الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرق بين التفسير والتأويل
قال رحمه الله: فإن قيل: ما الفرق بين التفسير والتأويل؟ فالجواب أن في ذلك ثلاثة أقوال: الأول: أنهما بمعنى واحد، الثاني: أن التفسير للفظ والتأويل للمعنى، الثالث وهو الصواب: أن التفسير: هو الشرح، والتأويل: هو حمل الكلام على معنى غير المعنى الذي يقتضيه الظاهر بموجب اقتضى أن يحمل على ذلك ويخرج على ظاهره (1).
المرجع الأول في الفرق بين التفسير والتأويل هما الكتاب والسنة، والمرجع الثاني هو اللغة، والتأويل مرتبط بالقرآن، وأصل النقاش في ذلك هو قوله تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلَاّ اللَّهُ} [آل عمران: 7]، فنحن نحتاج إلى الرجوع أولاً إلى الكتاب والسنة لمعرفة مصطلح التأويل فيها، ثم الرجوع إلى تفسير المفسرين من السلف الذين اعتمدوا على اللغة، وننظر في قولهم.
ولا يوجد في الكتاب والسنة وفي تفسير السلف وفي اللغة للتأويل إلا أحد معنيين:
1 -
التفسير.
2 -
ما تؤول إليه حقائق الأشياء.
ولو وقفنا عند هذا الحد ولم نرجع إلى الخلافات التي وردت حتى
(1) التسهيل 1/ 63.
صارت خمسة عشر قولاً بين التفسير والتأويل لكان المعنى واضحاً في الفرق بين التفسير والتأويل.
فإن قال قائل: هل التفسير هو التأويل؟
نقول: (نعم) باعتبار، و (لا) باعتبار، فإذا كان مرادك بالتأويل كشف معنى الكلام صار في معنى التفسير، وإذا كان مرادك بالتأويل ما تؤول إليه حقيقة هذا الكلام، فهذا غير التفسير.
في قوله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} [النمل: 82].
التأويل بمعنى التفسير: يخبر الله أنه يُخرج للناس في آخر الزمان دابة من دواب الأرض ....
التأويل بمعنى ما تؤول إليه حقيقة الشيء منه (شكل الدابة ولونها وطولها ومتى تخرج)، وهذا التأويل بمعنى ما تؤول إليه حقيقة الشيء لا يمكن إدراكه إلا إذا وقع. والتأويل بهذا المعنى لا علاقة له بالتفسير؛ لأن التفسير بيان المعاني، وإدراك الحقيقة خارج عن بيان المعاني، لكن لا يعني أن هذه الحقيقة لا معنى لها، بل لها معنى، لكن النظر هنا إلى كيفيتها وليس إلى معناها.
أما الآية التي وقع فيها الخلاف هي قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلَاّ اللَّهُ} [آل عمران: 7] فإن قلنا: إن المراد بالتأويل التفسير، فإن المتشابه يعلمه الله سبحانه ويعلمه العلماء، لكن المتشابه هنا هو المتشابه في المعاني.
وجمهور الأمة يعرفون معاني القرآن من حيث جملتهم، وليس هناك معنى يخفى على الجميع، وإن خَفِي على بعضهم فإن غيرهم من العلماء يعلمونه، ويكون الخفاء على بعضهم من قبيل المتشابه النسبي؛ أي: هو بالنسبة لمن خَفِيَ عليه متشابه، وبالنسبة لمن علِمه محكم، وهذا يدخل في التأويل الذي هو بمعنى التفسير.
وإذا قلنا إن التأويل هو المتشابه الكلي الذي لا يعلم حقيقته ووقت وقوعه إلا الله، فيكون ما يدخل في هذا التأويل من هذه الجهة، وإن كان معناه معروفاً خارجاً عن حدِّ التفسير، وهذا التفصيل هو القول الحق في هذه الآية؛ لأنه هو الوارد عن السلف من الصحابة والتابعين الذين هم أعلم الأمة بتفسير القرآن.
وإنما وقع الإشكال في مصطلح التأويل لمَّا استخدم المجاز، وجُعِل مطية لبعض التأويل المنحرف في العلوم الإسلامية، فوقع بذلك تفسير التأويل في كتاب الله بالمعنى الذي ذكره المؤلف، وهو القول الثالث الذي ذهب أنه هو الصواب، فذهب إلى أن المراد به حمل الكلام على معنى غير المعنى الذي يقتضيه الظاهر.
وتخصيص التأويل بهذا المعنى دون غيره ليس بصواب؛ لأن هذا ليس معروفاً في كلام الله، ولا في كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا في كلام السلف، ولا في لغة العرب، وقصارى الأمر أن يكون هذا من باب الاصطلاح، والاصطلاح لا يُحَكَّم على ألفاظ القرآن وألفاظ السنة وكلام العرب؛ لأنه سيؤدي إلى خلل وخطأ جسيم في حمل معنى كلام الله وكلام رسوله على ما لم يريداه.
الإشكال في كلام المؤلف أنه جعله هو معنى التأويل لا غير، أما حمل الكلام على معنى غير المعنى الذي يقتضيه الظاهر لموجب، فهو يرجع إلى معنى التفسير، ومثال ذلك قوله تعالى:{وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} [الإسراء: 59] المعنى الظاهر: آتينا ثمود الناقة ذات البصر، لكن هذا الظاهر ليس المراد، وإنما المراد: آية مبصرة، وإذا قلنا إن هذا من حمل الكلام على معنى غير المعنى الذي يقتضيه الظاهر، وإذا تأملنا هذا المعنى الذي ذُكر عند المتأخرين وهو المخصِّص للتأويل نجد أنه في حقيقته تفسير؛ لأنه إذا كان هذا هو المراد من كلام الله وكلام رسوله، فإنه يكون من باب التفسير في النهاية.
والمقصود من هذا أننا عندما نترك الظاهر الصحيح في المعنى إلى غير الظاهر لموجب فهو في الحقيقة تفسير سواء سمَّيناه تأويلاً وخصَّصناه بهذا المصطلح، أو سمَّيناه بأي مصطلح آخر فهو يرجع إلى معنى التفسير، لكن الإشكال أنه جُعل هو معنى التأويل لا غير، وحُمل عليه كلام الله وكلام رسوله عليه السلام، لكن لو كان بهذا المعنى الذي ذكرنا فإما أن يكون من باب التفسير، وإما أن يكون من باب ما تؤول إليه حقائق الأشياء.
وإذا أردت أن تسلم من إشكالات التأويل فقِفْ عند هذا الحد؛ لأن التأويل يأتي بمعنى (ما تؤول إليه حقائق الأشياء) ويأتي بمعنى (التفسير) ويعرف هذا من السياق، كما هو الحال من استعمال أبي جعفر الطبري لهذه العبارة في عنوان كتابه:(جامع البيان عن تأويل آي القرآن)، وكذا يستعمل هذه العبارة (القول في تأويل قوله تعالى) في كل كتابه من بدايته إلى نهايته، ويريد بذلك التفسير، ولا يريد به ما تؤول إليه حقائق الأشياء، ولا صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى آخر.