المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر حديث جمع القرآن - شعب الإيمان - ت زغلول - جـ ١

[أبو بكر البيهقي]

فهرس الكتاب

- ‌تصدير

- ‌مخطوطات الكتابوالمطبوع منه

- ‌المقدمة

- ‌مقارنة بين هذا الكتابوالطبعة الوحيدة التي طبعت منه

- ‌منهج العمل في الكتاب

- ‌نبذة عن كتابشعب الإيمان

- ‌نبذة عن الحافظ البيهقيومصنفاته

- ‌وفاته:

- ‌تحقيق تسمية الكتاب

- ‌باب ذكر الحديث الذي ورد في شعب الإيمان

- ‌باب حقيقة الإيمان

- ‌باب الدليل على أن التصديق بالقلب والإقرارباللسان أصل الإيمان، وأن كليهما شرط فيالنقل عن الكفر عند عدم العجز

- ‌باب الدليل على أن الطاعات كلها إيمان

- ‌باب الدليل على أن الإيمان والإسلام علىالإطلاق عبارتان عن دين واحد

- ‌باب القول في زيادة الإيمان ونقصانه وتفاضلأهل الإيمان في إيمانهم

- ‌باب الاستثناء في الإيمان

- ‌باب ألفاظ الإيمان

- ‌فصل فيمن كفّر مسلما

- ‌باب القول في إيمان المقلّد والمرتاب

- ‌باب القول فيمن يكون مؤمنا بإيمان غبره

- ‌باب القول فيمن يصحّ إيمانه أو لا يصحّ

- ‌باب الدعاء إلى الإسلام

- ‌فصل في معرفة الله عز وجل ومعرفة صفاتهوأسمائه

- ‌بيان معاني أسماء الذات

- ‌أسامي صفات الذاتفمن أسامي صفات الذات الذي عاد إلى القدرة

- ‌ومن أسامي صفات الذات ما هو للعلم ومعناه

- ‌ومن أسامي صفات الذات ما يعود إلى الإرادة

- ‌أسامي صفات الفعل

- ‌فصلفي الإشارة إلى أطراف الأدلةفي معرفة الله عز وجل وفي حدث العالم

- ‌فصل«في معرفة الملائكة»

- ‌ذكر حديث جمع القرآن

- ‌فصلوإذا انقضى الحساب كان بعده وزن الأعمال

- ‌فصل«في بيان كبائر الذنوب وصغائرها وفواحشها»

- ‌فصل«في أصحاب الكبائر من أهل القبلة إذا وافواالقيامة بلا توبة قدموها»

- ‌فصل«فيما يجاوز الله عن عباده ولا يؤاخذهم به فضلا منه ورحمة

- ‌فصل«في القصاص من المظالم»

- ‌فصل«في كيفية انتهاء الحياة الأولى وابتداء الحياة الأخرىوصفة يوم القيامة»

- ‌فصلقد روينا عن ابن عباس أنّه قال:

- ‌فصلقال البيهقي رحمه الله:

- ‌فصل«في معنى قول الله عز وجل»

- ‌فصل«في قوله عز وجل»

- ‌فصل«في فداء المؤمن»

- ‌فصل«في أصحاب الأعراف»

- ‌فصلفيما يحق معرفته في هذا الباب أن تعلم أنّ الجنة والنار مخلوقتان معدّتانلأهلهما

- ‌فصل«في عذاب القبر»

- ‌معاني المحبة

- ‌فصل«في إدامة ذكر الله عز وجل»

- ‌الفصل الثانيفي ذكر آثار وأخبار وردتفي ذكر الله عز وجل

- ‌فصلقال الحليمي رحمه الله تعالى:

الفصل: ‌ذكر حديث جمع القرآن

‌ذكر حديث جمع القرآن

171 -

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ، أنا أبو الحسن علي بن محمد بن سختويه، ثنا بشر بن موسى، ثنا الحسن بن موسى الأشيب، عن إبراهيم بن سعد الزهري، عن ابن شهاب-ح-

وأخبرنا أبو نصر محمد بن محمد بن علي بن مقاتل الهاشمي الفروي، ثنا أبو محمد أحمد بن عبد الله المزني، أنا أبو خليفة الفضل بن الحباب، ثنا أبو الوليد الطيالسي، ثنا إبراهيم بن سعد، ثنا ابن شهاب، عن عبيد بن السباق، عن زيد بن ثابت قال:

«أرسل إليّ أبو بكر الصّدّيق رضي الله عنه بمقتل أهل اليمامة فإذا عمر جالس عنده فقال أبو بكر: إنّ عمر جاءني فقال: إنّ القتل قد استحرّ بقراء القرآن يوم اليمامة وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن وإنّي أرى أن تأمر بجمع القرآن، فقلت لعمر: كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: هو والله خير، فلم يزل يراجعني في ذلك حتّى شرح الله لذلك صدري ورأيت في ذلك الّذي رأى عمر رضي الله عنه» .

قال زيد: قال أبو بكر:

«إنّك رجل شابّ عاقل لا نتّهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتّبع القرآن واجمعه» .

قال زيد:

«فو الله لو كلّفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ ممّا أمروني به من جمع القرآن. قال قلت: وكيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتّى شرح الله صدري للّذي شرح له صدر أبي بكر وعمر قال فتتبّعت القرآن أجمعه من الرّقاع والعسب وصدور الرّجال حتّى وجدت آخر سورة التّوبة مع أبي خزيمة» .

وفي رواية أبي الوليد مع خزيمة أو أبي خزيمة الأنصاري:

171 - أخرجه البخاري (8/ 344 فتح)، الترمذي (3103) من طريق الزهري-به.

ص: 195

«لم أجدها مع أحد غيره» .

{لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} خاتمة سورة براءة.

قال وكانت الصحف عند أبي بكر حياته حتى توفاه الله عز وجل ثم عند عمر حياته حتى توفاه الله عز وجل ثم عند حفصة بنت عمر أمّ المؤمنين. انتهى حديث الأشيب.

وزاد أبو الوليد في روايته قال إبراهيم بن سعد، حدثني ابن شهاب عن أنس بن مالك:

«أنّ حذيفة قدم على عثمان بن عفّان وكان يغازي أهل الشّام مع أهل العراق في فتح أرمينية وآذربيجان فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال لعثمان يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمّة قبل أن يختلفوا في الكتاب كما اختلفت اليهود والنّصارى فبعث عثمان إلى حفصة: أن أرسلي المصحف أو قال الصحف ننسخها في المصاحف ثمّ نردها إليك فبعثت بها إليه فدعا زيد بن ثابت فأمره وأمر عبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص» .

وقال غير أبي الوليد وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام.

«وأمرهم أن ينسخوا الصحف في المصاحف، وقال لهم: ما اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء فاكتبوه بلسان قريش، فإنّما نزل بلسانهم» .

فكتبت الصحف في المصاحف فبعث إلى كل أفق بمصحف وأمر بما سوى ذلك من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يمحى أو يحرق.

قال ابن شهاب وأخبرني خارجة بن زيد أنه سمع زيد بن ثابت يقول:

فقدت آية من سورة الأحزاب حين نسخت الصّحف كنا نسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأها فالتمستها

(1)

فوجدتها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري:

{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23].

فالحقتها به في سورتها في المصحف.

قال ابن شهاب فاختلفوا يومئذ في التابوت فقال زيد بن ثابت التابوه، وقال

(1)

في المختصر: فطلبتها.

ص: 196

ابن الزبير وسعيد بن العاص التابوت فرفع كلامهم إلى عثمان فقال اكتبوه التابوت.

رواه البخاري في الصحيح عن موسى بن اسمعيل، عن إبراهيم بن سعد دون قول ابن شهاب، قال البيهقي رحمه الله وتأليف القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

روينا عن زيد بن ثابت أنه قال:

«كنّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلّف القرآن من الرّقاع» .

«وإنما أراد-والله تعالى أعلم-تأليف ما نزل من الآيات المتفرقة في سورتها وجمعها فيها بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم ثم كانت مثبتة في الصّدور، مكتوبة في الرّقاع واللخف والعسب، فجمعت منها في صحف بإشارة أبي بكر وعمر وغيرهما من المهاجرين والأنصار ثم نسخ ما جمع في الصحف في مصاحف بإشارة عثمان بن عفان على ما رسم المصطفى صلى الله عليه وسلم.

وروينا عن سويد بن غفلة أنه قال: قال علي بن أبي طالب: يرحم الله عثمان! لو كنت أنا لصنعت في المصاحف ما صنع عثمان.

وقد ذكرنا في كتاب المدخل وفي آخر كتاب دلائل النبوة ما يقوي هذا الإجماع ويدل على صحته. والحمد لله على حفظ عباده كتابه وتركهم على الواضحة. وفقنا لمتابعة السنة ومجانبة البدعة.

172 -

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أبو بكر محمد بن المؤمّل بن الحسن بن عيسى، أنا الفضل بن محمد بن المسيب، ثنا النفيلي، ثنا سفيان بن عيينة، عن عبد العزيز بن رفيع قال:

«دخلت مع شدّاد بن معقل على ابن عباس فسألناه هل ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا سوى القرآن؟ قال: ما ترك سوى ما بين هذين اللّوحين ودخلنا على محمّد بن الحنفية فسألناه فقال مثل ذلك» .

رواه البخاري في الصحيح عن قتيبة عن سفيان.

172 - أخرجه البخاري (9/ 64 فتح) عن قتيبة بن سعيد عن سفيان-به.

ص: 197

173 -

أخبرنا السيد أبو الحسن محمد بن الحسين العلوي، ثنا أبو حامد أحمد بن الحسن الحافظ، ثنا محمد بن يحيى الذهلي، وأبو حاتم الرازي، قالا ثنا محمد بن يزيد بن سنان الرهاوي، ثنا يزيد بن سنان يعني أباه عن عطاء قال سمعت أبا الحجاج مجاهد بن جبر يقول سمعت سعيد بن المسيب يقول سمعت صهيبا يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

«ما آمن بالقرآن من استحلّ محارمه» .

174 -

وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو أحمد بن أبي الحسن، ثنا محمد بن إسحاق بن خزيمة، ثنا أحمد بن سعيد الرباطي، ثنا صدقة بن صادق مولى بني هاشم، ثنا مفضل بن مهلهل، عن مجاهد، عن سعيد بن المسيب قال:

سمعت صهيبا يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

«ما آمن بالقرآن من استحلّ حرامه» .

وفي رواية أحمد «محارمه» .

قال البيهقي رحمه الله وأما الإيمان بسائر الكتب مع الإيمان بالقرآن فهو نظير الإيمان بسائر الرسل مع الإيمان بنبينا صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين، والذي يحقّ علينا معرفته في كلام الله عز وجل أن نعرف أن كلامه صفة من صفات ذاته يقوم به، وكلامه مقروء في الحقيقة بقراءتنا، محفوظ في قلوبنا، مكتوب في

173 - أخرجه الطبراني في الكبير (8/ 36 رقم 7295) من طريق محمد بن يزيد بن سنان الرهاوي- به.

وقال الهيثمي في الزوائد (1/ 177) فيه محمد بن يزيد الرهاوي ضعفه البخاري وغيره وذكره ابن حبان من الثقات وأبوه يزيد ضعفه أبو داود وغيره وقال البخاري مقارب الحديث.

174 -

أخرجه الترمذي (2918) من طريق وكيع عن أبي فروة يزيد بن سنان عن أبي المبارك عن صهيب مرفوعا.

وقال أبو عيسى: هذا حديث ليس إسناده بالقوي وقد خولف وكيع في روايته وقال محمد: أبو فروة يزيد بن سنان الرهاوي ليس بحديثه بأس إلا رواية ابنه محمد عنه فإنه يروي عنه مناكير.

قال أبو عيسى وقد روى محمد بن يزيد بن سنان عن ابيه هذا فزاد في هذا الإسناد عن مجاهد عن سعيد بن المسيب عن صهيب، ولا يتابع محمد بن يزيد على روايته وهو ضعيف وأبو المبارك رجل مجهول.

ص: 198

مصاحفنا، غير حالّ فيها؛ كما أن الله تعالى مذكور في الحقيقة بألسنتنا، معلوم في قلوبنا، معبود في مساجدنا، غير حالّ فيها. وكلام الله تعالى، ولا حد لاختلاف فيه ولا تعداد ولا حصر ولا قليل ولا كثير غير أنه إذا قرئ بالعربية سمّي قرآنا، وإذا قرئ بالسريانية سمّي إنجيلا، وإذا قرئ بالعبرانية سمّي توراة، وإنما سمي في هذه الشريعة قراءة ما سمي قرانا دون ما سمي توراة وإنجيلا، لأن الله تعالى كذب أهل التوراة والإنجيل الذين كانوا على عهد نبينا صلى الله عليه وسلم وأخبر عن خيانتهم وتحريفهم الكلام عن مواضعه، ووضعهم الكتاب، ثم يقولون هذا من عند الله، وما هو من عند الله، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون. فلا يأمن المسلم إذا قرأ شيئا من كتبهم أن يكون ذلك من وضع اليهود والنصارى.

175 -

وقد أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان، ثنا أحمد بن عبيد الصفار، عن عبد الله بن الصقر بن نصر السكري، ثنا أبو مروان، ثنا إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال:

«كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الّذي أنزل الله عز وجل على نبيّه صلى الله عليه وسلم أحدث الأخبار تقرؤونه محضا لم يشب، ثم يخبركم الله في كتابه أنهم قد غيّروا كتاب الله، وبدّلوه وكتبوا الكتاب بأيديهم، ثم قالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا، ألا ينهاكم العلم الذين جاءكم عن مسألتهم والله ما رأينا رجلا منهم قط سألكم عما أنزل الله إليكم.

176 -

وأخبرنا علي عن أحمد بن عبيد، ثنا عبيد بن بشر، ثنا يحيى بن بكير، ثنا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال:

«يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الّذي أنزل الله على نبيّكم أحدث الأخبار بالله تقرؤونه فذكر نحوه» .

رواه البخاري في الصحيح عن يحيى بن بكير وعن موسى بن إسماعيل

175 - أخرجه البخاري (13/ 333 و 334 فتح) من طريق إبراهيم بن سعد-به، (13/ 496 فتح) من طريق شعيب عن الزهري-به.

176 -

أخرجه البخاري (5/ 291 فتح) عن يحيى بن بكير-به.

ص: 199

عن إبراهيم بن سعد، وقد روينا عن مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّ عمر أتاه فقال:

«إنّا نسمع أحاديث من اليهود تعجبنا أفترى ان نكتب بعضها؟

فقال: أمتهوّكون أنتم كما تهوّكت اليهود والنصارى؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية. ولو كان موسى حيّا ما وسعه إلا اتّباعي.

