المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الوجه الرابع عشر - شفاء العليل في اختصار إبطال التحليل

[بدر الدين البعلي]

الفصل: ‌الوجه الرابع عشر

التحليل الذي يتوسل به إلى ردِّ المرأة، فالمكره والمحتال يشتركان في أنهما لم يقصدا بالسبب حكمَه ولا باللفظ معناه، لكن المكره راهبٌ قصدُه دفعُ الضرر، فيُحْمد على ذلك، والمحتال راغبٌ قصدُه إبطالُ حقٍّ أو إثبات باطل، فيُذَمُّ على ذلك.

‌الوجه الرابع عشر

(1)

: قوله صلى الله عليه وسلم: "من أَحْدَثَ في أَمْرِنا هذا ما ليسَ منه فهو ردٌّ"، رواه البخاري ومسلم

(2)

.

ولمسلمٍ

(3)

: "من عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عليه أَمْرنا فهو رَدٌّ".

وفي "صحيح مسلم"

(4)

عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في خُطبته: "أما بعد، فإن أحسنَ الحديث كتابُ الله، وخيرُ الهدي هدي محمد (154/ ب)، وشرُّ الأمور محدثاتها، وكلُّ بدعةٍ ضلالة".

وفي لفظٍ

(5)

: "كان يخطب للناس فيحمد الله ويُثني عليه بما هو أهله، ثم يقول: من يهده الله فلا مُضِلَّ له ومن يُضلِل فلا هاديَ له، خيرُ الحديثِ كتابُ الله، وخيرُ الهدي هدي محمدٍ، وشرُّ الأمور محدثاتها، وكلُّ محدثةٍ بدعة"[و] رواه النسائي

(6)

بإسنادٍ

(1)

"الإبطال": (ص/ 118).

(2)

البخاري رقم (2697)، ومسلم رقم (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(3)

"الصحيح": (3/ 1344).

(4)

رقم (867).

(5)

لمسلمٍ أيضًا: (2/ 592 - 593)، وليس فيه "وكل محدثة بدعة".

(6)

(3/ 188 - 189).

ص: 61

صحيح، وزاد:"وكلُّ بدعةٍ في النار".

وكان عمر وابن مسعود يخطبان بهذه الخطبة، وكان يخطبُ بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.

وفي لفظ ابن مسعود: "إنكم سَتُحْدِثُوْنَ ويُحْدَث لكم"

(1)

.

وفي حديث العِرْباض بن سارية قال: "وعَظَنا رسول الله موعظةً ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، قيل: يا رسول الله كأنها موعظة مودِّع فما تعهد إلينا؟ فقال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبدًا حبشيًّا، فإنه من يَعِشْ منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسَّكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومحدثات الأمور، فإن كلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة".

رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي

(2)

، وقال:"حسن صحيح".

وفي لفظٍ: "تركتكم على البيضاء ليلُها كنهارها لا يزيغ عنها

(1)

أخرجه الدارمي: (1/ 72)، والمروزي في "السنة" رقم (81)، وهناد في "الزهد":(1/ 287) بسندٍ صحيح.

(2)

أخرجه أحمد: (28/ 367 رقم 17142)، وأبو داود رقم (4607)، والترمذي رقم (2678)، وابن ماجه رقم (43)، وغيرهم.

والحديث صححه الترمذي، وابن حبان "الإحسان":(1/ 179)، والحاكم في "المستدرك":(1/ 174) وغيرهم، وللحديث شواهد كثيرة.

ص: 62

بعدي إلا هالك

" وفيه: "عليكم بما عرفتم من سنتي"

(1)

.

فهذه الأحاديث تبيِّن أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حذَّر الأمةَ الأُمور المحدثَة، وبيَّن أنها ضلالة، وأن من أحدثَ في أمر الدين ما ليس منه فهو رد، وهذه الجملة لا تنحصر دلائلُها، وكثرةُ وصايا السلف بمضمونها، وكذلك الأدلةُ على لزوم طريقةِ الصحابةِ والتابعين لهم بإحسان، ومجانبة ما أُحْدِث بعدهم كثيرة جدًّا.

واذا كان كذلك، فهذه الحِيَل من الأمور المحدَثة بلا شك ولا رَيْب، ومن البدع الطارئة.

أما الافتاءُ بها وتعليمُها للناس؛ فأول ما حدث في أواخر عصر التابعين

(2)

بعد المئة الأولى بسنين كثيرة، وليس فيها - ولله الحمد - حيلة واحدة

(3)

تُؤْثَر عن أصحاب رسول الله، بل المأثور عن الصحابة أنهم كانوا إذا سُئلوا عن فعل شيءٍ من ذلك حذَّروا منه وزجروا عنه، وفي هذا الكتاب

(4)

عن الصحابة ما يُبَيِّن ذلك.

وأما فِعْلها من بعض الجهال؛ فقد كان يصدر منه قليل في العصر الأول، ولكن يُنكره الفقهاء من الصحابة والتابعين، كما كانوا يُنكرون عليهم الكذب، والرِّبا

(5)

وسائر المحرَّمات.

(1)

هذا لفظ أحمد رقم (17142)، وابن ماجه (43) وغيرهما.

(2)

تعبير شيخ الإسلام: "في أواخر عصر صغار التابعين".

(3)

الأصل: "واحد".

(4)

أي: في مسألتي العينة والتحليل، كما في "الإبطال":(ص/ 121).

(5)

تحتمل في الأصل: "الزنا" وهو كذلك في نسخة في "الإبطال".

