الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب العاشر
الفصاحة والبلاغة وأدوات البيان
قال المصنف: الباب العاشر في الفصاحة والبلاغة وأدوات البيان، أما الفصاحة فلها خمسة شروط:
الأول: أن تكون الألفاظ عربية، لا مما أحدثه المولدون ولا مما غلطت فيه العامة.
الثاني: أن تكون من الألفاظ المستعملة لا من الوحشية المستثقلة.
الثالث: أن تكون العبارة واقعة على المعنى موفية له لا قاصرة عنه.
الرابع: أن تكون العبارة سهلة سالمة من التعقيد.
الخامس: أن يكون الكلام سالماً من الحشو الذي لا يحتاج إليه، وأما البلاغة فهي سياق الكلام على ما يقتضيه الحال والمقام من الإيجاز والإطناب، ومن التهويل، والتعظيم، والتحقير، ومن التصريح، والكناية، والإشارة، وشبه ذلك بحيث يهز النفوس، ويؤثر في القلوب، ويقود السامع إلى المراد أو يكاد، وأما أدوات البيان فهي صناعة البديع، وهي تزيين الكلام كما يزين العَلَم الثوب، وقد وجدنا في القرآن منها اثنين وعشرين نوعاً، ونبهنا على كل نوعٍ في المواضع التي وقع فيها من القرآن، ونذكر هنا أسماءها ونبين معناها.
الأول: المجاز، وهو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة بينهما وهو اثنا عشر نوعاً: التشبيه والاستعارة، والزيادة والنقصان، وتشبيه المجاور باسم مجاوره، والملابس باسم ملابسه، وإطلاق اسم الكل على البعض وعكسه، وتسمية السبب باسم المسبب وعكسه، والتسمية باعتبار ما
يستقبل، والتسمية باعتبار ما مضى، وفي هذا خلاف هل هو حقيقة أو مجاز؟ واتفق أكثر أهل علوم اللسان وأهل الأصول على وقوع المجاز في القرآن؛ لأن القرآن نزل بلسان العرب، وعادة فصحاء العرب استعمال المجاز، ولا وجه لمن منعه؛ لأن الواقع منه في القرآن أكثر من أن يحصى.
الثاني: الكناية، وهي العبارة عن الشيء بما لا يلازمه من غير تصريح.
الثالث: الالتفات، وهو على ستة أنواع: خروج من التكلم إلى الخطاب، أو الغيبة، وخروج من الخطاب إلى التكلم، أو الغيبة، وخروج من الغيبة إلى التكلم، أو الخطاب.
الرابع: التجريد، وهو ذكر شيء بعد اندراجه في لفظ عام متقدم، والقصد بالتجريد تعظيم المجرد ذكره، أو تحقيره، أو رفع الاحتمال.
الخامس: الاعتراض، وهو إدراج كلامٍ بين شيئين متلازمين كالخبر والمخبر عنه، والصفة والموصوف، والمعطوف والمعطوف عليه، أو إدخاله في أثناء كلام متصل، والقصد به تأكيد الكلام الذي أدرج فيه.
السادس: التجنيس، وهو اتفاق اللفظ مع اختلاف المعنى، ثم إن الاتفاق قد يكون في الحروف والصيغة أو في الحروف خاصة، أو في أكثر الحروف لا في جميعها، أو في الخط لا في اللفظ، وهو تجنيس التصحيف.
السابع: المطابقة، وهو ذكر الأشياء المتضادة كالسواد والبياض والحياة والموت، والليل والنهار، وشبه ذلك.
الثامن: المقابلة، وهو أن يجمع بين شيئين متصاعداً، ثم يقابلهما بأشياء أخر.
التاسع: المشاكلة، وهي أن تذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته.
العاشر: الترديد، وهو رد الكلام على آخره، ويسمى في الشعر: رد العَجُز على الصدر.
الحادي عشر: لزوم ما لا يلزم، وهو أن تلتزم قبل حروف الروي حرفاً آخر، وكذلك عند رؤوس الآيات.
الثاني عشر: القلب، وهو أن يكون الكلام يصلح ابتداء قراءته من أوله وآخره نحو: دعد، أو تعكس كلماته فتقدم المؤخر منها وتؤخر المقدم.
الثالث عشر: التقسيم، وهو أن تقسم المذكور إلى أنواعه أو أجزائه.
الرابع عشر: التتميم، وهو أن تزيد في الكلام ما يوضحه أو يؤكده وإن كان مستقلاًّ دون هذه الزيادة.
الخامس عشر: التكرار، وهو أن تضع الظاهر موضع المضمر فتكرر الكلمة على وجه التعظيم، أو التهويل، أو لمدح المذكور، أو ذمه، أو للبيان.
السادس عشر: التهكم، وهو إخراج الكلام عن مقتضاه استهزاءً بالمخاطب أو بالخبر ككلام البشارة موضع النذارة.
السابع عشر: اللف والنشر، وهو أن تلف في الذكر شيئين فأكثر، ثم تذكر متعلقاتها وفيه طريقتان: أن تبدأ في ذكر المتعلقات بالأول، وأن تبدأ بالآخر.
الثامن عشر: الجمع، وهو أن تجمع بين الشيئين فأكثر في خبر واحدٍ وفي وصفٍ واحد وشبه ذلك.
