المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الخامسأسباب الخلاف بين المفسرين ووجوه الترجيح - شرح مقدمة التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي

[مساعد الطيار]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الشرح

- ‌سبب تأليفه للكتاب ومقاصده

- ‌الباب الأولنزول القرآن الكريم

- ‌جمع المصحف وكتابته

- ‌ترتيب السور

- ‌نقط المصحف

- ‌أسماء القرآن

- ‌الباب الثانيالسور المكية والمدنية

- ‌الباب الثالثفي المعاني والعلوم التي تضمَّنها القرآن

- ‌الباب الرابعفنون العلم التي تتعلق بالقرآن

- ‌العلم الأول من علوم القرآن: التفسير

- ‌الإجماع والاختلاف في التفسير

- ‌الفرق بين التفسير والتأويل

- ‌العلم الثاني من علوم القرآن: القراءات

- ‌العلم الثالث: أحكام القرآن

- ‌العلم الرابع: النسخ

- ‌العلم الخامس: الحديث

- ‌العلم السادس: القصص

- ‌العلم السابع: التصوف

- ‌العلم الثامن: أصول الدين

- ‌العلم التاسع: أصول الفقه

- ‌العلم العاشر: اللغة

- ‌العلم الحادي عشر: النحو

- ‌العلم الثاني عشر: علم البيان

- ‌الباب الخامسأسباب الخلاف بين المفسرين ووجوه الترجيح

- ‌وجوه الترجيح

- ‌الباب السادسطبقات المفسرين

- ‌الباب السابعفي الناسخ والمنسوخ

- ‌الباب الثامنالقراءات

- ‌الباب التاسعالوقف

- ‌الباب العاشرالفصاحة والبلاغة وأدوات البيان

- ‌الباب الحادي عشرإعجاز القرآن

- ‌الباب الثاني عشرفي فضائل القرآن

- ‌فهرس المصادر والمراجع

الفصل: ‌الباب الخامسأسباب الخلاف بين المفسرين ووجوه الترجيح

‌الباب الخامس

أسباب الخلاف بين المفسرين ووجوه الترجيح

يقول المصنف رحمه الله: الباب الخامس في أسباب الخلاف بين المفسرين والوجوه التي يرجح بها بين أقوالهم، فأما أسباب الخلاف فهي اثنا عشر:

الأول: اختلاف القراءات.

الثاني: اختلاف وجوه الإعراب وإن اتفقت القراءة.

الثالث: اختلاف اللغويين في معنى الكلمة.

الرابع: اشتراك اللفظ بين معنيين فأكثر.

الخامس: احتمال العموم والخصوص.

السادس: احتمال الإطلاق أو التقييد.

السابع: احتمال الحقيقة أو المجاز.

الثامن: احتمال الإضمار أو الاستقلال.

التاسع: احتمال الكلمة زائدة أو غير زائدة.

العاشر: احتمال كون الكلام على الترتيب أو على التقديم والتأخير.

الحادي عشر: احتمال أن يكون الحكم منسوخاً أو محكماً.

الثاني عشر: اختلاف الرواية في التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن السلف رضي الله عنهم.

وأما وجوه الترجيح وهي اثنا عشر:

الأول: تفسير بعض القرآن ببعض، فإذا دل موضع من القرآن على

ص: 143

المراد بموضع آخر حملناه عليه، ورجحنا القول بذلك على غيره من الأقوال.

الثاني: حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا ورد عنه عليه السلام تفسير شيء من القرآن عوَّلنا عليه لا سيما إن ورد في الحديث الصحيح.

الثالث: أن يكون القول قول الجمهور، وأكثر المفسرين، فإن كثرة القائلين بالقول يقتضي ترجيحه.

الرابع: أن يكون القول قول من يُقْتَدَى به من الصحابة، كالخلفاء الأربعة وعبد الله بن عباس لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اللهم فقهه في الدين وعلِّمه التأويل» (1).

الخامس: أن يدل على صحة القول كلام العرب من اللغة والإعراب أو التصريف أو الاشتقاق.

السادس: أن يُشعر بصحة القول سياق الكلام، ويدل عليه ما قبله أو ما بعده.

السابع: أن يكون ذلك المعنى المتبادر إلى الذهن، فإن ذلك دليلٌ على ظهوره ورجحانه.

الثامن: تقديم الحقيقة على المجاز، فإن الحقيقة أولى أن يحمل عليها اللفظ عند الأصوليين، وقد يترجح المجاز إذا كثر استعماله حتى يكون أغلب استعمالاً من الحقيقة، ويسمى مجازاً راجحاً والحقيقة مرجوحة، وقد اختلف العلماء أيهما يقدم؟ فمذهب أبي حنيفة تقديم الحقيقة لأنه الأصل، ومذهب أبي يوسف تقديم المجاز الراجح لرجحانه، وقد يكون المجاز أفصح وأبرع فيكون أرجح.

التاسع: تقديم العموم على الخصوص، فإن العموم أولى؛ لأنه الأصل، إلا أن يدل دليل على التخصيص.

(1) مسند أحمد برقم (2397) 4/ 225، وأخرجه البخاري في كتاب الوضوء برقم (143) بلا زيادة:(وعلمه التأويل).

ص: 144

العاشر: تقديم الإطلاق على التقييد، إلا أن يدل دليل على التقييد.

الحادي عشر: تقديم الاستقلال على الإضمار، إلا أن يدل دليل على الإضمار.

الثاني عشر: حمل الكلام على ترتيبه، إلا أن يدل دليل على التقديم والتأخير (1).

عقد المؤلف رحمه الله هذا الباب للحديث عن أسباب الاختلاف، والكلام عن وجوه الترجيح.

ولو تأملنا أسباب الاختلاف التي وردت في وجوه الترجيح، فهي كما يلي:

الإطلاق والتقييد، والحقيقة والمجاز، والإضمار والاستقلال، وحمل الكلام على ترتيبه، والعموم والخصوص، واختلاف الرواية يقابله في وجوه الترجيح أن يكون قول الجمهور وقول من يقتدى به، وكذا اختلاف اللغويين في معنى الكلمة واشتراك اللفظ بين معنيين فأكثر يقابله في وجوه الترجيح، النوع الخامس، وهو الأدلة على صحة القول كلام العرب من اللغة والإعراب والتصريف والاشتقاق.

والفرق بين الأسباب والوجوه واضح، فبالنظر إلى السبب في الاختلاف تقول: ما سبب الاختلاف؟

فيكون الجواب: الحقيقة والمجاز.

ثم تقول: ما المقدَّم؛ الحقيقة أو المجاز؟

والجواب: الأصل تقديم الحقيقة على المجاز.

(1) التسهيل 1/ 71 - 73.

ص: 145

وقد نبهت على ارتباط بعض أسباب الاختلاف بوجوه الترجيح؛ لأن المؤلف رحمه الله قرن بينهما في هذه المقدمة، وقد يشكل على القارئ كون هذا يُعدُّ مرة سبباً، ومرة وجهاً من وجوه الترجيح.

