المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب السابعفي الناسخ والمنسوخ - شرح مقدمة التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي

[مساعد الطيار]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الشرح

- ‌سبب تأليفه للكتاب ومقاصده

- ‌الباب الأولنزول القرآن الكريم

- ‌جمع المصحف وكتابته

- ‌ترتيب السور

- ‌نقط المصحف

- ‌أسماء القرآن

- ‌الباب الثانيالسور المكية والمدنية

- ‌الباب الثالثفي المعاني والعلوم التي تضمَّنها القرآن

- ‌الباب الرابعفنون العلم التي تتعلق بالقرآن

- ‌العلم الأول من علوم القرآن: التفسير

- ‌الإجماع والاختلاف في التفسير

- ‌الفرق بين التفسير والتأويل

- ‌العلم الثاني من علوم القرآن: القراءات

- ‌العلم الثالث: أحكام القرآن

- ‌العلم الرابع: النسخ

- ‌العلم الخامس: الحديث

- ‌العلم السادس: القصص

- ‌العلم السابع: التصوف

- ‌العلم الثامن: أصول الدين

- ‌العلم التاسع: أصول الفقه

- ‌العلم العاشر: اللغة

- ‌العلم الحادي عشر: النحو

- ‌العلم الثاني عشر: علم البيان

- ‌الباب الخامسأسباب الخلاف بين المفسرين ووجوه الترجيح

- ‌وجوه الترجيح

- ‌الباب السادسطبقات المفسرين

- ‌الباب السابعفي الناسخ والمنسوخ

- ‌الباب الثامنالقراءات

- ‌الباب التاسعالوقف

- ‌الباب العاشرالفصاحة والبلاغة وأدوات البيان

- ‌الباب الحادي عشرإعجاز القرآن

- ‌الباب الثاني عشرفي فضائل القرآن

- ‌فهرس المصادر والمراجع

الفصل: ‌الباب السابعفي الناسخ والمنسوخ

‌الباب السابع

في الناسخ والمنسوخ

قال المصنف رحمه الله: النسخ في اللغة: هو الإزالة والنقل، ومعناه في الشريعة رَفع الحكم الشرعي بعد تقرّره، ووقع في القرآن على ثلاثة أوجه:

الأول: نسخ اللفظ والمعنى، كقوله:«لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم» .

الثاني: نسخ اللفظ دون المعنى كقوله: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم» .

الثالث: نسخ المعنى دون اللفظ، وهو كثير، وقع منه في القرآن على ما عد بعض العلماء مائتا موضع واثنتا عشرة موضعاً منسوخاً إلا أنهم عدوا التخصيص والتقييد نسخاً، والاستثناء نسخاً، وبين هذه الأشياء وبين النسخ فروقٌ معروفة، وسنتكلم على ذلك في مواضعه، ونقدم منها ما جاء من نسخ مسالمة الكفار والعفو عنهم، والإعراض، والصبر على أذاهم بالأمر بقتالهم ليغني ذلك عن تكراره في مواضعه، فإنه وقع منه في القرآن مائة آية وأربع عشرة آية من أربع وخمسين سورة:

ففي البقرة: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة: 83]، {وَلَنَا أَعْمَالُنَا} [البقرة: 139]، {وَلَا تَعْتَدُوا} [البقرة: 190] أي: لا تبدؤوا بالقتال، {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ} [البقرة: 191]، {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217]، {لَا إِكْرَاهَ} [البقرة: 256]

وفي آل عمران: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} [آل عمران: 20]، {مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28].

ص: 218

وفي النساء: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [النساء: 63 و81] في موضعين، {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80]، {لَا تُكَلَّفُ إِلَاّ نَفْسَكَ} [النساء: 84]، {إِلَاّ الَّذِينَ يَصِلُونَ} [النساء: 90].

وفي المائدة: {وَلَا آمِّينَ} [المائدة: 2]{مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَاّ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [المائدة: 99]، {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105].

