الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
آدم تذكيرا لهم بأعظم نعمه؛ ليستدلوا به على وحدانية المنعم من حيث إنه لا يقدر عليه غيره، فإن تذكير النعمة يوجب المحبة، وترك المنازعة، وحصول الانقياد، ويدعو إلى مقابلتها بالشكر لمنعمها.
وتخصيص نعمة الوجود، وما تتوقف عليه الحياة من المسكن والمعاش لكونها أدعى إلى التفكير فى أن هذه النعم المخلوقة لا يقدر على إيجاد شىء منها إلا خالق ليس كمثله شىء، حتى يتيقنوا بأن ربهم إله واحد منزه عن الشركاء والأنداد، ولا يجعلوا شيئا من المخلوقات ندا له، وهم يعلمون أن شيئا منها لا يقدر على نحو ما هو قادر عليه.
أما الثانى: وهو نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم:
فقد أفصح له سبحانه بقوله: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا [البقرة:
23]، ففي هذه الآية الكريمة احتجاج قائم على نفى الريب عن القرآن، وهو يتضمن فى الوقت نفسه الاحتجاج على صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما ادعاه من النبوّة؛ لأن حقيقة القرآن تستلزم ذلك، فكانت هذه الآية من دلائل النبوّة بهذا الاعتبار.
والآية تعلم الكافة بنبوّة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من حيث القرآن المعجز بفصاحته وإفحامه من طولب بمعارضته، إلا أنهم لقصور نظرهم لم يتفطنوا لإعجازه، وقالوا: إنه مختلق مفترى، ويبعد كونه كلام الله تعالى؛ لأنه لو كان من عند الله تعالى، لأنزل جملة واحدة مخالفا ما يكون من عند الناس؛ لأن ما يوجد عندهم من الكلام المنظوم والمنثور إنما يوجد مفرقا منجما حينا بعد حين، شيئا بعد شىء، حسبما يعنّ لهم من الأحوال المتجددة والحاجات السانحة.
فلما رأوا القرآن العظيم هكذا نجوما، سورة بعد سورة، وآيات بعد آيات، حسب النوازل، وكذا الحوادث، قالوا: هذا لا يشبه كلام الله تعالى، وإنا لفى شك منه مريب؛ لأنه لو كان كلام الله تعالى لأنزله جملة واحدة على خلاف عادة الناس، كما حكى الله تعالى عنهم بقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الفرقان: 32]، فأنزل الله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ
…
[البقرة: 23] الآية، أى إن ارتبتم فى هذا الذى نزل على التدريج، فهاتوا أنتم نجما من نجومه، فإنه أيسر عليكم من أن ينزل دفعة، فيتحدى بالمجموع، فيكون التحدى حينئذ بكل القرآن لا ببعضه كما
هو الحال فى نزوله منجما، فقد جعل ما اتخذوه وسيلة إلى القدح وسيلة إلى تبكيتهم وإلزامهم، وهى غاية التبكيت والإلزام، فإنهم طولبوا مرة بأن يأتوا بمثل هذا القرآن بقوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [الإسراء: 88].
ومرة بأن قيل لهم: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ [هود: 13]، فالحجة فى إثبات نبوّته، عليه الصلاة والسلام، هى القرآن، إلا أنهم لما ارتابوا فى حجته، وطعنوا فيه باحتمال كونه مفترى، أزال شبههم بهذه الآية التى بيّن بها إعجازه، فإنهم إذا عجزوا عن الإتيان بما يوازى أقصر سورة منه، ظهر كذبهم فى تجويز الاختلاق والافتراء، وتبين كونه من عند الله تعالى، كما يدعيه من نزل عليه، وقد عرفهم الله تعالى بهذه الآية ما يتعرفون به إعجازه وكونه نازلا من عند الله تعالى كما يدعيه من نزل عليه، وهو أن يمتحنوا أنفسهم ويجربوا طبائعهم هل يقدرون على إتيان ما يوازى أقصر سورة مما أتى به من لم يكتب، ولم يقرأ، ولم يخالط القراءة.