السبب الأول من أسباب الاختلاف: اختلاف القراءات:

ليس كل الاختلاف في القراءات داخلاً في التفسير، وليس الاختلاف في القراءات من أسباب اختلاف المفسرين إلا إذا كان الاختلاف في معنى قراءة واحدة، وهذا سيرجع إلى أسباب الاختلاف الأخرى وليس إلى كونها قراءة يخالفها قراءة أخرى.

أما الاختلاف في نحو قوله سبحانه وتعالى: {ارْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} [يوسف: 12] فيدخل في التفسير وليس في اختلاف المفسرين، يقول ابن جزي:«من قرأه بكسر العين فهي من الرَّعْيِ ـ يعني: يرتعِ ـ أي: من رعى الإبل أو من رعي بعضهم لبعض وحراسته، ومن قرأه بالإسكان فهو من الرتع وهو الإقامة في الخصب والتنعم، والياء على هذا أصلية، ووزن الفعل (يفعل) ووزنه على الأول (نفتعل)، ومن قرأ {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} بالياء فالضمير ليوسف، ومن قرأ بالنون فالضمير للمتكلمين، وهم إخوة يوسف» (1).

وهذا الاختلاف في القراءات ـ كما ترى ـ لم يؤثر على اختلاف المفسرين، فالذين قرأوا «يرتعِ» لم يختلفوا في معناها، والذين قرأوا «يرتعْ» لم يختلفوا أيضاً في معناها، فالمفسرون لم يختلفوا، إنما هؤلاء فسروا قراءة، وهؤلاء فسروا قراءة أخرى؛ ولذا فإن إدخال اختلاف القراءات في أسباب الاختلاف غير دقيق (2).

(1) التسهيل (تحقيق: د. عبد الله الخالدي) 1/ 382.

(2)

كنت قد ذكرت هذا من أسباب اختلاف المفسرين في كتابي: «فصول في أصول التفسير» ، ثم ظهر لي ـ فيما بعد ـ أنه لا يدخل في ذلك؛ لأن القراءتين بمثابة الآيتين، والاختلاف في القراءتين كالاختلاف في الآيتين.

ص: 146

مثال آخر: في قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير: 24] بعضهم قال: {بِضَنِينٍ} بالضاد: بمتهم.

وفسر آخرون هذه القراءة (بالضاد): بضعيف، ومنه قولهم:«حبل ضنين» أي: حبل ضعيف.

والاختلاف في معنى «ضنين» هل هو متهم أو ضعيف جاءت في قراءة واحدة، فاختلاف المفسرين ليس بسبب اختلاف القراءة بل بسبب فهم معنى اللفظ في هذه القراءة.

فأي اختلاف مبني على القراءات ليس داخلاً في الاختلاف في التفسير، وإذا وقع الاختلاف في معنى القراءة، فهذا يدخل في واحد من أسباب اختلاف المُفسرين الأخرى.

السبب الثاني: اختلاف وجوه الإعراب وإن اتفقت القراءات:

ربط المؤلف الإعراب بالقراءات؛ لأن الاختلاف في القراءة قد يكون له أثر في اختلاف الإعراب.

والأصل أن الاختلاف في الإعراب مبني على الاختلاف في المعنى، لكنا هنا ننطلق من الإعراب فنجعله سبباً في الاختلاف في المعنى؛ لأننا ننطلق في فهم الكلام العربي من خلال قواعد النحو.

وإن كان الأصل أنك تفهم المعنى ثم تعرب؛ ولذا قالوا: (الإعراب فرع المعنى)، ومن ثَمَّ فإن اختلاف وجوه الإعراب لا يكون من أسباب اختلاف المفسرين إنما نتيجة لاختلافهم في فهم المعنى.

فإن قال قائل: إننا في الواقع نأخذ المعنى من الإعراب، فنحن نعرب، ثم نقول المعنى على هذا الإعراب كذا.

نقول: إنَّ واقع الدراسة عندنا الآن أننا ننطلق من الإعراب إلى المعنى، لكن الصحيح أن الاختلاف في الإعراب نتيجة عن الاختلاف في المعنى، وليس سبباً من أسباب الاختلاف.

ومثال ذلك: في قوله سبحانه وتعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ *سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 4، 5].

ص: 147

يقول ابن جزي: «{مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} متعلقٌ بما قبله، فالمعنى أن الملائكة ينزلون ليلة القدر من أجل كل أمر يقضيه الله في ذلك العام» (1)، فهو رحمه الله رَكَّبَ المعنى على الإعراب، لكن الذي فسر أولاً من السلف ـ قبل أن يأتي علم الإعراب ـ انطلق من المعنى، فجاء المتأخر وحمل المعنى على الإعراب.

ثم قال: «وقيل: إن المجرور يتعلق بما بعده، والمعنى أنها سلامٌ من كل أمر؛ أي: سلامٌ من الآفات، قال مجاهد: لا يصيب أحدٌ فيها داء» ، وقول مجاهد هذا بيان معنى وليس إعراباً، والمعرب يبني الإعراب على كلام مجاهد فيقول: الجار والمجرور متعلق بـ {سَلَامٌ} ، ثم قال بعد ذلك:«والأظهر أن الكلام تم عند قوله: {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ}، ثم ابتدأ قوله: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}، ثم اختُلف في معنى {سَلَامٌ} فقيل: إنه من السلامة، وقيل: إنه من التحية؛ لأن الملائكة يسلمون على المؤمنين القائمين فيها، وكذلك اختلف في إعرابه فقيل: {سَلَامٌ هِيَ} مبتدأ وخبر، وهذا يصح؛ سواء جعلناه متصلاً مع ما قبله أو منقطعاً، وقيل: {سَلَامٌ} خبر مبتدأ مضمر تقديره: أمرها سلام، أو القول فيها {سَلَامٌ}، وهي مبتدأ وخبر {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} أي: دائمةً حتى طلوع الفجر» .

ومن هذا المثال يظهر لك أن الاختلاف في الإعراب مبني على الاختلاف في المعنى ونتيجة له، وليس من أسباب اختلاف المفسرين.

السبب الثالث: اختلاف اللغويين في معنى الكلمة:

هناك تداخل بين هذا السبب والسبب الرابع الذي يليه، وهو «اشتراك اللفظ بين معنيين فأكثر»؛ لأن اللغويين إن اختلفوا في معنى كلمة فلا يخلو الحال من الأمور الآتية:

(1) التسهيل (تحقيق الخالدي) 2/ 500.

ص: 148

الأول: أن ينكر أحدهم معنى يثبته الآخر.

وهذا الاعتراض ـ إن ثبت ـ فإنه قد يكون هو مراد المؤلف في السبب الثالث.

الثاني: أن يكون المعنيان صحيحين في اللغة، ويكون الاختلاف بين اللغويين في المراد بالمعنى في هذه الآية، فإن كان كذلك، فإنه هذا يدخل في السبب الرابع.