وفي الأنعام: {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام: 66]، {ثُمَّ ذَرْهُمْ} [الأنعام: 91]، {عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [الأنعام: 104]، {وَأَعْرِضْ} [الأنعام: 106]، {عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [الأنعام: 107]، {وَلَا تَسُبُّوا} [الأنعام: 108] {فَذَرْهُمْ} [الأنعام: 112، 137] في موضعين: {يَاقُوْمِ اعْمَلُوا} [الأنعام: 135]{قُلِ انْتَظِرُوا} [الأنعام: 158]{لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159].

وفي الأعراف: {فَأَعْرَضَ} [الأعراف: 199]{وَأَمْلَى لَهُمْ} [الأعراف: 183].

وفي الأنفال: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ} [الأنفال: 72] يعني: المجاهدين.

وفي التوبة: {فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة: 7].

وفي يونس: {فَانْتَظِرُوا} [يونس: 20]{فَقُلْ لِي عَمَلِي} [يونس: 41]{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} [يونس: 46]{وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} [يونس:65] لما يقتضي من الإمهال {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ} [يونس: 99]{فَمَنِ اهْتَدَى} [يونس: 108] لأن معناه الإمهال {وَاصْبِرْ} [يونس: 109].

وفي هود: {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ} [هود: 12] أي: تنذر ولا تجبر {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} [هود: 93]{انْتَظِرُوا} [هود: 122].

وفي الرعد: {عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} [الرعد: 40].

وفي الحجر: {ذَرْهُمْ} [الحجر: 3]{فَاصْفَحْ} [الحجر: 85]{وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} [الحجر: 89]{وَأَعْرَضَ} [الحجر: 94].

وفي النحل: {إِلَاّ الْبَلَاغُ} [النحل: 35]{عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} [النحل: 82]{وَجَادِلْهُمْ} [النحل: 125]{وَاصْبِرْ} [النحل: 127].

ص: 219

وفي الإسراء: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ} [الإسراء: 54].

وفي مريم: {وَأَنْذِرْهُمْ} [مريم: 39]، {فَلْيَمْدُدْ} [مريم: 75]، {فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم: 84].

وفي طه: {قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ} [طه: 135].

وفي الحج: {وَإِنْ جَادَلُوكَ} [الحج: 68].

وفي المؤمنون {فَذَرْهُمْ} [المؤمنون: 54]، {ادْفَعْ} [المؤمنون: 96].

وفي النور: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَاّ الْبَلَاغُ} [النور: 54].

وفي النمل: {فَمَنِ اهْتَدَى} [النمل: 92].

وفي القصص: {لَنَا أَعْمَالُنَا} [القصص: 55].

وفي العنكبوت: {أَنَا نَذِيرٌ} [العنكبوت: 50] لما يقتضي من عدم الإجبار.

وفي الروم: {فَاصْبِرْ} [الروم: 60].

وفي لقمان: {وَمَنْ كَفَرَ} [لقمان: 12].

وفي السجدة: {وَانْتَظِرْ} [السجدة: 30].

وفي الأحزاب: {وَدَعْ أَذَاهُمْ} [الأحزاب: 48].

وفي سبأ: {قُلْ لَا تُسْأَلُونَ} [سبأ: 25].

وفي فاطر: {إِنْ أَنْتَ إِلَاّ نَذِيرٌ} [فاطر: 23].

وفي يس: {فَلَا يَحْزُنْكَ} [يس: 76].

وفي الصافات {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} [الصافات: 174]{وَتَوَلَّ عَنْهُمْ} [الصافات: 178]، وما يليهما.

وفي ص: {اصْبِرْ} [ص: 17]{أَنَا مُنْذِرٌ} [ص: 65].

وفي الزمر: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} [الزمر: 3] لما فيه من الإمهال {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ} [الزمر: 15]، {يَاقَوْمِ اعْمَلُوا} [الزمر: 39]، {فَمَنِ

ص: 220

اهْتَدَى} [الزمر: 41]{أَنْتَ تَحْكُمُ} [الزمر: 46]؛ لأن فيه تفويضاً.