ص: 63

وهذا الذي ذكرناه من كونها محدثة وبدعة أمر لا يَشُكُّ فيه من له أدنى علمٍ بآثار السلف، وأيام الإسلام، وطبقات المفتِيْن، يُبَيِّنُ ذلك:

أن الكتب المصنَّفة في أحاديث رسول الله، وفتاوى الصحابة والتابعين، ليس فيها شيءٌ من ذلك، ولو أفتوا بشيءٍ من ذلك (155/ أ) لنُقِل كما نُقِل غيره، والذين صنَّفوا في الحيل من المتأخرين حَرَصوا على أثرٍ من ذلك يقتدون به، فلم يجدوا شيئًا من ذلك، ولله الحمد، إلا ما حُكي عن بعضهم من التعريض واللحن، وقولهم:"إنَّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب"

(1)

. و"الكلامُ أوسع من أن يكذب ظريف"

(2)

.

وليس هذا من الحِيل التي قلنا: إنها مُحْدَثة، فإن المعاريض عند الحاجة والتأويل في الكلام، والحلف من المظلوم بأن ينوي بكلامه ما يحتمله اللفظ وهو خلاف الظاهر، كما فعل الخليلُ صلى الله عليه وسلم

(3)

، وكما قال أبو بكر رضي الله عنه عن النبي: إنه رجلٌ يهديني السبيل

(4)

، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم للرَّجل الكافر الذي سأله: ممن أنت؟ فقال: "نحن من ماءٍ"

(5)

، إلى غير ذلك = أمرٌ جائز،

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة: (5/ 282)، والبخاري في "الأدب المفرد":(ص/ 297)، والبيهقي:(10/ 199) عن عمران بن حُصين رضي الله عنه.

(2)

أخرجه ابن عدي: (4/ 32)، والبيهقي في "الشعب":(4/ 232) من قول ابن سيرين.

(3)

فيما أخرجه البخاري رقم (3358)، ومسلم رقم (2371) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

أخرجه البخاري رقم (3911).

(5)

ذكره ابن إسحاق في "السيرة": (1/ ق 2/ 616).

ص: 64

وليس هذا من الأمور التي نحن فيها، فإن أكثر ما في ذلك: أنه كَتَم عن المخاطَب ما أراد معرفته، وأفْهَمه خلافَ ما في نفسِه، مع أنه صادق فيما عناه. والمخَاطَب ظالم في تعرُّف

(1)

ذلك الشيء، بحيث إن جهله بذلك خير له من معرفته، وهذا فِعْل خير ومعروف مع نفسه ومع المخاطَب، بخلاف الحِيَل التي مضمونها الاحتيال على محرَّم، إما بسببٍ لا يُباح [به] قط، أو يُباح [به] إذا قصدَ به مقصودَه الأصلي، أو للاحتيال على مباح بسببٍ محرَّم، أو على محرَّم بمحرَّم، فهذا الذي قلنا: إنه لم يكن في أصحاب رسولِ الله من يُفتي بها، بل [كان] من ينهى عنها

(2)

.

وأما الدلالة على الطريق التي يُنال بها الحلال، والاحتيال للتخلُّص من المأْثَم بطريقٍ مشروع يُقْصَد به ما شُرِع له؛ فهذا هو الذي كانوا يُفتون به، وهو من الدعاء إلى الخير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لبلال:"بِعِ الجَمْعَ بالدراهمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدراهِمِ جَنِيْبًا"

(3)

.

(1)

الأصل و (م): "تعريف" والمثبت من "الإبطال".

(2)

في "الإبطال": "بل كانوا ينهون عنها"، والأصل و (م):"بل من ينهى عنها" فأصلحناه بما هو مثبت.

(3)

لم أجد ما ذكره المصنف من قول النبي صلى الله عليه وسلم لبلال - وإن كان الحافظ ابن حجر قد ذكر نحوه في "الفتح": (12/ 342) في كتاب الحيل - أما قصة بلال فقد أخرجها مسلم رقم (1594) وهو أنه جاء بتمر بَرْنيّ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من أين هذا"؟ فقال بلال: تمر كان عندنا رديء، فبعتُ منه صاعين بصاع

فقال صلى الله عليه وسلم: "أَوَّه عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فَبِعْه ببيعٍ آخر، ثم اشتر به". =

ص: 65

فهذا يبيع بيعًا بتاتًا مقصودًا ويستوفي الثمن، ثم يشتري به ما أحبَّ من غير ذلك المشتري، فأما إن كان من ذلك المشتري، فإنهم كرهوه، حيث يكون في مظنة أن لا [يَبُتَّا]

(1)

البيعَ الأول، ورخَّص فيه من لم يعتبر ذلك.

قال محمد بن سيرين: كانوا يكرهون للرجل أن يبتاع من الرجل الدراهم بالدنانير ثم يشتري منه بالدراهم دنانير

(2)

.

والبيع طريق مشروع لحصول المُلْك ظاهرًا وباطنًا، بحيث لا يبقى للبائع فيه علاقة، فإذا سلك وقصد به ذلك، فهو جائز، وليس مما نحن فيه، فإنه لم يقصد به المقصود الشرعي.

وبالجملة؛ فقد نصبَ الشارعُ إلى الأحكام أسبابًا تُقْصَد لحصول تلك [الأحكام]

(3)

، فمن دلَّ عليها وأمر بها من يقصد الحلالَ، ليقصد بها المقصودَ الذي جُعِلت له؛ فهذا مُعِلِّم خير، وهذا هو الذي تقدم ذكره عن الإمام أحمد في أول الكتاب

(4)

، لما ذكَرَ: أن حيلة المسلمين أن يتَّبعوا ما شُرِع لهم، فيسلكوا في

= أما اللفظ الذي ذكره المصنف فهو من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما.

أخرجه البخاري رقم (2201)، ومسلم رقم (1592).

(1)

الأصل و (م): "يبتاع"، والمثبت من "الإبطال".

(2)

انظر: "مصنف عبد الرزاق": (8/ 129).

(3)

الأصل و (م): "الأسباب" والتصويب من "الإبطال".

(4)

(ص/ 27).

ص: 66

حصول الشيءِ الطريقَ الذي شُرِع لتحصيله، دُوْن ما لم يَقْصد الشارعُ به ذلك الشيء.

