الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الحادي عشر
إعجاز القرآن
قال المصنف رحمه الله: الباب الحادي عشر: في إعجاز القرآن وإقامة الدليل على أنه من عند الله عز وجل ويدل على ذلك عشرة وجوه:
الأول: فصاحته التي امتاز بها عن كلام المخلوقين.
الثاني: نظمه العجيب وأسلوبه الغريب من مقاطع آياته وفواصل كلماته.
الثالث: عجز المخلوقين في زمان نزوله وبعد ذلك إلى الآن عن الإتيان بمثله.
الرابع: ما أخبر فيه من أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم تَعَلَّمَ ذلك ولا قرأه في كتاب.
الخامس: ما أخبر فيه من الغيوب المستقبلة فوقعت على حسب ما قال.
السادس: ما فيه من التعريف بالبارئ جل جلاله، وذكر صفاته وأسمائه، وما يجوز عليه وما يستحيل عليه ودعوة الخلق إلى عبادته وتوحيده، وإقامة البراهين القاطعة، والحجج الواضحة، والرد على أصناف الكفار، وذلك كله يعلم بالضرورة أنه لا يصل إليه بشر من تلقاء نفسه، بل بوحي من العليم الخبير، ولا يشك عاقل في صدق من عرف الله تلك المعرفة، وعظَّم جلاله ذلك التعظيم ودعا عباد الله إلى صراطه مستقيم.
السابع: ما شرع فيه من الأحكام، وبيَّن من الحلال والحرام، وهدى إليه من مصالح الدنيا والآخرة، وأرشد إليه من مكارم الأخلاق، وذلك غاية الحكمة وثمرة العلوم.
الثامن: كونه محفوظاً عن الزيادة والنقصان، محروساً على التغير والتبديل على تطاول الزمان بخلاف سائر الكتب.
التاسع: تيسيره للحفظ، وذلك معلوم بالمعاينة.
العاشر: كونه لا يمله قارئه ولا سامعه على كثرة الترديد، بخلاف سائر الكلام (1).
ما طرحه المؤلف في إعجاز القرآن واضح ويسير، ورأيت أن أطرق بعض الجوانب التي لم يتطرق لها المؤلف، وهي:
أولاً: مصطلح الإعجاز والمعجزة لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة ولا في كلام السلف الذين هم الصحابة والتابعون وأتباع التابعين، بل الذي ورد في القرآن يقابله: الآية والبرهان والسلطان، والآية هي أغلب ما ورد من الدلالة على المعجزة، كما في قوله سبحانه وتعالى في موسى عليه السلام {فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى} [النازعات: 20] سمَّاها آية ولم يسمِّها معجزة، فلفظ المعجزة والإعجاز باعتباره مصطلحاً إنما ورد عند المتكلمين من المعتزلة ثمَّ سار بعدهم، ومن ثَمَّ؛ فإن آثار الاعتزال والمذهب الكلامي سيكون باقياً في مصطلح المعجزة، ومن ذلك ما وقع في تعريف المعجزة:(إنها أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي، سالم من المعارضة).
ومما وقع في هذا التعريف من خلل أنه ليس كل معجزة تظهر للنبي عليه السلام يلزم منها أن تكون مقرونة بالتحدي، وموضوع نقد مصطلح المعجزة يطول.
وليست هذه دعوة لإلغاء مصطلح المعجزة، وإنما للتنبيه على ما وقع تاريخياً في موضوع المعجزة، ومعرفة الصحيح المقابل لها من
(1) التسهيل 1/ 98، 99.
كلام الله سبحانه وتعالى حيث سمَّاها آية؛ لأن فيها دلالة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم، فالله سبحانه وتعالى أرسل موسى إلى فرعون بالآيات؛ لتدل على صدق موسى وليؤمن فرعون وقومه.
ولو قُلت في تعريف المعجزة: «هي الآية الدالة على صدق النبي التي لا يمكن أن تأتي من غيره» ، لكان أقرب لمصطلح القرآن.
ثانياً: الأنبياء لم يلتزموا بتحدي أقوامهم بالمعجزات، إنما أظهروها لكي يؤمن القوم فقط لا غير؛ ولذا فقيد التحدي في التعريف ليس موجوداً في جميع المعجزات فقد أجرى الله على نبيه آيات لم يكن فيها تحدّ.