التاسع عشر: الترصيع، وهو أن تكون الألفاظ في آخر الكلام مستوفية الوزن أو متقاربة مع الألفاظ التي في أوله.
العشرون: التسجيع، وهو أن يكون كلمات الآية على رَوِيِّ حرف واحد.
الحادي والعشرون: الاستطراد، وهو أن يتطرق من كلام إلى كلامٍ آخر، بوجه يصل ما بينهما ويكون الكلام الثاني هو المقصود كخروج الشاعر من النسيب إلى المدح بمعنى يتعلق بالطرفين مع أنه إنما قصد المدح.
الثاني والعشرون: المبالغة، وقد تكون بصيغة الكلمة نحو: صيغة فعال ومفعال، وقد تكون بالمبالغة في الأخبار أو الوصف، فإن اشتدت المبالغة فهو غلو وإغراق، وذلك مستكره عند أهل الشان (1).
قول المؤلف في شروط الفصاحة: (أن تكون الألفاظ عربية، لا مما أحدثه المولدون ولا مما غلطت فيه العامة)، هذه المسألة ليس لها علاقة بفصاحة القرآن وإنما يتكلم المؤلف عن الفصاحة من حيث العموم؛ ولهذا ذكر هذه المسألة، وليس لها علاقة بالقرآن؛ لأن ألفاظ القرآن قبل المولدين وقبل المُحْدِثين.
وقد أشار المؤلف إلى ثلاثة مصطلحات وهي: الفصاحة، والبلاغة، وأدوات البيان.
وهذه المصطلحات الثلاثة التي ذكرها ترجع إلى باب البلاغة، والمؤلف لم يذكر التقسيم الذي نعرفه اليوم، وهو: علم المعاني وعلم البديع وعلم البيان، فهذه المصطلحات والتقسيمات لم يُعْمِلها كما لم يعملها من كان قبله، بل هي تحريرات متأخرة.
بعد أن تحدث المؤلف عن شروط وقيود الفصاحة ذكر أن البلاغة هي سياق الكلام على ما يقتضيه الحال والمقام، فقد يقتضي الحالُ الإيجاز أو يقتضي الإطناب، ومن البلاغة اختيار الألفاظ في الأماكن المناسبة لها، وهي تدل على براعة المتكلم.
(1) التسهيل 1/ 94 - 97.
ثم ذكر أدوات البيان وأنها علم البديع التي تكون محسنة للكلام البليغ، مثل الطباق والمقابلة وغيرها من المحسنات البديعية.
أما ما يتعلق باستعمال الألفاظ، فالقرآن لم يستخدم لفظة وحشية، وإن كان فيه ألفاظ فيها غرابة من جهة المعنى، وألفاظ فيها ثقل من جهة النطق؛ لكنها ليست من الألفاظ المستكرهة، وإذا تأملت بعض هذه الألفاظ ستجد أنها تؤدي الغرض المقصود منها من جهة البلاغة، مثل قوله سبحانه وتعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} [التوبة: 38] لفظة {اثَّاقَلْتُمْ} لفظة ثقيلة أخف منها (تثاقلتم)، ولكن عُبِّرَ بـ {اثَّاقَلْتُمْ} لتشير إلى الحالة التي تدل على أن هذا الإنسان قد لزق بالأرض حتى لا يكاد يقوم، ولا يمكن أن تؤدي هذه الصورة لفظة «تثاقلتم» ؛ لأن التثاقل يدل على محاولة القيام لكن فيه ثقل، أما {اثَّاقَلْتُمْ} فهي تدل على اللصوق بالأرض لصوقاً تاماً، وهذه الكلمة لو وضعت في مكان آخر ما صلحت لكنها في هذا الموطن صالحة وتؤدي المعنى الذي جاءت من أجله، ولو غيرت بلفظة أخرى ما استقامت الجملة على المعنى الذي هي به من جهة هذه اللفظة.
ولا شك أن القرآن قد وصل في اختيار الألفاظ إلى الحد الأعلى الذي لا يمكن أن يوجد في كلام متكلم؛ ولهذا يستدرك الناس على أعظم أهل البيان من الشعراء وغيرهم في اختياراتهم، لكن لا يمكن أن يستدرك على القرآن في كلمةٍ واحدة، ولا يمكن أن يقال: إن هذه اللفظة لو كان بدلاً منها تلك اللفظة لكانت أبرع.
ومن المستدركات على بعض الشعراء ما استدرك على امرئ القيس في لاميته في قوله (1):
(1) ديوان امرئ القيس، ص65، 66.
وَجيدٍ كَجيدِ الرِئمِ لَيسَ بِفاحِشٍ
…
إِذا هِيَ نَصَّتهُ وَلا بِمُعَطَّلِ
وَفَرعٍ يَزينُ المَتنَ أَسوَدَ فاحِمٍ
…
أَثيثٍ كَقِنوِ النَخلَةِ المُتَعَثكِلِ
غَدائِرُها مُستَشزِراتٌ إِلى العُلا
…
تَضِلُّ المدارى في مُثَنًّى وَمُرسَلِ
فقوله: (غَدائِرُها مُستَشزِراتٌ) إن امرؤ القيس يتحدث عن امرأة خرجت في التوِّ من الاغتسال، فالمشط عندما يُجرى على الشعر ويتجه في تمشطه إلى الأعلى ففيه صعوبة، وانظر إلى العبارات التي ذكرها بعض العلماء في نقد هذا، فيقول البغدادي (ت1093هـ):«وهذا البيت استشهد به صاحب تلخيص المعاني على أن في «مستشزرات» تنافراً لثقلها على اللسان، وعسر النطق بها» (1)، وقال في «صبح الأعشى»:«الصفة الثالثة من صفات اللفظ المفرد الفصيح: ألا يكون متنافر الحروف فإذا كانت حروفه متنافرة بحيث يثقل على اللسان ويعسر النطق به فليس بفصيح، ثم ذكر هذا البيت وقال بعده: فلفظ «مستشزرات» من المتنافر الذي يثقل على اللسان ويعسر النطق به» (2).
