الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18)} [القلم: 17، 18]، وأنهم:{فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24)} [القلم: 23، 24].
فعُلِم أنَّ جميع هذه الأمور لها تأثير في العقوبة، فعُلِم أنها محرَّمة؛ لأن ذِكْر ما لا تأثير له في الحكم مع المؤثِّر غير جائزٍ، كما لو ذكر مع هذا أنهم أكلوا وشربوا. وهم لم يمنعوه بعدَ وجوبه؛ لأنه لو كان قد وجب، لم يكن فرقٌ بين صَرْمه بالليل و [صرمه بـ] النهار، وإنما قصدوا بالصرم ليلًا الفرار مما كان للمساكين فيه من اللقاط، فعُلِم أن الأمر كما ذكره المفسِّرون من أن حق المساكين إنما كان فيما تساقط، ولم يكن شيئًا مؤقتًا. ووجوب هذا مشروط بسقوطه وحضور من يأخذه، كأنَّ الساقط عفو المال وفضله، وحضورُ أهل الحاجة بمنزلة السؤال، ومثل هذه الحال يجب فيها ما لا يجب في غيرها، كما يجب قِرَى الضيف، وإطعام المضطر، ونفقة الأقارب، وحَمْل العقل، ونحو ذلك.
فيكون هذا فِرارًا من حقٍّ فد انعقد سببُ وجوبه قبل وقت وجوبه، فهو مثل فرار المزكِّي قبل حَؤول الحول وبعد ملك النِّصاب، والفرارُ من قِرى الضيف قبل حضوره، ومن الشُّفعة بعد إرادة البيع وقبل تمامه، ونحو ذلك.
الوجه الرابع:
أنه - سبحانه - قال في كتابه: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ (148/ ب) فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)} [البقرة: 65، 66].
وقال في موضعٍ آخر: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا
مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ} [النساء: 47]، وقال: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ
…
} إلى قوله: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)} [الأعراف: 163 - 166].
وقد ذكر جماعة من العلماء - من الفقهاء وأهل التفسير -: أنهم احتالوا على الصيد يوم السبت بحيلة يخيل بها في الظاهر أنهم لم يصيدوا في يوم السبت، حتى قال أبو بكر الآجرِّي: لقد مسخ الله اليهود قردة بدون هذه الحِيَل الربوية.
وقال الإمام أبو يعقوب الجُوْزجاني - لما استدلَّ على إبطال الحيل -: وهل أصابَ الطائفة من بني إسرائيل المسخُ إلا باحتيالهم على أمر الله، بأن حظَّروا الحظاير على الحيتان في يوم سبتهم فمنعوها الانتشار يومها إلى الأحد، فأخذوها.
وكذلك السلسلة التي كانت تأخذ بعنق الظالم
(1)
، فاحتال لها صاحب الدُّرَّة إذ صيّرها في قصبةٍ ثم دفعها بالقصبة إلى خصمه، وتقدم إلى السلسلة ليأخذها فرُفِعَت.
قال بعض الأئمة: في هذه الآية مَزْجرة عظيمة للمتعاطين الحِيَلَ على المناهي الشرعية ممن يتلبَّس بعلم الفقه وليس بفقيه؛ إذ الفقيه من يخشى اللهَ في الربويات والتحليل باستعارة المحلِّل
(1)
أخرج خبر السلسلة ابن عساكر في "تاريخ دمشق": (17/ 103) عن وهب بن منبِّه، وانظر "مصنف عبد الرزاق":(8/ 276).
للمطلَّقات، والخلع لحل ما لزم من الطَّلَقات المعلَّقات، إلى غير ذلك من العظائم التي لو اعتمد بعضها مخلوق في حق مخلوق؛ لكان في نهاية القُبْح، فكيف بمن يعلم السرَّ وأخفى؟ ! .
وقد ذكر القصة غيرُ واحدٍ من مشاهير المفسِّرين
(1)
بمعنًى متقارب عن ابن مسعودٍ وغيره من الصحابة، قال: كانت الحيتان تأتي يوم السبت حتى تخرج خراطيمها من الماء، فإذا كان يوم الأحد لم يُر منهنَّ شيءٌ، فذلك قوله تعالى:{إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا} [الأعراف: 163] وقد حرَّم الله عليهم أن يعملوا شيئًا في يوم السبت. فجعل يحفر الرجلُ الحُفَيْرةَ
(2)
ويجعل لها نهرًا إلى البحر، فإذا كان يوم السبت أَقْبَلْ الموج بالحيتان فيلقيها بالحفيرة، فلا يمكن الحوت الخروج منها لقلَّة الماء فيه، فإذا كان يوم الأحد جاءَ فأخذه.
وقيل: كانوا ينصبون الحبائل والشُّصُوص
(3)
يوم الجمعة ويُخرجونها يوم الأحد. ذكر هذا الوجه القاضي أبو يعلى
(4)
. فلما فعلوا ذلك صاروا ثلاث فرق، فرقة أمسكت ونهت غيرها عن ذلك، وفرقة أمسكت ولم تَنْه، وفرقة أُخرى انتهكت الحرمة، وتمام القصة مشهور.
