الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد قال أهل اللغة: المدالسة: المخادعة.
قال أيوب السختياني - وناهيك به - في هؤلاء المحتالين: يخادعون الله كأنما يُخادعون الصِّبيان، فلو أتوا الأمرَ على وجهه عيانًا كان أهون عَلَيَّ.
وقال شَريك في "كتاب الحِيَل": هو كتاب المخادعة.
فالمعاهدون [إذا] أظهروا للرسول أنهم يريدون سِلْمه ومقصودهم المكر به من حيث لا يشعر، بأن يظهروا الأمان وهم يعتقدون أنه ليس بأمان، فقد ابطنوا خلافَ مقصود المعاهدة، كما يُظْهِر (147/ ب) المحلِّل للمسلمين وللمرأة أنه إنما يريد نكاحها وأنه راغبٌ فيها، ومقصوده طلاقها بعد استفراشها، لا ما هو مقصود النكاح، بل عكس ذلك، فَعُلِم أن مخالفة ما يدلُّ عليه العقد لفظًا أو عرفًا خديعة، وأنه حرام.
وتلخيص هذا الوجه: أن مخادعة الله حرام، والحِيل مخادعة، وقد سمَّى ابنُ عباس وغيره ذلك مخادعة - كما تقدم -، والرجوع إليهم في معاني الألفاظ متعيِّن، سواء كانت لغوية أو عرفية أو شرعية.
الوجه الثاني:
قوله - سبحانه - لما قال المنافقون: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)} : {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)} [البقرة: 15]، وقوله:{وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231]، بعد أن ذكر الطلاق والرجعة والخلع والنكاح المحلِّل والنكاح بعده، وغير ذلك، إلى غيره من المواضع؛ فيه دليلٌ على أن الاستهزاء
بدين الله من الكبائر.
والاستهزاء هو السُّخرية، وهو: حَمْل الأقوال والأفعال على الهزل واللعب، لا على الجدِّ والحقيقة. والذي يسخر بالناس هو الذي يذمُّ صفاتهم وأفعالَهم ذمًّا يخرجها به عن درجة الاعتبار، كما سَخِرْوا بالمطَّوِّعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم، بأن قالوا: هذا مُرائي، ولقد كان الله غنيًّا عن صاع فلان
(1)
.
فمن تكلَّم بالأقوال التي جعل الشارعُ لها حقائق ومقاصد، مثل كلمة الإيمان، وكلمة الله التي تُسْتَحلُّ بها الفروج، والعهود والمواثيق التي بين المتعاقدين، وهو لا يريد بها حقيقتها المقومة لها، ولا مقاصدها التي جُعِلت هذه الألفاظ محصِّلة لها، بل يريد أن يرتجع المرأة ليضرها ولا حاجةَ له في نكاحها، أو ينكحها ليحلها، أو يخلعها ليلبِسها = فهو مُسْتهزئٌ بآيات الله، فإن العهود والمواثيق من آيات الله، وسيأتي تقرير ذلك إن شاء الله بالأدلة الخاصة.
وإذا كان الاستهزاء بها حرامًا وجبَ إبطالُه وإبطال التصرفات = عدم ترتُّب أثرها عليها، فإذا كان المستهزئ بها غَرضه إنما يتم بصحَّتها وَجَب إبطال هذه الصحة، والحكم ببطلان تلك التصرفات، وإن كان غرضه اللعب بها دون لزوم حكمها، وجب إبطال لعبه بإلزامه أحكامَها، كما سيأتي إن شاء الله تعالى إيضاحُه.
(1)
أخرجه الطبري في "تفسيره": (6/ 430).