ولا يُفهم من هذا أن الأقوام قادرة على الإتيان بجنس معجزات الأنبياء لعدم قيد التحدي؛ لأن الجهة منفكة بين الأمرين، فالمعجزات جاءت معهم للتدليل على صدقهم والبشر غير قادرين على الإتيان بمثلها؛ فعدم القدرة شيء والتحدي شيء آخر.
ثالثاً: الأصل أن الكلام عن إعجاز القرآن ينطلق من القول بالقرآن، فعلى أقوال المذاهب الإسلامية في القرآن ينتج عنها الكلام في المعجزة، لكن الملاحظ أن هناك انفصالاً بين تعريف القرآن عند بعض أهل الكلام، والكلام عن المعجزة، فالمعتزلة يقولون في القرآن: إنه مخلوق وليس كلام الله على الحقيقة، وما دام القرآن عندهم مخلوقاً فالإعجاز ليس ذاتياً فيه، بل الإعجاز مخلوق أيضاً، فصارت حقيقة الإعجاز شيء وحقيقة القرآن شيء آخر، وعلى قول المعتزلة في القرآن فإن أنسب الأقوال في إعجاز القرآن إلى قولهم بخلق القرآن، هو القول بالصَّرفة؛ بفتح الصاد من «صَرَف يَصْرِف صَرْفاً» ، وهو قول أحد شيوخهم، وهو النَظَّام (1)، وقد اعترض عليه في قوله هذا العلماء حتى
(1) أبو إسحاق إبراهيم بن يسار المعتزلي، توفي سنة بضع وعشرين ومائتين.
المعتزلة؛ لأنه يرى أن العرب يقدرون على أن يأتوا بمثله لكن صُرفوا عن ذلك، وهذا ـ عندي ـ يتناسق مع مذهبهم بخلق القرآن.
ومن يرى الكلام النفسي، فالقرآن الذي نقرأه ليس معجزاً عنده، وإنما المعجز على الحقيقة خالق الإعجاز، ولذا انتفت ذاتية الإعجاز من القرآن؛ ولذا قال بعضهم:«إن نسبة الإعجاز إلى القرآن مجاز، وأن المعجز على الحقيقة هو الله» .
والمقصود أنه لا بد من الانتباه إلى الربط بين المراد بالإعجاز وأقوال هؤلاء الأقوام بالقرآن.
أما قول أهل السنة والجماعة بأن القرآن كلام الله على الحقيقة، فإنه معجز بذاته، وهم من يلتئم معهم الكلام عن الإعجاز في القرآن.
رابعاً: أن القرآن هو الذي نُصَّ فيه على التحدي صراحة دون غيره من آيات النبي صلى الله عليه وسلم أو آيات الأنبياء السابقين؛ ولذا تحداهم أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور، أو بسورة، وبعض العلماء ذهب إلى أنه ورد التحدي بآية لكن هذا القول فيه نظر؛ لأن قوله:{فَلْيَاتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور: 34] مجملٌ يبيّنه ما وقع من التدرج في التحدي: إما القرآن كاملاً، وإما عشر سور، وإما سورة، وبها خُتمت مراحل التحدي.
أما سائر آيات النبي صلى الله عليه وسلم أي معجزاته فلم يُتحدَّ بها، فالرسول صلى الله عليه وسلم حصل له بعض المعجزات مثل: حنين الجذع، وتسبيح الحصى بكفه، وردِّه عين أحد الصحابة والتفل عليها فعادت وبرئت، والتفل في البئر فزادت، فالصواب الذي أراه أنه لم يقع التحدي إلا بالقرآن فقط؛ لأنه هو المنصوص عليه، وما عدا ذلك من آيات الأنبياء سواء ظهرت أمام
الكفار أم أمام المؤمنين فإنه لم يقع فيها التحدي مطلقاً، والدليل واضح من نص القرآن.
وأنبِّه إلى أن معارضة هؤلاء الأقوام أو طلبهم للآية ليس من التحدي كما عارض فرعون موسى لما أتى له بآيات كاليد والعصا، فعارضه بالسحرة، أو كطلب ثمود الناقة من صالح فهذا ليس فيه تحدّ.
فإن قال قائل: إن آيات الأنبياء لم يكن التحدي فيها مقالاً بل كان التحدي فيها حالاً، فحالهم حال من وقع منه التحدي.
