الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العلم السابع: التصوف
قال رحمه الله: وأما التصوف فله تعلق بالقرآن لما ورد في القرآن من المعارف الإلهية ورياضة النفوس وتنوير القلوب وتطهيرها باكتساب الأخلاق الحميدة واجتناب الأخلاق الذميمة، وقد تكلمت المتصوفة في تفسير القرآن، فمنهم من أحسن وأجاد، ووصل بنور بصيرته إلى دقائق المعاني، ووقف على حقيقة المراد، ومنهم من توغل في الباطنية وحمل القرآن على ما لا تقتضيه اللغة العربية، وقد جمع أبو عبد الرحمن السلمي كلامهم في التفسير في كتابٍ سمَّاه «الحقائق» ، وقال بعض العلماء: بل هي البواطل، وإذا أنصفنا قلنا: فيه حقائق وبواطل.
وقد ذكرنا هذا الكتاب في ما يستحسن من الإشارات الصوفية دون ما يعترض أو يقدح فيه، وتكلمنا أيضاً على اثني عشر مقاماً من مقامات التصوف في مواضعها من القرآن، فتكلمنا على الشكر في أم القرآن، لما بين الحمد والشكر من الاشتراك في المعنى، وتكلمنا على التقوى في قوله تعالى في البقرة:{هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]، وعلى الذكر في قوله فيها:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]، وعلى الصبر في قوله تعالى:{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155]، وعلى التوحيد في قوله فيها:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: 163]، وعلى المحبة في قوله فيها:{وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]، وعلى التوكل في قوله في آل عمران:{فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159]، وعلى المراقبة في قوله في النساء:{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، وعلى الخوف والرجاء في قوله في (الأعراف):{وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف: 56]، وعلى التوبة في قوله في
(النور): {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا} [النور: 31]، وعلى الإخلاص في قوله في (لم يكن):{وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5](1).
هذا الكلام يتعلق بالتصوف، وقد سبق أن نبهتُ إلى أنه ليس من علوم القرآن، بل هو نتاج وثمرة للعلم.
وقد علل المؤلف سبب تعلقه بالقرآن، فقال:(لما ورد في القرآن من المعارف الإلهية، ورياضة النفوس وتنوير القلوب)، وإننا لو أخذنا حجة المؤلف وأجريناها على علوم أخرى غير علم التصوف وغير العلوم التي ذكرها، سنجد أن غيرها يمكن أن يدخل معها، لكن كأن المؤلف يريد أن ينبه على التصوف؛ لإرادة تزكية النفوس بالقرآن، والتزكية من أهم ثمرات القرآن.
وتزكية النفوس بالقرآن في معزلٍ عن علوم القرآن، وفي معزلٍ عن التفسير أصلاً؛ لأنها تدخل في باب الآثار والنتائج.
ثم قال بعد ذلك: (وقد تكلمت المتصوفة في تفسير القرآن فمنهم من أحسن وأجاد ووصل بنور بصيرته إلى دقائق المعاني، ووقف على حقيقة المراد، ومنهم من توغل في الباطنية، وحمل القرآن على ما لا تقتضيه اللغة العربية).
يلاحظ أن المتصوفة صاروا فرقة خاصة، وما داموا كذلك؛ فإن لهم مراجعهم ومصادرهم ومصطلحاتهم الخاصة، وهذه مشكلة في حد ذاتها؛ فحينما تتكلم هذه الفرقة عن القرآن لن تتكلم بمثل ما يتكلم فيه أهل التفسير، وإنما ستتكلم بطريقتها الخاصة، وقد يوافق ما يذكرونه
(1) التسهيل 1/ 66 - 68.
الحق ويكونون وصلوا إلى دقائق معانٍ ووقفوا على حقيقة المراد، مثلما وقف ووصل إليه غيرهم، فهذا ليس خاصاً بهم بسبب سلوكهم التصوف بل غيرهم وصل إلى هذه المعاني ولم يسلك هذا الطريق الذي سلكوه.
أما من توغل في الباطنية فمشكلته أعظم؛ لأنه يستخدم الرموز في تفسير كلام الله سبحانه وتعالى مثل التفسير المنسوب لابن عربي الحاتمي (ت638هـ)، وكذا تفسير البحر المديد، لابن عجيبة التطواني (ت1224هـ)، وتفسير الألوسي (ت1270هـ) الذي يذكر التفسير على أسلوب العلماء والمفسرين، ثمَّ يذكر تفسير من يسميهم (أهل الحقائق)، ويذكر من كلامهم ما هو موغل في الباطنية.