177 -

أخبرناه أبو عبد الرحمن السلمي، أنا أبو الحسن الكارزي، أنا علي بن عبد العزيز، عن أبي عبيد، ثنا هشيم، أنا مجالد فذكر نحوه.

178 -

قال أبو عبيد: وحدثنا معاذ عن ابن عون عن الحسن يرفعه نحو ذلك وقال: قال ابن عون فقلت للحسن متهوكون؟ قال: متحيرون.

179 -

حدثنا أبو محمد بن يوسف الأصبهاني إملاء، أنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد البصري بمكة، ثنا الهيثم بن سهل التستري، ثنا حماد بن زيد، ثنا مجالد بن سعيد؛

وأخبرنا أحمد بن الحسن القاضي، ثنا أبو علي حامد بن محمد الرفّاء، ثنا محمد بن شاذان الجوهري، ثنا زكريا بن عدي، ثنا حماد بن زيد، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

«لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنّهم لن يّهدوكم وقد ضلّوا» .

زاد القاضي في روايته:

«والله لو كان موسى عليه السلام حيّا ما حلّ له إلاّ أن يتبعني» .

وروي عن جبير بن نفير عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم في محو ما كتب من قول اليهود بريقه والنهي عن ذلك.

179 - أخرجه أحمد (3/ 338)، والمصنف في السنن الكبرى (2/ 11) من طريق حماد بن زيد-به.

ص: 200

(5)

الخامس من شعب الإيمان

«وهو باب في أن القدر خيره وشره من الله عز وجل»

قال الله تعالى:

{وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ} [النساء:78] قرأها.

وفي هذه الآية دلالة على أن قوله:

{ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79].

معناه ما أصابك من شيء يسرّك من صحة بدن وظفر بعدوّ وسعة رزق غير ذلك، فالله مبتديك بالإحسان به إليك، وما أصابك من شيء يسوءك ويغمّك فبكسب يدك، لكن الله مع ذلك سائقه إليك، والقاضي به عليك، وهو كما قال في آية أخرى:

{وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:

30].

وقد يكون فيما يسوءه جراحات تصيبه، أو قتل أو أخذ مال أو هزيمة، وقد أمر في الآية الأخرى بأن يقول فيها وفيما يصيبه من خلافها.

{قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ} [النساء:78].

فدلّ أنّ ذلك كله بتقدير الله عز وجل غير أنه في الآية الأخرى أخبر أنه إنما يصيبه جزاء له بما جناه على نفسه بكسبه، وليس ذلك بخلاف لما أمر به في الآية الأولى-

180 -

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أبو بكر بن إسحاق، أنا بشر بن

180 - سبق برقم (124).

ص: 201

موسى، ثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، ثنا كهمس بن الحسن، عن عبد الله بن بريدة، عن يحيى بن يعمر:

«قال: كان أوّل من قال في القدر معبد الجهني بالبصرة، قال فانطلقنا حجاجا أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري فلمّا قدمنا المدينة وافقنا عبد الله بن عمر وهو في المسجد فقلت يا أبا عبد الرحمن! إنّ قبلنا ناسا يقرؤون القرآن ويتقفّرون العلم ويقولون لا قدر، وإنما الأمر أنف قال فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أنّي منهم بريء، وأنّهم منّي برآء، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبا، فأنفقه ما قبل الله منه حتّى يؤمن بالقدر كله خيره وشرّه» .

حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:

«بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشّعر، لا يرى عليه أثر سفر، ولا يعرفه منّا أحد حتّى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفّيه على فخذيه ثمّ قال يا محمّد! أخبرني عن الإيمان ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره قال صدقت» وذكر الحديث.

أخرجه مسلم في صحيحه من وجه آخر عن كهمس.

ورواه يزيد بن زريع عن كهمس وقال في الحديث:

«أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالقدر خيره وشرّه، حلوه ومرّه، وبالبعث بعد الموت، قال صدقت» .

181 -

وأخبرناه محمد بن عبد الله الحافظ، أنا أبو بكر بن إسحاق، أنا أبو المثنى، ثنا محمد بن المنهال، ثنا يزيد بن زريع، ثنا كهمس فذكره.

وقد روينا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة: «وتؤمن بالقدر كله» .

وروينا في الإيمان بالقدر عن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وعدي بن حاتم، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 202

182 -

وقد أخبرنا أبو علي الحسين بن محمد الروذباري، أنا محمد بن بكر، ثنا أبو داود، ثنا محمد بن كثير، أنا سفيان، عن أبي سنان، عن وهب بن خالد الحمصي، عن ابن الديلمي قال:

«أتيت أبيّ بن كعب فقلت له وقع في نفسي شيء من القدر فحدثني بشيء لعلّ الله جلّ ثناؤه أن يذهبه من قلبي، فقال: لو أنّ الله جلّ ثناءه عذّب أهل سماواته وأهل أرضه، عذّبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم، كانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهبا في سبيل الله، ما تقبّله الله منك حتّى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو متّ على غير هذا، لدخلت النّار، قال: ثمّ لقيت ابن مسعود فقال مثل ذلك، ثمّ أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك، ثمّ أتيت زيد بن ثابت فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك» .

وقد روينا عن عبادة بن الصامت وغيره في كيفية الإيمان بالقدر نحو ذلك.

وفي ذلك بيان أنّ المراد بالحديث الأول أن كل مقدور فالله قادره وأنّ الخير والشرّ وإن كانا ضدّين، فإن قادرهما واحد، وليس قادر الشرّ غير قادر الخير، كما تقوله الثنويّة، فإذا ثبت انّ الإيمان بالقدر شعبة من شعب الإيمان فقد دلّ الكتاب ثم السنّة على أنّ الله تعالى علم في الأزل ما يكون من عباده من خير وشرّ، ثم أمر القلم فجرى في اللوح المحفوظ بما علم. قال الله تعالى:

{وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ} [يس:12]

وقال: {ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها} [الحديد:22].

وقال: {كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً} [الإسراء:58].

وروينا عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

182 - أبو سنان هو سعيد بن سنان الشيباني وقد وثقه يحيى بن معين وغيره وتكلم فيه الإمام أحمد. وابن الديلمي وعبد الله بن فيروز.

أخرجه أبو داود (4699)، وابن ماجة (77) من طريق أبي سنان-به.

ص: 203

«كان الله ولم يكن شيء غيره وكتب في الذّكر كلّ شيء، ثمّ خلق السّموات والأرض» .

وروينا في هذا المعنى أحاديث كثيرة، ثم إن الله جل ثناؤه خلق الخلق على ما علم منهم، وعلى ما قدره عليهم قال الله تعالى:

{إِنّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49].

أي بحسب ما قدرناه قبل أن نخلقه، فجرى الخلق على علمه وكتابه والسبب في نزول هذه:

183 -

(ما) أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطّان، أنا عبد الله بن جعفر النحوي، ثنا يعقوب بن سفيان، ثنا أبو نعيم-ح-

وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أبو بكر بن إسحاق، أنا أبو المثنى، قال ثنا محمد بن كثير، قالا: ثنا سفيان، عن زياد بن إسماعيل السهمي، عن محمد بن عباد المخزومي عن أبي هريرة قال:

«كان مشركو قريش عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالفونه في القدر فنزلت هذه الآية» .

{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ} [القمر:47 - 49].

أخرجه مسلم في الصحيح من حديث سفيان.

184 -

أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الأصبهاني، ثنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد البصري بمكة، ثنا الحسن بن محمد الزعفراني، ثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن طاوس، سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«احتجّ آدم موسى فقال موسى: يا آدم أنت أبونا خيّبتنا، أخرجتنا من

183 - أخرجه مسلم (4/ 2046) والترمذي (2157) وابن ماجة (83) من طريق سفيان-به.

184 -

أخرجه البخاري (11/ 505 فتح) ومسلم (4/ 2042) من طريق سفيان بن عيينة-به.

عمرو هو: ابن دينار.

ص: 204

الجنّة، فقال له آدم: يا موسى! اصطفاك الله بكلامه وخطّ لك التّوراة أتلومني على أمر قدّره الله تعالى عليّ قبل أن يخلقني، قال فحجّ آدم موسى فحج آدم موسى».

أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح من حديث سفيان بن عيينة.

وفي هذا دليل على تقدم علم الله عز وجل بما يكون من أفعال العباد وصدورها عن تقدير منه، وانه ليس لأحد من الآدميين أن يلوم أحدا على القدر المقدّر الذي لا مدفع له إلاّ على جهة التحذير للوقوع في المعصية، ولم يكن قول موسى بعد خروج آدم من دار الدنيا في وقت يكون للتحذير فيه معنى، فصار بما عارضه به آدم محجوجا بقضية المصطفى صلى الله عليه وسلم والله أعلم.

185 -

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو بكر بن إسحق أنا الحسن بن محمد بن زياد، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا أبو الأحوص، عن منصور، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي رضي الله عنه قال:

«كنّا فى جنازة فلمّا انتهينا إلى بقيع الغرقد، قعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقعدنا حوله، فأخذ عودا فنكت به في الأرض، ثمّ رفع رأسه فقال: ما منكم من نفس منفوسة إلاّ وقدّ علم مكانها من الجنّة والنّار، وشقيّة أم سعيدة، قال: فقال رجل من القوم: يا رسول الله! ألا ندع العمل ونتّكل على كتابنا، فمن كان منّا من أهل السّعادة صار إلى السّعادة ومن كان من أهل الشّقوة صار إلى الشّقاء؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعملوا: فكلّ ميسّر، فمن كان من أهل الشّقوة ييسّر لعملها، ومن كان من أهل السّعادة ييسّر لعملها، ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{فَأَمّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى، وَأَمّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى} [الليل:5 - 10].

رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وأخرجه من حديث جرير بن عبد الحميد، عن منصور، ومن حديث الأعمش عن سعد.

185 - أخرجه مسلم (4/ 2039).

ص: 205

186 -

أخبرنا أبو طاهر الفقيه، أنا أبو طاهر محمد بن الحسن المحمدآباذي، ثنا أبو قلابة، ثنا عثمان بن عمر، أنا عزرة بن ثابت، عن يحيى بن عقيل، عن يحيى بن يعمر، عن أبي الأسود الدئلي قال: قال لي عمران بن حصين:

«أرأيت ما يعمل النّاس ويكدحون فيه، أشيء قضي عليهم من قدر قد سبق؟ أو فيما يستقبلون به ممّا آتاهم به نبيّهم وثبتت عليهم به الحجّة؟ قال لا بل شيء قضي عليهم قال: فهل يكون ذلك ظلما؟ قال ففزعت من ذلك فزعا شديدا، وقلت ليس شيئا إلاّ وهو خلق الله وملكه، لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون، قال فقال لي يرحمك الله! إنّي والله ما سألتك إلاّ لأحزر عقلك. إنّ رجلين-أو قال رجل-من مزينة أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال أرأيت ما يعملون ويكدح النّاس فيه اليوم ويعملون فيه أقضي شيء عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون به ممّا أتاهم به نبيّهم واتّخذت عليهم به الحجّة؟ قال: لا بل شيء قضي عليهم ومضى عليهم. قال وفيما نعمل إذا؟ قال من كان خلقه الله لواحدة من المنزلتين فييسّره لها، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل:

{وَنَفْسٍ وَما سَوّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها} [الشمس:7،8].

رواه مسلم في «الصحيح» عن إسحاق بن إبراهيم عن عثمان بن عمر.

وفي هذا والذي قبله دلالة على أن العبد إنما ييسر لما خلق له، وان التيسير إنما هو بحق الملك و «لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون» ويشبه أن يكونوا إنما تعبدوا بهذا النوع من التعبد ليتعلق خوفهم بالباطن المغيب عنهم، فلا يتكلوا على ما يظهر من أعمالهم، ورجاءهم بالظاهر البادي لهم فيرجوا به حسن أحوالهم، والخوف والرّجاء مدرجا العبودية فيستكملوا بذلك صفة الإيمان وفي مثل هذا المعنى حديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم.

187 -

أخبرناه علي بن محمد بن عبد الله بن بشران ببغداد، أنا

186 - أخرجه مسلم (4/ 2041) عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي عن عثمان بن عمر-به.

وأبو الأسود الدئلي هو: ظالم بن عمرو.

187 -

أخرجه مسلم (4/ 2036) عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي معاوية ووكيع، وعن محمد بن-

ص: 206

إسماعيل بن محمد الصفار، ثنا سعدان بن منصور، أنا أبو معاوية، ثنا الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الله، قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق:

«إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمّه أربعين يوما ثمّ يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك فينفخ فيه الروح، ثم يؤمر بأربع: بكتب رزقه وعمله وأجله، وشقيّ هو أم سعيد فو الذي لا إله غيره إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النّار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيختم له بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيختم له بعمل أهل النار فيدخلها.

رواه مسلم في «الصحيح» عن أبي بكر بن أبي شيبة وغيره عن أبي معاوية. وأخرجه البخاري من وجه آخر عن الأعمش.

188 -

حدثنا الشيخ أبو بكر بن فورك، ثنا عبد الله بن جعفر بن أحمد الأصبهاني، قال حدثني أبي، ثنا عمرو بن علي أبو حفص، ثنا أبو عبد الله الأسفاطي، قال:

«رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يا رسول الله! بلغنا عنك حديث الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود في القدر، فقال نعم أنا قلته، رحم الله الأعمش! رحم الله زيد بن وهب! ورحم الله عبد الله بن مسعود! ورحم الله من حدّث بهذا الحديث» .

189 -

أخبرنا أبو علي الروذباري أنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن يعقوب المتّوثي بالبصرة إملاء، ثنا أبو داود هو السجستاني، ثنا محمد بن يزيد الأعور قال:

«رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام جالسا مع عمر بن الخطّاب وعلي بن أبي

187 - عبد الله بن نمير الهمداني عن أبيه عن أبي معاوية ووكيع قالوا حدثنا الأعمش-به.

وأخرجه البخاري (11/ 477 فتح) من طريق شعبة عن الأعمش-به.

ص: 207

طالب فقلت يا رسول الله حديث عبد الله بن مسعود حديث الصّادق المصدوق أريد حديث القدر، قال أنا والله الّذي لا إله إلاّ هو حدّثته به،-فأعادها ثلاثا غفر الله للأعمش-كما حدث به، غفر الله لمن حدث به قبل الأعمش وغفر الله لمن حدث به بعد الأعمش».

قال البيهقي رحمه الله وفي الحديث دلالة على أن الاعتبار بما يختم عليه عمله، وإنه إنّما يختم بما سبق كتابه، وفي ذلك كلّه دلالة على أن الله سبحانه وتعالى يهدي من يشاء ويضلّ من يّشاء، وان أعمال عباده مخلوقة له، مكتسبة للعباد، ومما دل عليه قوله عز وجل:

{وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ} [الصافات:96].