فثبت أن ذلك (155/ ب) - أعني: الحِيل - لم تُحْكَ عن أحدٍ من الصحابة، بل حُكي النهي عنها، فعُلِمَ اجتماعُهم على إنكارها وتحريمها، وهذا أبلغ في كونها بدعة محدَثه، فإن أقبح البدع ما خالفت كتابًا أو سنة أو إجماعًا.

وأيضًا: من المعلوم أن الطلاق الثلاث ما زال واقعًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه، وما زال المطلِّقون يندمون ويتمنون المراجعة، والرسولُ أنْصَحُ الناس لأمته، وكذلك أصحابه، فلو كان التحليل يُحِلُّها لأوشك أن يَدُلُّوا عليه - ولو واحدًا - فإن الدواعي إذا تَوَفَّرت على طلب فعلٍ مباحٍ، فلا بدَّ أن يوجد، فلَّما لم يُنقل ذلك، بل نُقِل الزجر عنه، عُلِم أنه لا سبيل إليه ألْبتة.

وهذه امرأة رِفاعة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن تزَوَّجت عبد الرحمن بن الزَّبِير وطلَّقها قبل الدخول، وجعلت تختلف إليه وإلى خليفتيه رضي الله عنهما تتمنَّى مراجعةَ رِفاعة، وهم يزجرونها عن ذلك

(1)

، وكأنها كرهت أن تتزوَّج غيرَه فلا يُطلِّقها، فلو كان التحليل ممكنًا لكان أنصح الأمة لها يأمرها أن تتزوّج بمحلِّل، فإنها لم تعدم من يبيتُ عندها ليلة ويُعطى شيئًا! ! .

فمن لم تَسَعْه السنة حتى تعدَّى إلى البدعة، وأطْلَقَ للناس

(1)

أخرج قصتها البخاري رقم (5260)، ومسلم رقم (1433).

ص: 67

ما لم يُطْلقه لهم الرسول مع وجود المقتضي للإطلاق؛ فقد جاء بشريعة ثانية، ولم يكن متبعًا للرسول، ومَرَقَ من الدين، فَلْينظر امرؤٌ أين يضع قدمه! .

وكذلك نعلمُ أنَّ التجارة كانت في القوم فاشية، والربحُ مطلوبٌ بكل طريق، فلو كانت هذه المعاملات جائزة لأوشكَ أن يفتوا بها، وكذلك الاختلاع

(1)

لحل اليمين.

وبالجملة؛ الأسباب المحوجة إلى هذه الحيل ما زالت موجودة، فلو كانت مشروعة لنبَّه الصحابةُ عليها، فلَمَّا لم يصدر منهم إلا الإنكار لجنسها عُلِم قطعًا أنها ليست من الدين، وهذا قاطع لا خفاء به لمن نوَّر اللهُ قلبَه، والله المستعان.

ولما ظهر الإفتاء بهذه الحِيَل في أواخر عصر التابعين، أنكر ذلك علماء ذلك الزمان، مثل: أيوب السَّخْتياني، وحماد بن زيد، ومالك بن أنس، وسفيان بن عُيَينة، ويزيد بن هارون، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الله بن المبارك، والفُضَيل، وشريك، والقاسم بن مَعْن، وحفص بن غِياث

(2)

.

وتكلَّم علماء ذلك العصر، مثل: أيوب، وابن عَوْن، والقاسم بن مُخَيمرة، والسفيانين، والحمَّادين، والأوزاعي، [و]

(3)

من شاء

(1)

كذا في الأصل و (م)، وفي "الإبطال":"الاحتيال".

(2)

وهؤلاء الثلاثة قضاة الكوفة.

(3)

من (م) و"الإبطال".

ص: 68

الله من العلماء = في الذين توسَّعوا فيها من أهل الكوفة وغيرهم بكلامٍ غليظ، لا يُقال مثلُه إلا عند ظهور بدعة لا تُعْرَف.

ومعلوم أنَّ هؤلاء وأمثالَهم سُرُج الإسلام، ومصابيح الهدى، وأعلام الدين، وأعلم أهل وقتهم، وأَعْرَف ممن بعدهم بالسنة الماضية، وأَفْقَه في الدين، وأورع في المَنْطِق. وقد كانوا يصفون من كان يُفتي بذلك: بأنه قَلَب الدينَ ظهرًا لبطن، ويترك الإسلام أرق من الثوب (156/ أ) السَّابِرِي

(1)

، وينقض الإسلام عُرْوة عروة، إلى أمثال ذلك.

وقد ذُكر عن بعض أهل الرأْي

(2)

: أن امرأةً أرادت أن تختلع من زوجها، فأبى، [فقيل]

(3)

لها: لو ارْتَدَدتِ بِنْتِ منه، فَفَعَلَت. فذُكِر ذلك لعبد الله بن المبارك، وقيل له: إن هذا في "كتاب الحِيَل"، فقال: من وضع هذا الكتاب فهو كافر، ومن سمع به فرضي به فهو كافر، ومن حمله من كُورةٍ إلى كُورة فهو كافر، ومن كان عنده ورَضِي به فهو كافر.

وقال إسحاق بن راهويه عن سفيان

(4)

بن عبد الملك: إن

(1)

الأصل و (م): "السابوري".

(2)

هو: أحمد بن زهير بن مروان، كما في أصله. وانظر:"تاريخ بغداد": (13/ 428).

(3)

الأصل: "قال"، و (م):"فقال" والمثبت من "الإبطال".

(4)

"الإبطال" و (م): "شقيق" وهو خطأ.

وهو: سفيان بن عبد الملك المروزي، صاحب ابن المبارك وتلميذه توفي =

ص: 69

ابن المبارك قال في قصة بنت أبي روح حيث أُمِرَت بالارتداد، وذلك في أيام غسان

(1)

، فغضب ابن المبارك وقال: أَحْدَثوا في الإسلام، ومن أَمَر بهذا فهو كافر، ما أرى الشيطان كان يُحْسِن هذا، حتى جاء هؤلاء فأفادها منهم، أو كان يُحْسِنها ولم يجد من يُمضيها فيهم حتى جاء هؤلاء.