قال الوزير ضياء الدين بن الأثير (ت637هـ) في المثل السائر: «فلفظة مستشزرات مما يقبح استعمالها؛ لأنها تثقل على اللسان ويشق النطق بها ـ ثم قال ـ: ولقد رآني بعض الناس وأنا أعيب على امرئ القيس هذه اللفظة فأكبر ذلك لوقوفه مع شبهة التقليد في أن امرأ القيس أشعر الشعراء، فعجبت من ارتباطه بمثل هذه الشبهة الضعيفة وقلت له: لا يمنع إحسان امرئ القيس من استقباح ما له من القبح بل مثال ذلك كمثال غزال المسك فإنه يخرج منه المسك والبعر ولا يمنع طيب ما يخرج من مسكه من خبث ما يخرج من بعره، ولا تكون لذاذة ذلك الطيب حامية للخبيث من الاستكراه، قال: فأُسكت الرجل عند ذلك» (3).
(1) خزانة الأدب، للبغدادي 1/ 131.
(2)
صبح الأعشى، للقلقشندي 2/ 255.
(3)
المثل السائر، لابن الأثير 1/ 192.
هذا ما قاله النقاد في بيت امرئ القيس، وهناك وجه آخر لو نظرنا إليه لاختلف الحكم، وهو أن هذه اللفظة مع استثقالها جاءت في مكانها البليغ التام من جهة دلالتها على المعنى وتصويرها للحال، فالمرأة إذا كان شعرها طويلاً وغسلته فإنه يتجعد ويدخل بعضه في بعض، فإذا أجرت عليه المشط كان إجراؤه صعباً، فهذه الحالة الصعبة تمثلها لفظة «مستشزرات» ، فالتعبير بهذه اللفظة لمناسبة الحال من شعر المرأة، ومناسبة اللفظة للحال من تمام البلاغة، والله أعلم.
ثم تكلم المؤلف عن علوم البلاغة التي استنبطها وهي موجودة في القرآن وعدَّتها عنده اثنان وعشرون نوعاً، ويلاحظ على هذه الأنواع ما يأتي:
الأول: أن بعض الأنواع التي ذكرها ليس موجوداً في القرآن.
الثاني: أن بعض الأنواع التي ذكرها قد لا يكون له أثر في بيان المعاني وإنما أثره في حسن الكلام من جهة البلاغة؛ ولذا نقول: ليس كل نوع من أنواع علوم البلاغة يستفاد منه في بيان المعاني «التفسير» ، وإنما يستفاد من علم البلاغة لبيان «إعجاز القرآن» .
وإذا كانت المسألة البلاغية تؤثر على المعنى فإنها تكون من باب بيان المعاني «التفسير» ، ومن أنواع علوم البلاغة في آن واحدٍ.
وقد تحدث المؤلف عن النوع الأول من أنواع علم البلاغة في القرآن وهو المجاز فقال: (الأول: المجاز وهو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة بينهما) إلى أن قال: (واتفق أهل العلم واللسان وأهل الأصول على وقوع المجاز في القرآن لأن القرآن نزل بلسان العرب، وعادة فصحاء العرب استعمال المجاز، ولا وجه لمن منعه؛ لأن الواقع منه في القرآن أكثر من أن يحصى).
سبق أن المؤلف قال في قوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة: 7]
قال: «إن هذا مجاز باتفاق» (1)، فقوله: إن المجاز موجود باتفاق، ليس بصحيح؛ لأن هناك من خالف في وقوع المجاز، ولهذا قوله:(واتفق أهل العلم واللسان وأهل الأصول على وقوع المجاز في القرآن)، رأي له، لكن المخالف لا يرى أنه مجاز بل هو حقيقة عنده، والمؤلف يرى أنه لا يوجد مخالف في ذلك، والحقيقة أنه يوجد مخالف، وكون المخالفين أقل من المجيزين، فإن هذا لا يمنع من اعتبار رأيهم لا سيما أنهم جبال في العلم مثل ابن خويز منداد (ت390هـ) من المالكية وغيره، وتبعه من العلماء شيخ الإسلام ابن تيمية (ت728هـ)، ثم تلميذه ابن القيم (ت751هـ)، ثم من المعاصرين الشيخ محمد الأمين (ت1393هـ) رحمهم الله تعالى جميعاً.
أما ما يتعلق بأصل الوضع في الحقيقة ثم النقل إلى المجاز فهي قضية تاريخية تحتاج أن تثبت، وهذا من الحجج التي رد بها المانعون للمجاز، فما هو الدليل التاريخي على أن المراد بالكتاب: المكتوب والمسطور في الكتب، فقد يكون أصل المادة هو الجمع، وسمي المكتوب كتاباً؛ لأن فيه معنى الجمع.
