الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ليلُها كنهارها لا يزيغُ عنها بَعْدي إلا هالِكٌ"
(1)
.
وقد علمَ اللهُ كثرةَ وقوع الطلاق الثلاث، فهلَّا ندبَ إلى التحليل وحضَّ عليه! ولِمَ زجر الرسول وخلفاؤه
(2)
عن ذلك؟ ولعنوا فاعِلَه من غير استثناء نوعٍ، ولا ندب إلى شيءٍ من أنواعه، ولو كان مقصودُ الشارع ردَّها لما حرَّمها عليه؛ لأن الدفعَ أهونُ من الرفع. وما يحصل في ذلك من الضرر فإن المطلِّق هو الذي جلَبَه على نفسه، {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: 30].
فصلٌ
(3)
ومما ظن المحتالون أنه من الحِيَل: سائر العقود الصحيحة؛ فقالوا: البيع احتيالٌ على حصول الملك، والنكاح احتيال على حصول حل البضع، وكذلك سائر تصرفات الخلق، فهو احتيال على طلب مصالحهم التي أحلَّها الله تعالى لهم.
(1)
أخرجه الشافعي في "الرسالة" رقم (289، 306)، والبيهقي في "الشعب":(2/ 67)، و"السنن الكبرى":(7/ 76) عن المطلب بن حنطب.
وأخرجه عبد الرزاق: (11/ 125) عن معمر عن عمران عن صاحب له.
وأخرجه هناد في "الزهد": (1/ 281)، والدارقطني في "العلل":(5/ 273)، والحاكم:(2/ 4)، والبيهقي في "الشعب":(7/ 299) عن ابن مسعود.
وانظر حاشية "الرسالة"(ص/ 93 - 103) للشيخ أحمد شاكر فقد أطال في الكلام عليه، و"السلسلة الصحيحة" رقم (1803).
(2)
"الأصل": "وخلافه"!.
(3)
ليست في "الإبطال"، وانظره:(ص/ 197).
وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لعامله: "بِع الجَمْعَ بالدراهم ثم ابْتَع بالدَّراهِم جَنِيْبًا"
(1)
، فعقد العقد الأول ليتوسل به إلى العقد الثاني. وهذه حيلة تضمنت حصول المقصود بعد عَقْدَين، فهي أوكد مما تضمنت حصولَه بعد عقد واحد، وأشْبَهَتْ العِيْنة، فإنه قصد أن يعطيه دراهم، فلم يمكن بعقد واحد، فعقد عقدين، بأن باع السلعة ثم إبتاعها.
والجواب عن هذا: أن تحصيل المقاصد بالطرق المشروعة إليها، ليس من جنس الحِيَل، سواء سُمِّي حيلة أولم يُسَمَّ، فليس النزاع في مجرَّد اللفظ، بل الفرق بينهما ثابت من جهة الوسيلة والمقصود، اللَّذَيْن هما المحتال به والمحتال عليه، وذلك أن البيع مقصوده أن يجعل ملك الثمن للبائع، ويحصل ملك المبيع للمشتري، فيكون كل منهما ملكًا لمن انتقل إليه كسائر أملاكه، وذلك في الأمر العام إنما يكون إذا قَصَد المشتري ملك السلعة للانتفاع بعينها أو انفاقها أو التجارة فيها.
فإن كان قصده ثمنها فيبتاعها ثم يبيعها ويَسْتَنْفِق ثمنَها، فهي التَّوَرُّق، وفيها خلاف ذكرناه
(2)
.
فأما إذا كان مقصود (161/ ب) الرجل نَفْس الملك المباح بالبيع وما هو من توابعه، وحصَّله بالبيع، فقد قَصَد بالسبب ما
(1)
تقدم تخريجه (ص/ 65 - 66).
(2)
(ص/ 54).
شرعَه الله له، وأتى بالسبب حقيقةً، وسواء حصل ذلك بعقد أو عقدين. مثل أن يكون بيده سِلْعة وهو يُريد سلعة أخرى غيرها لا تُباع بسلعة لمانع شرعي أو عُرْفي أو غيره، فيبيع سلعته ليملك ثمنها، وتملُّك الثمن أمر مقصود مشروع، ثم يبتاع التي يريدها.
وهذه قضية بلال
(1)
رضي الله عنه بخيبر سواء، فإنَّه قصد بالبيع ملك الثمن، ثم ابتاع بالثمن جَنِيْبًا، فلما كان بائعًا قَصَدَ ملك الثمن حقيقةً، ثم لما كان مُبتاعًا قَصَدَ ملك السلعة حقيقةً.