وقال النضر بن شُمَيل: في "كتاب الحيل" ثلاث مئة وعشرون أو وثلاثون مسألة كلُّها كفر

(2)

.

وقال شريك في "كتاب الحيل": من يُخادع الله يخدعه.

وقال حفص بن غِياث: ينبغي أن يُكتب عليه: كتاب الفجور. يعني: كتاب الحِيل.

وقال حماد بن زيد: [سمعتُ أيوب يقول]

(3)

: وَيْلَهم من يخدعون؟ ! .

وقال يزيد بن هارون: لقد أفتى أصحابُ الحِيَل بشيءٍ لو أفتى به اليهود والنصارى كان قبيحًا.

وعن عبد الخالق بن منصور قال: سمعت أحمدَ بن حنبل

= قبل المئتين، ترجمته في "تهذيب التهذيب":(4/ 116)، و"تاريخ الإسلام":(وفيات 191 - 200، ص/ 189).

(1)

كذا في الأصل و (م)، و"الإبطال":"أبي غسان".

(2)

أخرجه الخطيب في "تاريخه": (13/ 427).

(3)

زيادة من "الإبطال".

ص: 70

يقول: من كان "كتاب الحيل" في بيته يُفتي به؛ فهو كافر بما أُنْزِل على محمد صلى الله عليه وسلم

(1)

. رواه أبو عبد الله السدوسي

(2)

والقاضي أبو يعلى.

وكلام الأئمة في ذلك كثير جدًّا لا يمكن ضبطه، ولا يسع هذا الموضع إيراد عُشره.

وقال رجلٌ للفضيل: إني إستفتَيْتُ رجلًا في يمين، فقال: إن فعلتَ ذلك حنثْتَ، وأنا أحتال لك فلا تحنث. فقال له: ارجع فاستَثْبِتْه، فإنِّي أظنه شيطانًا تصوَّر لك في صورة إنسان

(3)

.

وإنما اشتدَّ نكيرُ هؤلاء الأئمة في "كتاب الحيل"؛ لأن فيه الاحتيال على تأخير صوم رمضان وإسقاط الزكاة والحج، وإسقاط الشُّفعة، وحل الرِّبا، وإسقاط الكفَّارات في الصيام والإحرام والأَيْمان، وحِل السِّفاح، وفسخ العقود، وفيه الكذب وشهادة الزور، وإبطال الحقوق، وغير ذلك، وتعليم الردة لمن أرادت فراقَ زوجها، وهذه من أقبح ما فيه، إلى أشياء أُخر.

فلا يجوز نسبة شيءٍ من ذلك إلى أحد الأئمة، ومن نَسَب ذلك إليهم، فهو مخطئ في ذلك، جاهل بأُصول الفقهاء، وإن كانت الحيلة قد تنفذ على أصل بعضهم

(4)

.

(1)

ذكره ابن أبي يعلى في "الطبقات": (2/ 105) في ترجمة عبد الخالق بن منصور.

(2)

في "مناقب الإمام أحمد" كما في "الإبطال".

(3)

رواه ابن بطة في "كتاب الحيل" رقم (66).

(4)

وانظر بقية الكلام في "الإبطال": (ص/ 130) فهو مهم.

ص: 71

وقد انْتَسَب إلى بعض الأئمة قوم يخالفونهم في الأصول؛ مثل المعتزلة والجهمية وأرباب البدع، فلعلَّ ذلك إنما حصلَ منهم، وإنما ذكرنا مثل هذا الكلام

(1)

على كُرْهٍ شديدٍ مِنَّا؛ لما فيه من شبهه بالغيبة

(2)

، ولكن وجوب النصيحة اضطرنا إلى أن نُنَبِّه على ما عِيْبَ على بعض (156/ ب) المفتين من الدخول في الحِيَل، وليعلم أنها محدثة وبدعة، ونحن نرجو أن يعذر

(3)

الله لمن اجتهد فأخطأ.

حتى ذهب

(4)

هذا الداء إلى كثير من فقهاء الطوائف، حتى إن بعض أتباع الإمام أحمد بن حنبل - مع أنه كان من أبعد الناس عن هذه الحيل - تلَطَّخُوا بها، فأدْخَلها بعضُهم في الأيْمان، وذكر طائفةً من المسائل التي هي بأعيانها من أشد ما أنكره أحمد. وحتى اعتقد بعضُهم جواز خلع اليمين، وصِحَّة نكاح المحلِّل، وجواز بعض الحِيل الربوية.

وكَثُر ذلك في المنتسبين إلى الشافعي رضي الله عنه، وتوسَّع بعضُ أصحاب أبي حنيفة فيها توسُّعًا تدلُّ أصول أبي حنيفة على خلافه. وبعض الأئمة من أصحاب مالك تزلزل فيها، حتى رأى أنَّ القياسَ جوازُ بعضها، وحتى ألقوا في نفوس كثير من العامة أنها حلال، وأنها من دين الله! ! .

(1)

أي الكلام المتقدم فيمن أفتى بالحيل.

(2)

في "الإبطال": "لما يشبه الغيبة".

(3)

"الإبطال": "يغفر".

(4)

كذا في الأصل و (م)، وفي "الإبطال":"دَبَّ".

ص: 72

ومن شرح الله صدره للإسلام يكرهها وينفر قلبُه منها، والمفتي بغير علم يقول: هي حلال، وهذا جائز، وهذا لا بأس به! ! وهو مُخطئ في هذه الأقوال باتفاق العلماء، فإن أقلَّ درجات أكثرها الكراهة، وقد ذكرنا اتفاقَهم على كراهة التحليل.