والمجيزون يقولون: عندنا قاعدة وهي أن المجاز إذا شاع استعماله صار حقيقة، ومما يدل على الحقيقة أن الذي يتبادر إلى أذهان الناس كما في الكتاب أنه المكتوب، وكوننا لا نعرف أصل الكلمة لا يمنع من وجود معنى أغلبي يمكن أن يتفق عليه كثير من علماء اللغة فيكون هو المعنى المراد، وهذا ليس فيه إشكال، والإشكال في تسمية انتقال استعمال الكلمة من معناها المشهور إلى معنى آخر هل يسمى حقيقة أو مجازاً؟
أهل المجاز يسمونه مجازاً، وأهل الحقيقة لا يسمونه مجازاً بل
(1) التسهيل (تحقيق الخالدي) 1/ 70.
يسمونه توسعاً في كلام العرب كما يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي.
ونقول: إنكار المجاز صعب، ومصادرةُ أقوالِ الآخرين الذين لا يرون المجاز صعبٌ أيضاً، وأرى أن المشكلة ليست في تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز بل المشكلة في القرينة وهي التي استخدمها أصحاب المجاز في تعطيل الصفات، وبعضهم استخدمها في تعطيل الأسماء، وبعضهم استخدمها في تعطيل أمور الآخرة، فالقرينة هي التي جعلت المانعين للمجاز يمنعونه، والمجاز والتأويل قرينان فلا يكون تأويل إلا بمجاز؛ ولا يكون مجاز إلا بقرينة، لكن هذه القرينة قد يختلف عليها أصحاب المجاز، وقد تكون القرينة، غير صحيحة كقولهم في أسماء الله وصفاته إنها مجاز، والقرينة هي خوف التشبيه كما في قوله سبحانه وتعالى:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] يقولون: يداه، أي: نعمتاه أو قدرتاه.
فقرينة خوف التشبيه ليست قرينة صحيحة؛ لأن تفسيرها بهذا التفسير «نعمتاه أو قدرتاه» يجعل موضع {يَدَاهُ} ليس لها أي معنى، ثم إنه ابتعد عن إثبات الله لليد كما أثبته لنفسه خشية التشبيه والتجسيم، ثم وصفه بالقدرة، والعبد له قدرة فنقول له: أوِّل القدرة، فإن قال: لا، قدرة الله غير قدرة العبد، قلنا: يد الله صفة ليست كيد المخلوق، فالإشكالية في المجاز هي في القرينة، فنحن لا نصحح هذه القرينة، ولذا لا نقول بالمجاز في أسماء الله ولا في صفاته ولا في أمور المعاد التي وقعت عند كثير من المتكلمين.
هذا إذا سلمنا لهم بالقول بالمجاز، أما القول بالمنع فهو قطع للطريق من أوله، وجعلُ الكلام كله على الحقيقة فلا مجاز.
فإن قال قائل: إن المجاز يمكن أن يكذب.
نقول: هذه القاعدة ليست بصحيحة وليست على إطلاقها؛ لأن الأصل في أخبار الله سبحانه وتعالى الصدق.
تنبيهات:
الأول: عدم الأخذ بالمجاز في أسماء الله وصفاته والغيبيات لا يعني عدم الأخذ به أيضاً في تفسير كلام الله، فإن حمل قوله تعالى:{جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف: 77] على المجاز لا يورث مشكلة من جهة المعنى، وليس فيها تحريف لكتاب الله، فإذا قيل: الجدار ليس له إحساس، والإرادة من عمل العقلاء فهذا صارف له عن الحقيقة، فإن هذا لا يؤثر على المعنى، بخلاف القول بالمجاز في أسماء الله وصفاته؛ لأنه ينفي معانيها ودلالاتها عن اللائق بها.
الثاني: معرفة الحقيقة من المجاز يكون بكثرة الاستعمال في الحقيقة، أو يكون هو المتبادر للذهن، فإذا قلت كلمة «عين» فإن أول ما يتجه الذهن إليه هو العين الباصرة.
وكون العين وضعت في اللغة الأولى للعين الباصرة، فإنه يرجع إلى مسألة أصل اللغات أي: هل اللغة توقيفية أو اصطلاحية؟ لكن الذي يدل عليه الدليل النقلي أن أصل اللغات توقيفي ثم دخله الاصطلاح، ولذلك أدلة:
1 -
أن هذه الألفاظ العربية منطوق بها في السماء، فإن الله سبحانه وتعالى لما خلق آدم عليه السلام ونفخ فيه الروح، عطس آدم، فقال:«الحمد لله، فقال له ربه: رحمك الله يا آدم، اذهب إلى أولئك الملائكة إلى نفرٍ منهم وسلِّم عليهم، فلما ذهب قال: السلام عليكم، فردوا عليه: وعليكم السلام ورحمة الله» (1).
2 -
قضية الاشتقاق، فآدم لفظ مشتق؛ إما من الأُدْمَةِ وهي السُّمرَة
(1) أخرجه الترمذي في كتاب التفسير من حديث أبي هريرة، ورقم الحديث (3368)، وقال عنه: حسن غريب، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح.
أو من أديم الأرض الذي هو التراب، وهذا يشير إلى أن اللغة التي تكلم بها آدم لغة اشتقاق، ومن قال: بأنها سريانية، فإنها تسمية لا تخرج بالاسم عن الأصل المقصود الذي ذكرته، وهو كونها لغة اشتقاقية بأي اسم سميت هذه اللغة.