وما يعمله ابن آدم ليس هو الصنم، وإنما هو حركاته واكتساباته وقد حكم بأنه خلقنا وخلق ما نعمله وهو حركاتنا واكتساباتنا.

وقال: {اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62].

وقال: {خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما} [السجدة:4 وغيرها].

وأفعال الخلق بينهما، ولا يتناول ذلك شيئا من صفات ذاته، لأن صفات ذاته ليست بأغيار له فلا يتناولها كما لا يتناول ذاته وقال:

{هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ} [فاطر:3].

كما قال:

{مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ} [القصص:71،72].

فكما لا إله إلا هو كذلك لا خالق إلاّ هو وقال:

{فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:125].

وهذه الآية كما هي حجّة في الهداية والإضلال، فهي حجة في خلق الهداية والضلال لأنه قال:«يشرح» و «يجعل» وذلك يوجب الفعل والخلق، والآيات في هذا المعنى كثيرة وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال:

ص: 208

«اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له» .

وعن حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله خالق كل صانع وصنعته» .

190 -

أخبرنا أبو الحسن محمد بن أبي المعروف، أنا أبو سهل الاسفراييني، أنا أبو جعفر الحذّاء، ثنا علي بن المديني، ثنا مروان بن معاوية الفزاري، ثنا أبو مالك، عن ربعي بن حراش، عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«إنّ الله خلق كلّ صانع وصنعته»

وروينا عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه انّ نبي الله صلى الله عليه وسلم قال:

«الخير والشّرّ خليقتان ينصبان للنّاس يوم القيامة» .

وروينا في هذا الباب بين أحاديث كثيرة وهي في «كتاب القدر» مذكورة؛ من أراد الوقوف عليها رجع إليها إن شاء الله تعالى.

قال أصحابنا ولأنّ الإنسان لو صحّ أن يحدث شيئا فيما يصح أن يحدث، لم يكن بعض ما يصح أن يحدث، بأن يكون محدثه بأولى من بعض، كما أن الله سبحانه وتعالى لما صح أن يحدث، لم يكن بعض ما يصح أن يحدث بأن يصحّ منه احداثه بأولى من بعض؛ ولأنّ الإنسان محدث، والمحدث لا يصح أن يحدث كما أن الحركة لا يصح أن تتحرّك.

ولأن هذه الحوادث التي هي تقع على وجوه لا يقصدها ككون الكفر قبيحا من الكافر غير واقع على قصده لأن الكافر يقصد أن يقع كفره حسنا غير قبيح ولا يقع إلا قبيحا. فدل أن قاصدا قصد إيقاعه قبيحا، لأنّه يستحيل أن يقع كذلك من غير فاعل فعله على ما هو به. وكذلك الإيمان يقع متعبا مؤلما ولو قصد المؤمن أن يقع على خلاف هذا الوجه لم يتأتّ منه ذلك، دلّ انه وقع كذلك لقصد موقع

190 - أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد (92).

عن علي بن المديني-به.

وعلي بن المديني هو: علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح السعدي مولاهم أبو الحسن بن المديني البصري.

ص: 209

أوقعه كذلك غير الذي لو جهد لخلافه أن يقع لم يقع.

ولأنا نجد الإنسان غير عالم بحقائق أفعاله كلها وكمياتها وعدد أجزائها ولا يجوز أن يكون مخترعا لها وهو لا يحيط بها علما، إذ لو ساغ ذلك لم ينكر أن يكون سائر المخترعين كذلك، وأن يكون كذلك حكمة الباري في اختراعه، ولا يدخل عليه الكسبب لأن الكسب هو اختراع عالم بحقائقه من (جميع) وجوهه جعله كسبا لنا، ونحن مكتسبون له غير مخترعين له، والذي يؤكّد هذه الطريقة قوله عز وجل:

{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:13].

وظاهر هذا إنه خلق الإسرار والجهر اللذين يكتسبان بالقلب، وانه عليم بهما، وكيف لا يعلم وهو خلقهما؟ فدلّ أنّ الخلق يقتضي علم الخالق بالخلق من كل الوجوه.

ولأنّ الدلالة قد قامت انّ كلّ مقدور فالله قادر عليه لقيام الدلالة على انّ القدرة من صفات ذاته كالعلم، فوجب أن يقدر كل مقدور كما يعلم كل معلوم.

وإذا كان كذلك فوجب أن يكون إذا وجد وهو مقدور أن يكون مرادا له أن يكون فعله كما إذا وجد مقدور الإنسان مرادا له لم يكن فعله؟.

فإن قيل إذا كان الله خالقا لكسب العباد أفيقولون إن الفعل وقع من فاعلين؟

قيل لا فاعل في الحقيقة إلا الله عز وجل كما أنه لا خالق إلاّ هو، والإنسان مكتسب على الحقيقة غير فاعل ولا محدث العين عن العدم.

وكان الشيخ أبو الطيب سهل بن محمد بن سليمان يقول: فعل القادر القديم خلق وفعل القادر المحدث كسب، فتعالى القديم عن الكسب وجلّ، وصغر المحدث عن الخلق وذلّ.

وقال فإن قيل: أفتقولون هو مقدور لقادرين؟.

ص: 210

قيل: نعم أحدهما بخلقه، ويخترعه ويخرجه عن العدم وهو الله سبحانه وتعالى.

والثاني يكتسبه ولا يخلقه وهو العبد. والخلق ما تعلقت به قدرة أزلية حادثة. والكسب ما تعلقت به قدرة حادثة فالقدرة الأزلية تؤثر في الاختراع، والقدرة الحادثة تؤثر في الاكتساب.

فإن قالوا: فإذا كان الله تعالى خلق أعماله كلّها أعمالا له فكيف يثيبه ويعاقبه.

وقيل ليس الثواب من الله عز وجل إلاّ بتفضّل عليه وأما العقاب فهو لو ابتلاه في العذاب كان له أن يفعله لأنّه ملكه وفي قبضته وليس الكفر علّة العقاب ولا الإيمان علة الثواب إنما هما امارتان جعلتا علمين لهما.

فقيل: إن كنت كافرا عذّبت في الآخرة وإن كنت مؤمنا عوفيت وأثبت.

وجميع ذلك من الثواب والعقاب والكفر والإيمان خلقه واختراعه لا لعلّة، يفعل ما يشاء.

فإن قيل فإذا عاقبه ما خلقه له كان ظالما له.

قيل: لم قلت ذلك؟ وما ينكر أنّ حقيقة الظلم هو تعدّي الحد والرسم الذي يرسمه الآمر الذي لا آمر فوقه، وان لا يكون للظلم منه معنى إذ أفعاله كلها تقع على غير وجه التعدي والتحكم فيما لا يملك فلا يستحق اسم الظالم ولو ساغ ما قلته لم ينفصل ممن قال إذا أمكنه من الكفر وعلم انه لا يأتي إلا بالكفر لم يصحّ أن يعاقبه لأنّه يكون ظالما له حينئذ، وما الفصل؟ وكذلك إذا خلق له الآلات والحياة والقدرة والشهوة للمعاصي، وعلم أنه لا يفعل بها إلا كفرا به، عرضه للهلاك والعطب فيكون له ظالما، ووجب أن يكون في إيلام الأطفال والمجانين والبهائم ظالما ولا معنى لتقدير العوض فيه، فإن العوض لا يحسن به القبيح في الشاهد إلا بمرضاه فإذا كان جميع ذلك منه غير منسوب إلى الظلم لأنه المالك على الحقيقة وهو فيما يفعله في ملكه غير متعدّ، ذلك ما قلنا لا فصل بينهما.

ص: 211

فإن قيل: من خلق الكفر كان كافرا ومن خلق الظلم كان ظالما.

قيل له ما ينكر على من يقول من خلق النوم كان نائما ومن خلق الخوف كان خائفا ومن خلق المرض كان مريضا ومن خلق الموت كان ميّتا؟ فإذا لم يلزم ذلك في هذه الأشياء لم يلزم في الكفر والظلم.

فإن قيل أفتقولون إن الله تعالى يشاء الكفر والظلم؟

قيل له إن أردت بقولك يشاء الكفر نفي الغلبة والعجز والإكراه على ما يشاء، فنعم يشاء أن يكون ما يريد.

وجواب آخر وهو أن يشاء ان يكون موجودا لما لم يزل عالما بأنه يكون موجودا فلا يكون خلاف ما علم، والكفر مّما لم يزل كان عالما به أنه يكون موجودا ألا تراه يقول:

{يُرِيدُ اللهُ أَلاّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ} [آل عمران:176].

وفيه جواب آخر وهو أنه شاء أن يكون الكفر من الكافر خلاف الإيمان من المؤمن ألا ترى أنّ موسى وهارون سألا إضلال فرعون وقومه والسد على قلوبهم فلا يؤمنوا فقال الله تعالى:

{قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما} [يونس:89].

فشاء إضلالهم والسد على قلوبهم فلا يؤمنوا لما أجاب دعوتهما.

وفيه جواب آخر: يشاء أن يكون الكفر قبيحا ضلالا عمى خسارا لا نورا وهدى وحقا وبيانا وإن أردت تقول: يشاء الكفر أي يأمر به فلا تقول ذلك.

فإن قيل: الحكيم من يريد أن يشتم ويذكر بسوء؟

قيل الحكيم من يجري الشتم على لسان النائم والمبرسم ولا فعل لهما، الحكيم من يخلق عبدا يعلم انه لا يزال يشتمه ويجحده ثم يحدث له كل ساعة قوة جديدة.

وقيل: من كان الشتم ينقصه فليس بحكيم ومن لم ينقصه فحكيم لأنه يشاء ما لم يكن، ولأن من يريد أن يكون شتم الشاتم له خلاف مدح المادح له فحكيم، ومن أراد أن يكون شتم الشاتم له معصية من الكافر، لا طاعة فحكيم،

ص: 212

لأن من يريد الشيء على ما لا يكون خلافه فحكيم، ومن أراد أن يكون الشتم موجودا في الوقت الذي لم يزل به عالما أنه يكون فيه موجودا فحكيم، لأنه أراد الشيء في الوقت الذي كان يكون فيه. ومن أراد أن لا يكون مغلوبا مقهورا مكروها على كون ما لا يريد فحكيم والكلام في هذا يطول.

فإن قيل ما تقولون في استطاعة العبد؟

قيل: نقول هي قدرته وهي مع فعل العبد وهي توفيق من الله تعالى للطاعة وخذلان منه في المعصية قال الله عز وجل:

{فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} [الفرقان:9].

وقد كانوا لسبيل الباطل مستطيعين فدل على انه نفي عنهم استطاعة الحق لأنهم لم يكونوا فاعلين له وقال مخبرا عن صاحب موسى عليه السلام أنه قال:

{إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:67].

فنفى عنه استطاعة الصبر حين أراد أن ينفي عنه الصبر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:

«كلّ ميسّر لما خلق له» .

فدل انه في حال كسبه ميسّر، وتيسيره قدرته، ولأن المسلمين يقولون إنه لا يستطيع الخير إلاّ بالله وهو قبل كونه ليس بخير فدلّ على أنّ استطاعتهم تكون معه ولأنّ الاستطاعة سبب للفعل يوجد بوجودها ويعدم بعدمها فجرت مع الكسب مجرى العلة مع المعلول، ولا يصح تقدم العلة على المعلول فلا يصح تقدم الاستطاعة على الكسب.

191 -

أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا أحمد بن يحيى الحلواني، ثنا علي بن حكيم الأودي، أنا شريك، عن يحيى ابن سعيد، وعاصم عن القاسم، عن عائشة رضي الله عنها قالت:

«فقدت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فاتبعته فانتهى إلى المقابر فقال السّلام عليكم ديار قوم

191 - أخرجه ابن السني (584) من طريق عاصم بن عبيد الله عن عبد الله بن عامر عن عائشة مرفوعا بلفظ «السّلام عليكم دار قوم مؤمنين أنتم لنا فرط وإنا بكم لاحقون اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تضلنا بعدهم وليس فيه «ويحها لو استطاعت ما فعلت» .

ص: 213

مؤمنين أنتم فرط لنا ثمّ التفت إليّ فقال ويحها! لو استطاعت ما فعلت».

وهذا يدل على ما قلنا في الاستطاعة لأنه نفى عنها الاستطاعة في المكث دون الاتباع.

فإن قيل: يقولون إن الله كلف العبد ما لا يطيقه إلا به وهذا معنى قول المسلمين لا حول ولا قوة إلاّ بالله، ولذلك أمر الله عباده أن يقولوا:

{إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ} .

ولا تكون عبادة العبد إلاّ بمعونة الرب وقوله:

{لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها} [البقرة:286].

فمعناه إلا ما يحل لها أو لا تعجز عن فعله بزمانه أو غيرها، أو أراد لا يكلف الله نفسا مؤمنة إلاّ وسعها لأنها نزلت في العفو عن المؤاخذة بحديث النفس وقد قال فيما علمنا:

{رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ} .

ولولا جواز ذلك لما علمنا هذه المسألة وإذا جاز تكليف ما قد علم أنه لا يكون فقد جاز تكليف مالا يوفق له ولا يعان عليه.

فإن قيل: أفتقولون إن في مقدور الله لطفا لو فعله بالكافر لآمن؟

قيل: نعم، وذلك اللطف هو القدرة التي بها يفعل الطاعة وهو ضد ما فعله بالكافر قال الله عز وجل:

{وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها} [السجدة:13].

قال: {وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:93].

وقال: {وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاّ قَلِيلاً} [النساء:83].

والآيات في هذا المعنى كثيرة، وكذلك الأخبار. ولا يجب على الله ذلك وهو متفضل في فعله: إن شاء فعل، وإن شاء ترك. ومن زعم أنه سوّى بين

ص: 214

الكافر في النظر بطل قوله بنفسين: أمات أحدهما قبل البلوغ، وأمات الآخر بالغا كافرا مع علمه بأنّه لو بلغ كان كافرا؛ ونفسين أمات أحدهما مؤمنا، وأبقى الآخر سنة أخرى حتى كفر مع علمه بأنه يكفر والكلام في هذا يكثر.

192 -

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنا الحسن بن محمد بن إسحاق قال سمعت أبا عثمان الخياط يقول سمعت ذا النون يقول:

«ثلاثة من علامات التّوفيق: الوقوع في أعمال البرّ بلا استعداد له، والسّلامة من الذنب مع الميل إليه، وقلّة الهرب منه، واستخراج الدّعاء والابتهال. وثلاثة من علامات الخذلان: الوقوع في الذنب مع الهرب منه، والامتناع من الخير مع الاستعداد له، وانغلاق باب الدّعاء والتضرع» .

قال البيهقي رحمه الله وقد روينا في هذه المسائل ما جاء في الأخبار والآثار في «كتاب القدر» وأجبنا عما يحتجون به من الآيات والأخبار واقتصرنا على ما نقلنا في هذا الكتاب نحو الاختصار وبالله التوفيق.