ومن أمثلة ما وقع فيه اعتراض على صحة نقل المعنى عن العرب ما ورد في تفسير القرطبي: قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} [الزخرف: 15] «

أي: عدلاً، عن قتادة. يعني: ما عبد من دون الله عز وجل.

الزجاج (1) والمبرد: الجزء ها هنا البنات، عجَّب المؤمنين من جهلهم إذ أقروا بأن خالق السموات والأرض هو الله، ثم جعلوا له شريكاً أو ولداً، ولم يعلموا أن من قدر على خلق السموات والارض لا يحتاج إلى شيء يعتضد به أو يستأنس به؛ لأن هذا من صفات النقص.

قال الماوردي (2): والجزء عند أهل العربية البنات، يقال: قد أَجزأت المرأة إذا ولدت البنات، قال الشاعر (3):

إن أَجْزَأَتْ حُرَّةٌ يوماً فلا عَجَبُ

قد تُجْزِئُ الحُرَّةُ المِذْكَارُ أحْياناً

(1) الزجَّاج فسَّر معنى الجزء في السياق، ولم يقل بأن الجزء في اللغة بمعنى البنات، بل قد شكَّك في البيت الذي يُستدلُّ به على هذا المعنى، قال الزجاج: «وقد أنشدت لبعض أهل اللغة بيتاً يدلُّ على أن معنى: جُزءٍ معنى الأناث ولا أدري البيت قديم أم مصنوع.

أنشدوني:

إِنْ أَجْزَأَتْ حُرَّةٌ يوماً فلا عَجَبٌ

لا تُجْزِئُ الْحُرَّةُ المِذْكَارُ أَحْياناً

أي: إن آنثت؛ أي: ولدت أُنثى» معاني القرآن وإعرابه 4/ 406، 407.

(2)

انظر كلام الماوردي في تفسيره.

(3)

أول من أنشده الزجاج، ولا يُعرف قائله. معاني القرآن وإعرابه 4/ 407.

ص: 149

الزمخشري (1): ومن بدع التفاسير تفسير الجزء بالإناث، وادعاء أن الجزء في لغة العرب اسم للإناث، وما هو إلا كذب على العرب، ووضع مستحدث متحول، ولم يقنعهم ذلك حتى اشتقوا منه: أجزأت المرأة، ثم صنعوا بيتاً، وبيتاً:

إن أجزأت حرة يوماً فلا عجب

زَوِّجْتُهَا مِنْ بَنَاتِ الأَوْسِ مُجْزِئَةً (2)

وإنما قوله: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} متصل بقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} أي: ولئن سألتهم عن خالق السموات والأرض ليعترفن به، وقد جعلوا له مع ذلك الاعتراف من عباده جزءاً فوصفوه بصفات المخلوقين.

ومعنى {مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} أن قالوا: الملائكة بنات الله، فجعلوهم جزءاً له وبعضاً، كما يكون الولد بضعة من والده وجزءاً له.

وقرئ «جزؤٌ» بضمتين» (3).

ومن أمثلة ما هو صحيح في اللغة، لكن يقع الاختلاف في كونه هو المراد بالسياق ما ورد من اعتراض الطبري (ت310هـ) على أبي عبيدة (ت210هـ) في تفسير لفظة:{يُعْصِرُونَ} ، قال الطبري رحمه الله في قوله:{ثُمَّ يَاتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يُعْصِرُونَ} [يوسف: 49]: «وكان بعض من لا علم له بأقوال السلف من أهل التأويل ممن يفسر القرآن برأيه على مذهب كلام العرب ـ يقصد أبا عبيدة معمر بن مثنى ـ يوجه معنى قوله:

(1) انظر كلام الزمخشري في تفسيره 4/ 245.

(2)

صدر بيت من البسيط وعجزه:

.......

للعَوْسَجِ اللَّدْن في أبياتها زَجَلُ

وقد أنشده أبو العباس أحمد بن يحيى (ثعلب) في مجالسه 1/ 145.

(3)

الجامع لأحكام القرآن 16/ 69.

ص: 150

{وَفِيهِ يُعْصِرُونَ} إلى: وفيه ينجون من الجدب والقحط بالغيث، ويزعم أنه من (العَصَر) و (العُصْرَة) التي بمعنى المنجاة من قول أبي زبيد الطائي (1):

صَادِياً يَسْتَغِيثُ غَيْرَ مُغَاثٍ

وَلَقَدْ كَانَ عُصْرَةَ المَنْجُودِ

أي: المقهور، ومن قول لبيد (2):

فَبَاتَ وَأَسْرَى الْقَوْمُ آخِرَ لَيْلِهِمْ

وَمَا كَانَ وقافاً بِغَيْرِ مُعَصَّرِ

قال: وذلك تأويلٌ يكفي من الشهادة على خطئِهِ خلافه قول جميع أهل العلم من الصحابة والتابعين» (3).

فالخلاف في معنى: {وَفِيهِ يُعْصِرُونَ} وقول الجمهور: يعصرون العنب حتى يكون خمراً فهي من (العَصْر)، وقول أبي عبيدة أنه من النجاة فهي من (العُصْرة).

وابن جرير رحمه الله لم يخالف أبا عبيدة في مدلول لفظة: {يُعْصِرُونَ} وأنها تأتي بمعنى (العُصْرة) التي هي المنجاة، بل خالفه في أن هذا المعنى ليس مراداً في هذا السياق.

السبب الرابع: اشتراك اللفظ بين معنيين فأكثر:

الاشتراك في اللفظ: أن يكون للفظ أكثر من معنى في لغة العرب؛ كلفظ (عسعس) الذي يأتي بمعنى: أقبل، ومعنى أدبر، إذ العرب استخدمت هذا اللفظ في هذين المعنيين المتضادين، فهما معنيان متضادان مشتركان في لفظ واحد.

ومن أمثلة ما له أكثر من معنى محتملٍ ما ورد في تفسير قوله سبحانه وتعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] هل المراد بالقرء الحيض أو المراد به الطهر؟

(1) جمهرة أشعار العرب لأبي زيد القرشي، ص583.

(2)

ديوانه، ص49.

(3)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ط. هجر 13/ 197.

ص: 151

وكلا المعنيين وارد من جهة اللغة ومحتمل في السياق، وإن كان ترجيح أحدهما في هذا السياق إبعاد للآخر.

وقد يذكرون أكثر من معنى وتحتملها الآية كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] قيل: معتق من الجبابرة، وقيل: قديم، والقديم والمعتق من الجبابرة معنيان مشتركان في هذه اللفظة، والآية تحتمل هذا وتحتمل هذا، فالاختلاف هنا بسبب اشتراك اللفظ بين معنيين.