وآدم عليه السلام قد نطق بهذه اللغة الاشتقاقية منذ أن خلقه الله، وانظر إلى قوله للملائكة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ردوا عليه بمثله، وإذا كانت الأسماء لا تتغير، فإنه قد نطق باسم الجلالة كما نعرفه اليوم، وكذا اسم السلام.
وكذا ورد في الحديث: «قال الله عز وجل: أنا الرحمن وأنا خلقت الرحم واشتققت لها من اسمي» (1)، أي: من الرحمن والرحيم، فالاشتقاق هذا هو الذي جعل اللغة التي تكلم بها آدم تستمر إلى يومنا هذا، وإن كان بعض اللغات حدث فيها تغيير كبير حتى خرجت عن لغة الاشتقاق، وفقدته برمته، ولذلك أسباب تاريخية يمكن دراستها في غير هذا الموضع.
وإذا تأملت اللغات التي يتكلم بها الناس فإنك ستجد أن اللغة العربية أسعد اللغات حظاً بهذه اللغة الاشتقاقية الأولى؛ لأن أصولها ممتدة من جهة الاشتقاق إلى أمدٍ سحيق، فهي لغة أنبياء العرب كالنبي صالح، شعيب، وهود عليهم السلام وهم قبل إبراهيم؛ أي: قبل اليهود، بل ستجد أنها قبل هؤلاء كلهم، فهذه أسماء أصنام قوم نوح عربية {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23]، وقوم نوح بينهم وبين آدم عشرة قرون، كما ورد عن ابن عباس، وهذا يشير إلى أن اللغة الاشتقاقية الآدمية كانت موجودة في قوم نوح عليه السلام، وأن أصول كلام العرب كان ممتداً إلى قوم نوح.
(1) أخرجه أحمد في مسند عبد الرحمن بن عوف، ورقم الحديث (1681) 3/ 213.
وبقاء الاشتقاق في اللغة التي تكلم بها آدم هو الذي ولَّد هذه اللهجات المتكاثرة، وكذا ولَّد معاني جديدة حسب الحاجة التي يحتاجها الناس، وحسب ما يقوم عندهم من حضارات مادية تحتاج إلى أسماء جديدة.
وإذا نظرت إلى تاريخ حدوث المسميات، فإنك ستجد المجاز يطلُّ عليك؛ لأن الحقيقة هي أول ما يتبادر إلى الذهن عند جمهور الناس، أو ما يُجمَع أو يتفق عليه كثير من علماء اللغة، ثم إن بعض المجازات قد تكون أصلاً إذا كثر استعمالها، ولهذا إذا رجعت إلى كتاب ابن فارس (ت395هـ) في مادة «لبس» تجد أن أصلها الاختلاط (1)؛ وفي قولنا:«لبست الثوب» اختلف العلماء هل هو من الستر أو الاختلاط؟، وإذا نظرت إلى مادة «لباس» ، فإنها ترجع إلى لبس الثوب، مع أنه ليس هو الأصل.
وإذا قرأت قولهم في بيان بلاغة قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187] يقول ابن جزي: «تشبيه بالثياب لاشتمال كل واحد من الزوجين على الآخر» (2)، فذكر أنه مجاز، وهذا فيه نظر، بل هو حقيقة، لكننا لما غفلنا عن الأصل الأول الذي هو الستر أو الاختلاط، ظننا أنه لا علاقة له بمعنى اللباس هنا، وذهبنا إلى أن التشبيه باللباس الذي يُلبس؛ لأنه هو الأشهر والأظهر من الاستعمال في مادة «لباس» .
فإذا أثبتنا أن هذا هو الحقيقة لكثرة الاستعمال أو لكونه المتبادر إلى الذهن فهذه قضية يتسامح فيها، ولا يمكن أن نصل إلى علم يقيني مطلقٍ فيها، والمسألة فيها اجتهاد، وهي حكم بغلبة الظن.
(1) معجم مقاييس اللغة، 912.
(2)
التسهيل (تحقيق الخالدي) 1/ 111.
قوله: (الثاني: الكناية، وهي العبارة عن الشيء بما لا يلازمه من غير تصريح).
الكناية فيها خلاف هل وقعت في القرآن أو لا؟ وهناك كتاب معاصر ذهب مؤلفه أن القرآن ليس فيه كناية، لكن نقول: كلام الله سبحانه وتعالى فيه عبارات عن أشياء من غير تصريح فلما قال الله سبحانه وتعالى: {كَانَا يَاكُلَانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75] عن «عيسى وأمه» فابن عباس يقول: «إن الله يكني» كأنه يقول: إن الله أراد التنبيه على أن من يأكل الطعام يحتاج إلى إخراج، ومن يكون بهذه المثابة فإنه فقير محتاج إلى هذا، والله هو الغني، فهو منزه عن أن يكون ممن يحتاج إلى طعام.
والإشارة إلى لازم الأمر كنايةً ليس فيه إشكال فهي موجودة في القرآن، قال ابن عباس (ت68هـ):«إن الله حييٌ يَكْنِي عن الأمر» .
قوله: (الثالث: الالتفات. وهو على ستة أنواع:
خروج من التكلم إلى الخطاب، أو الغيبة.