أما ما ذكره سهل بن عبد الله التستري (ت283هـ) في تعليقه على بعض الآيات، وأبو عبد الرحمن السلمي (ت412هـ) في كتابه «حقائق التفسير» ، والقشيري (ت465هـ) في (لطائف الإشارات)، فإنه لا يخلو من الأحوال الآتية:
1 -
أن يكون ما قالوه أو أثروه من قبيل التفسير.
2 -
أن يكون من قبيل الاستنباط.
3 -
أن يكون من قبيل توارد المعاني، ومقايسة معنى القرآن بمعنى آخر، وهذه قضية تكثر عند المتصوفة، حيث نجدهم يحرصون على أن يقيسوا ما ورد من المعنى القرآني بحالٍ أخرى لا علاقة لها بالآية إطلاقاً، وهذه الأحوال الثلاثة لا تخلو ـ أيضاً ـ من ثلاثة أحوال:
أـ أن يكون الكلام حقاً مراداً بالقرآن أو دل عليه القرآن من جهة الاستنباط.
ب ـ أن يكون الكلام حقاً، لكن ليس هو المراد بالجملة المفسَّرة من القرآن، أو لا تدل عليه، وهذا يُقبل على أنه كلام مستقلٌ لا علاقة له
بالآية، وإذا كان من باب المقايسة فإنه يُقبل إذا صحَّت المقايسة، ويكون كسابقه، وليس لأنه متعلق بالتفسير.
ج ـ أن يكون الكلام باطلاً، وهذا لا يُقبل؛ لأن القرآن لا يفسر بالباطل، ولا يدل على الباطل.
وإليك أمثلة على كون الكلام حقاً مراداً بالقرآن أو يدل عليه القرآن، وهي منقولة من تفسير سهل بن عبد الله التستري (ت283هـ):
المثال الأول: في قوله سبحانه وتعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 22] قال سهل: (أي: أضداداً)، فتفسير الأنداد بالأضداد صحيح فهو من التفسير الصحيح، ثم قال بعد ذلك:«فأكبر الأضداد: النفس الأمارة بالسوء المتطلعة إلى حضورها ومناها بغير هدًى من الله» (1)، فقوله هذا غير مقبول إذا كان يريد أن الأنداد لا تفسر إلا بالنفس الأمارة بالسوء، أما إن كان يريد أن هذا المقطع من الآية يشير إلى أن النفس الأمارة بالسوء هي أحد معاني الأضداد وهي أكبر الأنداد كما يراه، فنحن نقبل هذا الكلام على سبيل أن النفس الأمارة بالسوء مثال من الأمثلة التي تدخل في معنى الأنداد في قوله:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} على أنه عام، ولا شك أن النفس الأمارة بالسوء فيها شيء من هذا المعنى الذي ذكرته الآية، وأنها تكون نداً لله؛ لأنه لو اتبع نفسه جعلها مُشَرِّعَة له، وكذا لو اتبع هواه كما قال الله سبحانه وتعالى في قوله:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23].
المثال الثاني: في قوله تعالى: {وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا} [البقرة: 35] قال: «ولم يرد الله معاني الأكل في الحقيقة، وإنما أراد معاني مساكنة الهمة مع شيء هو غيره؛ أي: لا يهتم بشيء هو غيره، فآدم صلوات الله عليه لم يعتصم من الهمة والفعل في الجنة، فلحقه ما
(1) تفسير التستري، تحقيق محمد باسل عيون السود، ص27.
لحقه من أجل ذلك»، ثم قال:«فأهل الجنة معصومون فيها من التدبير» (1) إلى آخر كلامه الذي هو مرتبط بعبارات الصوفية، ولكن هذا الكلام غير صحيح بل هو باطل في ذاته، فلا يمكن أن يدل عليه القرآن إطلاقاً.
فقوله: (لم يرد الله معاني الأكل في الحقيقة) هذا مخالف لقوله تعالى: {وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا} ، وهذا المعنى الباطل لا يمكن أن يكون مراداً بالقرآن.
المثال الثالث: في قوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59] قال: «أهل القرآن، يعني العباد الذين اصطفى، أهل القرآن يلحقهم من الله السلام في العاجل في قوله تعالى: {وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ}، وسلامٌ في الآجل وهو قوله: {سَلَامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58]» (2).