فإن ابتاع بالثمن من غير المشتري منه؛ فلا محذور فيه ألبتة، لأن كلَّ واحد من العقدين مقصود، ولذلك يستوفيان حكم العقد الأول من النقد والقبض ونحو ذلك.
وأما إن ابتاع بالثمن من مُبْتاعه من جِنْس ما باعه، فَيُخاف أن لا يكون العقد الأول مقصودًا منهما، بل قصدهما بيع السِّلْعة الأولى بالثانية، فيكون ربًا، ويظهر أثر ذلك بأنه لم يحرز الثمنَ ولا نَقَدَه ولا قَبَضَه، فيُعْلَم أنه لم يقصد بالعقد الأول ملك الثَّمن، بل عَقَد العقد الأول على أن يُعيد إليه الثمن ويأخذ الأخرى، وهذا تواطؤٌ منهما حينَ عَقْدِه على فَسْخِه، فلم يكن العقد الأول مقصودًا، فوجوده كعدمه، فيكون
(2)
قد اتفقا على أن يبتاع بالتَّمْرِ تَمْرًا أو ربما تشارطا على سعر إحدى السلعتين في الأخرى أوَّلًا، ثم بعد ذلك
(1)
انظر التعليق رقم (3)، ص/ 65.
(2)
كذا في "الأصل" و (م). و"الإبطال": "فيكونان".
يفعلا العقد بالدراهم صورةً لا حقيقةً.
والعقدُ لا يُعْقَد ليُفْسَخ من غير غَرَض يتعلَّق بنفس وجوده، فإن هذا باطل كما تقدَّم بيانُه
(1)
، ولو كان هذا مشروعًا لم يكن في تحريم الربا حكمة إلا تضييع الزمان، وإتعاب النفوس بلا فائدة، فإنه لا يشاءُ شاءٍ أن يبتاع ربويًّا بأكثرَ منه من جنسه إِلَّا قال: بعتُك هذا بكذا، واشتريتُ منك هذا بهذا الثمن، فلا يعجز أحدٌ عن إحلال ربًا حرَّمه الله تعالى قطُّ.
وكذلك جميع ما نهى عنه، فيا سبحان الله! أيعودُ الرِّبا الذي حرَّمه الله ولعنَ آكله وشاهديه وكاتبه
(2)
، وعظَّم أمره، وأوجَبَ محاربة مستحلِّه = إلى أن يُسْتحلَّ جميعُه بأدنى سَعْي من غير كُلْفةٍ أصلًا، إلا بصورة عَقْد هي عبث ولعب يُضْحَك منها ويُسْتَهزأُ بها؟ ! .
أم يَسْتحسن مؤمن أن ينسب نبيًّا من الأنبياء فضلًا عن سيد المرسلين، بل أن ينسب ربَّ العالمين إلى [أن] يحرِّم
(3)
هذه المحرمات العظيمة ثم يُبيحها بضربٍ من اللعب والهزل (162/ أ) الذي لم يُقْصَد؟ ! .
وجِمَاعُ ذلك: أنه إذا اشترى منه ربويًّا، ويريد أن يشتري منه بثمنه من جنسه، فإما أن يتواطئا عليه لفظًا، أو يكون العرف قد
(1)
(ص/ 87 - 90).
(2)
انظر ما سبق (ص/ 73).
(3)
المثبت من "الإبطال"، وفي "الأصل":"إلى يحرم"، و (م):"إلى تحريم".
جرى بذلك، أو لا يكون كذلك. فإن كان فهو عقد باطل؛ لما تقدم من عدم قَصْد العقد. وإن لم يَجْر بينهما مواطأة، لكن قد عَلِم المشتري أن البائع يريد أن يشتري منه فهو كذلك؛ لأن علمه بذلك يمنع من قَصْد الثمن من كل منهما، بل علمه بذلك ضرب من المواطأة العرفية.
وإن كان [قصد] البائع الشَّرْيَ منه ولم يعلم المشتري؛ فهنا قال الإمام أحمد: لم يجز إلا أن يمضي ليشتري من غيره فلا يمكنه ثم يرجع فيشتري منه
(1)
.
وكذلك كره مالك أن يبتاع منه في الوقت أو بعد يوم أو يومين. قال ابن القاسم: فإن طال الزمان فلا بأْس.
والذي ذكره أحمد؛ لأنه متى قَصَد الشَّرْيَ منه قد لا يحتاط في الثمن لعدم قصده تملُّكَه، بخلاف ما إذا راح ليشتري من غيره فلم يجد، فإنه يقع العقد الأول مقصودًا بلا خلل من عدم النقد والوزن وغيره، فيجوز.