وخروج من الخطاب إلى التكلم، أو الغيبة.
وخروج من الغيبة إلى التكلم، أو الخطاب).
الالتفات هو انتقالٌ من خطابٍ إلى خطاب، وهو من أنواع البلاغة النفيسة جداً، كما في قوله سبحانه وتعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ *مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 2 - 4] هذا كلام عن غائب، ثم انتقل إلى الكلام عن حاضر بقوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، فصار فيه التفات من الحديث عن الغائب للحديث مع المخاطب (1).
(1) ذكر ابن جزي هذا الالتفات، فقال:«الفائدة الرابعة عشرة ذكر الله تعالى في أول هذه السورة على طريق الغيبة ثم على الخطاب في إياك نعبد وما بعده وذلك يسمى الالتفات، وفيه إشارة إلى أن العبد إذا ذكر الله تقرب منه فصار من أهل الحضور فناداه» .
وفي قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ *ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام: 61، 62]
قال ابن جزي: («ثم ردوا» خروج من الخطاب إلى الغيبة).
وفي قوله تعالى: {طه *مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى *إِلَاّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه: 1 - 3].
والالتفات بأنواعه التي ذكرها ابن جزي كثير في القرآن، وقد كُتب فيه كتب عديدة.
قوله: (الرابع: التجريد، وهو ذكر شيء بعد اندراجه في لفظ عام متقدم، والقصد بالتجريد تعظيم المجرّد ذكْرُه، أو تحقيرُه، أو رفعُ الاحتمال).
التجريد شبيه بمسألة ذكر الخاص بعد العام، وهو عبَّر عنها بهذا المصطلح، وذكر أغراضه الثلاثة التي نصَّ عليها، ومن أمثلة ذلك ما ورد في قوله تعالى:{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98]، فجبريل وميكائيل من الملائكة، وذِكْرُهُم ـ بعد ذلك ـ من ذِكْرِ شيءٍ بعد اندراجه في لفظ عام، وهم الملائكة، ثم خصهم بالذكر لتعظيمهم.
قوله: (الخامس: الاعتراض، وهو إدراج كلامٍ بين شيئين متلازمين كالخبر والمخبر عنه، والصفة والموصوف، والمعطوف والمعطوف عليه، وإدخاله في أثناء كلام متصل، والقصد به تأكيد الكلام الذي أدرج فيه).
هذا ما يسمى الجملة المعترضة، وهو من محاسن البلاغة؛ لأن الاعتراض له مقاصد، وذكر المؤلف أحدها وهو:(والقصد به أن يكون تأكيد الكلام الذي أدرج فيه)، ومثاله قوله:{وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 76] فهذه الجملة فيها اعتراضان:
الأول: أن هذه الجملة معترضة بين القسم وجوابه، قال تعالى:{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ *وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 75 - 76].
الثاني: جملة {لَوْ تَعْلَمُونَ} معترضة بين الخبر والمبتدأ، فأصل الجملة «وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ عَظِيم» .
وقد ذكر المؤلف أحد أغراض الجملة المعترضة، وهو تأكيد الكلام، وله أغراض أخرى تطلب في كتب البلاغة.
قوله: (السادس: التجنيس، وهو اتفاق اللفظ مع اختلاف المعنى.
ثم الاتفاق قد يكون في الحروف والصيغة، أو في الحروف خاصة، أو في أكثر الحروف لا في جميعها، أو في الخط لا في اللفظ، وهو تجنيس التصحيف).
التجنيس ويسمى عند غيره الجناس، وفائدته تحسينُ الكلامِ، وهو يدخل في علم البديع كما في قوله:{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55] وللشاطبي (ت790هـ) كلام شديد على باب التجنيس وكثير من علم البديع حتى إنه كان يقول: «فما يؤمننا من سؤال الله تعالى لنا يوم القيامة من أين فهمتم عني أني قصدت التجنيس الفلاني بما أنزلت من قولي: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104]، أو قولي:{قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} [الشعراء: 168]؟ فإن في دعوى مثل هذا على القرآن وأنه مقصود للمتكلم به خطراً بل هو راجع إلى معنى قوله تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً
وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15] وإلى أنه قول فى كتاب الله بالرأي وذلك بخلاف الكناية فى قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43]، وقوله:{كَانَا يَاكُلَانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75]، وما أشبه ذلك» (1).
وهذا يدعو إلى الاحتراز من جملة ما يذكر من المحسنات البديعية في «علم البديع» ؛ لأنه يرتبط بصفاء الجملة من جهة مسمعها، لكن لا يلزم أن كل ما قالوه في علم البديع من القرآن من أمثلة يكون صحيحاً، وإن كان بعضها صحيحاً؛ كقوله:{وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم: 43] قوله: {أَضْحَكَ وَأَبْكَى} ، وهل يمكن أن يأتي الخطاب بغير ذلك، حتى نقول: إن اختيار الطباق مقصود لذاته، ولعل هذا ما يريد الشاطبي نقده، وهو الذي ينبغي ألا يقال أنه من مرادات الله في كلامه.
قوله: (التاسع: المشاكلة، وهي أن تذكر الشيء بلفظ آخر لوقوعه في صحبته).