ومنشأ هذه الحِيَل وأصلها من اليهود، فلهذا تجد الغاوي من المتفقِّهة متشبِّهًا بهم، وصار أهل الحيل تَعْلوهم الذِّلة والمسكنة لمشابهتهم

(1)

باليهود في بعض الأخلاق، ثم قد استطار شررُ هذه الحِيل حتى دخلت في أكثر أبواب الدين، وصارت معروفًا وردُّها منكرًا عند كثير ممن لا يعرف أمور الإسلام وأصوله.

وكلما رقَّ دينُ بعضِ الناس أحدثَ حيلةً، وأكثرها مما أُجْمِع على تحريمها، مثل تلقين بعض الشروطيين لمن يريدُ أن يملك ابنه أو غيره أن يُقر بذلك إقرارًا أو يجعله بيعًا

(2)

، وهذا حرام بالإجماع، فإنه كذب يضر الورثة. وحتى

(3)

إن بعض المتورِّعين من الشهود يحسب أن لا إثم عليه في الشهادة على ذلك، ولا ريبَ أن الشهادةَ على ما يُعلم تحريمه من عقدٍ أو إقرار أو حكم حرام؛ فقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكلَ الربا وموكلَه وشاهدَيه وكاتِبَه

(4)

.

ومثل ما أحدثَ بعضُ الحكام الدعوى المزوَّرة، وأول من

(1)

"الإبطال": "لمشاركتهم".

(2)

ويُشْهِد على نفسه بقبض الثمن.

(3)

انظر الكلام الذي قبله في "الإبطال": (ص/ 135).

(4)

أخرجه مسلم رقم (1598) من حديث جابر رضي الله عنه.

ص: 73

أحدثها بعض قضاة الشام قبل المئة السادسة، فيقولون: حكم بكذا بمحضر من خَصْمين، مع القطع أن الحاضرين لم يكونوا خَصْمَين، فإن الخصم المدَّعى عليه من إذا سكت لم يُترك، وذاك الحاضر لو سكت لما أُلْزِم

(1)

وادعى على رجلٍ آخر غيره، فإنما (157/ أ) الغَرَض أن يقول بلسانه: لا حقَّ لكَ قِبَلي، أو: لا أعلمُ صحةَ دعواك، أو يثبت ما ادعاه

(2)

، فتكون صورته صورة الخصم وليس هو بخصمٍ، وكذلك الآخر الذي يدعى أوَّلًا، إلى أمثال ذلك من الكذب والباطل الذي لا يجوز في دين الله تعالى.

ومن البدع

(3)

الجديدة: أن يريد الإنسان أن يقف على نفسه، فيعلمونه أن يقر بأنه وقف على الوجه الذي يريد أن يَقِفَه عليه، ويشهدون عليه ويحكمون بصحته، ولا يستريب مسلم أن هذا حرام، فإن الإقرار هو شهادة الإنسان على نفسه، فكيف يُلَقَّن شهادة الزور؟ ! .

ولهم حيلة أُخرى: يُمَلّكه لغيره، ثم يَقِفُه ذلك عليه، ولا شك أن هذا قبيح باطل، فإن حدَّ التمليك أن يرضى المُمَلِّك بنقل الملك إلى المُمَلَّك، بحيث يتصرَّف فيه بما يحِبّ، وهذا قد علم اللهُ وجميعُ الحاضرين أن المُمَلِّك لم يرض بأن يفعل فيه المُمَلَّك ما شاء غير الوقف على الوجه الذي تواطأ عليه، بل ملَّكَه بشرط أن

(1)

"الإبطال": "لو لم يُجب لادَّعى".

(2)

"أو يثبت ما ادعاه" ليست في "الإبطال".

(3)

"الإبطال": "الحيل".

ص: 74

يَقِفَه عليه، وهذا تمليك فاسد، ولو فَعَلَ غيرَ ذلك لعدَّه ماكرًا غادرًا، فيتكلَّم بالتمليك استهزاءً وتلاعُبًا بآيات الله وحدوده، وقد كان له مندوحة بأن يقلِّد من يرى وقْفَه على نفسِه

(1)

، أو يَقِفَه على غيره ويستثني المنفعةَ مدَّةَ حياته

(2)

، فإن تقليد بعض الأئمة خير من الكذب والخداع والزور.

فصلٌ

(3)

فإن قيل: هذه الحيل مما اختلف فيها العلماء، فإذا قلَّد الإنسانُ من يُفتي بها فله ذلك، ولا إنكارَ في مسائل الخلاف، لا سيما على من كان متقيِّدًا بمذهب من يرخِّص فيها أو قد تفقَّه فيها، ورأى أن الدليلَ يقتضي جوازَها، وقد شاع العملُ بها عن جماعاتٍ من الفقهاء، ويُعزى القولُ بها إلى مذهب أبي حنيفة والشافعي رضي الله عنهما.

وما قالَه مثل هؤلاء الأئمة لا ينبغي الإنكار البليغ فيه، لا سيما على من يعتقد أن الذين جوَّزوا ذلك أفضل من غيرهم، فإذا قلَّد العاميُّ أو المتفقِّه واحدًا منهم، إما على القول: إنه لا يجب على العامي الاجتهاد في أعيان المُفتين، أو على القول بوجوبه إذا ترجَّح عنده أن من قلَّده فيها هو الأفضل، فلا إنكار، إلا أن يُقال: إن المسألة قطعيَّة لا يسوغ فيها الاجتهاد، وهذا لا يمكن قوله؛ لأن

(1)

انظر "الإبطال": (ص/ 149).

(2)

انظر "الإبطال": (ص/ 138).

(3)

"فصل" ليست في "الإبطال".

ص: 75

فيه طعنًا على الأئمة بمخالفتهم القواطع.

