآن، وقد نص على قانون التأويل في كتابه هذا (1).
والمقصود أن هذا الكتاب المطبوع ليس هو الذي أراده ابن جزي بقوله: «ثم تلافاه بكتاب قانون التأويل، وإنما المراد به الكتاب الأول الذي ذكرته قبله باسم: «واضح السبيل إلى معرفة قانون التأويل في فوائد التنزيل» .
قوله: (وأما ابن عطية، فكتابه في التفسير أحسن التآليف وأعدلها، فإنه اطلع على تآليف من كان قبله فهذبها ولخَّصها، وهو مع ذلك حسن العبارة، مسدد النظر، محافظ على السنة).
تفسير ابن عطية (ت542هـ) كما سمَّاه مؤلفه: «المحرر الوجيز» ، وقد قال ابن عطية ـ في مقدمة تفسيره ـ:«وقصدت فيه أن يكون جامعاً وجيزاً محرراً» (2).
أما قوله: (محافظ على السنة)؛ إن كان في الأحكام فنعم، وإن كان يقصد أنه في الاعتقاد على مذهب السلف من الصحابة والتابعين، فلا؛ لأن المعروف عنه ـ رحمه الله تعالى ـ أنه على مذهب الأشعري (ت324هـ)، وهو مذهب كلامي حادث، وهذا ظاهر من الآيات التي تعرض لها بما يتعلق بالاعتقاد.
والعجب من ابن حجر الهيتمي (ت974هـ) وابن عرفة المالكي (ت803هـ) ـ وهما أشعريان ـ أنهما اشتدَّا في النقد على ابن عطية (ت542هـ)، ونسباه إلى الاعتزال، فقد جاء في «الفتاوى الحديثية»: «سئل ابن حجر هل في تفسير ابن عطية اعتزال؟ قال: نعم فيه شيء كثير حتى
(1)(ص646)، وانظر: دراسة الدكتور محمد السليماني لهذه الفكرة (ص248)
(2)
المحرر الوجيز 1/ 4.
قال الإمام المحقق ابن عرفة المالكي: يخشى على المبتدئ منه أكثر مما يخاف على الزمخشري، فالزمخشري لما علمت الناسُ منه أنه مبتدع تخوَّفوا منه، واشتهر أمره بين الناس أن فيه من الاعتزال المخالف للصواب، وأكثر من تبديعه وتضلليه وتقبيحه وتجهيله، وابن عطية سني، لكن لا يزال يُدخِل من كلام بعض المعتزلة ما هو من اعتزاله في التفسير، ثم يقره وينبه عليه ويُعتقد أنه من أهل السنة، وأن ما ذكره من مذهبهم الجاري على أصولهم، وليس الأمر كذلك، فكان ضرر تفسير ابن عطية أشد وأعظم على الناس من ضرر الكشاف» (1).
ولا شك أن كلام ابن حجر الهيتمي وابن عرفة في ابن عطية فيه نظر وليس على إطلاقه، وإن كان ابن عطية قد ذكر بعض كلام المعتزلة ولم ينتقده، لكنه في الحقيقة قليل، أما الأصول التي سار عليها فهي على أصول ابن فورك (ت406هـ)، والجويني (ت478هـ)، وهو قد قرأ كتبهما كما ذكره هو في فهرست شيوخه، وإذا جاء إلى الآيات المرتبطة بالاعتقاد سواء في الصفات أو في القدر أو في القرآن أو غيرها سار على مذهب هؤلاء وهم من المتكلمين الأشاعرة.
و «تفسير ابن عطية» من أنفس كتب التفسير، وفيه عناية بتوجيه أقوال المفسرين، وله في ذلك ما لم يُسبق ـ فيما أعلم ـ إليه، ومن ذلك تفسيره لقوله تعالى:{لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة: 65]، قال: «و: {تَفَكَّهُونَ} قال ابن عباس ومجاهد وقتادة معناه: تعجبون، وقال عكرمة: تلامون. وقال الحسن معناه: تندمون، وقال ابن زيد: تتفجعون، (وهذا كله تفسير لا يخص اللفظة، والذي يخص اللفظ، هو: تطرحون الفاكهة عن أنفسكم وهي المسرة والجدل)(2)، ورجل فكه
(1) الفتاوى الحديثية، لابن حجر الهيتمي (بالتاء) ص242.
(2)
المحرر الوجيز: 15/ 380.
إذا كان منبسط النفس غير مكترث بالشيء، وتفكَّه من أخوات تحرَّج وتحوَّب».
قوله: (ثم ختم علم القرآن بالأندلس وسائر المغرب بشيخنا الأستاذ أبي جعفر بن الزبير، ولقد قطع عمره في خدمة القرآن، وآتاه الله بسطة في علمه، وقوة في فهمه، وله فيه تحقيق، ونظر دقيق).
أبو جعفر بن الزبير (ت708هـ) اشتهر بما ذكره المؤلف من دقة فهمه في القرآن، وظهر من خلال كتابين له، وهما مطبوعان: الكتاب الأول «ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظ من آي التنزيل» ، والكتاب الثاني هو «البرهان في تناسب سور القرآن).
قوله: (ومما بأيدينا من تآليف أهل المشرق تفسير أبي القاسم الزمخشري، وأبي الفضل الغزنوي، وأبي الفضل بن الخطيب.
أما الزمخشري: فمسدد النظر، بارع في الإعراب، متقن في علم البيان؛ إلا أنه ملأ كتابه من مذهب المعتزلة ونَصَرهم، وحمل آيات القرآن على طريقتهم، فتكدَّر صفوُه، وتمرَّرَ حلوُه، فَخُذْ منه ما صَفا، ودَعْ ما كَدَرَ).