ومما يحق معرفته في هذا الباب أن الله عز وجل لا يجب عليه شيء، ولا علة لصنعه، ولا يقال لم فعل، لأنه لو كان لفعله علة فإن كانت قديمة اقتضت قدم معلولها. وذلك محال. وإن كانت حادثة كانت لها علة أخرى، ولتلك العلة علة أخرى حتى تودّي إلى ما لا يتناهى، وذلك محال، وإن استغنت العلة عن العلة استغنى الحوادث عن العلة، وذلك محال، فدلّ أنّ ربّنا جل وعز فعال لما يريد لا علّة لفعله، ولا معقّب لحكمه وأنه علم في الأزل ما يكون من الحوادث بخلقه، فقدره على ما لم يزل عالما به، ثم خلقه على ما قدره، فلا تبديل لحكمه، ولا مردّ لقضائه. وفي الإيمان به وجوب التبرّي من الحول والقوة إلا إليه، والاستسلام للقضاء والقدر بالقلب واللسان.

أمّا بالقلب بأن لا ينظر ولا يباشر مما يجري به القضاء مّما يوافقه، ولا يأسف ولا يحزن لما يأتي به القضاء مما لا يوافقه.

وأما باللسان فهو أن لا يفتخر بما يعجبه على غيره، ولا ينسب ذلك إلى سبب يكون مرجعه إلى نفسه، ولا يتضجّر مما يسوءه فعل من يشكو أحدا أو ينسبه إلى ظلم أصابه من قبله، لكن يضيف الأمرين إلى الله جل ثناؤه،

ص: 215

وينسبهما إلى فضله وقدره ويذعن ويستسلم لما يكرهه ويحمد الله على ما يسره.

قال البيهقي رحمه الله وقد روينا أحاديث وحكايات في الترغيب في الاستسلام للقضاء والقدر والتبري من الحول والقوة من ذلك-.

193 -

ما أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني عبد الرحمن بن الحسن الهمداني، ثنا إبراهيم بن الحسين، ثنا آدم ثنا شعبة، ثنا يحيى بن سليم، قال سمعت عمرو بن ميمون يحدث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

«ألا أعلّمك أو أدلّك على كلمة من تحت العرش من كنز الجنّة لا حول ولا قوة إلاّ بالله. يقول الله عز وجل أسلم عبدي واستسلم» .

194 -

وأخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ، أخبرني أبو بكر بن عبد الله، أنا الحسن بن سفيان، ثنا محمد بن عبد الله بن نمير، ثنا عبد الله بن إدريس، عن ربيعة بن عثمان، عن محمد بن يحيى بن حبّان، عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«المؤمن القويّ خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الضّعيف، وفي كلّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شرّ فلا تقل لو أنّي فعلت كذا وكذا. قل قدّر الله، وما شاء الله فعل، فإنّ لو تفتح عمل الشّيطان» .

رواه مسلم في الصحيح عن ابن نمير.

وروينا عن أنس بن مالك قال:

«خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما أرسلني في حاجة قطّ فلم تتهيّأ إلاّ قال لو قضى الله كان ولو قدّر كان» .

195 -

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أبو بكر بن إسحق الفقيه، أنا محمد

193 - أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (13) عن إبراهيم بن الحسن عن حجاج عن شعبة-به. وقال النسائي.

خالفه محمد بن السائب: رواه عن عمرو بن ميمون عن أبي ذر.

194 -

أخرجه مسلم (4/ 2052) عن أبي بكر بن أبي شيبة وابن نمير عن عبد الله بن إدريس-به.

195 -

أخرجه المصنف في الأسماء والصفات (76) والترمذي (2516) والآجري في الشريعة (198)

ص: 216

ابن محمد بن حيان الأنصاري، ثنا أبو الوليد، ثنا الليث بن سعد، حدثني قيس بن الحجاج، عن حنش الصنعاني، عن ابن عباس قال كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال.

«يا غلام أو يا غليم! احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أنّ الأمّة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم يقدروا على ذلك، ولو اجتمعوا على أن يضرّوك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا على ذلك قضي القضاء، وجفّت الأقلام، وطويت الصّحف» .

وروينا في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم:

«اللهمّ إنّي أسألك الصّحة والعفّة والأمانة وحسن الخلق والرّضى بالقدر» .

وفي حديث آخر.

«وأسألك الرّضى بعد القضاء» .

196 -

أخبرنا أبو عبد الرحمن السّلمي أنه سمع عبد الله الرازي يقول سئل أبو عثمان عن قول النبي صلى الله عليه وسلم،

«أسألك الرّضا بعد القضاء فقال الرّضا، قبل القضاء عزم على الرّضا، والرّضا بعد القضاء هو الرّضا» .

197 -

أخبرنا أبو سعد أحمد بن محمد الماليني أنا علي بن الحسن المصري، قال سمعت أبا عثمان سعيد بن عثمان المصري، يقول سمعت أبا سعيد الخراز يقول:

195 - من طريق حنش عن ابن عباس وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.

وأخرجه الحاكم (3/ 541) من طريق عبد الملك بن عمير عن ابن عباس.

تنبيه: في المخطوطة والمطبوعة كثير الصنعاني بدلا من حنش الصنعاني والصحيح حنش الصنعاني ليس هناك من اسمه كثير حدث عن ابن عباس أو روى عنه من اسمه قيس بن الحجاج.

ص: 217

«الرضا قبل القضاء تفويض، والرضا بعد القضاء تسليم» .

198 -

أخبرنا أبو صالح بن أبي طاهر العنبري، نا جدي يحيى بن منصور، ثنا أحمد بن سلمة، ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا الليث، عن ابن الهاد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن عامر بن سعد، عن العباس بن عبد المطلب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

«ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربّا وبالإسلام دينا وبمحمّد نبيّا» .

199 -

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو النضر الفقيه، ثنا الحارث بن أبي أسامة، ثنا المعلى بن منصور، ثنا عبد العزيز بن محمد، عن يزيد بن الهاد بهذا الحديث.

أخرجه مسلم في الصحيح عن عبد العزيز.

200 -

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثني أبو الحسن محمد بن الحسن بن علي الورّاق بمرو، كتبه لي بخطه، ثنا علي بن يزداد الجرجاني، وكان قد أتى عليه مائة وخمسة وعشرون سنة قال سمعت عصام بن الليث الليثي السدوسي من بني مرارة في البادية يقول سمعت أنس بن مالك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى:

من لم يرض بقضائي وقدري فليلتمس ربا غيري.

201 -

أخبرنا أبو القاسم زيد بن أبي هاشم العلوي وعبد الواحد بن

(198 و 199) -أخرجه مسلم (1/ 62) عن محمد بن يحيى بن أبي عمر المكي وبشر بن الحكم عن عبد العزيز الدراوردي عن يزيد بن الهاد-به.

200 -

عزاه الألباني في الضعيفة (747) لابن عساكر من طريق الحاكم عن البيهقي-به.

وقال الألباني وهذا إسناد ضعيف جدا علي بن يزداد الجرجاني قال الذهبي في ترجمة شيخه عصام بن الليث لا يعرفان وساق له في اللسان هذا الحديث من طريق الحاكم ثم قال أخرجه أبو سعد بن السمعاني في الأنساب وقال: «هذا إسناد مظلم لا أصل له» .

وقال الذهبي أيضا في ترجمة علي بن يزداد الجرجاني شيخ لابن عدي متهم روى عن الثقات أوابد وأقره في اللسان.

قال الألباني فالإسناد ضعيف جدا.

201 -

العلاء هو: ابن خالد الكاهلي الكوفي.

ص: 218

محمد بن إسحاق المقرئ بالكوفة، قالا حدثنا محمد بن علي بن دحيم، ثنا إبراهيم بن إسحاق القاضي، ثنا قبيصة، عن سفيان، عن العلاء، عن أبي وائل، عن عبد الله قال:

«أدّ ما افترض الله عليك تكن من أعبد النّاس، واجتنب ما حرّم عليك تكن من أورع النّاس، وارض بما قسّم الله لك تكن من أغنى النّاس» .

202 -

أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا أبو عتبة، ثنا بقية، عن بحير بن سعيد، عن خالد بن معدان، عن يزيد بن مرثد، عن أبي الدرداء قال:

«ذروة الإيمان أربع: الصّبر للحكم، والرّضا بالقدر، والإخلاص للتّوكّل، والاستسلام للرّبّ عز وجل» .

203 -

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا يحيى بن منصور القاضي، حدثنا الحسن بن علي بن القاسم الشاذياخي، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا ابن أبي فديك، حدثنا ابن أبي حميد/ح.

وأخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، أنا أبو الحسن بن صبيح، ثنا عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن، ثنا إسحاق بن إبراهيم، ثنا أبو عامر العقدي، ثنا محمد بن (أبي) حميد، عن إسماعيل بن محمد بن سعد يعني ابن أبي وقاص، عن أبيه عن جدّه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

«من سعادة ابن آدم استخارته الله ورضاه بما قضى الله عليه، ومن شقاوة ابن آدم تركه استخارة الله وسخطه بما قضى الله عز وجل» .

ورواه عمر بن علي المقدمي عن محمد بن أبي حميد وعبد الرحمن بن أبي بكر بن عبيد الله عن إسماعيل.

204 -

أخبرنا أبو علي بن شاذان البغدادي بها، أنا عبد الله بن جعفر، ثنا

203 - أخرجه الترمذي (2151) من طريق أبي عامر العقدي وقال غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن أبي حميد وليس بالقوي عند أهل الحديث.

204 -

أخرجه الترمذي (3516)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (59)، والبغوي في شرح السنة-

ص: 219

يعقوب بن سفيان، ثنا أبو بشر حاتم بن سالم القزاز، ثنا زنفل العرفي يكنّى أبا عبد الله، ثنا عبد الله بن أبي مليكة، عن عائشة، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما: «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أمرا قال الّلهمّ خر لي واختر لي.

وقد ذكرنا دعاء الاستخارة في غير هذا الموضع.

205 -

أخبرنا محمد بن موسى، أنا أبو عبد الله الصفار، ثنا ابن أبي الدنيا، ثنا إسحاق بن إسماعيل، ثنا جرير عن ليث عن أبي وائل قال: قال عبد الله:

«يستخير أحدكم فيقول اللهمّ خر لي، فيخير الله له فلا يرضى، ولكن ليقل الّلهمّ خر لي برحمتك وعافيتك ويقول الّلهمّ اقض لي بالحسنى، ومن القضاء بالحسنى قطع اليد والرّجل وذهاب المال والولد، ولكن لّيقل الّلهمّ اقض لي بالحسنى في يسر منك وعافية» .

206 -

أخبرنا محمد بن موسى، ثنا أبو عبد الله الصفار ثنا ابن أبي الدنيا، ثنا أبو خيثمة، ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه، عن محمد بن إسحاق، قال حدثني عيسى بن عبد الله بن مالك، عن محمد بن عمر بن عطاء، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

«إذا أراد أحدكم أمرا فليقل الّلهمّ إنّي استخيرك بعلمك واستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنّك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علاّم الغيوب، الّلهمّ إن كان كذا وكذا-للأمر الّذي يريد-خيرا لي في ديني

204 - (4/ 155) من طريق زنفل بن عبد الله-به وقال الترمذي

هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث زنفل وهو ضعيف عند أهل الحديث ويقال له زنفل العرفي وكان سكن عرفات وتفرد بهذا الحديث ولا يتابع عليه.

والحديث ضعفه ابن حجر في فتح الباري (11/ 184).

206 -

قال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 281) رواه أبو يعلى ورجاله موثقون ورواه الطبراني في الأوسط بنحوه.

قلت والحديث رواه أيضا من غير طريق أبي سعيد.

البخاري (2/ 70)، وأبو داود (1543)، والترمذي (480) وابن ماجة (1383) وأحمد 3/ 344.

ص: 220

ومعيشتي وعاقبة أمري وإلاّ فاصرفه عنّي واصرفني عنه ثمّ اقدر لي الخير أين كان ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله».

207 -

أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الإمام، أنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل، أنا علي بن روحان العسكري، ثنا علي بن محمد بن مروان السدي، ثنا أبي حدثنا عمرو بن قيس الملائي/ح.

وأخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي، أنا محمد بن يزيد، أنا محمد بن خلف وكيع، ثنا علي بن شعيب، ثنا موسى بن بلال، ثنا أبو عبد الرحمن السدي، عن عمرو بن قيس الملائي، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«إنّ من ضعف اليقين أن ترضي النّاس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمّهم على ما لم يؤتك الله إن رزق الله لا يجرّه حرص حريص ولا يردّه كره كاره، إنّ الله بحكمه وجلاله جعل الرّوح والفرح في الرّضا واليقين، وجعل الغمّ والحزن في الشّكّ والسّخط» .

محمد بن مروان ضعيف-

وروي ذلك عن ابن مسعود من قوله مرّة ومرفوعا أخرى أما المرفوع فما-

208 -

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا محمد بن صالح بن هانئ، ثنا جعفر بن شعيب الشاشي، ثنا أبو حمة، ثنا أبو قرّة، عن سفيان بن سعيد، عن منصور بن المعتمر، عن خيثمة، عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

«لا ترضينّ أحدا بسخط الله ولا تحمدنّ أحدا على فضل الله، ولا تذمّنّ أحدا على ما لم يرد الله، فإنّ رزق الله لا يسوقه إليك حرص حريص ولا يردّه عنك كره كاره، وانّ الله عز وجل بقسطه وعدله جعل الروح والراحة والفرح في

207 - أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/ 106) من طريق عمرو بن قيس-به.

208 -

أخرجه الطبراني في الكبير (10/ 266 رقم 10514)، وأبو نعيم في الحلية (4/ 121، 7/ 130) من طريق الأعمش عن خيثمة-به.

وضعفه المنذري في الترغيب (2/ 540).

ص: 221

الرضا واليقين، وجعل الهمّ والحزن في السخط والشّكّ».

وأما الموقوف.

209 -

فأخبرنا أبو الحسين بن بشران، ثنا الحسين بن صفوان، ثنا عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا، ثنا الحسن بن الصباح، ثنا سفيان، عن أبي هارون المدني قال: قال ابن مسعود:

«الرضا أن لا ترضي النّاس بسخط الله، ولا تحمد أحدا على رزق الله، ولا تلم أحدا على ما لم يؤتك الله، فإنّ الرزق لا يسوقه حرص حريص، ولا يردّه كراهية كاره، والله بقسطه وعلمه جعل الروح والفرح في اليقين والرضا» .

«وجعل الهمّ والحزن في الشكّ والسخط» .