فهو تعالى لما بين بهذه الآية ما هو الحجة على نبوّته، عليه الصلاة والسلام، بعد ذكره الحجة على وحدانيته، صارت الآيتان بمنزلة أن يقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وأما الثالث: وهو ثبوت المعاد:
فإن الله تعالى ذكر الدليل عليه بقوله سبحانه: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [البقرة: 24]، أى فاتقوا الفساد المستلزم له دخول النار، فاتقاء النار كناية عن اتقاء الفساد المستلزم له.
وبيان ذلك وإيضاحه: أنه تعالى لما بيّن لهم ما يتعرفون به أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وما جاء به، وميز لهم الحق من الباطل، رتب عليه ما هو كالخلاصة والفذلكة له، وهو أنكم إذا اجتهدتم فى معارضته وعجزتم جميعا عن الإتيان بما يساويه أو يدانيه، ظهر أنه معجز، والتصديق به واجب، فآمنوا به واتقوا العذاب المعد لمن كذب، وفى هذا إثبات للمعاد من حيث إنهم لن تكون منهم معارضة أبدا، وعليه فالواجب عقلا ومنطقا أن يصدقوا بالقرآن وبكل ما جاء فيه مما يعم الوعد والوعيد فى دار البقاء.
ولا بدّ لنا من أن نبين، ونحن فى هذا المقام، كيف أفاد لفظ النَّاسُ فى الآية السابقة العموم، فنقول: استدل العلماء على أن الجموع المحلاة بالألف واللام نحو:
الرجال، والنساء، وأسماء الجموع نحو: القوم، والرهط، والناس تفيد العموم والاستغراق بثلاثة أوجه:
الوجه الأول: صحة الاستثناء منها، وقد تقرر أن الاستثناء لا يكون إلا من العام؛ لأنه يخرج ما لولاه لدخل، فلو قلت: رأيت الناس، لصح استثناء كل واحد من أفراد الناس من الناس، ولو قلت: كلمت القوم، لصح استثناء كل واحد من أفراد القوم من القوم، قال تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ [الحجر: 42]، فإنه استثنى من الجمع
المضاف إلى المعرفة، فعلم أنه للعموم كالجمع المحلى بالألف واللام.
الوجه الثانى: أنه يصح تأكيدها بما يفيد العموم، كقوله سبحانه: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [الحجر: 30]، والتأكيد تقرير ما يفيده المتبوع، فلو لم يكن لفظ الْمَلائِكَةُ للعموم لما كان قوله: كُلُّهُمْ تأكيدا له.
الوجه الثالث: استدلال الصحابة بعمومها من غير نكير، فإنه لما وقع الاختلاف بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أمر الخلافة، فقال الأنصار: منا أمير، ومنكم أمير، تمسك أبو بكر، رضى الله تعالى عنه، بقوله صلى الله عليه وسلم:«الأئمة من قريش» ، ولم ينكره أحد، يعنى أن جمهور الصحابة، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، سلموا أن الجمع المعرف بالألف واللام، وهو لفظ الأئمة الواقع فى الحديث يفيد العموم والقصر عليهم.
وبناء على هذا فكلمة النَّاسُ فى الآية الكريمة تعم الموجودين وقت النزول عموما مستفادا من النظر إلى جانب اللفظ، واعتبار كونه موضوعا للعموم مع قطع النظر عن القرائن الخارجية، بخلاف من سيوجد بعد وقت النزول، فإن لفظ النَّاسُ وإن كان يعمهم أيضا، إلا أن عمومه ليس بجهة لفظ فقط، بل بالنظر إلى القرينة الخارجية، وهو ما تواتر من دينه، عليه الصلاة والسلام، أن مقتضى خطابه وأحكامه شامل للقبيلين، ثابت إلى قيام الساعة، إلا ما خصه الدليل وأخرجه عن الدخول تحت مقتضى خطابه وأحكامه ممن لا يفهم الخطاب كالصبى، والمجنون، والمغمى عليه، والناسى، ومن لا يقدر على إتيان المأمور به وترك المنهى عنه.