وفي المؤمن: {فَاصْبِرْ} في موضعين [المؤمن: 55، 77].

وفي السجدة: {ادْفَعْ} [فصلت: 34].

وفي الشورى: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الشورى: 6]، {فَإِنْ أَعْرَضُوا} [الشورى: 48].

وفي الزخرف: {فَذَرْهُمْ} [الزخرف: 83]، {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 89].

وفي الدخان: {فَارْتَقِبْ} [الدخان: 59].

وفي الجاثية: {يَغْفِرُوا} [الجاثية: 14].

وفي الأحقاف: {فَاصْبِرْ} [الأحقاف: 35].

وفي القتال: {فَإِمَّا مَنًّا} [محمد: 4].

وفي ق: {فَاصْبِرْ} [ق: 39]، {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق: 45].

وفي الذاريات: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} ، [الذاريات: 54].

وفي الطور: {قُلْ تَرَبَّصُوا} [الطور: 31]، {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور: 48]، {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا} [الطور: 45].

وفي النجم: {فَأَعْرِضْ} [النجم: 29].

وفي القمر: {فَتَوَلَّ} [القمر: 6].

وفي ن: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [القلم: 48]، {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ} [القلم: 44].

وفي المعارج: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً} [المعارج: 5]، {فَذَرْهُمْ} [المعارج: 42].

وفي المزمل: {وَاهْجُرْهُمْ} [المزمل: 10]، {وَذَرْنِي} [المزمل: 11].

وفي المدثر: {ذَرْنِي} [المدثر: 11].

وفي الإنسان: {فَاصْبِرْ} [الإنسان: 24].

وفي الطارق: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ} [الطارق: 17].

ص: 221

وفي الغاشية: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 22].

وفي الكافرون: {لَكُمْ دِينُكُمْ} [الكافرون: 6].

نَسَخ ذلك كله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة: 216](1).

عقد المؤلف باباً للناسخ والمنسوخ، وهو من علوم القرآن، لكن إذا كان المعنى يتغير، فإن المسألة في النسخ تكون من التفسير، وسواء أكان النسخ في رفعٍ جزئيٍّ أم في رفعٍ كليٍّ.

والنسخ هنا على اصطلاح المتأخرين، وهو المتعلق بالأحكام، أما النسخ الجزئي الذي كان عند السلف فهو الذي عدّه بعضهم تخصيصاً أو تقييداً أو بياناً أو استثناءً، والمؤلف قد انتقد عدَّ التخصيصِ والتقييدِ والاستثناءِ نسخاً.

ونقول: إذا كان هذا اصطلاحهم فلا يُثرب عليهم فيه، بل إذا فهمنا مرادهم فلا مشكلة في عبارتهم ما داموا لم يقصدوا النسخ الذي ارتضاه المؤلف.

وإذا ورد النسخ عند السلف في الأحكام فإن كانت عبارتهم تحتمل أنهم يريدون التقييد والتخصيص والاستثناء حمل النسخ عندهم على هذا المعنى، لكن إن دلت العبارة على أنه النسخ الكلي فإنها تحمل عليه.

وإذا ورد النسخ عند السلف في الأخبار المحضة (2) فهم يريدون النسخ الجزئي؛ لأن الأخبار لا تنسخ نسخاً كليّاً، أما النسخ الجزئي

(1) إذا كان الخبر يتضمن حكماً، كقوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، فإنه يلحق بالأحكام، ويجوز أن يدخله النسخ الكلي.

(2)

التسهيل 1/ 82 - 87.

ص: 222

الذي هو التخصيص والتقييد والاستثناء وبيان المجمل، فهذا يدخل في الأخبار كما يدخل في الأحكام.

أنواع النسخ التي ذكرها المؤلف ثلاثة:

1 -

نسخ اللفظ والمعنى.