210 -

أخبرنا أبو سعيد عبد الرحمن بن محمد بن شبانة الهمداني بها، ثنا أبو القاسم عبد الرحمن بن الحسن القاضي، أنا محمد بن الحسن بن سماعة، ثنا أبو نعيم، ثنا الأعمش، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال:

«إذا طلب أحدكم الحاجة فليطلبها طلبا يسيرا فإنّما له ما قدّر له ولا يأتي أحدكم صاحبه فيمدحه فيقطع ظهره» .

211 -

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا الحسن بن علي بن عفان، ثنا ابن نمير، عن الأعمش، عن المعرور بن سويد قال: قال عبد الله هو-ابن مسعود:

«إنّ في طلب الرّجل إلى أخيه الحاجة فتنة إن هو أعطاه حمد غير الّذي أعطاه وإن منعه ذمّ غير الّذي منعه» .

212 -

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا إسماعيل بن محمد بن الفضل الشعراني، ثنا جدي (ثنا) أبو الوليد هشام بن إبراهيم المخزومي، حدثنا

209 - أخرجه ابن أبي الدنيا في اليقين (32) عن الحسن بن الصباح-به.

وعند ابن أبي الدنيا أوله (اليقين) بدلا من (الرضى).

211 -

المعرور بن سويد هو الأسدي الكوفي.

ص: 222

موسى بن جعفر بن أبي كثير، عن عمّه قال: بلغني في قول الله عز وجل:

{وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما} .

أن الكنز الذي كان لوحا من ذهب مكتوب فيه:

«عجبا لمن أيقن بالموت كيف يفرح؛ عجبا لمن أيقن بالحساب كيف يضحك؛ عجبا لمن أيقن بالقدر كيف يحزن! عجبا لمن يرى الدّنيا وزوالها وتقلّبها بأهلها كيف يطمئن إليها! لا إله إلاّ الله محمد رسول الله» .

213 -

أخبرنا أبو عبد الله ومحمد بن موسى، قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا عبد الله بن أحمد بن محمد بن المستورد، ثنا حكم بن سليمان القرشي، حدثني عمرو بن جميع، عن جويبر، عن الضحاك، عن النزال بن سبرة، عن علي بن أبي طالب في قول الله عز وجل:

{وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما} .

قال: كان لوح من ذهب مكتوب فيه لا إله إلاّ الله محمد رسول الله عجبا لمن يذكر أن الموت حق كيف يفرح! وعجبا لمن يذكر أن النّار حق كيف يضحك! وعجبا لمن يذكر أن القدر حق كيف يحزن! وعجبا لمن يرى الدنيا وتصرفها بأهلها حالا بعد حال كيف يطمئن إليها.

214 -

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو بكر بن الحسن، وأبو سعيد بن أبي عمرو، قالوا ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا العباس بن محمد، ثنا أبو الجواب، ثنا عمّار بن رزيق، عن أبي حصين، عن يحيى بن وثاب عن مسروق قال: قال عبد الله:

«لا يؤمن العبد حتّى يؤمن بالقدر يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، ولأن أعضّ على جمرة حتّى تطفئ أحبّ إليّ من أن أقول لأمر قدره الله ليته لم يكن» .

213 - النزال بن سبرة هو الهلالي الكوفي له صحبة.

أخرجه المصنف في الزهد (541) من طريق عمرو بن جرير-به.

وفي الزهد عمرو بن جرير بدلا من عمرو بن جميع.

ص: 223

215 -

أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق، أنا أبو الحسين أحمد بن عثمان بن يحيى الآدمي، ثنا عباس بن محمد الدوري، ثنا الهيثم بن خارجة، أنا سليمان بن عتبة، عن يونس بن ميسرة، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

«إنّ لكلّ شيء حقيقة، وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتّى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه» .

216 -

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنا الحسن بن محمد بن إسحاق قال:

سمعت سعيد بن عثمان الخياط يقول: سمعت ذا النون يقول:

«من وثق بالمقادير لم يغتم» .

217 -

وبهذا الإسناد قال: سمعت ذا النون يقول:

«ارض عن الله وثق بالله، فكلّ شيء بقضاء الله، وأثن على الله، فإنّه من عرف الله رضي بالله، وسرّه ما قضى، ومن طلب المعروف من عند الله تيسّر لجود كف الله، ولو عرف الإنسان ما قرب لما عصى الله لغير الله» .

218 -

أخبرنا أبو الحسين بن بشران، أنبا أبو علي الحسين بن صفوان، ثنا عبد الله بن محمد القرشي قال: حدثني محمد بن الحسين، حدثني عمار بن عثمان، حدثني بشر بن سنان المجاشعي، وكان من العابدين قال:

«قلت لعابد أوصني قال ألق نفسك مع القدر حيث ألقاك فهو أحرى أن تفرغ قلبك، وأن تقلّ همّك، وإيّاك أن تسخط ربّك فيحل بك السخط وأنت عنه في غفلة ولا تشعر به» .

219 -

أخبرنا عبد الرحمن بن عبيد الله الحرفي ببغداد، ثنا علي بن

215 - أبو إدريس الخولاني هو عائذ الله بن عبد الله

أخرجه أحمد (6/ 441) من طريق يونس-به.

وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 197) رواه أحمد والطبراني ورجاله ثقات ورواه الطبراني في الأوسط.

218 -

عبد الله بن محمد القرشي هو ابن أبي الدنيا.

219 -

أخرجه أبو نعيم في الحلية (2/ 132) من طريق عبيد الله بن شميط بن عجلان-به.

ص: 224

محمد بن الزبير الكوفي، ثنا الحسن بن علي بن عفان، ثنا زيد بن الحباب، حدثني عبيد الله بن شميط بن عجلان، عن أبيه عن الحسن قال:

«يصبح المؤمن حزينا، ويمسي حزينا، يتقلب في النّوم ويكفيه ما يكفي العنيزة» .

220 -

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا جعفر بن محمد بن نصير، قال:

سمعت، أبا العباس بن عطاء يقول:

«ذروا التّدبير والاختيار، تكونوا في طيب من العيش فإنّ التّدبير والاختيار يكدّر على النّاس عيشهم» .

قال: «سئل أبو العبّاس أيّ منزلة إذا قام العبد بها، قام مقام العبوديّة قال ترك التّدبير» .

قال وسمعت أبا العباس يقول:

«لا تحلّ السّلامة حتّى تكون في التّدبير كأهل القبور» .

قال: وسمعت أبا العباس يقول:

«الفرح في تدبير الله تعالى لنا والشقاء في تدبيرنا» .

221 -

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو عمرو الزاهد، ثنا أبو العباس محمد بن علي الأنصاري، ثنا أبي قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: قال العلماء:

«من لم يصلح على تقدير الله لم يصلح على تقدير نفسه» .

222 -

أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي أنه سمع عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الرازي يقول: سمعت أبا العباس أحمد بن محمد بن مسروق الطوسي يقول:

219 - في الأصل والمطبوعة (عبيد الله بن سميط) وهو خطأ والصحيح عبيد الله بن شميط وهو: ابن عجلان الشيباني البصري ثقة روى له الترمذي كذا بالتقريب.

222 -

أخرجه أبو نعيم في الحلية 10/ 196 قال أبو نعيم سمعت أبي يقول سمعت أبا بكر يقول سمعت سهل بن عبد الله يقول فذكره.

ص: 225

«من ترك التّدبير عاش في راحة» .

222 م-سمعت أبا العباس يقول سمعت أبا الحسين الفارسي يقول:

سمعت عباس بن عاصم يقول: سمعت سهلا يقول:

«البلوى من الله على وجهين بلوى رحمة وبلوى عقوبة» .

فبلوى الرحمة يبعث صاحبه على إظهار فقره وفاقته

(1)

إلى الله وترك التدبير، وبلوى العقوبة يبعث صاحبه على اختياره وتدبيره.

223 -

حدثنا عبد الله بن يوسف الأصبهاني، ثنا أبو سعيد بن الأعرابي، ثنا محمد بن إسماعيل الأصبهاني قال: سمعت أبا تراب يقول: سمعت حاتما يقول: سمعت شقيقا يقول:

«يا فقير! لا تشتغل ولا تتعب في طلب الغنى، فإنّه إذا قسّم لك الفقر لا تكون غنيا» .

224 -

أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطّان، ثنا عبد الله بن جعفر، ثنا يعقوب بن سفيان، ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد قال: قال أيوب:

«إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون» .

225 -

أخبرنا أبو عبد الرحمن السّلمي، ثنا محمد بن أحمد بن سعيد الرازي، ثنا العباس بن حمزة، ثنا أحمد بن أبي الحواري، عن سفيان في قوله:

{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11].

قال: بالرضا والتسليم.

(1)

وفي الأصل والمطبوعة على (اظهاره قدرة) وهو خطأ والصحيح (على إظهار فقره وفاقته) كما في الحلية.

223 -

شقيق هو أبو علي البلخي.

224 -

أيوب هو أيوب بن كيسان السختياني.

225 -

أحمد بن أبي الحواري هو أحمد بن عبد الله بن ميمون بن العباس بن الحارس التغلبي الحسن بن أبي الحواري ثقة زاهد.

روى عن سفيان وهو ابن عيينة.

ص: 226

226 -

أخبرنا أبو عبد الرحمن السّلمي، قال: سمعت علي بن أحمد بن عبد العزيز القزويني قال: سمعت جعفرا يقول: سمعت أبا العباس بن عطاء يقول:

«الرّضا ترك الخلاف على الله فيما يجريه على العبد» .

227 -

أخبرنا أبو نصر عمر بن قتادة، أنا أبو العباس محمد بن إسحاق الصّبغي، ثنا الحسن بن علي بن زياد، ثنا إسحاق الفروي، ثنا مالك، عن يحيى بن سعيد أنّ عمر بن عبد العزيز قال:

«لقد تركتني هؤلاء الدّعوات وما لي في شيء من الأمور كلّها أردت أني في موضع قدر الله» .

قال: «وكان كثيرا ما يدعو اللهمّ رضّني بقضائك وبارك لي في قدرك حتّى لا أحبّ تعجيل شيء أخّرته ولا تأخير شيء عجّلته» .

228 -

أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق، ثنا أبو الحسن أحمد بن الحسن بن يزيد القزويني بالري، ثنا محمد بن أيوب بن يحيى، أنا سليمان العتكي، ثنا حماد، حدثنا يحيى بن سعيد قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يقول:

«ما أصبح لي هوى في شيء سوى ما قضى الله عز وجل» .

229 -

أخبرنا أبو الحسين بن بشران، أنا إسماعيل بن محمد الصفار، ثنا العباس بن محمد، ثنا يحيى بن معين، ثنا حجاج عن شعبة قال: قال لي يونس بن عبيد:

«ما تمنّيت شيئا قطّ» .

230 -

أخبرنا أبو حازم الحافظ، أنا محمد بن أحمد بن سنان، ثنا الهيثم بن خلف، ثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال: سمعت إبراهيم بن الأشعث يقول: سمعت الفضيل بن عياض يقول:

«الراضي لا شيء فوق منزلته» .

ص: 227

231 -

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا الحسن بن محمد بن إسحاق قال:

سمعت أبا عثمان الخياط يقول: سمعت ذا النون يقول:

«ثلاثة من أعلام التّسليم: مقابلة القضاء بالرّضا، والصّبر على البلاء، والشّكر على الرّخاء. وثلاثة من أعلام التّفويض: ترك الحكم في أقدار الله في وقت إلى وقت، وتعطيل الإرادة لإرادة في النّوافل وأسباب الدّنيا، والنّظر إلى ما يقع به من تدبير الله عز وجل. وثلاثة من أعلام ذكاء القلب: رؤية كلّ شيء من الله، وقبول كلّ شيء عنه، وإضافة كلّ شيء إليه» .

232 -

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت أبا أحمد الحافظ يقول:

أنا أبو عثمان سعيد بن عبد العزيز الحلبي، ثنا أحمد بن أبي الحواري قال:

سمعت أبا عبد الله النّباجي يقول:

«أجلّ العبادة عندي ثلاثة لا تردّ من أحكامه شيئا ولا تسأل غيره حاجة، ولا تدخر عنه شيئا» .

233 -

أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي قال: سمعت محمد بن أحمد بن شمعون:

«وكان قد سئل عن الرّضا فقال الرّضا بالحقّ، والرّضا عنه والرّضا له فقال الرّضا به مدبّرا ومختارا والرّضا عنه قاسما ومعطيا، والرّضا له إلها وّ ربّا» .

234 -

أخبرنا أبو عبد الرحمن أنه سمع منصور بن عبد الله يقول: سمعت العباس بن يوسف الشكلي يقول؛ سمعت ابن الفرجي يقول:

«معنى الرّضا فيه ثلاثة أقوال: ترك الاختيار، وسرور القلب بمرّ القضاء، وإسقاط التّدبير من النّفس حتّى يحكم لها عليها» .

235 -

أخبرنا أبو عبد الرحمن أنه سمع أبا بكر بن شاذان يقول: سئل أبو عثمان البيكندي عن الرضا قال:

«من لم يندم على ما فات من الدّنيا ولم يتأسّف عليها» .

231 - أخرجه أبو نعيم في الحلية (9/ 362 و 363) من طريق سعيد بن عثمان الخياط عن ذي النّون الثلاثة الأولى فقط أثناء حديث طويل.

ص: 228

236 -

أخبرنا أبو سعد الماليني، ثنا أحمد بن محمد بن الحسن، ثنا أبو العباس بن حكمويه الرازي قال: سمعت يحيى بن معاذ الرازي يقول:

«يا ابن آدم لا تأسف على مفقود لا يردّه عليك الفوت ولا تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت» .

237 -

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا أحمد بن حازم، ثنا عبيد الله بن موسى، عن سفيان، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:

{لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ} [الحديد:23].

«قال: ليس أحد إلاّ وهو يفرح ويحزن ولكن إذا أصابته مصيبة جعلها صبرا فإن أصابه خير جعله شكرا» .

قال البيهقي رحمه الله: وهذا يؤكّد قول الحليمي رحمه الله في هذه الآية انّ المراد بالحزن: التسخط والتّفجّر والمراد بالفرح فرح التبذخ والتكبّر.

238 -

أخبرنا أبو سعد الماليني، ثنا أبو محمد الحسن بن أبي الحسين العسكري ثنا محمد بن أحمد بن عبد العزيز العامري، حدثني عمر بن صدقة الحمال قال:

«كنت مع ذي النّون بأخميم فسمع صوت لهو ودفاف وإكبار فقال ما هذا؟ فقيل عرس لبعض أهل المدينة وسمع إلى جانبه بكاء وصياحا وولولة فقال ما هذا؟ فقيل فلان مات فقال لي يا عمر بن صدقة أعطوا هؤلاء فما شكروا، وابتلوا هؤلاء فما صبروا، ولله عليّ إن بتّ في هذه المدينة فخرج من ساعته من أخميم إلى الفسطاط» .