ثم قد يُفضي ذلك إلى الخروج عن الائتلاف والخروج إلى الفرقة والاختلاف المنهيّ عنه، لا سيما ممن يحمله هوى دينه أو دنياه على ما هو أبلغ من ذلك، فتصيرُ مسائلُ الفقه من باب الأهواء، وهذا غير سائغ، وقد علمتم أن السلفَ كانوا يختلفون في الفروع مع بقاء الأُلفة وصلاح (157/ ب) ذات البين.

قلنا: نعوذ بالله - سبحانه - مما يُفضي إلى الوقيعة في أعراض الأئمة، أو انتقاصِ أحدٍ منهم، أو عدم المعرفة بمقاديرهم، أو محادَّتهم وترك محبتهم، ونرجو من الله أن نكون ممن يحبهم ويتوَّلاهم، ونعرف من حقوقهم وفضلهم ما لا يعرفه أكثر الأتباع، وأن يكون نصِيْبُنا من ذلك أوفر نصيب وأعظم حظٍّ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ولكن دين الإسلام إنما يتم بأمرين:

أحدهما: معرفةُ فضل الأئمة وحقوقهم وقدرهم، وترك كل ما يجرُّ إلى ثَلْبهم.

والثاني: النصيحةُ لله - سبحانه - ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وإبانة ما أنزل الله من البينات والهدى، ولا منافات إن [شاءَ] اللهُ - سبحانه - بين القسمين لمن شرح الله صدره، وإنما يضيقُ عن ذلك أحدُ رجلين؛ رجلٌ جاهل بمقاديرهم

(1)

، أو رجل

(1)

ومعاذيرهم.

ص: 76

جاهل بالشريعة وأصول الأحكام، وهذا المقصود يتلخَّص بوجوه:

أحدها: أن الرجل الجليل الذى له في الإسلام قَدَم صالح وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكانةٍ عُليا، قد يكون منه الهفوةُ والزلَّةُ، هو فيها معذور بل مأجور، ولا يجوز أن يُتْبع فيها، مع بقاء مكانته ومنزلته في قلوب المؤمنين.

قال ابنُ المبارك: ولقد أخبرني المعتمر بن سليمان قال: رآني أبي وأنا أنشد الشعر، فقال لي: يا بني لا تُنْشد الشِّعر، فقلت له: يا أبه كان الحسن يُنشد، وكان ابن سيرين يُنشد، فقال لي: يا بُني إن أخذت بشَرِّ ما في الحسن وبِشَرِّ ما في ابن سيرين، اجتمعَ فيك الشرُّ كلُّه.

وهذا أمر متفق عليه، فإنه ما من أحدٍ من أعيان الأمة من السابقين الأولين ومن بعدهم إلا لهم أقوال وأفعال خفي عليهم فيها السنة، وهذا باب واسع لا يُحصى، مع أنَّ ذلك لا يغضُّ من أقدارهم، ولا يسوِّغ اتّباعهم فيها، كما قال - سبحانه -:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59].

قال مجاهد والحكم بن عُتَيْبَة ومالك وغيرهم: ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويُتْرك إلا النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

.

وقال سليمان التيمي: إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع

(1)

أخرجه البيهقي في "المدخل للسنن الكبرى": (ص/ 107)، وابن عبد البر في "الجامع":(2/ 925) عن مجاهد، وأخرجه ابن عبد البر عن الحكم.

ص: 77

فيك الشرُّ كله

(1)

.

قال ابن عبد البر: هذا إجماع لا أعلم فيه خلافًا

(2)

.

وقد رُوِي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنِّي لأخافُ على أُمَّتي من بعدي من أعمال ثلاثة" قالوا: وما هي؟ قال: "أخافُ عليهم من زَلَّةِ العالم، ومن حكم جائرٍ، ومن هوًى مُتَّبَعٍ"

(3)

.

وقال عمر: "ثلاثٌ يَهْدِمن الدين: زلَّةُ عالمٍ، وجدال منافقٍ بالقرآن، وأئمة مُضِلُّون"

(4)

.

وقال أبو الدرداء: "إنَّ مما أخشى عليكم: زلةُ العالم، وجدالُ المنافق بالقرآن"

(5)

.

وكان معاذ بن جبل يقول في خطبته كلَّ يوم: "هَلَك المرتابون، إن وراءكم فتنًا يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن حتى يقرأه المؤمن والمنافق (158/ أ) والمرأة والصبي والأسود والأحمر، فيوشك أحدُهم أن يقول: قد قرأتُ القرآنَ، فما أظن أن يتبعوني حتى ابتدع لهم غيرَه، وإياكم وما ابتدع، فإن كلَّ بدعة ضلالة، وإياكم وزيغةَ الحكيم، فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم

(1)

أخرجه ابن عبد البر: (2/ 927)، وانظر:"الحلية": (3/ 32).

(2)

في "الجامع": (2/ 927).

(3)

أخرجه البزار "الكشف": (1/ 103)، والطبراني في "الكبير":(17/ 17)، وابن عبد البر في "الجامع":(2/ 978)، وفيه: كثير بن عبد الله المزني ضعيف.

(4)

أخرجه ابن عبد البر: (2/ 979 - 980).

(5)

أخرجه ابن عبد البر: (2/ 980).

ص: 78

بكلمة الضلالة، وإن المنافق قد يقول كلمةَ الحق، فتلقَّوا الحقَّ عمن جاء به، فإن على الحق نورًا.

قالوا: وكيف زَيْغَة الحكيم؟ قال: هي كلمة تَرُوْعُكم وتنكرونها، وتقولون: ما هذه؟ ! فاحذروا زيغتَه ولا تصدَّنكم عنه، فإنه يوشك أن يفيء وأن يراجعَ الحقَّ، وأن العلمَ والإيمان مكانَهما إلى يوم القيامة، فمن ابتغاهما وجدهما"

(1)

.

