الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عليه الصحابة وعامة السلف التحريم مُطلقًا، ونحن نذكر
الأدلة على تحريم نكاح المحلِّل وبطلانه
، سواء قَصَدَه فقط، أو قَصَدَه واتفقوا عليه قبل العقد، أو شرط مع ذلك في العقد، ونبين الدلائل على المسألة الأولى، فإن ذلك تنبيه على المسألتين الآخرتين. وهنا طريقان:
أحدهما: الإشارة إلى بطلان الحيل عمومًا.
والثاني: الكلام في خصوصية هذه المسألة.
(146/ أ) الطريق الأولى: أن نقول: إن الله - سبحانه - حرَّم أشياء إما تحريمًا مطلقًا، كتحريم الزنا، أو تحريمًا مقيَّدًا إلى أن يتغيَّر حالٌ من الأحوال، كتحريم نكاح المطلَّقة ثلاثًا، وكتحريم [وطء]
(1)
المحلوف بطلاقها عند الحنث.
وأوجب أشياء إيجابًا معلَّقًا بأسباب، إما لله كالزكاة ونحوها، أو حقًّا للعباد كالشفعة.
ثم إنه شرع أسبابًا تُفْعل لتحصيل مقاصد، كما شرع العبادات لابتغاء فضله، وكما شرع عقد البيع لنقل الملك بالعِوَض، وعقد القرض لإرفاق المقترض، وعقد النكاح للازدواج والسَّكن والأُلفة بين الزوجين، والخُلْع لحصول البينونة المتضمِّنة لافتداء المرأة من رقِّ بَعْلها، وغير ذلك.
(1)
زيادة من "الإبطال".
فالحيلةُ: أن يقصد سقوطَ الواجب أو حلَّ الحرام بفعلٍ لم يقصد به ما جُعِل ذلك الفعل له أو ما شُرِع له، فهو يريد تغيير الأحكام الشرعية بأسبابٍ لم يقصد بها ما جُعِلت تلك الأسباب لأجله، بل يفعل تلك الأسباب لأجل ما هو تابع لها، لا لأجل ما هو المتبوع المقصود بها، بل يفعل السببَ لما ينافي قصدَه = قَصْدَ حكم السبب، فيصير بمنزلة من طلب ثمرةَ الفعل الشرعيّ ونتيجته وهو لم يأت بقوامه وحقيقته. وهذا خداعٌ لله واستهزاءٌ بآيات الله، وتلاعُب بحدود الله.
وقد دلَّ على تحريم ذلك الكتابُ والسنةُ وإجماعُ السلف الصالح، وعامةُ دعائم الإيمان ومباني الإسلام، ودلائله لا تكاد تنضبط؛ لكن ننبِّه على بعضها، مع أن القول بإبطال الحِيَل في الجملة مأثور عن عمر، وعثمان، وعلي، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن سلام، وأُبي بن كعب، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعائشة، وأنس بن مالك.
ومن التابعين: عن سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وعبيد الله بن عبد الله
(1)
، وعروة، وسليمان بن يسار، وخارجة بن زيد، وعطاء بن أبي رَبَاح، وغيره من فقهاء المكيين، وجابر بن زيد أبي الشعثاء، والحسن، ومحمد بن سيرين، وبكر بن عبد الله
(2)
، وقتادة، وأصحاب عبد الله بن مسعود، وإبراهيم
(1)
ابن عتبة.
(2)
المزني.
النخعي، والشعبي، وحماد بن أبي سليمان
(1)
.
وهو قول أيوب السختياني، وعَمْرو بن دينار، ومالك بن أنس وأصحابه، والأوزاعي، والليث بن سعد، والقاسم بن مَعْن، وسفيان الثوري، وشريك بن عبد الله، وابن عُيينة، وابن المبارك، والفضيل بن عِياض، وحَفْص بن غِياث، ويزيد بن هارون، وأحمد بن حنبل وأصحابه، وأبي عبيد، وإسحاق بن راهويه، ومن لا يُحْصَى (146/ ب) من العلماء، وكلامهم في ذلك يطول.
قال الإمام أحمد في رواية موسى بن سعيد: لا يجوز شيءٌ من الحيل.
وإذا حلف على شيءٍ ثم احتال بحيلةٍ فصار إليه فقد صار إلى ذلك بعينه، رواه الحكم
(2)
.
وقال: ما أخبثهم - يعني: أصحاب الحيل -.
وقال: لا يجوز شيءٌ من الحيل في إبطال حق مسلم - يعني: الشُّفعة -.
وقال: نحن لا نرى الحيل إلا بما يجوز.
قال الميموني: قلت لأحمد في رجلٍ حلف على امرأته وهي على درجة: إن صَعِدْتِ أو نَزَلْتِ فأنت طالق، قالوا: تُحمل حملًا. قال: هذا هو الحِنْث بعينه، ليس هذا حيلة هذا هو الحنث. وقالوا:
(1)
في الأصل و (م): "سليم"! .
(2)
كذا بالأصل، وفي "الإبطال":"ابن الحكم" وهو جعفر بن محمد، لكن هذه الرواية بنصها في ترجمة بكر بن محمد النسائي في "طبقات الحنابلة":(1/ 320)، و"إعلام الموقعين":(3/ 174 - 175).