وإنما كان لفظ النَّاسُ فى هذه الآية لا يتناول بجهة لفظه من سيوجد بعد وقت الخطاب؛ لأنه خطاب مشافهة، فهو لا يتعلق بالمعدوم، وإنما يتعلق بمن وجد فى ذلك العصر، ولا يثبت الحكم لمن وجد بعدهم إلا بدليل آخر، نصا كان، أو إجماعا، أو قياسا، فإنا قد عرفنا بالتواتر كما تقدمت الإشارة إليه آنفا أن الخطابات المتعلقة بالموجودين فى عصر النبوّة ثابتة فى حق من سيوجد بعد ذلك إلى قيام الساعة.
هذا ولا ينافى عموم لفظ النَّاسُ الشامل للمؤمن والمنافق، ما روى عن علقمة والحسن، وهما تابعيان جليلان، أن كل حكم وخطاب نزل فيه: يا أَيُّهَا النَّاسُ [البقرة: 21] فمكى، ويا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة: 104] فمدنى، فإنه يدل على تخصيص الناس بالكفار الكائنين بمكة، لأنا نقول: إن كان ذلك رأيا لهما، فلا يعترض به على عموم لفظ الآية، وإن كان مرفوعا إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فلا يوجب تخصيصه بالكفار، فإن كونه مكيا لا يوجب كون الخطاب متوجها إلى من فى مكة من الكفار فقط؛ لأن أهل مكة ليسوا بمشركين جميعا، بل منهم من هو مؤمن خالص.
وقد يقال بناء على هذا العموم: كيف يوجه الأمر بالعبادة إلى الكفار، وليسوا مكلفين بها حال كفرهم؛ لانتفاء شرط صحتها، وهو الإيمان، وهذا الحكم متفق عليه بين الأئمة الشافعية والحنفية.
فنقول: أن أمر الكفار بالعبادة معناه أمر بتحصيل شرطها، وهو الإسلام، كأنه قيل لهم: حصلوا أولا شرط العبادة، ثم ائتوا بها، فإن الأمر بالشىء يتضمن الأمر بإتيان ما يتوقف عليه أيضا، كما إذا أمر المحدث بالصلاة، فإنه مأمور بالتوضؤ أيضا ضمن أمره بالصلاة ضرورة أن وجوب الشيء يوجب وجوب ما لا يتم ذلك الشيء إلا به، وقد يقال أيضا، بناء على هذا العموم: أن خطاب اعْبُدُوا على تقدير عمومه لفرق المكلفين من مؤمنين، وكافرين، ومنافقين، يستلزم إما استعمال اللفظ المشترك فيما وضع له عموما، وإما عموم المجاز، فإن العبادة التى أمر بها كل فريق غير العبادة التى أمر بها الفرق الباقية.
فنقول: استعمل لفظ اعْبُدُوا فى المعانى المختلفة للفظ العبادة، وظاهر أن أحداث العبادة فى المستقبل معنى حقيقى له، فإن كانت المعانى الأخرى كذلك يلزم الأمر الأول، وإلا يلزم الأمر الثانى، فإن المأمور به هو القدر المشترك بين تلك المعانى، وليس له معان متعددة حتى يلزم أحد المحظورين، بل له معنى واحد وهو القدر المشترك بين أفراده، فالمطلوب على هذا من المؤمن، والكافر، والمنافق، قدر مشترك بينها، وهو الاتجاه إلى الله تعالى، فيكون معناه بالنسبة للكفار، إحداث العبادة بعد تحصيل شرطها على ما تقدم، وبالنسبة للمؤمن زيادته فى العبادة واستمراره فيها، وبالنسبة للمنافق تخليص قلبه من غير الله تعالى.
وإذا ما قيل بعد هذا: أن سورة البقرة مدنية باتفاق، قلنا معناه: أن أغلبها لا كلها، أو إن القاعدة أكثرية لا كلية، فقد يكون بعض السور مدنيا وفيه: يا أَيُّهَا النَّاسُ كسورة البقرة، وقد يكون بعض السور مكيا وفيه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كسورة الحج.