وقد يكون الاختلاف بسبب الاشتراك في الصيغة دون أصل الاشتقاق كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 2]، ذكر ابن جزي في معنى {مُسْتَمِرٌّ} قولين:«ذاهب يزول» ، وقيل:«شديد» ، ومن قال:«ذاهب» فإن أصل اللفظة والاشتقاق يختلف عنده عمَّن قال: شديد، فمن قال: ذاهب جعل الفعل منها «مَرَّ يَمُرُّ» فهو مستمر، ومن قال:(شديد) أخذه من «أَمَرَّ يُمِرُّ» فهو مستمرٌّ؛ كما يقال: «حبل مرير» ، فهذا فيه اشتراك في الصيغة (مستمرٌّ)، وليس في أصل الاشتقاق (مرَّ، وأمرَّ)، ولذا فتفسير هذه الصيغة مشترك بين معنيين.

والاشتراك يكون أحياناً في أصل الاشتقاق؛ مثل: القرء، وأحياناً يكون الاشتراك في الصيغة، وليس في الأصل كما في {الْعَتِيقِ} في قوله:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} فمن جعله المعتق من الجبابرة جعله من الفعل الرباعي «أَعْتَقَ ـ يُعْتِقُ» ، ومن جعله بمعنى القديم جعله من الفعل الثلاثي «عَتُقَ» ، فهو قديم.

ارتباط النوع الخامس من وجوه الترجيح بهذين السببين:

ننتقل الآن للحديث عن النوع الخامس من وجوه الترجيح وهو: أن يدل على صحة القول كلام العرب من اللغة والإعراب والتصريف والاشتقاق؛ لأنا ربطناه بالسبب الثالث والرابع وهو اختلاف اللغويين واشتراك اللفظة في معنيين فأكثر، فالتعامل مع الاختلاف فيهما لا يخلو من أحوال:

ص: 152

1 -

إذا كانت اللفظة التي فسر بها القرآن ليست من لغة العرب، فلا شك أنها تُردّ كما في تفسير «استوى» في قوله:{الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] بمعنى استولى، نقول:«استولى» هذه ليست من لغة العرب فهي مردودة.

2 -

إذا كانت اللفظة صحيحة من جهة لغة العرب وفيها اشتراك فإننا نفعل كما فعل الطبري في المثال السابق (1)، فإن كان السياق يدل على صحة هذا المعنى قبلناه، وإن لم يدل عليه رددناه، حتى لو كان المعنى في ذاته من جهة اللغة صحيحاً.

إذا احتمل السياق المعنيين فنحن أمام أمرين: إما أن نُعمِل جميع المعاني على سبيل الأخذ بجميع الأقوال، وإما أن نرجح أحدها لحاجتنا للترجيح في مثل القرء؛ لأنه اختلاف تضاد، وإمَّا أن نرجِّح أحدهما بتقديم الأولى في السياق، ويكون الثاني صحيحاً، وليس مردوداً لكنه أقلُّ قوة من الأول.

وإن أمكن الجمع بين هذه الأقوال وهي مشتركةً فإعمالها أولى من إهمالها.

مثال هذا {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور: 6] فيجوز أن يقال: إنه الموقد والمملوء والمحبوس، وكل واحد منها بالنظر إلى وقتٍ أو مرحلة من مراحل هذا البحر، فجاز إعمال جميع هذه الأقوال، وهي من باب المشترك اللغوي.

السبب الخامس: احتمال العموم والخصوص:

ويقابله من وجوه الترجيح الوجه التاسع: «تقديم العمومي على الخصوصي فإن العمومي أولى؛ لأنه الأصل، إلا أن يدلَّ دليل على التخصيص» .

(1) رده على أبي عبيدة في تفسير «وفيه يعصرون» .

ص: 153

ومن أمثلة هذا السبب: في تفسير سورة الكوثر عند المؤلف، يقول: «والكوثر (بثاء) مبالغة من الكثرة، وفي تفسيره سبعة أقوال:

الأول: حوض النبي صلى الله عليه وسلم.

الثاني: أنه الخير الكثير الذي أعطاه الله في الدنيا والآخرة، وقاله ابن عباس (ت68هـ) وتبعه سعيد بن جبير (ت95هـ)، فإن قيل: إن النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله فالمعنى أنه على العموم.

الثالث: أن الكوثر القرآن.

الرابع: أنه كثرة الأصحاب والأتباع.

الخامس: أنه التوحيد.

السادس: أنه الشفاعة.

السابع: أنه نورٌ وضعه الله في قلبه» (1).

ثم قال: «ولا شك أن الله أعطاه هذه الأشياء كلها، ولكن الصحيح أن المراد بالكوثر الحوض؛ لأنه ورد في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون ما الكوثر؟ هو نهر أعطانيه الله وهو الحوض آنيته عدد نجوم السماء» » (2).

وأشهر الأقوال القول الأول والثاني أن المراد بالكوثر: النهر، أو الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه، والمؤلف هنا لا يرى أن في الأقوال عموماً وخصوصاً؛ ولذا لم يتعامل مع الأقوال بتقديم العام على الخاص، بل يرى أن حديث النبي صلى الله عليه وسلم هو المفسِّر، ومن وجوه الترجيح عنده أن يكون حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فقول النبي صلى الله عليه وسلم يقطع أن النهر الذي

(1) التسهيل (تحقيق الخالدي) 2/ 517.

(2)

أخرجه مسلم في كتاب الصلاة من حديث أنس بلفظ: «فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد النجوم» ، ورقم الحديث (400).

ص: 154

أعطاه الله إياه يدخل في المراد بالكوثر في هذه الآية، ولو نظر المؤلف إلى تفسير الكوثر من باب العموم المخصوص؛ فإن من فسر الكوثر بالنهر فإنه يكون من باب التمثيل عنده، وليس من باب التخصيص.

والمؤلف أشار إلى العموم بقوله: «ولا شك أن الله أعطاه هذه الأشياء كلها» ، وإن كان رجَّح بوجه آخر من وجوه الترجيح وهو الوجه الثاني من وجوه الترجيح «الترجيح بالسنة» .

مثال آخر: في قوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الشورى: 5] يقول ابن جزي (1): «عمومٌ يراد به الخصوص؛ لأن الملائكة إنما يستغفرون للمؤمنين من أهل الأرض، فهي كقوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 7]» ، فالمؤلف يذهب إلى أن هذه الآية خصصت الآية السابقة وهي قوله:{وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} ، ولم يُعمل وجه الترجيح المتعلق به، وهو تقديم العام على الخاص، بل هو يرجِّح الخاص على العام بدليل الآية، فأعمل قاعدة أخرى من وجوه الترجيح وهي تفسير بعض القرآن ببعض، فإذا دل موضع من القرآن على المراد بموضع آخر حملناه عليه ورجحنا القول بذلك على غيره من الأقوال.

السبب السادس: احتمال الإطلاق أو التقييد:

ويقابله في وجوه الترجيح الوجه العاشر: «تقديم الإطلاق على التقييد إلا أن يدل دليل على التقييد» .

ومن أشهر الأمثلة في ذلك قضية الرقبة في قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَاّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]، وفي آية المجادلة:{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَآسَّا} [المجادلة: 3]، ففي آية المجادلة:

(1) التسهيل (تحقيق الخالدي) 2/ 244.