فدلَّ ذلك على أنهم إنما أخذوها بنوع من التأويل استحلوا به
(1)
كابن جرير: (6/ 98 - 99)، وابن المنذر وابن أبي حاتم وعبد الرزاق وغيرهم - كما في "الدر المنثور: 3/ 251 - 252" -.
(2)
كذا في الأصل، و"الإبطال"، وفي (م):"يحظر الرجل الحظيرة".
(3)
الشّصّ: حديدة عقفاء يُصاد بها السمك. انظر "اللسان": (7/ 48).
(4)
لعله في "إبطال الحيل" والكتاب في حكم المفقود.
ذلك، ومعلومٌ أنهم لم يستحلُّوها تكذيبًا لموسى وكفرًا بالتوراة، وإنما هو استحلال بتأويل واحتيال ظاهره ظاهر الاتقاء، وحقيقته حقيقة الاعتداء؛ ولهذا - والله أعلم - مُسِخوا قردة؛ لأن صورةَ القرد فيها شَبَه من صورة الإنسان، وهو مخالف له في الحدِّ والحقيقة، فلما مَسَخُوا دينَ الله بحيث لم يتمسَّكوا إلا بما يُشبه الدين في بعض ظاهره دون حقيقته، مَسَخهم الله قردةً يُشبهونهم في بعض ظواهرهم دون الحقيقة جزاءً وِفاقًا.
يقوِّي ذلك: أن بني إسرائيل أكلوا الرِّبا وأكلوا أموالَ الناس بالباطل كما قصَّه الله عنهم، ولم يمسخ منهم غير الذين اعتدوا في السبت، مع أن أكل الربا أعظم إثمًا؛ ولكن لما كانوا بمنزلة المنافقين، وهم لا يعترفون بالذنب، بل فسدت عقيدتهم وأعمالهم، فكانوا أعظم جُرْمًا من أُولئك، كما قال أيوب
(1)
: "لو أتوا الأمر على وجهه كان أهون". فكانت عقوبتهم أعظم من عقوبة غيرهم، فإن من أكلَ الربا أو الصيدَ المحرم مع علمه بالتحريم، فقد اقترن بمعصيته اعترافه بالتحريم، وهذا إيمان بالله وآياته.
ويترتب على ذلك من خشية الله ورجاء مغفرته وإمكان التوبة ما قد يُفضي به إلى الخير، وأما من أكله مستحلًّا بنوع احتيال، فلا يزال مصرًّا على الحرام مع اعتقاده الفاسد حل الحرام، وذلك يُفضي إلى شرٍّ طويل.
ولذلك حذَّر صلى الله عليه وسلم أمته ذلك فقال: "لا تَرْتكبوا ما ارتكبتِ
(1)
هو السختياني، وتقدمت عبارته بتمامها.
اليهودُ فتستحلَّوا محارمَ اللهِ بأَدْنَى الحِيَل"
(1)
.
وقد روى البَرْقاني وأبو داود: "ليكوننَّ من أمتي أقوام يَسْتحلُّون الحر والحرير يُمْسَخ منهم قردةً وخنازير إلى يوم القيامة"
(2)
، فيكون استحلالهم الخمر بمعنى أنهم يشربون بعض الأنبذة ويسمُّونها بغير اسمها، كما ذكره صلى الله عليه وسلم. وأيضًا: يستحلون المعازف بنوع تأويل، وأنها تشبه أصوات الطير، وكذلك الخز
(3)
قياسًا على حالة الحرب، وهذه التأويلات واقعة في الطوائف الثلاثة، التي قال فيها ابنُ المبارك:
وهل أفسدَ الدينَ إلا الملوك
…
وأحبارُ سوءٍ ورُهْبانُها
ومعلوم أنها لا تغني عن أصحابها شيئًا بعد أن بلَّغ الرسول وبيَّن تحريم هذه الأشياء (149/ ب) بيانًا قاطعًا للعذر.
ثم رأيتُ هذا المعنى قد قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"ليشربَنَّ ناسٌ من أُمتي الخمرَ يُسَمُّونها بغير اسمها، يُعْزَف على رؤوسهم بالمعازف والقيان، يخسفُ اللهُ بهم الأرضَ ويجعل منهم القِرَدة والخنازير" رواه أبو داود وابن ماجه
(4)
.
(1)
سيأتي تخريجه، وسياق سنده، والحكم عليه (ص/ 42).
(2)
أخرجه البرقاني - مسندًا - في مستخرجه على البخاري.
وأبو داود - مختصرًا بهذا اللفظ - رقم (4039).
والبخاري في الصحيح - معلقًا - رقم (5590) بسياق أتم، وانظر ما سيأتي (ص/45).
(3)
كذا في الأصل و (م)، وفي "بيان الدليل":"الحرير".
(4)
سيأتي تخريجه (ص/ 45).