تأكيد وتقرير لهذه المطالب الثلاث:
نعم أكد القرآن الكريم هذه المطالب الثلاثة، حيث أورد الله تعالى عقب تلك المطالب تعداد النعم العامة لجميع بنى آدم، حيث قال جل شأنه: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ إلى قوله سبحانه: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة: 28، 29]، فقد سيقت هاتان الآيتان تعدادا لنعم بنى آدم، وهذه النعم تقرر دليل الوحدانية من حيث إنها أمور حادثة لا بدّ لها من محدث منفرد بوجوب الوجود، وصفات الكمال، وتقرر دليل المعاد أيضا من حيث إن تلك النعم مشتملة على خلق الإنسان وأصوله، فإنهم كانوا فى الأصل أجساما لا حياة لها، عناصر وأغذية، وأخلاطا نطفا ومضغا مخلّقة وغير مخلّقة، تامة الخلق، وغير تامة الخلق، ثم أحياها الله تعالى بخلق الأرواح ونفخها فيها، ومشتملة على خلق ما هو أعظم من ذلك، وهو ما فى الأرض والسموات، ولا شك أن من قدر على خلق هذه الأمور ابتداء قادر على خلقها إعادة.
وأما تقرير نبوّة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فيؤكده ويقرره قوله تعالى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: 30]، إلى آخر القصة من حيث إن نبينا، عليه الصلاة والسلام، أخبر عن أحوال آدم وحواء، وما وقع لهما من الحوادث والجزئيات التى لم يقف عليها إلا من له المعرفة بالكتب السماوية، فإنها مذكورة فيها،
وهو عليه الصلاة والسلام، نشأ بين قوم أميين ولم يعرف بالاختلاف إلى أحد من أهل الكتاب، ولم يكن له معرفة بألسن الذين ذكرت القصص فى كتبهم، ولم يغترب عن وطنه مدة يمكن التعلم منها، ولم يوجد النكير ممن له المعرفة بالكتب فى شىء مما أخبر به.
فدل ذلك على أنه علم من طريق الوحى من الله تعالى إليه، فكان ذلك دليلا قطيعا على نبوّته، إذ لا يعلم الغيب إلا الله تعالى ومن ارتضاه لرسالته، فيظهر الغيب عليه ليبلغه إلى الخلق لينتفعوا بما فيه من إصلاح دينهم ودنياهم.
ولا شك بعد هذا البيان والإيضاح، أن القرآن حجة بينة عامة شاملة، لا تختص بطائفة دون أخرى، ولا مذهب دون سواه، من حيث إنه نزل وهو يحمل فى طيه وبين ثناياه الدليل على أنه من عند الله تعالى، حيث إن أحدا لم يستطع أن يحاكيه، ولا أن يعارضه فى أى ناحية من النواحى فى نظمه ومعانيه، فى تشريعه وأحكامه، فى قصصه وأخباره، فكان ذلك حجة بالغة وآية بينة لكل مكلف فيما طلب إليه أن يقوم به من عقيدة، وامتثال أمر، واجتناب نهى.
نعم، عجز الكل عن معارضته وهم يرونه مكتوبا، ويسمعونه مقروءا بلسان عربى مبين، فليس هو من الأحاجى والألغاز، ولا من الطلاسم والأسرار، وليس محجوبا عنهم ولا خافيا عليهم.
وكم تكرر وصف الله تعالى له بأنه كتاب مبين، وبأنه قرآن عربى، عجزوا عن معارضته، وهو يصف من كذب به بأنه أصم، وأبكم، وأعمى، وأنه فى الظلمات ليس بخارج منها، وأنه شر من الدواب، وأن له فى الآخرة نار جهنم لا يموت فيها ولا يحيى.
عجزوا عن معارضته وهو يبين أن أعمال الخير الصادرة ممن كفر به: كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً [النور: 39]، فما كان أيسر لهم أن يعارضوه لو استطاعوا ليزيلوا عن أنفسهم هذه النقائص، ويريحوا أفئدتهم من هذا العناء، ويخلصوا وجودهم من هذا الشقاء المضنى الأليم.