2 -

نسخ اللفظ دون المعنى.

3 -

نسخ المعنى دون اللفظ.

وأصل مبحث النسخ في النوعين الأولين أنه من مباحث الرواية، وليس الدراية، لذا فإن البحث فيه يتطلب ثبوت الرواية بالنسخ، ثمَّ يُصار إلى الدراية، أما ما وقع من نقد لوقوع النسخ في هذين النوعين من جهة الدراية، فإن هذا ليس بصواب، ولا شكَّ أن الآثار تدلُّ على وقوع هذه الأنواع الثلاثة.

وأما النسخ في الأحكام ـ وهو النوع الثالث ـ فإنه لا يقع إلا عند التعارض التام بين النصوص بحيث لا يمكن إعمال النصَّين معاً، فيجتهد الفقيه هاهنا بالقول بالنسخ.

فإن قال قائل: هل المجتهد هو الذي ينسخ؟

نقول: الناسخ هو الشارع، فالذي أنزل المنسوخ هو الذي أنزل الناسخ، فالأمر إلى الله سبحانه وتعالى في ذلك.

وعمل المجتهد عند حصول التعارض في النصوص هو الحمل على النسخ، ثم مناقشة صحة النسبة من عدمها، أما الذي ينسخ آية بآية فهو الشارع سبحانه.

فإن قال قائل: هل ورد قرآن ونسخ بالكلية؟

نقول: هذا بحث نقلي، فإذا ثبت النقل، فإنه يُحكم به، والمطلوب من العقل تفهُّم وجه النسخ، وليس الاعتراض عليه، والمؤلف قد أورد

ص: 223

رواية في آية منسوخة، وهي:«لا ترغبوا عن آبائكم» ، فالطريق الذي عرفنا به هذه الآية أنها منسوخة هو طريق النقل عن الصحابة، فالصحابي عندما يخبر بعبارات تدل على أنها كانت قرآناً فيقول: كان مما يتلى، أو كان مما أنزل الله، أو كان مما نقرأ، هذه العبارات تدل على أن آية نزلت وكانت تقرأ ثم نسخت، وهذا النوع لا مجال لإنكاره؛ لأن إثباته إنما هو من جهة الخبر ولا شك أن هذه الأخبار التي ارتبطت بها هذه الآثار أخبار آحاد، وخبر الواحد يوجب العلم خصوصاً إذا عَمِلَت به الأمة، أو إذا كثرت أخبار آحاد في قضية معينة فتدل على ثبوت هذه القضية.

قال الدكتور مصطفى زيد ـ بعد ذكره لكلام طويل عن الآيات المنسوخة نسخاً كلياً؛ أي: لفظاً وتلاوة ومعنى ـ في كتابه: «النسخ في القرآن» ـ وهو من أنفس كتب النسخ ـ قال: «وفي بعض هذه الروايات جاءت هذه العبارات التي لا تتفق ومكانة عمر ولا مكانة عائشة» ، ثم قال بعد ذلك:«مما يجعلنا نطمئن إلى اختلاقها ودسها على المسلمين» (1).

أقول: هذه الطريقة من الحكم غريبة جدّاً، وهي تخالف منهج البحث العلمي، وقد وقع بعض المعاصرين في هذه المشكلة، فإذا أعياه شيء من الآثار قال: إنه من بثِّ الزنادقة، وأقول: إذا دُسَّ شيء على المسلمين هل سيخفى على جهابذة العلماء؟!

لذا يجب التنبه لهذه القضية الفكرية التي توجد عند بعض الباحثين، إذ مع جودة بحوثهم إلا أنهم إذا جاءتهم نصوص لم يعرفوا وجهها اعترضوا عليها بمثل هذا الاعتراض، والواجب الاعتماد على الآثار المنقولة وجعلها أصلاً، ثمَّ تفهُّمها، ومعرفة وجهها، وتخريجها تخريجاً سليماً، وليس ردُّها بهذه الطريقة الغريبة.