239 -

أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ، ثنا أبو الوليد، ثنا أبو عبد الله البوشنجي، ثنا أحمد بن حنبل، ثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن بشر بن

237 - أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 479) من طريق سفيان به وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وعزاه السيوطي في الدر المنثور (6/ 176) لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والمصنف في الشعب.

ص: 229

جابان الصنعاني، عن حجر بن قيس المدري، قال: بت عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فسمعته وهو يصلي من الليل يقرأ فمرّ بهذه الآية:

{أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ} [الواقعة:

58،59].

قال: بل أنت يا رب ثلاثا ثم قرأ:

{أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ} [الواقعة:

63،64].

قال: بل أنت يا رب بل أنت يا رب بل أنت يا رب ثم قرأ:

{أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} [الواقعة:68،69].

قال: بل أنت يا رب ثلاثا ثم قرأ:

{أَفَرَأَيْتُمُ النّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ} [الواقعة:71،72].

قال: بل أنت يا رب ثلاثا.

240 -

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أبو عبد الله محمد بن علي الصنعاني، ثنا إسحاق بن إبراهيم، أنا عبد الرزاق، عن معمر، عن جعفر بن برقان أنّ عيسى ابن مريم عليه السلام كان يقول:

«الّلهمّ إنّي أصبحت لا أستطيع دفع ما أكره ولا أملك نفع ما أرجو وأصبح الأمر بيد غيري، وأصبحت مرتهنا بعملي، فلا فقير أفقر منّي، الّلهمّ لا تشمت بي عدوّي، ولا تسؤ بي صديقي، ولا تجعل مصيبتي في ديني، ولا تسلّط عليّ من لا يرحمني» .

241 -

أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي فيما قرئ عليه حكاية عن بعضهم أنّه قال: «كمال الدّين في التّبرّي من الحول والقوّة والرّجوع في الكلّ إلى من له الكلّ» .

ص: 230

قال: وقال سهل:

«ما نظر أحد إلى نفسه فأفلح، ولا ادّعى لنفسه حالا فتمّ له، والسّعيد من الخلق من صرف بصره عن أفعاله وأقواله، وفتح له سبيل الفضل والأفضال ورؤية منة الله عليه في جميع الأفعال والشّقيّ من زيّن في عينه أفعاله وأقواله فافتخر بها وادعاها لنفسه فسوف تهلكه يوما فإن لم تهلكه في الوقت ألا ترى الله عز وجل كيف حكى عن قارون قوله:{إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص:78].

نسي الفضل وادّعى لنفسه فضلا فخسف الله به ظاهرا وكم قد خسف بالأشرار وأصحابها لا يشعرون بذلك، وخسف الأشرار هو منع العصمة والرد إلى الحول والقوة، وإطلاق اللسان بالدعاوى العريضة، والعمى عن رؤية الفضل والقعود عن القيام بالشكر على ما أولي وأعطي حينئذ يكون وقت الزوال.

242 -

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو بكر محمد بن جعفر الآدمي القارئ، ثنا أبو العيناء، ثنا عمر بن إسماعيل بن مجالد بن سعيد الهمداني، ثنا أبي، عن مجالد، عن الشعبي، عن محمد بن الأشعث الكندي قال:

«إنّ لكلّ شيء دولة حتّى إن للحمق على العقل دولة» .

قال البيهقي رحمه الله الدولة لمن وافقه القضاء والتقدير، قال الله تعالى:

{وَتِلْكَ الْأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النّاسِ} [آل عمران:40].

243 -

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن إبراهيم بن حمش يقول: سمعت أبي يقول:

«إذا لم تطع ربّك فلا تأكل رزقه، وإذا لم تجتنب نهيه فأخرج من مملكته وإذا لم ترض بفعله فأطلب ربّا سواه وإذا عصيته فأخرج إلى مكان لا يراك» .

244 -

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت أبا منصور الصوفي ابن ابنة إبراهيم بن حمش الزاهد، يقول: سمعت جدّي يقول:

«يضحك القضاء من الحذر، ويضحك الأجل من الأمل، ويضحك التقدير من التدبير، وتضحك القسمة من الجهد والغناء» .

ص: 231

245 -

أنشدنا أبو عبد الله الحافظ، أنشدني أبو محمد الحسين بن علي العلوي الشهيد، أنشدني المثنى لنفسه:

وبعين مفتقر إليك رأيتني

فهجرتني ونزلت بي من حالق

لست الملوم، أنا الملوم لأنّني

أنزلت حاجاتي بغير الخالق

246 -

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت أبا محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب الماموني يقول: سمعت أبا عمر الزاهد ينشد للشافعي رحمه الله:

وإذا سمعت بأنّ مجدودا حوى

عودا فأثمر في يديه فصدّق

وإذا سمعت بأنّ محروما أتى

ماء ليشربه فغاض فحقّق

ومن الدّليل على القضاء وكونه

بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق

247 -

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو الصقر أحمد بن الفضل الكاتب بهمدان أنشدنا أحمد بن يحيى ثعلب أنشدنا عبد الله بن شبيب:

ليس اختيار ولا عقل ولا أدب

يجدي عليك إذا لم يسعد القدر

ما يقضه الله لا يعييك مطلبه

والسعي في نيل ما لم يقضه عسر

كم مانع نفسه آرابها حذرا

للفقر ليس له من ماله ذخر

إن كان إمساكه للفقر يحذره

فقد يعجل فقرا قبل يفتقر؟

248 -

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أنشدنا أبو عمرو محمد بن أحمد بن إسحاق النحوي أنشدنا أحمد بن عبيد الله الدارمي بأنطاكية لنفسه:

يا لائم الدهر على ما بنا

لا تلم الدّهر على غدره

فالدهر مأمور له آمر

ينصرف الدهر إلى أمره

كم كافر بالله أمواله

تزداد أضعافا على كفره

ومؤمن ليس له دانق

يزداد إيمانا على فقره

لا خير فيمن لم يكن عاقلا

يبسط رجليه على قدره

249 -

أخبرنا أبو عبد الله، أخبرنا أبو زكريا يحيى بن محمد العنبري، ثنا محمد بن عبد السّلام، ثنا إسحاق بن إبراهيم، أنا أبو معاوية، ثنا الأعمش، عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وذكر قصة سليمان بن داود عليهما السلام في مسيره قال:

ص: 232

«فبينما هو يسير في فلاة إذ احتاج إلى الماء فجاءه الهدهد فجعل ينقر الأرض فأصاب موضع الماء فجاءت الشّياطين فسلخت ذلك الموضع كما تسلخ الإهاب فأصابوا الماء» .

قال: نافع بن الأرزق قف أرأيت الهدهد كيف يجيء فينقر الأرض فيصيب موضع الماء وهو يجئ إلى الفخ وهو لا يبصره حتى يقع في عنقه.

قال ابن عباس: إن القدر إذا جاء حال دون البصر.

250 -

سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول سمعت الحسن بن أحمد بن موسى القاضي يقول سمعت الترمذي يقول:

«إذا جاء القدر عمي البصر، وإذا جاء الحين، غطّى العين» .

251 -

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ. أنشدنا أبو الحسين محمد بن أحمد بن ثابت البغدادي قال: أنشدنا أبو عمرو الزاهد:

إذا أراد الله أمرا بامرئ

وكان ذا رأي وعقل وبصر

وحيلة يعملها في كل ما

يأتي به محتوم أسباب القدر

أغراه بالجهل وأعمى عينه

فسلّه عن عقله سلّ الشعر

حتى إذا أنفذ فيه حكمه

ردّ عليه عقله ليعتبر

252 -

أنشدنا الأستاذ أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب أنشدني أبو جعفر محمد بن صالح الأوبري، أنشدنا حماد بن علي البكراوي لمحمود بن الحسن الورّاق:

توكّل على الرّحمن في كلّ حاجة

أردت فإنّ الله يقضي ويقدر

متى ما يرد ذو العرش أمرا بعبده

يصبه وما للعبد ما يتخيّر

وقد يهلك الإنسان من وجه أمنه

وينجو بحمد الله من حيث يحذر

253 -

قال: وأنشدني أبو الفوارس جنيد بن أحمد الطبري:

العبد ذو ضجر، والربّ ذو قدر

والدهر ذو دول، والرزق مقسوم

والخير أجمع فيما اختار خالقنا

وفي اختيار سواه اللوم والشوم

253 - مختصر شعب الإيمان ص 25.

ص: 233

(6)

السادس من شعب الإيمان

«وهو باب في الإيمان باليوم الآخر»

قال الحليمي رحمه الله، ومعناه التصديق بأن لأيّام الدنيا آخرا أي أنّ هذه الدّنيا منتقضة وهذا العالم منتقض يوما صنعه، منحلّ وقتا تركيبه، وفي الاعتراف بانقضائه اعتراف بابتدائه لأن القديم لا يفنى ولا يتغيّر.

قال: وفي اعتقاده وانشراح الصدر به ما يبعث على فضل الرّهبة من الله- تعالى جدّه-وقلّة الرّكون إلى الدّنيا، والتهاون بأحزانها ومصائبها، والصبر عليها وعلى مضض الشهوات واحتسابا وثقة بما عند الله-تعالى جدّه-عنها من حسن الجزاء والثواب وقد ذكره الله عز وجل في كتابه فقال:

{وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:

8].

وقال: {قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة:29].

إلى غير ذلك من الآيات سواها.

قال البيهقي رحمه الله: وروينا في حديث ابن عمر عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الإيمان فقال:

«أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشرّه» .

254 -

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، نا أبو بكر بن محمد الصوفي، ثنا عبد الصمد بن الفضل، ثنا عبد الله بن يزيد، عن يحيى بن يعمر، عن ابن عمر فذكره.

قال الحليمي رحمه الله، وقد أخبر الله عز وجل على لسان نبيّه صلى الله عليه وسلم:

أنّه مفني ما على الأرض، ومبدّل الأرض غير الأرض، وأنّ الشمس تكوّر، والبحار تسجّر، والكواكب تنتثر، والسماء تتفطر، وتصير كالمهل، فتطوى كما يطوى الكتاب، وانّ الجبال تصير كالعهن المنفوش، وينسفها ربي

ص: 235

نسفا، فيذرها قاعا صفصفا، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا وكل ذلك كائن كما جاء به الخبر، ووعد الله صدق، وقوله حقّ.

قال: والساعة التي تكرّر ذكرها في القرآن على وجهين:

أحدهما: الساعة الآخرة من ساعات الدنيا، قال الله عز وجل:

{يَسْئَلُونَكَ عَنِ السّاعَةِ أَيّانَ مُرْساها} [طه:106،107].

فهذا على الساعة الآخرة لقوله:

{لا تَأْتِيكُمْ إِلاّ بَغْتَةً} [الأعراف:187].

وكذلك قوله:

{وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} [الأحزاب:63].

والآخر: الساعة الأولى من ساعات الآخرة قال الله عز وجل:

{وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ} [الروم:55].

يعني حين يبعث من في القبور لقوله:

{يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ} .

وكذلك قوله:

{وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ} [غافر:46].

قال البيهقي رحمه الله: وقد نطق القرآن بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يعلم متى تقوم الساعة، ولا يعلمه أحد من خلق الله.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم:

بعثت أنا والساعة كهاتين.

معناه-والله تعالى أعلم-أني أنا النبيّ الآخر ولا يليني نبيّ آخر، وإنّما يليني القيامة، وهي مع ذلك دانية لأن أشراطها متتابعة بيني وبينها غير انّ ما بين أوّل اشراطها إلى آخرها غير معلوم، وقد ذكرنا في كتاب «البعث والنشور» ما ورد من الأخبار في أشراطها فأغنى ذلك عن إعادتها ها هنا.

وروينا عن شعيب بن أبي حمزة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي

ص: 236

هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«والّذي نفس محمّد بيده لتقومنّ السّاعة وقد نشر الرجلان ثوبا بينهما لا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومنّ السّاعة وهو يليط حوضه لا يسقيه، ولتقومنّ السّاعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته من تحتها، لا يطعمها، وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها» .

255 -

أخبرناه أبو عبد الله الحافظ في آخرين، قالوا ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن خالد، ثنا بشر بن شعيب، عن أبيه فذكره.

ورواه البخاري في الصحيح عن أبي اليمان عن شعيب.

وأخرجه مسلم من حديث سفيان عن أبي الزناد

(*)

.

255 - أبو الزناد هو: عبد الله بن ذكوان: والأعرج هو عبد الرحمن بن هرمز.

أخرجه البخاري (13/ 81 فتح) عن أبي اليمان-به، ومسلم (4/ 2270) عن زهير بن حرب عن سفيان بن عيينة عن أبي الزناد-به.

(*) آخر الجزء الثالث من المخطوط يتلوه إن شاء الله الجزء الرابع «السابع من شعب الإيمان» .

ص: 237

(7)

السابع من شعب الإيمان

«وهو باب في الإيمان بالبعث والنشور بعد الموت»

وآيات القرآن في البعث كثيرة فمنها قول الله عز وجل:

{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن:7].

وقوله: {قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} [الجاثية:26].

وقوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:

115].

وروينا عن مطر الورّاق، عن عبد الله بن بريدة، عن يحيى بن يعمر، عن ابن عمر، عن عمر بن الخطاب، عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الإيمان قال فقال يا رسول الله ما الإيمان؟ قال: الإيمان.

«أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالبعث من بعد الموت وبالقدر كلّه» .

256 -

أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد الأشناني، أنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبدوس، ثنا عثمان بن سعيد الدارمي، ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن زيد، عن مطر فذكره.

وهو مخرج في كتاب مسلم.

والإيمان بالبعث هو أن يؤمن بأن الله تعالى يعيد الرّفات من أبدان الأموات، ويجمع ما تفرق منها في البحار وبطون السباع وغيرها حتى تصير بهيئتها الأولى، ثم يجمعها حيّة، فيقوم الناس كلهم بأمر الله تعالى أحياء، صغيرهم وكبيرهم حتى السّقط الذي قد تمّ خلقه، ونفخ فيه الرّوح، فأمّا الّذي لم يتمّ خلقه، أو لم ينفخ فيه الرّوح أصلا، فهو وسائر الأموات بمنزلة واحدة والله تعالى أعلم.

وأما قول الله عز وجل في صفة القيامة:

256 - أخرجه مسلم (1/ 36) من طريق عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر-به.

ص: 239

{إِنَّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها} [الحج:2].

فإنما أراد الحوامل اللاتي لم يضعن أحمالهن فإذا بعثن أسقطن تلك الأحمال من فزع يوم القيامة ثم إن كانت الأحمال أحياء في الدنيا أسقطنها يوم القيامة أحياء، ولا يتكرّر عليها الموت، وإن كانت الأحمال لم ينفخ فيها الروح في الدنيا، أسقطنها أمواتا، كما كانت، لأنّ الإحياء إنما هو إعادة الحياة إلى من كان حيّا فأميت، ومن لم يكن له في الحياة الدنيا نصيب فلا نصيب له في الحياة الآخرة.