حَلَف لا يطأ بساطًا، يُجْعل بساطين. وحَلَف لا يدخل الدار، يُحْمل. فجعل يعجبُ من ذلك؟!.
قلتُ: أليس حيلتنا فيها أن نتبع ما قالوا؟ قال: بلى هكذا هو. قلت: وليس هذا مِنَّا حِيْلة؟ قال: نعم
(1)
.
فبيَّنَ الإمامُ أحمد أن من اتبع ما شُرِع له، وجاء عن السلف في معاني الأسماء التي علَّق بها الأحكام، ليس بمحتالٍ الحيلةَ المذمومة، وإن سُمِّيت حِيلة، وغرضه: الفرقُ بين سلوك الطريق المشروعة التي شُرِعت لحصول ذلك المقصود وبين غيرها، كما سيأتي بيانُه، وسيأتي تشديده في سائر أنواع الحِيل واحتجاجه على ردها في أثناء الأدلَّة، فنقول:
الدليل على تحريمها وإبطالها وجوه:
أحدها: أن الله سبحانه وتعالى قال في صفة أهل النفاق من مُظهري الإسلام: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)} إلى قوله: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)} [البقرة: 8 - 15].
وقال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]،
(1)
هذا المقطع في "الإبطال": (ص/ 33) بعد قوله: "نحن لا نرى الحيل إلا بما يجوز"، وهو أنسب للمعنى.
وقال في صفة أهل النفاق من أهل العهد: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} الآية [الأنفال: 62].
فأخبر - سبحانه - أن هؤلاء المخادعين يُخدعون
(1)
وهم لا يشعرون بذلك، وأن الله خادع من يخادعه، وأن المخدوع يكفيه الله شرَّ من خَدَعه.
والمخادعة هي: الاحتيال والمراوغة بإظهار الخير مع إبطان خلافه لتحصيل المقصود. يقال: طريق خَيْدَع، إذا كان مخالفًا للقصد، لا يُفطن له. ويقال: غُوْل خَيْدَع، ويقال للسَّراب: الخيدع، وضَبٌّ خَدِع، أي: مراوغ، وفي المثل:"أخدع من ضب"
(2)
، وخُلُق خادع، وسوق خادعة، أي: متلوِّنة (147/ أ) والحرب خدعة.
وأصله: الإخفاء والستر. ومنه قيل للخزانة: مُخدع ومِخدع
(3)
، فلما كان قول القائل:{آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} إنشاءً للإيمان وإخبارًا به، وحقيقته أن يكون صادقًا في هذا الإنشاء والإخبار، بحيث يكون قلبه مطمئنًّا بذلك، وحكمه أن يعصم دمه وماله في الدنيا، وأن يكون له ما للمؤمنين، كان من قال هذه الكلمة غير مُبطن لحقيقتها، بل مريدًا لحكمها وثمرتها فقط = مخادعًا لله ورسوله، وكان جزاؤه أن يُظهر الله له ما يظن أنه كرامة، وفيه عذاب أليم، كما أظهر هو للمؤمنين ما ظنوا أنه إيمان وفي ضمنه الكفر.
(1)
أصله: "مخدوعون".
(2)
انظر: "مجمع الأمثال": (1/ 457).
(3)
انظر: "لسان العرب": (8/ 64 - 65).
وهكذا قول القائل: بعتُ واشتريتُ وأقرضت وأنكحت ونكحت إنشاء للعقد أو إخبارًا به، فإذا لم يكن مقصوده انتقال الملك الذي وُضِعت له هذه الصيغة، ولا ثبوت النكاح الذي جُعِلت له هذه الكلمة، بل مقصوده بعض أحكامها التي قد تحصل ضمنًا وقد لا تحصل. أو قصده ما يُنافي قصد العقد، أو قصده بالعقد شيءٌ آخر خارج عن أحكام العقد، وهو: أن تعود المرأةُ إلى زوجها، أو أن تعود السلعة إلى البائع بأكثر من ذلك الثمن، أو أن تنحلّ يمينه التي حَلَفها، ونحو ذلك. فيكون مخادعًا لله بمباشرته للكلمات التي جُعلت لها حقائق ومقاصد، وهو لا يريد مقاصدها وحقائقها، وهذا ضَرْب من النفاق في آيات الله وحدوده، كما أن الأول نفاق في أصل الدين.
يؤيد ذلك من الأثر ما روي عن ابن عباس أنه جاءه رجلٌ فقال: إن عمِّي طلق امرأته ثلاثًا، أَيُحلها له رجلٌ؟ فقال:"من يُخادع اللهَ يخدعه" رواه سعيد
(1)
.
وحُكِي
(2)
عن ابن عباس وأنسٍ: أن كلًّا منهما سُئل عن العينة، فقال: إن الله لا يُخدع، هذا مما حرَّمه الله ورسوله
(3)
.
ورُوِيَ عن عثمان وابن عمر وغيرهما: أنهما قالا: لا نكاح إلا نكاح رغبة لا نكاح دُلْسة
(4)
.
(1)
هو ابن منصور في "سننه": (1/ 262).
(2)
كذا في الأصل و (م)، وفي "بيان الدليل":"وسيجيء".
(3)
سيذكرهما المؤلف (ص/ 50، 51) ومن أخرجهما.
(4)
أخرجه عنهما البيهقي في "الكبرى": (7/ 208).