عجزوا عن معارضته وهو يقول لهم: لَنْ تَفْعَلُوا المعارضة ولن تستطيعوها، فأربى بذلك على الغاية، وأتى على ما فوق النهاية، كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1].
عجزوا عن معارضته وهو يقول فى محكم آياته: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء: 82]، ويقول: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد: 24].
فهو يأمرهم بمقتضى هذه الآيات أن يتدبروه، وأن يتفهموه، وأن ينظروا فيه حتى لا تبقى لهم شبهة يتعللون بها، ولا وهم يتمسكون به، يعنى فالقرآن العظيم مصدق لنفسه فيما جاء به من نفائس علم التوحيد، وحقائق علم الأحكام، وأسرار قصص الأولين، بسبب الإعجاز الذى هو حقيقة من حقيقته، وركن من أركان معناه، وهذا ما يجب ألا
يغيب عن البال، وأن يكون فى قرارة كل نفس مؤمنة بالقرآن.
فالملحد حين يقول: إنى لا أومن بما جاء فى القرآن من حقائق وعلوم، إلا إذا ثبت ذلك عندى بالدليل العقلى، نقوله له: إن القرآن يحمل معه الدليل العقلى على أنه من عند الله تعالى، وهو تحديه لكل الخلائق وعجزهم عن المعارضة كما بينا، فهات ما عندك من المعارضة، وإلا فأنت محجوج بالبرهان الصادق، وملزم بالدليل الصحيح.
وإن لم يكن فى استطاعتك وحدك أن تأتى بالمعارضة، فضم إلى نفسك من يساويك، أو أعلى منك من عموم الإنس والجن إن أمكنك، ونعلمك من الآن أنكم جميعا عاجزون مقهورون، فسلم دون مكابرة، ولا معاندة، واعلم أنه تنزيل من رب العالمين، وسيبقى القرآن كذلك غالبا غير مغلوب، قاهرا غير مقهور، إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها.
وأما إذا لم تكن من أهل البحث والنظر، فألق قيادك لأهل العلم، وانضو تحت لوائهم، فهم العارفون بالحقيقة والأمناء عليها، وهم حماتها والحراس عليها، وصدق القائل إذ يقول:
وإذا لم تر الهلال فسلم
…
لأناس رأوه بالأبصار
هذا وليعلم أن هذا الإعجاز خاص بالقرآن دون الكتب السابقة، فكل واحد منها وإن تعين صدقه بأن صدق الله تعالى مبلغه بأن أظهر على يديه من المعجزات القاهرة ليس معجزا مصدقا لنفسه، ومن هنا، أى من حيث إن القرآن العظيم مصدق لنفسه بسبب كونه معجزا كان مصدقا للكتب المتقدمة، معيارا عليها، شاهدا على مضمونها، وصحتها.
تلكم هى المطالب الثلاث مع أدلتها، والتى تلزم جميع فرق المكلفين، بما فى ذلك اليهود والنصارى، إلا أن الله تعالى خص اليهود والنصارى بالذكر؛ لما لهم من شرع سماوى سابق، ووحى إلهى ماض، فكان كفرهم أفظع، ومخالفتهم أفحش، وهو ما نذكره فيما يلى.
هذا وقد قدمنا لك بسطا وإيضاحا لهذه المطالب الثلاثة من حيث إثباتها، والرد على من أنكرها وكفر بها من الماديين فى القسم الأول.
محاجة القرآن لليهود:
قال الله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 40 - 42].
بنو إسرائيل: بنو إسرائيل هم اليهود خاصة، وإن كانت الكلمة بأصل وضعها تشمل اليهود والنصارى، من حيث إن إسرائيل لقب يعقوب، عليه السلام، فمعنى إسرا بالعبرانية عبد، وإيل الله، فمعناه عبد الله، وقيل: صفوة الله، ولا شك أن النصارى من أبنائه، وهم فى الأصل قوم من اليهود آمنوا بعيسى، عليه السلام.