أقول: يجب أن نفرق بين كون التحدي صراحة وبين أن نقول: إنه لا يستطيع أحد أن يأتي بآية مثل آيات الأنبياء، فالتحدي أخص من كونه لا يستطيعه البشر، وكونه من الله فهذا باتفاق، ويظهر أنه لالتباس هاتين النقطتين وقع قول بعضهم بأن التحدي حاليٌّ، وإن لم يقع مقالاً.
خامساً: وجوه الإعجاز في القرآن كثيرة كالإخبار بالغيبيات، لكن الشيء الذي عجز عنه العرب وتحداهم أن يأتوا بمثله هو ذلك «النظم والبيان العربي» ، أما المعاني الموجودة فهي تبع وليست أصلاً، فسورة العصر مثلاً:{إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر] ليس فيها إعجاز غيبي أو تشريعي، بل فيها ما يتعلق بالنظم والبيان بدليل أن كُتُبَ الله سبحانه وتعالى التي نزلت على أنبيائه فيها مغيبات، وفيها تشريع وفيها أخبار مِثل الأخبار الواردة في القرآن؛ لأن المتكلم بها واحد والحقيقة المتكلم عنها واحدة، لكن الذي تميز به القرآن هو ما يتعلق بالنظم والبيان الذي لا يستطيع العرب أن يأتوا بمثله، فهذا هو المتحدى به، وهو الذي ينتظم في جميع سور القرآن، أما وجوه الإعجاز الأخرى فتختلف في بعض السور، مثلاً:{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] فيها إعجاز غيبي وإعجاز في النظم
والبيان، لكن ليس فيها إعجاز تشريعي، وقد نأتي إلى سورة أخرى فيها إعجاز تشريعي وإعجاز النظم والبيان، وليس فيها إعجاز غيبي.
والخلاصة: أن إعجاز النظم والبيان العربي واقع في كل سورة، وما سواه من أنواع الإعجاز التي حكاها العلماء تتخلف في بعض السور، وفي هذا دلالة على أن المتحدى به هو ما يوجد في كل سورة دون ما سواه، ليتناسب مع قوله تعالى:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَاتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 38]، وقوله تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَاتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23].
سادساً: العرب أدركوا سر الإعجاز، وعبروا عن ذلك بعبارات مجملة تدل على ما وقع في نفوسهم من إدراك ما ماز به هذا الكلام كلامهم، وإن لم يحصل منهم التفصيل، فالواحد منهم إذا سمع القرآن أذعن له إذعان العارف بأن هذا ليس من كلام البشر؛ كما في مقولة الوليد بن المغيرة وكذلك قصة إسلام أبي ذر (ت32هـ)، لما قال أنيس لأخيه أبي ذر:«إني ذاهب إلى مكة هل لك حاجة؟» ، قال:«نعم إنه قد خرج فلان وكان يذكر كذا وكذا فانظر لي في خبره» ، وفي رواية قال:«إني لقيت رجلاً بمكة على دينك يزعم بأن الله أرسله يسمونه الصادق، قلت: ما يقول؟ قال: يزعمون أنه كاذب وأنه ساحر وأنه شاعر، وقد سمعت قوله، فوالله ما هو بقولهم، وقد سمعت قولهم، فوالله إني لأراه صادقاً» (1)، وكذا ما ورد في قصة إسلام الطفيل بن عمرو الدوسي (ت11هـ)، لما أراد أن يدخل البيت الحرام نبهه بعض سادات قريش، وقالوا له: إنه يفرق بين المرء وزوجه، وإنه ساحر، وإنا نخشى عليك وعلى قومك، حتى قال: «والله لا أدخل المسجد إلا وأنا سادٌّ أذني، قال:
(1) أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، ورقم الحديث (2473).
فعمدت إلى أذني، فحشوتها كُرْسُفاً، ثم غدوت إلى المسجد، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً في المسجد، فقمت قريباً منه، وأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله، فقلت في نفسي: والله إن هذا لعجز، وإني امرؤ ثبت، ما تخفى علي الأمور؛ حسنها وقبيحها، والله لأستمعن منه، فإن كان أمره رشداً أخذت منه، وإلا اجتنبته، فنزعت الكُرْسُفَةَ، فلم أسمع قط كلاماً أحسن من كلام يتكلم به، فقلت: يا سبحان الله! ما سمعت كاليوم لفظاً أحسن ولا أجمل منه، قال: فانتظرته صلى الله عليه وسلم ....» إلى أن ذكر قصة إسلامه (1).