وقد ذكر الله عز وجل في غير آية من كتابه إثبات البعث منها قول الله عز وجل:

{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس:81].

وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف:33].

فأحال بقدرته على إحياء الموتى على قدرته خلق السماوات والأرض التي هي أعظم جسما من الناس.

ومنها قوله عز وجل:

{قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78].

فجعل النشأة الأولى دليلا على جواز النشأة الآخرة لأنّها في معناها ثم قال:

{الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس:

80].

فجعل ظهور النار على حرّها ويبسها من الشجر الأخضر على نداوته ورطوبته دليلا على جواز خلقه الحياة من الرّمّة البالية والعظام النخرة. وقد نبّهنا

ص: 240

الله عز وجل في غير آية من كتابه على إحياء الموتى بالأرض، تكون حية تنبت وتنمى وتثمر ثم تموت فتصير إلى أن لاّ تنبت، وتبقى خاشعة هامدة، ثم تحيى فتصير إلى أن تنبت وتنمى، وهو الفاعل لحياتها وموتها، ثم حياتها، فإذا قدر على ذلك لم يعجزه أن يميت الإنسان، ويسلبه معاني الحياة، ثم يعيدها إليه، ويجعله كما كان.

ونبّهنا على إحياء النطفة التي هي ميتة، وخلق الحيوان منها على قدرته على إحياء الموتى فقال عز وجل:

{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ} [البقرة:28].

يعني نطفا في الأصلاب والأرحام، فخلقكم منها بشرا تنتشرون. وقال تعالى:

{أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ} [المرسلات:20 - 23].

فأعلمهم أنّه إذا أخرج النطفة من صلب الأب فهي ميتة، ثمّ انه جلّ ثناؤه جعلها حيّة في رحم الأم، يخلق من يخلق منها، ويركب الحياة فيه فهذه إحياء ميتة في المشاهدة، فمن يقدر على هذا لا يعجز عن أن يميت هذا الخلق، ثمّ يعيده حيّا. ثم بسط هذا المعنى في آية أخرى.

فقال:

{أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى، ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى} [القيامة:37 - 40].

ونبّهنا على ذلك بخلق الحبّ والنّوى فقال عز من قائل:

{إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} [الأنعام:95].

وذلك أن الحب إذا جفّ ويبس بعد انتهاء تمامه، وقع اليأس من ازدياده، فكذلك النّوى إذا تناهى عظمه وجفّ ويبس كانا ميّتين، ثم إنهما إذا أودعا الأرض الحيّة فلقهما الله تعالى، وأخرج منهما ما يشاهد من النخل والزرع حيّا

ص: 241

ينشأ وينمو إلى أن يبلغ غايته، ويدخل في هذا المعنى البيضة تفارق البائض ويجري عليها حكم الموت، ثم يخلق الله منها حيّا فهل هذا إلاّ إحياء الميتة، وهو أمر مشاهد والعلم به ضرورة.

وقد نبّهنا الله عز وجل على إحياء الموتى بما أخبر من اراءة إبراهيم عليه السلام إحياء الأموات، وقد نقلته عامّة أهل الملل.

وبما أخبر به عن الذين أخرجوا من ديارهم، وهم ألوف حذر الموت، فقال لهم الله: موتوا ثم أحياهم.

وبما أخبر به عن الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها، قال: أنّى يحيي هذه الله بعد موتها؟ فأماته الله مائة عام، ثمّ بعثه.

وبما أخبر به عن عصا موسى عليه السلام وقلبه إيّاه حيّة ثم أعادتها خشبة، ثم جعلها عند محاجّة السّحرة حيّة ثم اعادتها خشبة وقد أشركت عامة أهل الملل في نقله.

وبما أخبر به من شأن أصحاب الكهف الذين ضرب على آذانهم زيادة على ثلاثمائة سنة، ثم أحياهم ليدلّ قومهم عند ما أعثر عليهم على أن ما أنذروا به من البعث بعد الموت حقّ لا ريب فيه، وقد نقلنا الآثار في شرح ذلك في الأول من كتاب «البعث والنشور» .

ص: 242

(8)

الثامن من شعب الإيمان

وهو باب في حشر الناس بعد ما يبعثون من قبورهم

إلى الموقف الذي بيّن لهم من الأرض

فيقومون ما شاء الله تعالى فإذا جاء الوقت الذي يريد الله محاسبتهم فيه أمر بالكتب التي كتبتها الكرام الكاتبون بذكر أعمال الناس فأوتوها فمنهم من يؤتى كتابه بيمينه، فأولئك هم السّعداء، ومنهم من يؤتى كتابه بشماله، أو وراء ظهره، وهؤلاء هم الأشقياء، قال الله تعالى في المطففين:

{أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ} [المطففين:4،5].

وأخبر أن الناس يكونون يوم القيامة واقفين على أقدامهم، وأبان أنه لا حال لهم يومئذ سوى القيام.

257 -

حدثنا أبو الحسن العلوي، أخبرنا أبو حامد هو ابن الشرقي، ثنا محمد بن يحيى الذهلي، حدثنا يعقوب بن ابراهيم بن سعد، ثنا أبي، عن صالح بن كيسان، ثنا نافع أن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«يقوم النّاس يوم القيامة لربّ العالمين حتّى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه» .

أخرجه مسلم في الصحيح من حديث يعقوب.

258 -

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو بكر بن عبد الله، أخبرنا الحسن بن سفيان، ثنا الحكم بن موسى، ثنا يحيى بن حمزة، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال حدثني سليم بن عامر، حدثني المقداد بن الأسود قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

257 - أخرجه مسلم (4/ 2196) من طريق يعقوب-به.

258 -

سليم بن عامر هو: أبو يحيى الخبائري.

أخرجه مسلم (4/ 2196)، والترمذي (2421) من طريق عبد الرحمن بن يزيد بن جابر-به. وقال الترمذي حسن صحيح.

ص: 243

«تدنى الشّمس يوم القيامة من الخلق حتّى تكون منهم كمقدار ميل» .

قال سليم بن عامر فو الله ما أدري ما عنى بالميل أمسافة الأرض أم الميل الذي يكحل به العين؟ قال:

«فيكون النّاس على قدر أعمالهم في العرق فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه ومنهم من يلجمه إلجاما» .

قال وأومأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فيه.

رواه مسلم في الصحيح عن الحكم بن موسى.

وقد ذكرنا سائر الأحاديث فيه في كتاب «البعث» .

قال الله عز وجل:

{وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً. اِقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء:13،14].

وقال عز وجل:

{إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10 - 12].

وقال تعالى:

{عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:17،18].

وقال {هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29].

وأخبر أن الذين يقرأون كتبهم يقولون:

{مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصاها} [الكهف:49].

وأن من أوتي كتابه بيمينه فيقول:

{هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ فِي}

ص: 244

{جَنَّةٍ عالِيَةٍ} [الحاقة:19 - 22].

{وَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ} [الحاقة:25 - 27].

{فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ-كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً وَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً وَيَصْلى سَعِيراً} [الانشقاق:7 - 12].

وإذا وقف الناس على أعمالهم من الصحف التي يؤتونها حوسبوا بها، ولعل ذلك-والله أعلم-لأن الناس إذا بعثوا لا يكونون ذاكرين لأعمالهم فإن الله عز وجل قال:

{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:

6].

فإذا ذكروها ووقفوا عليها حوسبوا عليها.

وقد جاء في كيفية المحاسبة أخبار ذكرناها في كتاب «البعث والنشور» منها ما:

259 -

أخبرنا أبو الحسين بن بشران، ثنا أبو جعفر محمد بن عمرو الرزاز، ثنا عبد الله بن محمد بن شاكر، ثنا أبو أسامة، ثنا الأعمش، عن خيثمة بن عبد الرحمن، عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«ما منكم من أحد إلاّ سيكلّمه ربّه ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى شيئا إلاّ شيئا قدّمه، وينظر أشأم منه فلا يرى إلاّ شيئا قدّمه، وينظر أمامه فلا يرى إلاّ النّار. فاتّقوا النّار ولو بشقّ تمرة» .

رواه البخاري في الصحيح عن يوسف بن موسى عن أبي أسامة.

وفي هذا دليل على أنه يحاسب المكلفين بنفسه، وأنه يخاطبهم معا، ولا يخاطبهم واحدا بعد واحد، وعلى هذا تدل سائر الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم غير أنّ تكليمه

259 - أخرجه البخاري (9/ 162) عن يوسف بن موسى-به.

ص: 245

أهل رحمته مما يزيدهم بشارة وكرامة، وتكليمه أهل عقوبته مما يزيدهم خسارة وحسرة، قال الله تعالى:

{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يس:60].

مع سائر ما ورد فيه من الكتاب والسنة.

وقد قيل إنه يأمر ملائكته بمحاسبة الخلق بأمره، وقد قيل إنه يتولّى حساب المؤمنين بنفسه ويأمر الملائكة بمحاسبة الكفار. وما دل عليه ظاهر ما ذكرناه من السنة الصحيحة، وأشرنا إليه أصحّ الأقاويل في ذلك والله أعلم.

وإذا انتهى الحساب كان بعده وزن الأعمال لأن الوزن للجزاء.

260 -

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن محمد بن يحيى يقول سمعت (أبا عبد الله محمد بن إبراهيم العبدوي يقول سمعت إبراهيم بن أبي طالب يقول: سمعت) إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي يقول سمعت أبي يقول سمعت أبا سيف الزاهد يقول:

(ما أحبّ أن يلي حسابنا غير الله عز وجل لأنّ الكريم يتجاوز).

261 -

وأخبرنا أبو الحسين بن بشران أنا الحسين بن صفوان، ثنا ابن أبي الدنيا، حدثني الحسين بن عمرو، عن يحيى بن يمان، قال: قال سفيان الثوري:

«ما أحبّ انّ حسابي جعل إلى والدي ربّي خير لي من والدي» .

قال البيهقي رحمه الله وقد روي معناه في حديث مسند لكنّه يشبه أن يكون موضوعا فلم أجسر على نقله، ثم إني نقلته لشهرته بين المذكرين وأنا ابرأ من عهده.

262 -

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ في التاريخ، حدثنا أبو محمد الحسن بن محمد بن إسحاق الأزهري، ثنا محمد بن زكريا الغلابي، ثنا

261 - أخرجه البيهقي في الشعب (2/ 219 ب) من طريق ابن أبي الدنيا أيضا.

262 -

أخرجه ابن النجار كما في كنز العمال (39749) عن أبي هريرة.

ص: 246

عبيد الله بن محمد التيمي، ثنا أبي، عن عمه، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال اعرابي يا رسول الله من يحاسب الخلق يوم القيامة؟:

«قال: الله، قال: الله؟ قال: الله، قال نجونا وربّ الكعبة! قال: وكيف يا اعرابيّ؟ قال: لأنّ الكريم إذا قدر عفا» .

263 -

أخبرنا أبو الحسن بن علي بن محمد المقرئ الإسفراييني بها، ثنا الحسن بن محمد بن إسحاق فذكره بإسناده نحوه، تفرد به محمد بن زكريا الغلابي عن عبيد الله بن محمد بن عائشة والغلابي متروك.

وقد أخبر الله عز وجل ثناؤه أن المحاسبة تكون بشهادة النبيين والشهداء وقال تعالى:

{وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الزمر:

69].

وقال: {فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41].

فالشهيد في هذه الآية النبي صلى الله عليه وسلم وشهيد كل أمة نبيّها وأما الشهداء في الآية قبلها فالأظهر أنهم كتبة الأعمال، تحضر الأمّة ورسولها فيقال للقوم «ماذا أجبتم المرسلين؟ ويقال للرسل ماذا أجبتم؟ فيقول الرسل لله»:

{لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ} [المائدة:109].

وكأنهم نسوا ما أجيبوا به، وتأخذ الهيبة بمجامع قلوبهم فيذهلون في تلك الساعة عن الجواب ثم يثبّتهم الله ويحدث لهم ذكرى فيشهدون بما أجابتهم به أممهم.

قال البيهقي رحمه الله فإن كذّبت أمّة رسولها وقالت ما أتانا من نذير؛

263 - ميزان الاعتدال (3/ 550 رقم 7537) قال الذهبي: محمد بن زكريا الغلابي البصري الأخباري أبو جعفر عن عبد الله بن رجاء الغداني وأبي الوليد والطبقة وعنه أبو القاسم الطبراني وطائفة وهو ضعيف وقد ذكره ابن حبان في كتاب الثقات وقال: يعتبر بحديثه إذا روى عن ثقة وقال ابن منده تكلم فيه وقال الدارقطني يضع الحديث.

ص: 247

264 -

فقد أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب ثنا محمد بن عبد الوهاب الفراء أنا جعفر بن عون، ثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«يدعى نوح عليه السلام يوم القيامة، فيقال: هل بلّغت فيقول نعم! فتدعى أمّته فيقال: هل بلّغكم؟ فيقولون «ما أتانا من نّذير وما أتانا من أحد» قال:

فيقال: من شهودك؟ قال: فيقول: محمد وأمّته. قال فيؤتى بكم، فتشهدون أنّه قد بلّغ. وذلكم قول الله عز وجل: {وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً» [البقرة:143].

رواه البخاري في الصحيح عن إسحاق بن منصور عن جعفر بن عون.

وبمعناه رواه أبو أسامة عن الأعمش، ورواه أبو معاوية عن الأعمش فقال في الحديث:

«يجيء النّبي يوم القيامة، ومعه الثلاثة والأربعة والرّجلان حتّى يجيء النّبي وليس معه أحد، قال: فيقال لهم: هل بلّغتم؟ فيقولون: نعم. قال: فيدعي قومهم، فيقال لهم: هل بلغوكم؟ فيقولون: لا، قال فيقال: للنّبيين: من يشهد لكم أنّكم قد بلّغتم؟ قال: فيقولون أمّة محمد صلى الله عليه وسلم قال: فتدعى أمّة محمد فيشهدون أنّهم قد بلّغوا قال: فيقال: وما علمكم بهم أنهم قد بلّغوا؟ قال: فيقولون: جاءنا رسولنا بكتاب أخبرنا أنّهم قد بلّغوا فصدّقناه قال: فيقال: صدقتم. قال: وذلك قول الله عز وجل في كتابه:

{وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143].

265 -

أخبرناه محمد بن عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا أبو معاوية فذكره.

فهذا فيما بين كل نبي وقومه، فأمّا كلّ واحد من القوم على الانفراد فالشّاهد عليه صحيفة عمله وكاتباها، فإنّه قد أخبر في الدّنيا بأنّ عليه ملكين

264 - أخرجه البخاري (13/ 316 فتح) عن إسحاق به.