(1) النسخ في القرآن في فقرة (389).

ص: 224

الإشكالية الواقعة للدكتور مصطفى رحمه الله ومن شابهه في هذه القضية الفكرية أنه لم يقتنع بهذه الآثار فأراد أن يردها بأي سبيل، فصار يدفعها دفع الصائل؛ أي: يردها بأي شيء كان، فوصل إلى أن هذا من دسِّ الزنادقة!

وهذا الأسلوب في تخريج مثل هذه القضية فيه تهمة لعلمائنا السابقين، وأنهم لم يعرفوا الصحيح من الضعيف، مع ما عُرف عنهم من حرص في التنقيب عن ذلك.

والمنهج الحق: أن الآثار إذا وردت عن الصحابة، فإننا نثبتها، ونجتهد في تفهُّمها، فالصحابة أعلم بكتاب الله، وأعلم بحقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأعلم بحقوق الأنبياء، فإذا عبر الواحد منهم عن شيء واقع في هذه الأمور، فالواجب معرفة وجهها، وليس تخطئة الصحابي أو الناقل عنه بلا برهان مقبول في ذلك الردِّ.

والأَولى في هذا المقام أن نقول بثبوت قرآنية هذه الآيات، ثمَّ نحكم بنسخها؛ سواء بقي حكمها مثل «الشيخ والشيخة» أو لم يبق حكمها.

فإن قال قائل: هل للآيات المنسوخة لفظاً ما للقرآن المتواتر؟

نقول: إن الآيات الثابتة يتعلق بها حكمان:

1 -

التعبد بألفاظها، والصلاة بها.

2 -

العمل بالأحكام التي تتضمنها.

وما نسخ لفظاً يزول ما يتعلق به من الفضل والتعبد ويبقى ما يتعلق بالحكم، فنعمل بما فيها من أحكام إن لم يثبت نسخها.

أما ما يتعلق بالإعجاز والبلاغة القرآنية فليس لها حكم القرآن؛ لاحتمال دخول الرواية بالمعنى حيث نقلت كما تنقل الأحاديث، ولكن لا شك أنها تُعتبر من أفصح الكلام.

وبعض المعاصرين اعترض على آية «الشيخ والشيخة إذا زنيا

ص: 225

فارجموهما ألبتة» فقال: إن جملة «الشيخ والشيخة» فيها ركاكة في اللفظ، وفيها ثقل.

وأقول: إن اختيار «الشيخ والشيخة» فيه بلاغة كما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «وأشيمط زان» (1)، فإذا كان الزنا يقع من الشيخ والشيخة في مثل هذا الوقت فهو شنيع، وإذا كان يعاقبان فمن باب أولى أن يعاقب غيرهما من الشباب، فاختيار هذا اللفظ فيه تشنيع على من يفعل هذا الفعل إذا كان يفعله في الكِبَرِ، فمن باب أولى من يفعله في الصغر.

الآيات التي وقع فيها النسخ كثيرة، وفيها اختلاف بين العلماء منذ بدأت الكتابة في الناسخ والمنسوخ، ولكن الآيات التي نسخت نسخاً كليّاً قليلة جداً، وليست كما يَزعم أنها أكثر من مئتي آية.

ومن الآيات المنسوخة آية الصدقة في سورة المجادلة، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ *أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المجادلة: 12، 13].

وقد حكى الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد الأمين الإجماع على وقوع النسخ في هذه الآية (2).

أما ما يتعلق بالآية التي أوردها المؤلف عندما قال: «ونقدم منها ما جاء من نسخ مسالمة الكفار والعفو عنهم والإعراض والصبر على أذاهم بالأمر بقتالهم» ، فإن الأمر بقتال الكفار لا يلزم أن يكون منازعاً للآيات الأخرى، وإنما هي مرتبطة بالأحوال، وكذلك الكثير من الآيات التي

(1) أخرجه الطبراني في المعجم الصغير من حديث: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ـ وذكر منهم ـ أشيمط زانٍ» 2/ 20، وأخرجه مسلم بلفظ:«شيخ زان» ، في كتاب الإيمان، ورقم الحديث (107).