وعن ابن عباس قال: "ويلٌ للاتباع من عثرة العالم". قيل: كيف؟ قال: "يقول العالم برأيه، ثم يجد من هو أعلمُ برسولِ الله منه فيتْرُك قولَه ذلك، ثم يمضي الأتباعُ"

(2)

.

وكذا رُوِي عن غير واحدٍ من الصحابة، فهذه آثار مشهورة رواها ابن عبد البر وغيره، فإذا كان قد حذرنا

(3)

زلة العالم، وأمرنا مع ذلك أن لا نَرجع عنه، فالواجب على من شرح الله صدرَه للإسلام إذا بلغته مقالةٌ ضعيفةٌ عن بعض الأئمة أن لا يحكيها لمن يتقلَّدُها، بل يسكت عن ذكرها إن تيقَّنَ صحتَها وإلَّا توقَّف في قبولها.

فما أكثر ما يُحكى عن الأئمة ما لا حقيقةَ له، وكثير من المسائل يُخْرِّجُها بعضُ الأتباع عن قاعدة متبوعه، مع أن ذلك الإمام لو رأى

(1)

أخرجه عبد الرزاق: (11/ 363)، وأبو داود رقم (4611) مختصرًا، والحاكم:(4/ 460)، وابن عبد البر:(2/ 981) وغيرهم.

(2)

أخرجه ابن حزم في "الإحكام": (3/ 256)، والبيهقي في "المدخل":(1/ 445)، وابن عبد البر:(2/ 984).

(3)

"الإبطال": "فإذا كنا قد حُذِّرْنا .. ".

ص: 79

أنها تُفضي إلى ذلك لما التزمها، ومن عَلِمَ فِقة الأئمة وورعَهم عَلِم أنهم لو رأوا هذه الحيل وما أفضت إليه من التلاعُب بالدين = لقطَعَ بتحريمها من لا

(1)

يقطع به أوَّلًا.

الوجه الثاني: أن الذين أفتوا من العلماء ببعض الحِيَل، أو أُخِذَ ذلك من بعض قواعدهم، لو بلغهم ما جاء في ذلك عن رسول الله وأصحابه؛ لرجعوا عن ذلك يقينًا، فإنهم كانوا في غاية الإنصاف، وكان أحدُهم يرجع عن رأيه بدون ما في هذه القاعدة، وقد صرَّح بذلك غير واحد منهم، وإن كانوا مُجْمعين على ذلك.

قال الشافعي: إذا صحَّ الحديثُ فهو مذهبي، وقال: إذا صحَّ الحديث فاضربوا بقولي الحائط

(2)

.

وهذا لسانُ حال الجماعةِ كلِّهم.

الوجه الثالث: أن القولَ بتحريم الحِيل قطعيّ ليس من مسائل

(3)

الاجتهاد كما قد بيَّناه، وبيَّنا إجماع الصحابة على المنع منها بكلامٍ غليظ يُخْرِجها عن مسائل الاجتهاد، واتفاق السلف على أنها بدعة مُحْدَثة، وكلُّ بدعةٍ تخالف السنة أو آثار الصحابة؛ فإنها ضلالة، وهذا هو منصوص الإمام أحمد بن حنبل وغيره، وحينئذٍ (158/ ب) فلا يجوز تقليدُ من يفتي بها، ويجب نقضُ حكمه، ولا تجوز

(1)

"الإبطال": "من لم".

(2)

انظر "السير": (10/ 35).

(3)

"الإبطال": "مسالك".

ص: 80

الدلالة لأحدٍ من المقلِّدين على من يُفتي بها، مع جواز ذلك في مسائل الاجتهاد، وقد نصَّ أحمد على هذه المسائل في مثل هذا، وإن كنا نعذر من اجتهد من المتقدمين في بعضها.

وهذا كما أن أعيان المكيين والكوفيين لا يجوز تقليدُهم في مسألة المتعة والصَّرْف والنبيذ ونحوها، بل عند فقهاء الحديث: أن من شرب النبيذَ المختَلَف فيه حُدَّ وإن كان متأوِّلًا، واختلفوا في ردِّ شهادته؛ فردَّها مالك دون الشافعي، وعن أحمد روايتان، مع أن الذين قالوا بالصَّرف والمتعة معهم سنَّة صحيحة، لكن سنة المتعة منسوخة، وحديث الصَّرف يُفَسِّره سائر الأحاديث، فكيف بالحيل التي لا أصل لها ألْبتة، بل السنة والآثار تخالفها؟!.

وقولهم: مسائل الخلاف لا إنكار فيها؛ ليس بصحيح، فإن الإنكار إما أن يتوجَّه إلى القول بالحكم أو العمل.

أما الأول: فإذا كان القول يخالف سنةً أو إجماعًا قديمًا؛ وجب إنكارُه اتفاقًا، وإن لم يكن كذلك، فإنه يُنكَر، بمعنى: بيان ضعفه عند من يقول: المصيْبُ واحد، وهم عامَّةُ السلف والفقهاء.

وأما العمل: فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع؛ وجب إنكارُه - أيضًا - بحسب درجاتِ الإنكار، كما ذكرناه من حدِّ شارب النبيذ، وكما يُنْقَض حكم الحاكم إذا خالف سنةً، وإن كان قد اتبع بعض العلماء.

وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع، وللاجتهاد فيها

ص: 81

مَسَاغ؛ لم يُنْكَر على من عمل بها مجتهدًا أو مقلِّدًا، وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف من الناس.

والصواب: أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليلٌ يجبُ العملُ به وجوبًا ظاهرًا، مثل حديث صحيح لا معارضَ له من جنسه، فيسوغ إذا عُدِم ذلك فيها الاجتهاد، فقد تيقَّنَّا صحة كثير من

(1)

أحد القولين، وليس فيه طعن على أحدٍ خالفها، مثل كون الحامل المتوفَّى عنها عدتُها وضع الحمل، وأن الجماع المجرَّد [عن إنزال] يوجب الغُسْلَ، وأن ربا الفضل والمتعة حرام، والنبيذ حرام، وأن السنة في الركوع الأخذ بالرُّكَب، وأن ديةَ الأصابع سواء، وأن يد السارق تُقْطع في ثلاثة دراهم، وأن البائع أحق بِسِلْعته إذا أفْلَس المشتري، وأن المسلم لا يُقتل بالكافر، ونحوه كثير جدًّا، من المسح على الخُفَّيْن

(2)

.