ذكر في الزمخشري (ت583هـ) ثلاث قضايا:
1 -
أنه بارع في الإعراب، وإن كان بعض النحويين المتأخرين يستدركون عليه كثيراً في قضايا النحو، ويعيبون تقصيره في بعض مسائله، كما يفعل ذلك أبو حيان الأندلسي (ت745هـ) في تفسيره «البحر المحيط» .
2 -
أنه متقن في علم البيان، وهذا مما أطبق عليه العلماء، وهو مما يُسَلَّم فيه للزمخشري، وقد استفاد منه من جاء بعده.
3 -
أنه ملأ تفسيره بكلام المعتزلة؛ وقد قصد إلى ذلك، وربما أخفاه بطريقة ذكية في التعبير حتى قال فيه البلقيني (ت805هـ):
«استخرجت من الكشاف اعتزالاً بالمناقيش» (1) ولأجل هذا صار يُنظر إلى كلامه بريبة، ويُظنُّ أنه أرد ببعض عباراته نصرة مذهبه الاعتزالي، وذلك مثل ما وقع في تفسير قوله تعالى:{فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185] قال: «فقد حصل له الفوز المطلق المتناول لكل ما يفاز به ولا غاية للفوز وراء النجاة من سخط الله والعذاب السرمد، ونيل رضوان الله والنعيم المخلد» (2)، وفي عبارته هذه ما يشعر بأن دخول الجنة هو الفوز المطلق، وبأنه ليس وراء دخول الجنة فوز آخر، وباطن هذه العبارة إنكار رؤية الباري التي هي أعظم الفوز.
وهذا التفسير قد كثرت الدراسات عليه قديماً، وقد اعتنى به العلماء، وقرؤوه مع طلابهم، وأكثر من اعتنى به علماء الماتريدية والأشاعرة، وهم يتعقبونه في مسائل الاعتقاد، وهناك من اعتنى به من جهة البلاغة، وفي ذلك حواشي نفيسة كحاشية القزويني، وحاشية الطيبي.
والزمخشري له كشَّافان: «الكشَّاف القديم» ولكنه غير موجود و «الكشاف الجديد» وهو مطبوع، وكتبَه وهو مجاور في بيت الله كما قال:«في مقدار مدّة خلافة أبي بكر» (3)، أي: في سنتين وستة أشهر تقريباً.
قوله: (أما الغزنوي، فكتابه مختصر، وفيه من التصوف نكت بديعة).
وقع في بعض نسخ المخطوطة «القونوي» ، والصواب الغزنوي، وقد ذكر نقولاً عنه في تفسيره، ونصَّ على ذلك في مواضع منها تفسير
(1) الإتقان في علوم القرآن، النوع الثمانون طبعة مجمع الملك فهد 6/ 2345.
(2)
الكشاف 1/ 477.
(3)
الكشاف 1/ 44.
قوله تعالى: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} [المؤمنون: 36]، قال: «
…
وقال الغزنوي: هي للتأسف والتأوه ..» (1)، ومنها في تفسير قوله تعالى:{أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى} [العلق: 11]
…
الآيات، قال: «
…
وخالفهما أيضاً الغزنوي في الجواب فقال: إن جواب قوله إن كان على الهدى محذوف
…
» (2).
قوله: (وأما ابن الخطيب فتضمن كتابه ما في كتاب الزمخشري، وزاد عليه إشباع الكلام في قواعد في الكلام، ونمقه بترتيب المسائل، وتدقيق النظر في بعض المواضع، وهو على الجملة كتاب كبير الجرم ربما احتاج إلى تنخيل وتلخيص، والله ينفع الجميع بخدمة كتابه، ويجزيهم أفضل ثوابه).
ابن الخطيب هو الرازي المعروف محمد بن عمر (ت604هـ)، وكنيته أبو عبد الله أشهر من كنيته بأبي الفضل، وقد صنف كتابه:«التفسير الكبير» ، وسماه أيضاً:«مفاتيح الغيب» ، وقد انتقد بعض العلماء هذه التسمية.
والرازي ـ كما ذكر المؤلف ـ استفاد من الزمخشري، لذا تجد الفائدة في كتاب الزمخشري في سطر، ثم ترى الرازي يشققها إلى مسائل، وكان هذا هو منهج الرازي في كتابه، وهو ممن اعتنى بالتقسيم.
وقد انتقده آخرون بأن فيه كل شيء إلا التفسير، وهذا النقد فيه مبالغة، وإنما فيه التفسير وفيه كثير مما ليس من التفسير، وقد أشار إلى هذا أبو حيان الأندلسي (ت745هـ)، فقال:«فإنه جمع في كتابه في التفسير أشياء كثيرة طويلة لا حاجة لها في علم التفسير» (3).
(1) التسهيل (تحقيق الخالدي) 2/ 51.
(2)
التسهيل 2/ 489.
(3)
تفسير البحر المحيط 1/ 492.
وقد أدخل في تفسيره مسائل كثيرة من العلوم ليست من التفسير إطلاقاً، فتجد فيه الفلسفة والمنطق والتنجيم والكلام عن السحر.
والتفسير بحاجة إلى تلخيص، كما أشار ابن جزي؛ لاستخراج النكات العلمية المرتبطة بالآيات والتفسير، فالكتاب مليء بالفوائد كعلم المناسبات، وحل بعض المشكلات التفسيرية.
وهناك خلاف طويل هل الرازي أتمه أو لم يتمه؟ وكتب في ذلك الشيخ يحيى المعلمي رحمه الله تعالى وغيره، لكن يكاد يُتفق أنه لم يكمل تفسيره، وهناك خلاف هل أكمله أحد تلاميذه أو غيرهم؟