ص: 155

{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} إطلاق، وفي آية النساء {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} تقييد، وكثير من العلماء حمل هذا المطلق على المقيد لكن نقول: إن الأصل هو الإطلاق وعدم التقييد، إلا إذا دل الدليل كما في هذا المثال، ثم إن حمل المطلق على المقيد في هذا المثال هو راجع أيضاً إلى الوجه الأول من وجوه الترجيح الذي هو تفسير بعض القرآن ببعض.

السبب السابع: احتمال الحقيقة والمجاز:

الكلام عن الحقيقة والمجاز طويل، وسيأتي شي مما تعلق به عند كلام المؤلف عنه في وجوه الترجيح.

والمراد هنا أن من أسباب الاختلاف بين المفسرين أن يحتمل الكلام حمله على الحقيقة، ويحتمل حمله على المجاز، فيذهب كل فريق إلى أحد الاحتمالين.

ومن المعلوم أن الكلام إذا دار بين الحقيقة والمجاز، فإن الأصل إعمال الحقيقة وتقديمها على المجاز.

مثاله: عند المؤلف في قوله: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان: 12](أي: إذا رأتهم جهنم، وهذه الرؤية تحتمل أن تكون حقيقة أو مجازاً بمعنى صارت منهم بقدر ما يُرى على البعد) فالمؤلف ذكر هذا الكلام وأنه يحتمل فيه أن يكون حقيقة وأن يكون مجازاً، ولا شكَّ أن الحقيقة أظهر.

مثال آخر: في قوله: {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق: 30] قال: «الفعل مسند إلى جهنم، وقيل: إلى خزنتها من الملائكة، والأول أظهر، واختلف هل تتكلم جهنم حقيقةً أو مجازاً بلسان الحال؟ والأظهر أنه حقيقة، وذلك على الله يسير» .

لو أردنا أن ننظر في المثال الأول والمثال الثاني، فالمؤلف في الأول كأنه توقف هل تحمل على الحقيقة أو على المجاز؟ وفي الثاني

ص: 156

حملها على الحقيقة، ونقول: من باب أولى أيضاً أن يحمل المثال الثاني على الحقيقة؛ لأن أحوال الآخرة غير أحوال الدنيا، وكما قال المؤلف:«وذلك على الله يسير» ، فإذن نثبت كل هذه الأفعال لجهنم على الحقيقة.

ومن الأمثلة كذلك في قول الله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَاّ الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] يقول: «الضمير يعود على الكتاب المكنون، ويحتمل أن يعود على القرآن المذكور قبله، إلا أن هذا ضعيفٌ لوجهين:

أحدهما: أن مسَّ الكتاب حقيقة ومس القرآن مجاز، والحقيقة أولى من المجاز»، المؤلف ذهب إلى أن المراد بالقرآن كلام الله، والكلام لا يمس، فقال:«ومس القرآن مجاز، والحقيقة أولى من المجاز» (1)، وإذا كان المراد الكتاب الذي هو المصحف فهذا يستقيم في هذا المعنى {لَا يَمَسُّهُ إِلَاّ الْمُطَهَّرُونَ} يعني يمس المصحف، فالمؤلف رحمه الله ذكر سبب الاختلاف وأعمل قاعدة الترجيح المتعلقة به فسبب الاختلاف هو احتمال الحقيقة والمجاز، ووجه الترجيح الذي أعمله هو تقديم الحقيقة على المجاز.

السبب الثامن: احتمال الإضمار والاستقلال:

يقابله في وجوه الترجيح: تقديم الاستقلال على الإضمار.

والمراد بالإضمار أن يكون في الكلام شيء أضمره المتكلم ولم يذكره، ويوجد في السياق ما يدل على هذا الإضمار، وتُرك ثقةً بالسامع، وهذا الأسلوب موجود بلغة العرب.

أما الاستقلال فمعناه: أن الكلام لا يحتاج أن يكون فيه إضمار، بل هو مفهوم على ظاهر ألفاظه، وليس هناك كلام قد أخفي أو أضمر.

(1) التسهيل (تحقيق الخالدي) 2/ 339.

ص: 157

من الأمثلة على ذلك:

في قوله سبحانه وتعالى: {قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ} [الأنعام: 19] قال المؤلف: «يحتمل وجهين:

أحدهما: أن يكون «الله» مبتدأ و «شهيد» خبره، والآخر أن يكون تمام الجواب عند قوله:{أَكْبَرُ شَهَادَةً} بمعنى أن الله أكبر شهادة، يعني يقول:{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ} ثم يبتدئ على تقدير: «هو شهيد بيني وبينكم» ، ثم قال بعد ذلك:«والأول: أرجح لعدم الإضمار» ، فالمؤلف يرى عدم الحاجة إلى هذا الإضمار ما دام الكلام مفهوماً بدونه، فهو أرجح، ثم قال:«والثاني أرجح لمطابقته للسؤال؛ لأن السؤال بمنزلة من يقول: من أكبر الناس؟ فيقال في الجواب: فلان، وتقديره فلان أكبر» (1) إلى آخر كلامه.

مثال آخر: في قوله سبحانه وتعالى: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} [مريم: 2] يقول: «{ذِكْرُ} تقديره: «هذا ذكر عَبْدَهُ زَكَرِيَّا» وصفه بالعبودية تشريفاً له وإعلاماً له بتخصيصه وتقريبه، ونصب «عبده» على أنه مفعول لـ «رحمة» ، فإنها مصدر أضيف إلى الفاعل، ونصب المفعول، وقيل: هو مفعول بفعل مضمر تقديره: «رَحِمَ عبدَه» ، وعلى هذا يُوقَف على ما قبله، وهذا ضعيف، وفيه تكلف الإضمار من غير حاجةٍ إليه» (2).

السبب التاسع: احتمال الكلمة زائدة:

هذا السبب لا يقابله شيء من وجوه الترجيح لكن لو أردنا أن نضع له وجهَ ترجيحٍ كما صنع المؤلف فيمكن أن نقول: إذا وقع الاختلاف بين الزيادة وعدمها، فالأصل عدم الزيادة؛ أي: أن القول بعدم الزيادة مقدم على القول بالزيادة.

(1) التسهيل (تحقيق الخالدي) 1/ 256.

(2)

التسهيل (تحقيق الخالدي) 1/ 477.

ص: 158

وعلينا هنا أن نحرِّر مصطلح الزيادة، فنقول: كلام العلماء في الزائد في القرآن على قسمين:

الأول: دعوى زيادة الكلمة أو الحرف بحيث يتأتَّى المعنى الدقيق للجملة بدونه، وهذا وقع فيه أبو عبيدة (ت210هـ) رحمه الله تعالى في بعض أمثلة له؛ كما في قوله:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] يقول: «إذ» زائدة (1)، والمعنى: وقال ربك، والحقيقة أن «إذ» هنا لها معنى، والقول بزيادتها يذهب المعنى الذي فيها. والتحرير أن هذا النوع من دعوى الزيادة ليس موجوداً في كلام الله سبحانه وتعالى، فلا يمكن أن يوجد حرف أو كلمة زائدة في المعنى بحيث لو حُذفت لالتأم المعنى التئاماً تاماً، وصار كما لو جيء بها؛ أي: أن وجود الحرف أو الكلمة وحذفهما سواء في أداء المعنى.