سابعاً: ليست معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم ودليل صدقه هو التحدي بالقرآن فقط، بل هناك دلائل ووجوه أخرى، ومن أهمها أحواله صلى الله عليه وسلم، وهذا ما فعله هرقل ملك الروم لما أراد أن يستدل على صدق هذا الرسول الذي أرسل له يأمره باتباعه.
ومن أبرز وجوه الإعجاز التي في القرآن الإعجازُ الغيبيُّ؛ كما في قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ *مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ *سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ *وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ *فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد]، فلم يؤمن أبو لهب، ولا آمنت زوجه أم جميل، وقد أخبر أنهما يموتان كافرين به، ومضى على هذا التنزيل فترة من الزمن حتى ماتا، ولم يتخلف هذا الخبر البتة.
ومن غيوبه الباقية والمستمرة ما في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَاتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 23، 24] فلم يعارض أحد من العرب القرآن، ولا يستطيع أحد هذا أبداً.
(1) الطبقات الكبرى، لابن سعد 4/ 439.
ومن غيوبه الباقية والمستمرة ما قال في اليهود: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الْدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة: 94، 95]، وقال:{قُلْ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [الجمعة: 6، 7]، ولم نسمع أن يهودياً تمنى الموت.
ومن وجوه صدقه العقلية تلك العتابات للرسول صلى الله عليه وسلم؛ كما في قوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43]، {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68]، ولو كان من عنده لأخفى مثل هذه العتابات، وقد نبهت إلى ذلك السيدة عائشة، فقد روى البخاري بسنده عَنْ أَنَسٍ قَالَ: جَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ يَشْكُو فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «اتَّقِ الله، وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» . قَالَتْ عَائِشَةُ: لَوْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَاتِماً شَيْئاً لَكَتَمَ هَذِهِ. قَالَ: فَكَانَتْ زَيْنَبُ تَفْخَرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَقُولُ: زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ، وَزَوَّجَنِي اللهُ تَعَالَى مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ. وَعَنْ ثَابِتٍ:«{وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ} نَزَلَتْ فِى شَانِ زَيْنَبَ وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَة» (1).
ومن الأدلة العقلية على صدقه أننا نجد ذكر غيره من الأنبياء أكثر من ذكره نفسِه صلى الله عليه وسلم، ولو كان من عنده فكيف يغفل عن الإكثار من ذكر نفسه صلى الله عليه وسلم، فإننا نجد ـ مثلاً ـ ذكر اسم موسى عليه السلام أكثر من ذكر اسم محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا من الدلائل العقلية الدالة على صدقه، وعلى أن هذا القرآن من لدن حكيم خبير.
(1) صحيح البخاري، كتاب التوحيد، ورقم الحديث (7420).
ومع تكاثر وجوه الأدلة الدالة على صدقه؛ إلا أنني أُؤَكِّد على أن المقصودين أولاً بهذا التحدي هم العرب الذين نزل القرآن بلغتهم، أما من عداهم من الأمم إلى قيام الساعة فهم تبع لهم في هذا؛ لأنه إذا عجز العرب الذين هم أصحاب الفصاحة والبيان وأصحاب اللغة التي نزل بها القرآن، فمن باب أولى أن يعجز غيرهم؛ لأنهم لا يمكن أن يصلوا إلى درجة العرب في البيان.