ثم إن المتقدمين من أصحابه حملوا المنع على التحريم. وقالط القاضي وابنُ عقيل وغيرهما: إذا لم يكن عن حيلةٍ ومواطأة؛ لم يحرم، وقد أومأ إليه أحمد في رواية الكرماني في رجل اشترى
(1)
نص رواية الإمام: "لو باع رجلٌ من رجلٍ دنانير بدراهم لم يجز أن يشتري بالدراهم منه ذهبًا إلا أن يمضي ليبتاع بالورق من غيره ذهبًا فلا يستقيم، فيجوز أن يرجع إلى الذي ابتاع منه الدنانير فيشتري منه ذهبًا" اهـ.
من رجلٍ ذهبًا ثم باعه منه؟ قال: يبيعه من غيره أعجب إليَّ.
وذكر ابنُ عقيل أن أحمد لم يكرهه في رواية أخرى، وقد تقدم
(1)
عن ابن سيرين أنه قال: كان يكره للرجل أن يبتاع من الرجل الدراهم بالدنانير ثم يشتري منه بالدراهم دنانير، وهذا إخبار عن الصحابة، فإن ابن سيرين من أكابر التابعين.
وهذه المسألة عكس مسألة العِيْنة؛ لأنه قد عاد الثمن إلى المشتري، وفي العِيْنة قد عاد المبيع إلى البائع.
ثم إن كان في الموضِعَين لم يقصد الثمن ولا المبيع، وإنما جُعل وُصْلة إلى الربا، فلا ريب في تحريمه، وكلام أحمد وغيره في ذلك كثير، وصرَّح به القاضي في مسألة العينة، وإن كان أبو الخطَّاب قد جعل في صحته وجهين، فإن الأول هو الصواب.
ولهذه المسائل مأْخَذٌ آخر عند أبي حنيفة وأصحابه وهو: كون الثمن إذا لم يُستوفَ لم يتم العقد الأول، فيصير الثاني مبنيًّا عليه، وهو خارجٌ عن قاعدة الحِيَل والذرائع، فصار لها ثلاثة مآخذ.
والتحقيق: أنها إذا كانت من الحيل أُعْطِيت حكمَها وإلا اعتُبِر فيها المأخذان الآخران، هذا إذا لم يقصد العقد الأول، وإن كان قد قصده حقيقةً فهو صحيح، لكن مادام الثمن في ذمةِ المشتري لم يجز أن يشتري منه المبيع بأقل منه من جنسه، ولا يبتاع منه بالثمن ربويًّا لا يباع بالأول (162/ ب) نساءً، لأن أحكام [العقد] الأول لا
(1)
(ص/ 66).
تُستوفَى إلا بالتقابض، فمتى لم يحصل التقابض كان ذريعة إلى الربا، وإن تقابضا وكان العقد مقصودًا فله أن يشتري منه كما يشتري من غيره.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم لبلال: "بِع الجَمْعَ بالدراهم ثُمَّ ابْتَعْ بالدراهم جَنِيْبًا"
(1)
، فليس فيه دلالة عَلى الاحتيال بالعقود التي ليست مقصودة لوجوه:
أحدها: أنه أمره أن يبيع سلعته الأولى، ثم يبتاع بثمنها سلعة أخرى، ومعلوم أن ذلك إنما يقتضي البيعَ الصحيح، ونحن نقول: كلُّ بيع صحيح فإنه يفيد الملك، لكن الشأن في بيوع قد دلَّت السنة على أن ظاهرها - وإن كان بيعًا - فإنها ربا، وهي بيع فاسد، ومثل هذا لا يدخل في الحديث حتى يثبت أنه بيعٌ صحيح، فلا حجَّةَ فيه على صحة صورة من صور النزاع ألبتة.
والنكتة أن يُقال: الأمر المطلق [بالبيع] إنما يقتضي الصحيح، ونحن لا نُسلِّم صحة ذلك
(2)
.
الوجه الثاني: أن الحديث ليس فيه عموم؛ لأن الأمر بالحقيقة المطلقة ليس أمرًا بشيءٍ من قيودها؛ لأن الحقيقة مشتركة بين
(1)
تقدم تخريجه (ص/ 65 - 66) والتعليق عليه.
(2)
أي: "لا نسلّم أن هذه الصورة التي تواطآ فيها على الاشتراء بالثمن من المشتري شيئًا من جنس الثمن الربوي بيع صحيح، وإنما البيع الصحيح: الاشتراء من غيره أو الاشتراء منه بعد بيعه بيعًا مقصودًا بتاتًا، لم يقصد به الشراء منه" انظر "الإبطال": (ص/ 205).