(2)

الآيات المنسوخة في القرآن الكريم ص87.

ص: 226

ذكرت هي في قضايا ليس لها علاقة بالقتال أصلاً، وإنما لها علاقة بالمعاملة، أو طريقة المجادلة، أو غير ذلك.

والمقصد من ذلك أن هذه الأمثلة التي ذكرها المؤلف، لكل واحدةٍ تخريجٌ على حال من الأحوال، وليس لها علاقة بقضية الناسخ والمنسوخ.

ولو جمعت الآيات التي قيل إنها نسخت لفظاً ـ سواء بقي معناها أم لم يبق ـ لخرج فيها بحث جيد، ويكون البحث مؤصلاً من جهة المتن ومن جهة الإسناد، فإذا ثبت المتن والإسناد فإنه يشار إليه كما في صحيح البخاري في قوله سبحانه: الذَّكَرَ وَالأُنْثَى (1)، وكما في قول أنس (ت93هـ):«أُنزل في الذين قتلوا ببئر معونة قرآنٌ قرأناه ثم نسخ بعد: «بلِّغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه» (2)، وكما في كلام أبي موسى الأشعري (ت44هـ) للقراء:«وإنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها غير أني قد حفظت منها: لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب» (3).

ومن باب الفائدة إذا ورد عن التابعي حكاية قراءة عن الصحابي، كما يقول بعض تلاميذ ابن مسعود: قرأ ابن مسعود كذا كما في: «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» ، فلا يقال: هذه قراءة تفسيرية، فلفظ:«متتابعات» ليست آية، وإنما هي تفسير على هذا القول.

وهذا تخريج عقلي دعت إليه حماية القرآن من أن تكون هذه الألفاظ من الآيات، ثمَّ إنها نُسخت، والصحيح أن هذه قراءة؛ لأمور:

الأول: أن التابعي ينص على أن الصحابي قرأ، ولم يقل: فسَّر،

(1) أخرجه البخاري، في كتاب التفسير، ورقم الحديث (4944).

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، ورقم الحديث (2801).

(3)

أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، ورقم الحديث (1050).

ص: 227

والتابعي يروي التفسير والقراءة عن الصحابي، وهو يعرف الفرق بين التفسير والقراءة، ويمايز بينهما، ولو كانا من باب واحد، لما كان هناك فائدة في قوله: «قرأ فلان

».

الثاني: أن قوله: بأنها قراءة تفسيرية فيه اتهام للتابعي بالعيّ في إيصال المعلومة واتهام له بعدم فهم شيخه.

الثالثة: أنه قد ثبت عنهم قراءات ليس فيها زيادة، ولم يُحكم عليها بأنها تفسيرية، وأسلوب روايتها لا يختلف عن هذه القراءات التي فيها زيادات؛ لذا لا يستقيم أن نقول إنها تفسير مع أن التابعي قال إنها قراءة.

ومما ورد من الآثار مما يجمع بين منسوخ التلاوة والحكم، ومنسوخ التلاوة دون الحكم، ما ورد في صحيح مسلم عن عائشة قالت:«كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرِّمن ثم نسخن بخمس معلومات يحرِّمن، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي فيما يُقرأ من القرآن» (1).

ومعنى الخبر:

1 -

أنه نزل عشر رضعات، وكانت تُقرأ.

2 -

ثم نزل خمس رضعات، وكانت تقرأ.

3 -

ثم وقع للخمس رضعات نسخٌ في التلاوة، وبقي حكمها معمولاً به.

4 -

صارت العشر رضعات مما نُسخ تلاوة وحكماً.

(1) صحيح مسلم، كتاب الرضاع، ورقم الحديث (1452).

ص: 228