ص: 248

موكلين يحفظان أعماله وينسخانها، فأمّا إخبار الله عز وجل عن شهادة الجوارح على أهلها بقوله تعالى:

{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:

24].

وقوله: {وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمّا تَعْمَلُونَ} [فصلت:22].

{وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:21].

{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65].

وروينا في الحديث الثابت عن أنس بن مالك قال:

كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال: «أتدرون مم أضحك» ؟ قال قلنا الله ورسوله أعلم. قال: من مخاطبة العبد ربّه يقول: يا ربّ ألم تجرني من الظّلم؟ قال فيقول بلى. قال فيقول فإني لا أجيز على نفسي إلاّ شاهدا منّي. قال فيقول:

«كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا»

وبالكرام الكاتبين شهودا، قال فيختم على فيه ويقال لأركانه: انطقي.

قال: فتنطق بأعماله. قال: ثم يخلّى بينه وبين الكلام، فيقول بعدا لكنّ وسحقا! فعنكنّ كنت أناضل».

266 -

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس بن يعقوب، ثنا محمد بن إسحق الصغاني، حدثني أبو بكر بن أبي النضر، ثنا أبو النضر، عن الأشجعي، عن سفيان، عن عبيد المكتّب، عن فضيل بن عمرو، عن الشعبي، عن أنس بن مالك فذكره:

رواه مسلم في الصحيح عن أبي بكر بن أبي النضر.

266 - أخرجه مسلم (4/ 2280) عن أبي بكر بن النضر بن أبي النضر-به.

ص: 249

وروينا في حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث الرؤية قال:

«فيلقى العبد فيقول أي فل؛ ألم أكرمك وأسوّدك وأزوّجك وأسخّر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟ قال فيقول: بلى أي ربّ قال فيقول أظننت إنّك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول إني اليوم أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثاني فيقول: أي فل! فذكر في السؤال والجواب مثل الأول ثم يلقى الثالث، فيقول مثل ذلك، فيقول: آمنت بك وبكتابك، وبرسولك وصليت وصمت وتصدّقت.

فيقال: الآن نبعث شاهدنا عليك فيكفّر في نفسه من الّذي يشهد عليه، فيختم على فيه ويقال لفخذه انطقي! فتنطق فخذه ولحمه وعظمه بعمله ما كان. ذلك ليعذر من نفسه؛ وذلك المنافق وذلك الذي سخط الله عليه».

267 -

أخبرناه محمد بن عبد الله، ثنا أبو بكر بن إسحاق ثنا بشر بن موسى، ثنا الحميدي، ثنا سفيان، ثنا سهيل بن أبي صالح، عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث.

وهو مخرج في كتاب مسلم.

وفيه دلالة على أنّ بعضهم تشهد عليهم ألسنتهم، وبعضهم ينكر فيختم على أفواههم وتشهد عليهم سائر جوارحهم.

ويشبه أن يكون هذا الإنكار من المنافقين كما في خبر أبي هريرة.

ويشبه أن يكون منهم، وممن شاء الله ومن سائر الكافرين حين رأوا يوم القيامة فيغفر الله لأهل الإخلاص ذنوبهم، لا يتعاظم عليه ذنب أن يغفره ولا يغفر الشرك، قالوا: إنّ ربّنا يغفر الذنوب ولا يغفر الشرك، فتعالوا حتى نقول إنا كنّا أهل ذنوب ولم نكن مشركين فقال الله عز وجل أما إذ كتموا الشرك فاختموا على أفواههم، فيختم على أفواههم فتنطق أيديهم، وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون. فعند ذلك عرف المشركون ان الله لا يكتم حديثا فذلك قوله:

267 - أخرجه مسلم (4/ 2279 - 2280) عن محمد بن أبي عمر عن سفيان-به.

وقوله (أي قل) قال النووي معناه أي فلان وهو ترخيم على خلاف القياس وقيل هي لغة بمعنى فلان حكاها القاضي.

ص: 250

{يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً} [النساء:42].

وهذا فيما روينا عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنّه سئل عن ذلك فذكره.

وقد قال الله عز وجل في سورة زلزلت:

{يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها} [الزلزلة:4].

وروينا عن أبي هريرة مرفوعا أنه سئل عن هذه الآية فقال أن تشهد على كل عبد وأمة بما عملوا على ظهرها فتقول: عمل كذا وكذا في يوم كذا وكذا فذلك أخبارها.

ودلت الأخبار عن سيدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم على أنّ كثيرا من المؤمنين يدخلون الجنة بغير حساب، وكثيرا منهم يحاسبون حسابا يسيرا، وكثيرا منهم يحاسبون حسابا شديدا.

268 -

أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ أنا أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم الشيباني، ثنا أحمد بن حازم بن أبي غرزة، ثنا عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، ثنا محمد بن فضيل، ثنا حصين، قال سمعت سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«يدخل الجنّة من أمّتي سبعون ألفا بغير حساب، ثمّ دخل، ولم يبيّن لهم، فأفاض القوم فقالوا نحن الّذين آمنّا بالله، واتّبعنا رسوله، فنحن هم، أو أولادنا الّذين ولدوا على الإسلام فإنّا نحن ولدنا في الجاهلية، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هم الذين لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيّرون، وعلى ربّهم يتوكلون، فقال عكاشة بن محصن: أنا منهم يا رسول الله؟ قال نعم، ثم قال رجل آخر أنا منهم يا رسول الله؟ قال: قد سبقك بها عكاشة» .

رواه مسلم في الصحيح عن أبي بكر بن أبي شيبة.

268 - أخرجه مسلم (1/ 200) عن ابن أبي شيبة-به.

وأخرجه البخاري (10/ 155) فتح عن عمران بن ميسرة عن ابن فضيل-به.

ص: 251

ورواه البخاري عن عمران بن ميسرة عن ابن الفضيل.

ورويناه في حديث عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه وسلم:

(إنه تغيب عنهم ثلاثا لا يخرج إلا لصلاة مكتوبة فقيل له في ذلك قال: إنّ ربي عز وجل وعدني أن يدخل من أمّتي الجنة سبعون ألفا لا حساب عليهم، وإنّي سألت ربّي في هذه الثلاثة الأيام المزيد فوجدت ربّي واجدا ماجدا كريما، فأعطاني مع كلّ واحد من السبعين ألفا سبعين ألفا، قال: قلت:

يا ربّ وتبلغ أمّتي هذا؟ قال أكمّل لك العدد من الأعراب).

وقد ذكرناه في كتاب «البعث والنشور» .

269 -

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو بكر بن إسحاق إملاء، ثنا أبو مسلم ويوسف بن يعقوب، قالا: ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن أبي ملكية، عن عائشة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

«من حوسب عذّب» .

قالت عائشة يا رسول الله فأين قوله:

{فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً؟} [الانشقاق:

7،8].

قال ذلكم العرض ولكنه من نوقش الحساب عذّب.

رواه البخاري في الصحيح عن سليمان.

ورواه مسلم عن أبي الربيع عن حماد.

270 -

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب؛ ثنا أبو زرعة الدمشقي، ثنا أحمد بن خالد الوهبي، ثنا محمد بن إسحق-

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أحمد بن جعفر القطيعي، ثنا عبد الله بن

269 - أخرجه البخاري (8/ 697 فتح) عن سليمان بن حرب-به، مسلم (4/ 2204) عن أبي الربيع العتكي وأبي كامل قالا حدثنا حماد بن زيد-به.

270 -

أخرجه عبد الله بن أحمد (6/ 48)، الحاكم (1/ 57) من طريق.

أحمد بن حنبل عن إسماعيل-به وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي.

ص: 252

أحمد، حدثني أبي، ثنا إسماعيل بن إبراهيم، ثنا محمد بن إسحاق حدثني عبد الواحد بن حمزة بن عبد الله بن الزبير، عن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بعض صلاته:

(اللهمّ حاسبني حسابا يّسيرا، فلمّا انصرف قلت يا رسول الله ما الحساب اليسير؟

قال ينظر في كتابه ويتجاوز له عنه، وإنّه من نوقش الحساب يومئذ يا عائشة هلك. وكلّ ما يصيب المؤمن يكفّر الله عنه حتى الشوكة تشوكه».

271 -

أخبرنا أبو عمرو محمد بن عبد الله الأديب أنا أبو بكر الإسماعيلي، أخبرني الحسن بن سفيان، ثنا هدبة بن خالد، ثنا همام بن يحيى، ثنا قتادة، عن صفوان بن محرز، قال: كنت آخذا بيد عبد الله بن عمر فأتاه رجل فقال كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

(إنّ الله عز وجل يدني المؤمن يوم القيامة حتّى يضع عليه كنفه يستره من الناس فيقول أي عبدي! تعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول: نعم أي ربّ! حتى إذا قرّره بذنوبه ورأى في نفسه أنّه قد هلك، قال: إني قد سترتها عليك في الدنيا، وقد غفرتها لك اليوم، قال ثم أعطي كتاب حسابه، وأمّا الكافر والمنافق فيقول الاشهاد هؤلاء الّذين كذبوا على ربّهم الا لعنة الله على الظّالمين».

رواه البخاري في الصحيح عن موسى بن إسماعيل عن همام.

وأخرجاه من وجه آخر عن قتادة.

قال البيهقي رحمه الله قوله «يدني المؤمن» يريد به: يقرّبه من كرامته.

وقوله «يضع عليه كنفه» يريد-والله أعلم-عطفه ورأفته ورعايته.

271 - أخرجه البخاري (5/ 96 فتح) عن موسى بن إسماعيل عن همام-به.

وأخرجه البخاري (8/ 353) من طريق سعيد وهشام قال حدثنا قتادة-به.

وأخرجه مسلم (4/ 2120) من طريق هشام الدستوائي عن قتادة-به.

ص: 253

272 -

أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، أنا أبو عبد الله الصفّار، ثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، ثنا عبد الرحمن بن صالح، ثنا جرير، عن أشعث، ثنا شمر بن عطية، في قوله:

{إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:34].

قال غفر لهم الذنوب التي عملوها وشكر لهم الخير الذي دلّهم عليه فعملوا به فأثابهم عملهم.

273 -

وأخبرنا أبو سعيد، ثنا أبو عبد الله، ثنا ابن أبي الدنيا، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، ثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار عن طاوس قال سمعت ابن عمر يقول:

كلّ ابن آدم خطّاء إلاّ ما رحم الله.

274 -

قال وأنا ابن أبي الدنيا، ثنا سعدويه، عن مبارك بن فضالة عن الحسن يقول:

إنّ الله لا يجازي عبده بذنوبه والله ما جازى الله عبدا قطّ بالخير والشرّ إلاّ هلك، ولكنّ الله إذا أراد بعبد خيرا أضعف له الحسنات، وألقى عنه السّيئات.

قال الحليمي رحمه الله وإذا كان من المؤمنين من يكون أدنى إلى رحمة الله فيدخله الجنّة بغير حساب، فليس ببعيد أن يكون من الكفار من هو أدنى إلى سخط الله فيدخله النار بغير حساب.

قال البيهقي رحمه الله وقد قال الله عز وجل:

{وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78].

وقال: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ} [الرحمن:37].

{فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:39].

{يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ} [الرحمن:

41].

272 - عزاه السيوطي في الدر المنثور (5/ 253) لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم والمصنف عن شمر بن عطية-به.

ص: 254

وقال: {اُحْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ} [الصافات:22 - 24].

{فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92،93].

ولا اختلاف بين هذه الآيات. ووجه الجمع بينها ما روينا عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس انه قال لا يسألهم عن عملهم كذا وكذا لأنّه أعلم بذلك منهم ولكن يقول عملتم كذا وكذا.

وروينا عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله:

{وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78].

يقول لا يسأل كافر عن ذنبه، كل كافر معروف بسيماه وفي قوله:

{فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:39].

يعني يوم تشقق السماء وتكوّر لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جانّ، وذلك عند الفراغ من الحساب وكلّ معروف، يعرف المجرمون بسيماهم، أمّا الكافر فبسواد وجهه وزرقة عينيه وأما المؤمن فاغرّ محجّل من أثر الوضوء.

275 -

أخبرنا أبو عبد الرحمن الدهان. أنا الحسين بن محمد بن هارون، أنا اللباد، ثنا يوسف بن بلال، ثنا محمد بن مروان عن الكلبي فذكره.

وقال الحليمي رحمه الله معنى قوله:

{وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} .

وقوله: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} .

سؤال التعرف بتمييز المؤمن عن الكافر، أي أنّ الملائكة لا تحتاج أن تسأل أحدا يوم القيامة فتقول ما كان ذنبك؟ وما كنت تصنع في الدنيا؟ حتى يتبيّن له باخباره عن نفسه انه كان مؤمنا أو كافرا، لكن المؤمنين يكونون ناضري الوجوه مشروحي الصدور، والمشركين يكونون سود الوجوه، زرقا مكروبين، فهم إذا كلّفوا سوق المجرمين إلى النار، وتمييزهم في الموقف عن المؤمنين كفتهم مناظرهم عن تعرّف ذنوبهم والله أعلم.

قال البيهقي رحمه الله وهذا الذي ذكره الحليمي رحمه الله أشبه أن يكون

ص: 255

مأخوذا ممّا روينا عن تفسير الكلبي وبمعناه ذكره مقاتل بن سليمان في الآية الأخيرة غير أنه لم يذكر الفراغ من الحساب فقال في قوله تعالى:

{وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78].

ذلك أن كفار مكة قالوا لو أنّ عندنا ذكرا يعني خبرا من الأولين بم أهلكوا؛ فأنزل الله عز وجل:

{وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} .

يقول لا يسأل مجرمو هذه الأمة عن ذنوب الأمم الماضية الذين عذّبوا في الدنيا فإن الله تعالى قد أحصى أعمالهم الخبيثة وعلمها.

276 -

أخبرنا الاستاذ أبو إسحاق، ثنا عبد الخالق بن الحسن، أنا عبد الله بن ثابت، أخبرني (أبي) عن الهذيل، عن مقاتل فذكره.

277 -

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنا عبد الرحمن بن الحسن القاضي، ثنا إبراهيم بن الحسين، ثنا آدم، ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:

{فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:39].

قال يقول لا تسأل الملائكة عن المجرم إنسا ولا جانّا يقول يعرفون بسيماهم.

قال البيهقي رحمه الله: من زعم أنّ الكافرين غير مخاطبين بشرائع الإسلام زعم أنهم لا يسألون عما يعلمون ممّا كانت مللهم تقتضيه وإن كان في الإسلام ذنبا ويسألون عن الله وعن رسله صلوات الله عليهم وعن الإيمان في الجملة وما نقلناه عن أهل التفسير أصحّ والله أعلم.

277 - قال السيوطي في الدر المنثور (6/ 145) أخرجه آدم وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والمصنف في الشعب.

ص: 256