الأفراد، والقَدْر المشترك ليس هو ما تميَّزَ به كلُّ واحدٍ من الأفراد عن الآخر ولا هو مستلزمًا له، فلا يكون الأمر بالمشترك أمرًا بالمميز بحال. نعم هو مستلزم لبعض تلك القيود لا بعينه، فيكون عامًّا لها على سبيل البدل، فلا يقتضي العموم للأفراد على سبيل الجمع، وهو المطلوب. فقولُه:"بع هذا الثوب" لا يقتضي بيعَه لزيد ولا لعَمرو، ولا بكذا، ولا بهذه السوق؛ لكن متى أتى بالمسمَّى حصل ممتثلًا من جهة وجود تلك الحقيقة، لا من جهة وجود تلك القيود، وهذا لا خلاف فيه.
فليس في الحديث أن يبتاع من المشتري ولا من غيره، فلا يدل لفظُه على شيءٍ من ذلك بعينه، ولا على جميع ذلك، مطابقة ولا تَضَمُّنًا ولا التزامًا، كما لا يدل على بيعه حالًا أو مؤجلًا، ولا بثمن المثل أو غيره؛ لخروج هذه القيود عن مفهوم اللفظ، وإنما استفيد عدم الإجزاء إذا باع بدون ثمن المثل أو بغير نقد البلد من العُرْف الذي ثبت للبيع المطلق.
وكذلك ليس فيه دليل على أنه يبيعه من المشتري ولا من غيره؛ لكن إنما يُستفاد ذلك من أدلة أخرى، فما أباحته الشريعة جاز فِعْلُه، وما لا فلا.
وبهذا يظهر الجواب عن قول من يقول: لو كان الابتياع من المشتري حرامًا لنهى عنه، فإن مقصوده صلى الله عليه وسلم إنما كان بيان الطريق التي بها يحصل اشتراء التَّمْر الجيِّد لمن عنده رديء، ولم يتعرض لشروط البيع وموانعه، لكون المقصود ذكر الحكم على وجه
الجملة، أو لأن المخاطَب (163/ أ) يفهم البيعَ الصحيحَ، فلا يحتاج إلى بيان. فلا يُحْتج بهذا الحديث على نَفْي شرطٍ مخصوص، كما لا يُحْتج به على نفي سائر الشروط.
الوجه الثالث: أن قوله: "بِع
…
" إنما يُفْهم منه البيع المقصود الخالي عن شرط يمنع كونه مقصودًا، ودليل ذلك: أنه لو قال: بعتُ هذا، أو بِعْ هذا، لم يُفْهم منه بيع المكره، ولا بيع الهازل، وإنما يُفْهم البيع الذي قصد به نقل الملك، ولو قالوا: "فلان باع دارَه" لم يُفْهم منه
(1)
بيع لا حقيقةَ له، فلا تدخل هذه الصورة في لفظ البيع؛ لانتفاء مسمَّى البيع المطلق.
الوجه الرابع: أنَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة
(2)
، ومتى تواطئا على أن يبيعه بالثمن ثم يبتاع به منه، فهو بيعتان في بيعة، فلا يكون داخلًا في الحديث.
الوجه الخامس: أنه لو فُرِضَ أن في الحديث عمومًا لفظيًّا؛ فهو مخصوص بصور لا تُعَدُّ، فإنَّ كلَّ بيع فاسد لا يدخل فيه،
(1)
في "الإبطال": (ص/ 208 - طبعة المكتب الإسلامي) هنا زيادة "إلا" وهي خطأ، يُفْسِد معنى الكلام، وهي ليست في طبعة مكتبة لينه (ص/ 291).
(2)
أخرجه أحمد: (11/ 203 رقم 6628)، والنسائي:(7/ 295)، والدارقطني:(3/ 74 - 75)، والبيهقي:(5/ 340) من طرق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده = عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه.
وهو حديث صحيح بشواهده، وفي الباب عن ابن عمر وأبي هريرة وابن مسعود رضي الله عنهم.
فتضعُف دلالته. وتُخَص منه هذه الصورة - أيضًا - بما ذكرناه من الأدلة التي هي نصوص في بطلان الحِيَل، وانظر قوله:"لعنَ اللهُ المحلِّلَ والمحلَّلَ لَه"
(1)
، فإنه عام لفظًا ومعنًى لم يُخص منه شيء ولم يعارضه نصٌّ آخر، فأيهما أولى بالتخصيص؛ هو أم قوله:"بِع الجَمْعَ بالدراهم ثم ابْتَع بها جَنِيْبًا"؟ مع أنه ليس بعامٍّ لفظًا ولَا معنًى، بل هو مطلق.
* * *
(1)
انظر ما سيأتي (ص/ 129 - 130).