النوع الثاني: وهو الذي يقع في كلام بعض العلماء، وهو المراد بقول كثير منهم بالزيادة في القرآن، ومرادهم وجود الزيادة من جهة المعنى الكلي دون المعنى التفصيلي، وهو الذي يطلق عليه الزيادة في الإعراب، وهذا النوع موجود في كلام العرب وموجود في كلام الله، فيقال: زائدة من جهة الإعراب أما من جهة المعنى فلها غرض. ومن أمثلة ذلك: ما ورد في قوله: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر: 3]، فالمُعرِبُ يقول:{مِنْ} زائدة إعراباً، ثم ينبه على فائدتها من جهة المعنى الثاني فيقول:«وفائدتها التأكيد» .

فجملة «هل خالق غير الله» مساوية لقوله: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} في المعنى الكلي الذي تؤديه هذه وهذه، أما في المعنى التفصيلي فقولك:«هل خالق غير الله» ليست مثل {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} ؛ لأن {مِنْ} جاءت لزيادة التأكيد.

(1) مجاز القرآن 1/ 36.

ص: 159

وقد نبه بعض العلماء المعاصرين على أن من باب الأدب مع كلام الله ألا نسمّي هذه بالزوائد، بل نسميها (صلة) يعني صلة كلام، وهي قضية لفظية ليست أكثر ولا أقل؛ لأن (صلة) أيضاً فيها شيء من المعنى الزائد، كأنها ليست أصلاً، لكن لا شك أن التعبير بغير الزيادة فيه أدب مع كلام الله سبحانه وتعالى، وهذا يشكر عليه من يعترض على مصطلح الزيادة، لكن الذي أريد أن ننتبه له أنه إذا ورد عن العلماء المتقدمين مثل هذه العبارات ومراده هذا النوع الثاني ـ فإنه لا يُثرَّب عليهم لأنه معنى صحيح، ولا يفهم من كلامهم أن مرادهم أن هذه الكلمة لو سقطت من الجملة لكانت الجملة تؤدي تمام المعنى مثل ما لو كانت موجودة، هذا لا يقول به أحد من العلماء المتقدمين، ولو قال به أحد فإنه لا شك مردود.

من الأمثلة على ذلك عند المؤلف في قوله: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} [الأنفال: 12] قال: «يحتمل أيضاً أن يكون خطاباً للملائكة أو للمؤمنين، والمعنى {فَوْقَ الأَعْنَاقِ} أي: على الأعناق حيث المفصل بين الرأس والعنق؛ لأنه مذبحٌ، والضرب فيها يطير الرأس.

وقيل: المراد الرؤوس لأنها فوق الأعناق.

وقيل: المراد الأعناق و {فَوْقَ} زائدة» (1).

وهذا القول الأخير هو أضعف الأقوال؛ لأن {فَوْقِ} لها مدلول، فإذا أسقطنا مدلول {فَوْقَ} صار «فاضربوا الأعناق» مثل:{فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} ، ولا شك أن عدم القول بالزيادة أولى من القول بالزيادة فيترجح أحد القولين الأولين ليثبت معنى الفوقية للعنق؛ إما أن يراد به الرأس، وإما فوق العنق الذي هو المقتل؛ لأنه يسقط

الرأس كله.

(1) التسهيل (تحقيق الخالدي) 1/ 323.

ص: 160

مثال آخر: في قوله: {وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ} [يوسف: 80] قال: «تحتمل (ما) وجوهاً:

الأول: أن تكون زائدة.

والثاني: أن تكون مصدرية ومحلها الرفع في الابتداء تقديره: وقع من قبل تفريطكم بيوسف.

والثالث: تكون موصولة محلها الرفع أيضاً» (1).

قال: «والأول أظهر» ، وهو القول بالزيادة.

ولا يعني هذا أن المؤلف يرى أن في القرآن زائداً من جهة المعنى، بل هو زائد من جهة الإعراب فقط، أما المعنى فلا.

مثال آخر أيضاً: في قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [إبراهيم: 21] يقول: «{مِنْ} الأولى: للبيان، والثانية: للتبعيض، ويجوز أن يكونا للتبعيض معاً، قاله الزمخشري» ثم قال: «والأظهر أن الأولى للبيان والثانية زائدة، والمعنى: هل أنتم دافعون أو متحملون عنا شيئاً من عذاب الله» (2). فجعل {مِنْ} الثانية زائدة من جهة الإعراب، لكن لا شك أنها ليست زائدة من جهة المعنى؛ لأن قوله:{مِنْ شَيْءٍ} أكدت العموم.

مثال: في قوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة: 75] قال: «لا» في هذا الموضع وأمثالها زائدة، وكأنها زيدت لتأكيد القسم أو لاستفتاح الكلام نحو: ألا. فالمؤلف جعل لها معنى، وهو التأكيد، ثم قال بعد ذلك:«وقيل: هي نافية لكلام الكفار كأنه يقول: لا صحة لما يقول الكفار، وهذا ضعيف، والأول أحسن؛ لأن زيادة «لا» كثيرة معروفة في كلام العرب» (3).

(1) التسهيل (تحقيق الخالدي) 1/ 393.

(2)

التسهيل (تحقيق الخالدي) 1/ 411.

(3)

التسهيل (تحقيق الخالدي) 2/ 338، 339.

ص: 161

اعتمد المؤلف في الترجيح على الوجه الخامس، وهو: أن يدل على صحة القول كلام العرب من اللغة والإعراب أو التصريف أو الاشتقاق.

السبب العاشر: احتمال حمل الكلام على الترتيب وعلى التقديم والتأخير:

ويقابله في وجوه الترجيح الوجه الثاني عشر: «حمل الكلام على ترتيبه، إلَاّ أن يدل الدليل على التقديم والتأخير» .

وعِلْم المقدم والمؤخر على نوعين:

1 -

نوع يرتبط بعلم البلاغة.

2 -

ونوع يرتبط بالمعنى والتفسير.

والكلام الذي يناقشه المؤلف في سبب الاختلاف وما يقابله من وجوه الترجيح هو مرتبط بالمعنى والتفسير وليس بالبلاغة.

أما مثال ما يتعلق بالبلاغة عند المؤلف ففي قوله: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79] يقول: «وفي كلامه تقديم وتأخير؛ لأن قوله: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} مؤخرٌ في المعنى عن ذكر غصبها؛ لأن خوف الغصب سببٌ في أنه عابها، وإنما قُدِّمَ للعناية به» (1)، فهذا التقديم ليس له أثر في المعنى بل هو مرتبط ببلاغة الكلام فقُدِّم المؤخر للعناية به.