المشاكلة إذا وردت في صفات الله ففيها إشكالية؛ لأن الأصل إثبات الصفة؛ مثل: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54]، فمن نفى جعلها من باب المشاكلة: لمَّا ذكر مكرَهم ذكر مكرَه بهم، وقد وقع من ابن جزي رحمه الله هذا، فقال:«ومكر الله الموصوف بالسرعة هو عقابه لهم سماه مكراً مشاكلة لفعلهم وتسمية للعقوبة باسم الذنب» (2)، وما ذهب إليه ليس بصحيح، بل هذه من الصفات المقابلة التي لا تُذكر إلا بمقابلها، فيقال: إن الله يمكر بمن يمكر به أو بالمؤمنين، ولا يجوز أن يُتعدَّى هذا اللفظ عن غير هذه المقابلة، ولا يؤخذ من هذه الصفة اسماً ولا وصفاً مطلقاً.
أما قوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] فهي من باب المشاكلة، والمشاكلة هنا صحيحة، وهذا يعني أنه ليس كل ما ورد في باب المشاكلة يكون مراداً به المشاكلة، ولا أنه لا يكون من باب المشاكلة، والأمر راجع إلى النظر في السياق والأحوال والأصل فيما ورد من الآيات في صفات الله مما يُظنُّ أنه من باب
(1) الموافقات 4/ 263.
(2)
التسهيل (تحقيق الخالدي) 1/ 354، 355.
المشاكلة؛ والأصل حمله على الحقيقة كما هو مذهب أهل السنة والجماعة.
قوله: (العاشر: الترديد، وهو رد الكلام على آخره، ويسمى في الشعر ردُّ العَجُزِ على الصَّدر).
قد يكون الترديد في آية، بحيث تُختم بما بدأت به، وقد يكون في القصة ذات الموضوع الواحد، وقد يكون في السورة، مثل ما ورد في سورة المؤمنون التي بدأت بأهل الفلاح في قوله:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1]، خُتِمت بمن نفي عنهم الفلاح في قوله:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ *وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون: 117، 118] وهذا من لطائف رد العجز على الصدر.
قوله: (الحادي عشر: لزوم ما لا يلزم، وهو أن تلتزم قبل حروف الروي حرفاً آخر، وكذلك عند رؤوس الآيات).
كما في سورة الرحمن كقوله: {تُكَذِّبَانِ} وقوله: {مُدْهَآمَّتَانِ} [الرحمن: 64] وغيرها فقد التزمت بأكثر من حرف، وقد يأتي في الآيات ما يخالف هذا النسق.
ومصطلح «لزوم ما لا يلزم» إنما هو في الشعر، والمقصود به أن الأصل أن الشاعر يلتزم بالقافية المعينة، فإذا زاد عليها التزامه بالقافية وحرف قبلها أو أكثر كان من باب لزوم ما لا يلزم، وهذا مما لا أثر له على فهم المعنى، ولم يكن شعراء الجاهلية يلتزمونه، وإنما اعتنى به بعض شعراء الإسلام في العصر العباسي ومن جاء بعدهم.
قوله: (الثاني عشر: القلب، وهو أن يكون الكلام يصلح ابتداء قراءته من أوله وآخره؛ نحو دعد، أو تعكس كلماته، فتقدم المؤخر منها وتؤخر المقدم).
هذا نوع لم يكن العرب يعتدُّون أو يحتفون به، وإنما أخذ به بعض علماء البلاغة المتأخرين الذين حرصوا على علم البديع وغيره، ومما يمثلون به في ذلك قوله:{كُلٌّ فِي فَلَكٍ} [الأنبياء: 33] تقرأ من أولها كما تقرأ من آخرها بالقلب ولا تختلف (1)، وهذا من الإغراق في التلغيز، ولا يمكن أن يكون من مرادات الله، ولا هو مما يُعنى به أهل البلاغة الحقة، ولا هو مما يؤثر في المعنى، لكن هذا الموضوع مما اعتنى به بعض الشعراء والمعتنون بالبلاغة من المتأخرين حيث كانوا يُجْهِدون أذهانهم ليخرجوا مثل هذه الأبيات أو الخطب الطويلة التي تقرأ من الأعلى إلى الأسفل وتقرأ من الأسفل إلى الأعلى ولا تختلف، مثل قول الشاعر (2):
مودتُهُ تدومُ لكُلِّ هَوْلٍ
…
وهلْ كُلٌّ مَوَدَّتُهُ تدومُ
قوله: (الثالث عشر: التقسيم، وهو أن تقسم المذكور إلى أنواعه أو أجزائه).
هذا ليس فيه شيء من البلاغة؛ لأن من الطبيعي أن الشيء إذا كان له أنواع أو أجزاء وأريد ذكرها أن تذكر أقسامها وأجزاؤها.
قوله: (الرابع عشر: التتميم، وهو أن تزيد في الكلام ما يوضحه أو يؤكده، وإن كان مستقلاً دون هذه الزيادة).
التتميم لزيادة التأكيد، وهذا لا شك أنه يوجد في القرآن، لكن ننبه إلى أن حذف هذا الكلام ينقص المعنى الدقيق المراد، أما قول المؤلف:
(1) يلاحظ في هذا عدم العناية بالإعراب، وإنما المراد الألفاظ، ويتركب الإعراب على حسب وجوده في الجملة الأولى، ولو كان للإعراب أثر عند من يقول بمثل هذا لما سلِم له إلا القليل من الأمثلة.
(2)
هو القاضي الأرجاني، انظر: خزانة الأدب للحموي 2/ 37.