هذا الكلام يصح على أن نأخذه من باب التمثيل، وسبق أن ذكرنا من القواعد أن تفسير العام قد يكون بالأمثلة، فإن كان من باب التمثيل فهو صحيح، وإن كان من باب التخصيص، فالتخصيص يحتاج إلى دليل.
هذه الأمثلة التي أخذناها من تفسير (سهل التستري) هي أمثلة على التفسير الصحيح، والإشارة الصحيحة، والتفسير الباطل، ونأخذ مثالاً على المقايسة التي ذكرناها: وهو أن يكون من قبيل توارد المعاني، قال سهل في قوله تعالى:{يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ} [الحشر: 2] قال: (أي: يخربون قلوبهم ويبطلون أعمالهم باتباعهم البدع)، فالآية لم تنزل في أهل البدع أصلاً، وإنما نزلت في سياق اليهود، والمعنى الذي ذكرته الآية
(1) تفسير التستري، تحقيق محمد باسل عيون السود، ص29.
(2)
تفسير التستري، ص116.
يشبه المعنى الذي ذكره سهل كأنه يريد أن يذكر معنى يشبه المعنى المذكور في الآية، فهو مقبول من باب توارد المعاني وليس من توارد التفسير، ولو قال: هذا هو التفسير نقول: خطأ؛ لأن السياق لا يدل على ذلك.
وباب الاستشهاد والاستدلال أوسع من باب التفسير.
فمن يقرأ كلام الصوفية ـ خصوصاً في هذا النوع، وهو توارد المعاني ـ في كتاب التستري (ت283هـ)، أو أبي عبد الرحمن السلمي (ت412هـ) أو القشيري (ت465هـ)، فلا يردُّه ابتداءً، بل ينظر فيه ليعرف ما يمكن أن يقبل منه، وما لا يُقبل منه.
وكتاب سهل بن عبد الله التستري (ت283هـ) من كلامه هو، وكذا لطائف الإشارات للقشيري (ت465هـ)، أما حقائق التفسير لأبي عبد الرحمن السلمي (ت465هـ)، فهو منقول، وبعضه فيه كذب، ليس من أبي عبد الرحمن، وإنما من طرف من روى عنه أبو عبد الرحمن، وبعضه نقلٌ صحيحٌ عن بعض المتصوفة؛ سواء أكان كلامهم خطأً محضاً أم صحيحاً.
هذا باختصار ما يتعلق بتفاسير الصوفية، أما تفاسير الصوفية الباطنية أو الفلسفية؛ فالأصل فيها البطلان.
أما قوله رحمه الله: (وقد ذكرنا في هذا الكتاب ما يستحسن من الإشارات الصوفية دون ما يعترض أو يقدح فيه)، فلعل المؤلف يقصد كتابه هذا الذي بين أيدينا، فقد ذكر في كلامه من إشارات الصوفية ما يرى هو أنه يدخل فيما يستحسن دون ما يُقْدَحُ فيه أو يُعْتَرض عليه، ثم بعد ذلك ذكر اثني عشر مقاماً من مقامات التصوف، وهذه المقامات ليست خاصة بالتصوف كما يلاحظ، بل تسميتها بالتصوف أو حصرها بأن هذه من مقاماته تخصيص لأمرٍ لا دليل عليه.
وهذه المقامات لا تخلو أن تكون مما عليه عامة المسلمين، أو لا.
فإن كان مما عليه عامة المسلمين فلا معنى لتسميتها بهذا الاسم «التصوف» .
وإن كانت مما يختص بفرقة بعينها يطلق عليها المتصوفة، وهي تخالف الشريعة، فإنها تردُّ ولا تُقبل، والحال هنا أن ما ذكره باسم مقامات التصوف هو مما وافق الشريعة، وليس خاصاً بالتصوف، بل هو من دين الإسلام.
فهذه المقامات التي ذكرها المؤلف ليس فيها إشكال من جهة الذكر، لكن كوننا نخص هذه المقامات بالمتصوفة فقط، فماذا بقي لغيرهم؟
لذا نقول: إن هذه المقامات لجميع المسلمين، وكذا غيرها من المقامات التي لم يذكرها المؤلف، ولا أدري لماذا خصَّ المؤلف هذه المقامات بالذكر دون غيرها.