فمن بلغه ما في هذا الباب من السنة التي لا معارضَ لها، فليس له عند الله عُذْر بتقليد من ينهاه عن تقليده، ويقول: إذا صحَّ الحديث فلا تَعْبأ (159/ أ) بقولي.

ولو لم يكن في الباب أحاديث لَعَلم المؤمن بالاضطرار أن

(1)

كذا في الأصل و (م) وانظر "إعلام الموقعين": (4/ 288)، وفي "الإبطال":"صحة أحد القولين".

(2)

كذا في الأصل و (م)، وهي في "الإبطال" في سياق المسائل التي تيقنا فيها صحة أحد القولين، ولفظه:"وأن المسح على الخفين حضرًا وسفرًا".

ص: 82

محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يكن ممن يُعَلِّم هذه الحيل ويفتي بها ولا أصحابه، وأنها لا تليق بدين الله أصلًا.

الوجه الرابع: أنا لو فرَضْنا أن الحيل من مسائل الاجتهاد، كما يختاره في بعضها طائفةٌ من أصحابنا وغيرهم، فإنَّا إنما بيَّنا الأدلة الدالة على تحريمها، كما في سائر مسائل الاجتهاد، فأما جواز تقليد من يخالف فيها وتسويغ الخلاف فيها، وغير ذلك، فليس هذا موضعَ الكلام فيه، وليس الكلام في هذا مما يختص هذا الضرب من المسائل، ولا يحتاج على هذا التقدير أن يُجاب عن السؤال، وحينئذٍ فمن وضح له الحق؛ وَجَبَ عليه اتباعُه، ومن لم يتَّضِح له؛ فحكمه حكمُ أمثاله في أمثال هذه المسائل.

الوجه الخامس: أن المتأخرين أحدثوا حِيَلًا لم يصح القول بها عن أحدٍ من الأئمة، ونسبوها إلى مذهب الشافعيِّ وغيره، وهم مخطئون في نسبتها إليه على الوجه الذي يدَّعونه، يعرفُ ذلك من عرف نصوصَ الشافعي وغيره.

فإن الشافعيَّ ليس معروفًا بأن يفعل الحيل ولا يدل عليها، بل يكرهها وينهى عنها، بعضُها كراهةَ تحريم وبعضُها تنزيه، وأكثر الحيل المضافة إلى مذهبه من تصرُّف بعضِ المتأخِّرين من أصحابه، تلقَّوْها عن المشرقيين.

نعم، الشافعي يُجْري العقود على ظاهرها من غير سؤال للعاقد عن مقصوده، كما يُجري أمر من ظهرت زندقتُه على ظاهر الأمر إذا تاب، فيقبل توبتَه، وكما يُجري كنايات القذف وكنايات

ص: 83

الطلاق على ما يقول المتكلِّم إنه مقصوده، من غير اعتبارٍ بدلالة الحال، وأُخِذَ

(1)

من كلامه عدمُ تأثير العقد في الظاهر بما يسبقه من المواطأة، وعدمُ فساده بما يقارنه من النِّيَّات، على خلافٍ عنه في هذين الأصلين.

أما أنه يأمر بالكذب والخداع، وبما لا حقيقة له، وبشيءٍ يتيقَّنُ أنَّ باطنَه خلاف ظاهره، فما ينبغي أن يُحكى هذا عن مثل الشافعي، فإن هذا ليس هو

(2)

في كتبه، وإنما غايته أن يوجد في قاعدةٍ، وربما لو عَلِمَ أن هذه القاعدة تجرُّ إلى ذلك لما قعَّدَها ولما قَبِلَها، فمن رعايةِ حقِّ الأئمة أن لا يُحْكى هذا عنهم.

ولهذا كان الإمام

(3)

يكره أن يُحكى عن الكوفيِّين والمدنيِّين والمكيِّين المسائل المستقبحة، مثل: مسألة النبيذ والصرف والمتعة، ومحاشّ النساء = إذا حُكِيت لمن يُخاف أن يقلِّدَهم فيها أو ينتَقِصَهم بسببها.

وفَرْقٌ بين أن آمر بشئٍ وأفعله

(4)

، وبين أن أقبل من غيري ظاهرَه، قال الإمام أبو عبد الله بن بطَّة

(5)

: سألت أبا بكر الآجُرِّي عن الخُلْع الذي يُفتي به الناس - يعني: حل اليمين - فقال: سألت

(1)

أي: ما سبق.

(2)

ليست في "الإبطال" وهو أنسب.

(3)

أي: أحمد بن حنبل.

(4)

"الإبطال": "أو أفعله".

(5)

في "إبطال الحيل": (ص/ 69 - 71).

ص: 84

أبا عبد الله الزبيري (159/ ب) كما سألتني، فقال: هذا لا أعرفه من قول الشافعي، ولا بلغني أن له في هذا قولًا معروفًا، ولا أرى من يدعي هذا عنه إلا محيلًا.

وأبو عبد الله الزبيري أحد الأئمة الأعلام من أصحاب الشافعي

(1)

رضي الله عنه.

* * *

(1)

عبارة شيخ الإسلام: "من قدماء أصحاب الشافعي".

وهو: الزبير بن أحمد بن سليمان الزُّبيري، نسبة إلى الزبير بن العوام رضي الله عنه من أئمة الشافعية، له تصانيف، توفي (317).

"تاريخ بغداد": (8/ 71)، و"طبقات الشافعية الكبرى":(3/ 295 - 297).

ص: 85