إن الكلام واضح بغير هذه الإضافة فهذا لا يمكن أن يكون في القرآن منه شيء فقد لا يفهم المعنى المراد إلا بهذه الزيادة.
وقد أورد ابن جزي في قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] مثالاً، فقال:«ففي قوله: {عَلَى حُبِّهِ} تتميم وهو من أدوات البيان» (1).
قوله: (الخامس عشر: التكرار، وهو أن تضع الظاهر موضع المضمر فتكرر الكلمة على وجه التعظيم أو التهويل أو مدح المذكور أو ذمه أو للبيان).
وضع الظاهر موضع المضمر، وعكسه لا شك أنه من البلاغة بمكان؛ لأن له مقاصد كثيرة، وذكر المؤلف منها: التعظيم، أو التهويل، أو مدح المذكور، أو ذمه، أو للبيان مثاله: وضع الظاهر موضع المضمر، في سورة المنافقين في قوله:{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]، ولم يقل:(والله يشهد إنهم لكاذبون) مع أنه سبق ذكرهم، فأعاد لفظة المنافقين مرة أخرى، وهذا من وضع الظاهر موضع المضمر.
قوله: (السادس عشر: التهكم، وهو إخراج الكلام عن مقتضاه استهزاء بالمخاطب أو بالخبر؛ ككلام البشارة موضع النذارة).
التهكم يوجد له بعض الأمثلة كقوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49]، أو وضع البشارة موضع النذارة وهذا كثير كقوله:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَامُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21]، كذلك قول قوم شعيب:{إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87] قالوه من باب التهكم.
(1) التسهيل (تحقيق الخالدي) 2/ 437.
قوله: (السابع عشر: اللف والنشر، وهو أن تَلُفَّ في الذكر شيئين فأكثر، ثم تذكر متعلقاتها، وفيه طريقتان:
أن تبدأ في ذكر المتعلقات بالأول.
وأن تبدأ بالآخر).
إذا بدأت بمتعلق الأول، فإنه يسمى لفٌّ ونشر مرتب؛ أي: أن الأول للأول، والثاني للثاني على وفق ترتيبها في النظم، ومثاله في قوله تعالى:{وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 73]، فقوله:{لِتَسْكُنُوا فِيهِ} يعود إلى {اللَّيْلِ} ، وقوله:{وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} يعود لـ {وَالنَّهَارَ} .
وإذا بدأت بمتعلق الثاني، فهو لفٌّ ونشر غير مرتب «ويسمى: مشوَّشاً»، فالأول للثاني، والثاني للأول، ومثاله في قوله تعالى:{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا *إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالاً وَسَعِيرًا *إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَاسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} [الإنسان: 3 - 5].
فابتدأ بذكر الشاكر، ثم عطف عليه ذكر الكافر، ثم ذكر مآل الكافر، ثم عاد إلى ذكر مآل الشاكر، على طريقة اللف والنشر غير المرتب.
قوله: (التاسع عشر: الترصيع، وهو أن تكون الألفاظ في آخر الكلام مستوفية الوزن، أو متقاربة مع الألفاظ التي في أوله).
هذا يدخل في باب علم الفاصلة، ويلاحظ أن اللام والنون يتعاقبان في هذه الفواصل، وكذلك النون والميم تتعاقب، وهذه الألفاظ كما ذكر مستوفية الوزن وقد تكون متقاربة كما في قوله:{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *مُدْهَآمَّتَانِ} [الرحمن: 63، 64] تجد {تُكَذِّبَانِ} و {مُدْهَآمَّتَانِ} متوازنتان في العدد.
قوله: (العشرون: التسجيع، وهو أن يكون كلمات الآية على روي حرف واحد).
كما في سورة الرحمن وسورة الصمد، وقد وقع خلاف بين العلماء في صحة وجود السجع في القرآن، والخلاف لفظي، ومآله إلى الاتفاق، فالسجع الباطل الذي نهي عنه، وهو سجع الكهان لا يوجد في كلام الله، وهو يخالف السجع الصحيح الوارد في كلام الله وفي كلام رسوله صلى الله عليه وسلم وفي كلام بلغاء العرب.
قوله: (الحادي والعشرون: الاستطراد، وهو أن يتطرق من كلام إلى كلامٍ آخر، بوجه يصل ما بينهما، ويكون الكلام الثاني هو المقصود؛ كخروج الشاعر من النسيب إلى المدح بمعنى يتعلق بالطرفين مع أنه قصد المدح)].
الاستطراد موجود في القرآن كما في: {عَبَسَ وَتَوَلَّى *أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى *وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى *أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى *أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى *فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى *وَمَا عَلَيْكَ أَلَاّ يَزَّكَّى *وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى *وَهُوَ يَخْشَى *فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس: 1 - 10]، ثم قال بعدها:{كَلَاّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ *فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} [عبس: 11، 12]، ثم استطرد بذكر القرآن:{فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ *مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ *بِأَيْدِي سَفَرَةٍ *كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 13 - 16]، فانتقل من حدث العتاب إلى شرف القرآن بتناسقٍ جميل لا يشعر به القارئ، وهذا كثير في القرآن ويقع فيه ما يسمى عند بعضهم حسن التخلص، وهو الانتقال من موضوعٍ إلى آخر على سبيل بديع من حسن التخلص.