أما النوع الثاني: فهو المتعلق بالتفسير، ومن أمثلته من كلام المؤلف في قوله:{وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} [غافر: 28]«فقوله: {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} صفة للمؤمن، وقيل: كان من بني إسرائيل» فقوله: {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} على هذا يتعلق بقوله: {يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} ـ يعني: يكتم إيمانه من آل فرعون ـ ثم قال: «والأول أرجح؛

(1) التسهيل (تحقيق الخالدي) 1/ 472.

ص: 162

لأنه لا يحتاج فيه إلى تقديمٍ وتأخير، ولقوله:{فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَاسِ اللَّهِ} [غافر: 29] لأن هذا كلامُ قريبٍ شفيق؛ ولأن بني إسرائيل حينئذ كانوا أذلاء بحيث لا يتكلم أحد منهم بمثل هذا الكلام» (1)، فالمؤلف يرجِّح أن يكون المؤمن من آل فرعون وليس من بني إسرائيل؛ لأن الأصل أن يكون الكلام على ترتيبه، ولا يقال بالتقديم والتأخير إلا إذا لم يفهم إلا بالتقديم والتأخير.

مثال: في قوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى *فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} [الأعلى: 4، 5] لما قال: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} المرعى إذا خرج يكون لونه غالباً أخضر، ثم قال:{فَجَعَلَهُ غُثَاءً} هذه الحالة بعد الخضرة و «أحوى» يعني: مائلاً إلى السواد من شدة القدم، يعني: أصابته الشمس حتى صار العود الأصفر مائلاً إلى السواد، فالعيدان الدقيقة إذا اجتمعت في المرعى بجوار بعضٍ تراها مائلة إلى السواد.

بعض المفسرين جعل «أحوى» صفة للمرعى، فيكون فيه تقديم وتأخير إذ قال:«والذي أخرج المرعى أحوى فجعله غثاء» وقال: «إن من شدة خضرته يكون مائلاً إلى السواد كما قال الله سبحانه وتعالى: {مُدْهَآمَّتَانِ} [الرحمن: 64] في خضرة في الجنة، فيكون من شدة الخضرة إذا رآها الرائي من بعيد يرى أنها مائلة إلى السواد» .

وعلى هذا التفسير يكون فيه تقديم وتأخير.

وما دام الكلام يفهم على ترتيبه فهماً سليماً، فالقول به أولى من القول بالتقديم والتأخير.

السبب الحادي عشر: احتمال أن يكون الحكم منسوخاً أو محكماً:

المؤلف رحمه الله تعالى في هذه المقدمة يذكر بعض المعلومات

(1) التسهيل (تحقيق الخالدي) 2/ 230.

ص: 163

مرة بعد مرة كما في قضية النسخ، فقد ذكر جزءاً منها قبل ذلك، وقد سبق أن قررنا (1) أن النسخ على نوعين:

1 -

نسخ جزئي.

2 -

نسخ كلي.

والنسخ الجزئي يقع في الأحكام والأخبار، وهو مراد السلف عندما يطلقون النسخ، أما المتأخرون فيطلقون عليه تخصيص العام أو تقييد المطلق، أو تبيين المجمل، أو الاستثناء، أما النسخ الكلي فلا يقع إلا في الأحكام فقط، واتفق على ذلك السلف والمتأخرون.

من الأمثلة على النسخ الجزئي عند المؤلف في قوله سبحانه وتعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى} [النجم: 39] يقول هنا: «السعي هنا بمعنى العمل، وظاهرها أنه لا ينتفع أحد بعمل غيره، وهي حجة لمالك في قوله: «لا يصوم أحد عن وليه إذا مات وعليه صيام» ، واتفق العلماء على أن الأعمال المالية ـ كالصدقة والعتق ـ يجوز أن يفعلها الإنسان عن غيره، ويصل نفعها إلى من فُعِلت عنه، واختلفوا في الأعمال البدنية كالصلاة والصيام، وقيل: إن هذه الآية منسوخة بقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ} [الطور: 21] قال: والصحيح أنها محكمة لأنها خبر، والأخبار لا تنسخ» (2).

قوله سبحانه وتعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى} خبر، والخبر ـ بناءً على قواعد المتأخرين ـ لا يدخله النسخ، وقد عبَّر عن ذلك المؤلف فقال:«لأنها خبر، والأخبار لا تنسخ» ، ومن عبّر بالنسخ من السلف عبّر عنه بمصطلحه الذي يشمل النسخ الكلي والجزئي، ومراده هنا النسخ الجزئي، وهو من باب تخصيص العام، كما هو قول المتأخرين.

(1) ص109.

(2)

التسهيل (تحقيق الخالدي) 2/ 321.

ص: 164

تنبيه: على رأي بعض العلماء أن الولد من كسب الإنسان، وأنه يدخل في سعيه فليس فيها شيء من ذلك.

مثال آخر: من النسخ الكلي الذي يقع عند السلف وعند المتأخرين في قوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] يقول: «اختلف هل هي منسوخة أو محكمة؟ فالذين قالوا: إنها منسوخة قالوا: معناها الميراث بالحِلْف الذي كان في الجاهلية، وقيل: بالمؤاخاة التي آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين أصحابه ثم نسخها: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75]، فصار الميراث للأقارب، والذين قالوا إنها محكمة اختلفوا فقال ابن عباس: هي في المؤازرة والنصرة بالحلف لا في الميراث به، وقال أبو حنيفة: هي في الميراث

».

فهذا هو النسخ الكلي عند السلف وعند المتأخرين؛ لأنها داخلة في الأحكام.

تمييز عبارة النسخ عند المتقدمين:

فإن قال قائل: إذا وردت عبارة السلف في آية من الآيات وهي حُكم وحملوها على النسخ فهل يكون من النسخ الجزئي أو النسخ الكلي؟

نقول: لا نستعجل في حمل عبارات السلف في الأحكام الواردة في دائرة النسخ على النسخ الكلي؛ لأن النسخ في الأحكام قليلٌ جداً، وكل الخلاف الدائر في الناسخ والمنسوخ إذا استطعنا أن نُخَرِّجَهُ على الأبواب التي ذكرها المتأخرون (تخصيص العام، وتقييد المطلق، والاستثناء وتبيين المجمل)، فهذا أولى.

وبعضهم يرى أن النسخ الكلي لم يقع إلا في ست آيات فقط، وبعضهم يرى أنه لم يقع الاتفاق على النسخ إلا في آية واحدة وهي آية

ص: 165

المجادلة التي فيها ذكر مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم (1)، وأن البقية محمولة إما على التقييد، وإما على التخصيص، أو الاستثناء.

السبب الثاني عشر: اختلاف الرواة في التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن السلف:

هذا السبب ذكره المؤلف وليس له أي مثال، ولذا سنذكر عدداً من الاحتمالات والقواعد الواردة على هذا السبب وهي:

1 -

أن التفسير النبوي لم يقع فيه اختلاف إطلاقاً، فلم يأت عن صحابي أنه يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم فسَّر بكذا، ويأتي آخر ويقول إنه فسَّره بخلاف ذلك.