ولذا تعجب من بعض المستشرقين أمثال: (نولدكه) الذي كتب «تاريخ القرآن» عندما يعترض على ألفاظ في القرآن أو يزعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو الذي كتب القرآن وأنه أخذه من كتب اليهود أو النصارى، وتزداد عجباً عندما ينتقد ويقول:«ولقد قرأها محمد خطأً لم يعرفها، وهي كذا وكذا» ، وهذا كله جهل، فلو كان محمد صلى الله عليه وسلم كما يزعم لانتقده هؤلاء الذين أمامه وجالدوه بالسيوف، لكنهم لم يحتجوا على كلمة في القرآن، ولم يقولوا بأنها ليست عربية، فكيف ظهر له ما لم يظهر لمن كانوا أشدَّ منه حرصاً على إبطال ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن هذا خلل فكري في المنهج العلمي الذي يدعيه المستشرقون، ومن يحترم عقله لا يمكن أن يقول مثل هذا القول، ولذا تلاحظ أن كثيراً من المستشرقين إذا ناقشوا ـ حسب زعمهم ـ قضية أَخْذِ القرآن من الكتب السابقة، لا يذكرون إلا احتمالاً واحداً وهو أن محمداً كتب القرآن بنفسه، وأنه أخذ من الكتب السابقة، والعجيب أنهم لا يذكرون الاحتمالات العقلية الأخرى، وهذا ـ بلا شكٍّ ـ مخالف للمنهج العلمي؛ أما الاحتمال الآخر وهو أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم أخذ من المصدر الذي أُخِذت منه التوراة، ومن المصدر الذي أُخِذ منه الإنجيل، لكننا لا نجدهم يجعلون مثل هذا افتراضاً ـ على الأقل ـ كما هي عادتهم في فرض الافتراضات، ثم بناء الأحكام العلمية عليها.
ولا يظهر أنهم يُغفلون مثل هذا الاحتمال غفلة منهم؛ لأنهم لو
ذكروه لقالوا: إنه نبي، ولو قالوا بذلك لاضطروا إلى لزوم التصديق به، وهم لا يريدون ذلك، فتراهم لأجل هذا يُغفِلون هذا الاحتمال ولا يذكرونه.
وهذا الأسلوب من إسقاطاتهم الشنيعة التي أسقطوا بها أسلوب بعض الدراسات العلمية عن أسفارهم، فظهر لبعض الدارسين لها أن بعض قصصه مأخوذة عن كتب السابقين وأخبارهم، ولا يلزم أن هؤلاء الدارسين قد قالوا الحقّ في ذلك، أو أن يكونوا وصلوا إلى القول الصواب، لكنهم استخدموا هذا الأسلوب من الموازنة، وظهروا بهذه النتائج، ثم جاء هؤلاء وأرادوا إسقاط هذا على دراسة مصدر القرآن، فقالوا بمثل هذه الأقوال الغريبة في مصدر القرآن الكريم.
ونحن لسنا مع هذه الدراسات التي انتقدت أسفارهم، بل نثبت ما ثبت عندنا باليقين من قصص الأنبياء وما لم يثبت في القرآن أو السنة، فمذهبنا فيه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم» (1).
ثامناً: لا يلزم فيما يتعلق بمعجزات الأنبياء ـ في رأيي الخاص ـ أن تتوافق مع ما اشتهر به أقوامهم، فقوم عيسى عليه السلام لم يثبت أنهم كانوا خبراء بالطب، وكذا معجزات الأنبياء الآخرين كنوح وصالح وهود وإبراهيم عليهم السلام لا يظهر أن معجزاتهم كانت من جنس ما برع به أقوامهم، لكن بعض المعجزات قد تكون موافقة لما برع به قوم النبي؛ كما عند موسى حيث كانوا سحرة.
تاسعاً: ما ظهر من المعجزات على يد بعض الأولياء، فإن تسميتها «كرامات» تسمية اصطلاحية محضة، ولا تغير من جنس موضوع خرق
(1) أخرجه البخاري في كتاب التفسير في باب {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} من حديث أبي هريرة، ورقم الحديث (4485).
العادة شيئاً، لكنها لا يمكن أن تبلغ ما يظهر على يد النبي صلى الله عليه وسلم بحال، فالنار التي أُلقي فيها إبراهيم عليه السلام ليست كالنار التي ألقي فيها أبو مسلم الخولاني، ولا بقاؤه فيها كبقائه، فنار إبراهيم أعظم، وظهور كرامة الله له أمام قومه أعظم أيضاً.
وآية النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن تلتبس بما يصدر من غيره سواء أكان وليّاً أم ساحراً أم كاهناً، بل إن آية الولي تبع للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي دليل على صدقه، ولا يمكن أن تخرج على يد من يدَّعي الولاية وهو لا يكون متابعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، بل إذا ظهر مثل ذلك لمن ليس مُتَّبعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، فهو دليل على أنه من تلاعب الشيطان بالإنسان، فإن الله لا يظهر الكرامة لأعدائه.