2 -

أنه لم يقع اختلاف بين التفسير النبوي وكلامه صلى الله عليه وسلم في غير التفسير؛ لأن هذا يدل على التناقض والرسول صلى الله عليه وسلم منزه عن مثل هذا، فلا يمكن أن يفسر آية بمعنى، ثم يذكر في سنته معنى يناقض هذا المعنى.

3 -

أن يقع اجتهاد من المفسر في تفسير الآية بسنة أو بكلام النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الاختلاف ليس بسبب السنة وإنما بسبب اجتهاد المفسر، فعندما يأتي مفسر ويحمل الآية على كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، ويأتي مفسر آخر ويحمل الآية على كلام آخر للرسول صلى الله عليه وسلم، فالخلاف الذي وقع ليس في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما في حمل كلام النبي صلى الله عليه وسلم على معنى الآية.

4 -

أن يقع اختلاف في التفسير النبوي، والتفسير المروي عن بعض السلف؛ أي: أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم فسر بمعنى، ثم يأتي عن مفسر معنى غيره، وهذا وقع كما في الأقوال في تفسير الكوثر، فمنهم من

(1) قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12]، وينظر كتاب الآيات المنسوخة في القرآن الكريم للدكتور عبد الله بن محمد الأمين الشنقيطي (ص95 - 97).

ص: 166

قال: إن الكوثر هو نهر في الجنة، ومنهم من قال: إنه الخير، فقد وقع خلاف بين تفسير النبي صلى الله عليه وسلم وبين تفسير المفسر.

5 -

أن يقع اختلاف بين المتأخرين فيحمل بعضهم الآية على حديث نبوي وبعضهم يحملها على تفسير بعض الصحابة والتابعين.

ومن ذلك ما ورد في فتنة سليمان، فبعض المتأخرين قال: إن فتنة سليمان هي فيما رواه البخاري بسنده عن «عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عليهما السلام: لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ ـ أَوْ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ ـ كُلُّهُنَّ يَاتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ الله، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: قل إِنْ شَاءَ اللهُ، فَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ الله. فَلَمْ يَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلَاّ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ، لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فُرْسَاناً أَجْمَعُونَ» (1). فحمل الآية على الحديث.

وحمل آخرون معنى الآية على الرواية الواردة عن بعض مفسِّري السلف: عن ابن عباس وغيره؛ قال: هو صخر الجنيّ تمثَّل على كرسيه جسداً (2) ـ فحملوها على بعض الروايات الإسرائيلية كما هو مشهور.

6 -

أن يقع الاختلاف في التفسير المروي عن السلف، وهذا كثير.

ومثال ذلك: ما رواه الطبري بسنده عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس حدثه قال: «بينما أنا في الحجر جالس، أتاني رجل يسأل عن {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} فقلت له: الخيل حين تغير في سبيل الله، ثم تأوي إلى الليل، فيصنعون طعامهم، ويورون نارهم. فانفتل عني، فذهب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو تحت سقاية زمزم، فسأله عن {وَالْعَادِيَاتِ

(1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، ورقم الحديث (2819).

(2)

تفسير الطبري، تحقيق التركي 20/ 88.

ص: 167

ضَبْحًا} فقال: سألتَ عنها أحداً قبلي؟ قال: نعم، سألت عنها ابن عباس، فقال: الخيل حين تغير في سبيل الله، قال: اذهب فادعه لي؛ فلما وقفت على رأسه قال: تفتي الناس بما لا علم لك به، والله لكانت أول غزوة في الإسلام لَبدر، وما كان معنا إلا فَرَسان: فرس للزبير، وفرس للمقداد، فكيف تكون العاديات ضبحاً! إنما العاديات ضبحاً من عرفة إلى مزدلفة إلى منى؛ قال ابن عباس: فنزعت عن قولي، ورجعت إلى الذي قال علي رضي الله عنه».

وبعد، فهذه الوجوه والاحتمالات الواردة على عبارته، لكن الأول والثاني غير واقعين إطلاقاً، أما الثالث والرابع والخامس والسادس فهي واردة في التفسير.

وسبب الاختلاف بين المفسرين في هذا المقام هو الاختلاف في المصدر، فمنهم من كان مصدره التفسير النبوي المباشر، ومنهم من اعتمد على حديث نبوي لم يكن وارداً في تفسير الآية مباشرة، ومنهم من اعتمد على اللغة، إلى غير ذلك مما قد يظهر للباحث.

ومن أمثلة اختلاف المفسرين بسبب اختلاف المصدر ما ورد في تفسير قوله سبحانه وتعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42]، فقد ورد عن ابن عباس (ت68هـ) وتلاميذه:«تكشف القيامة عن كرب وهول» (1)، ومصدرهم فيه هو اللغة، وفسَّر آخرون الآية اعتماداً على الحديث النبوي الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم:«يكشف ربنا عن ساقه» .

ويمكن أن نقول: إن سبب الاختلاف بالنسبة لنا هو اختلاف الرواية عن السلف.

فإن قال قائل: هل ابن عباس يعرف حديث النبي صلى الله عليه وسلم؟

(1) انظر: تفسير الطبري، تحقيق التركي 23/ 187.

ص: 168

نقول: عندنا احتمالان:

الأول: أنه لم يبلغه هذا الحديث، فحمله على ما يعرف من لغة العرب.

الثاني: أنه يعرف هذا الحديث، وعلى هذا احتمالان:

1 -

أنه ينكر ثبوت الساق للرب، وهذا الافتراض لم يثبت عن ابن عباس مطلقاً.

2 -

أنه يرى أن هذه الآية ليست من آيات الصفات لكنه يثبت الساق بدليل آخر وهو الحديث النبوي الذي يظهر فيه بكل وضوح ثبوتها بقوله: «يكشف ربنا عن ساقه» ، ومن ثمَّ، فكلام ابن عباس ليس فيه تأويل ولا مجاز، ولو حملناها على أن الحديث يفسرها فهذه طريقة في الترجيح، ولو حملناها على قول ابن عباس وتلاميذه، دون إنكار ثبوت الساق في الحديث النبوي، فهذه طريقة أخرى محتملة.

إن اعتماد بعض المؤولين وأصحاب المجاز على كلام ابن عباس وغيره، فهذا مردود لأن ابن عباس لم ينكر الساق مثلهم.

هذه أسباب الاختلاف وشرحها كما وردت عند المؤلف، ومن أراد الفائدة والاطلاع على مزيد من الأسباب فلينظر في كتاب الأستاذ الدكتور سعود الفنيسان وهو «اختلاف المفسرين أسبابه وآثاره» ، وكتاب الأستاذ الدكتور محمد الشايع واسمه:«أسباب اختلاف المفسرين» .

ص: 169