ودليل هذا الاستعمال أن القرآن حين قال هنا: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ [البقرة: 40]، ذكر ما أنعم على أسلافهم من فلق البحر، وإنجائهم من فرعون، وغير ذلك من النعم التى لم تعرف إلا عند اليهود، دون النصارى، كذلك قال تعالى فى سورة المائدة: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً [المائدة:
12]، إلى أن قال: وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة: 14]، ثم جمعهما فى خطاب واحد بعد ذلك حيث قال جل شأنه: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ [المائدة:
15]، وكذلك قال فى هذه السورة أيضا: لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ [المائدة: 70]، ثم قال بعد ذلك: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة: 17]، ثم جمعهما فى خطاب واحد، فقال: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [النساء: 171].
وهؤلاء اليهود خصهم الله تعالى بالذكر، وطالبهم بالإيمان بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وأتى لهم بأدلة خاصة تلزمهم بعد أن أدخلوا فى عموم الخطاب السابق فى قوله سبحانه: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة: 21]، وذلك لما لهم من العلم والإيمان بالتوراة، فالخطاب فى قوله: يا بَنِي إِسْرائِيلَ [البقرة: 40] لعلماء اليهود، بقرينة قوله تعالى: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ [البقرة: 41]، أى لا تكونوا أئمة فى الكفر
يقتدى بكم أتباعكم، فتكونوا حاملين لأوزاركم وأوزارهم، كما قال تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ [النحل: 25]، والجهال لا يقتدى بهم، فلا يكونون أول الكفار، خاطبهم الله تعالى، وأمرهم أن يذكروا نعم الله عليهم، استمالة لقلوبهم، وتحريضا على أداء شكرها، وتوبيخا على إعراضهم عنه، وأمرهم بعد تذكير النعم أن يوفوا بعهوده؛ ليكونوا أئمة فى الإيمان به، عليه السلام، وبما أنزل عليه.
نعم الله على بنى إسرائيل:
والنعم على بنى إسرائيل كثيرة، منها أنه تعالى استنقذهم من فرعون وقومه، وأورثهم أرضهم وديارهم، وأنزل عليهم الكتب، وجعل فيهم أنبياء، وظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المنّ والسلوى، وهذه النعم وإن كانت على أسلافهم، فهى نعم عليهم أيضا؛ لأن الإنعام على الآباء إنعام على الأبناء، من حيث إن الأبناء يشرفون بشرف الآباء.
وقيل: أراد بالنعم ما أنعم الله به على آبائهم وعليهم، حيث أدركوا زمن النبى صلى الله عليه وسلم، وبناء على هذا يكون انتظام الآية بما قبلها حسنا جدا من جهة أنه تعالى لما عرض لهم من أول هذه السورة إلى هذا الموضع مرارا متعددة، حيث ذكر نفاقهم، وعذابهم الأليم على هذا النفاق، وعدد ما أنعم به على كافة البشر من نعمه العامة التى من جملتها تكريم أبيهم آدم، عليه السلام، وأنكر قبح حال من يكفر بالله الذى أنعم بمثل هذه النعم، ثم خاطب الكل بقوله تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 38].
ومن هنا كان تخصيصهم بالخطاب من بين المخاطبين بعد ذكر الخطاب العام فى قوله سبحانه: يا أَيُّهَا النَّاسُ [البقرة: 21] حسن الموقع جدا من حيث إنهم قد آتاهم الهدى، وتمكنوا من الانتفاع بالنعمة العظمى، وهى نعمة من أرسله الله تعالى رحمة للعالمين فى وقت اختلافهم وتغييرهم الكتاب، وكانوا يستفتحون به على الذين كفروا، وقد خص أسلافهم من جلائل النعم بما لم يظفر بمثله أحد، فأمروا بشكر هذه النعم حتى يكونوا ممن أدى شكر سوابق النعم ولواحقها.
ولم يرض بعض العلماء بهذا القول بناء على أن حمل النعمة على ما ذكر يحتاج إلى
تكلف، إما أن يحمل قوله تعالى: الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة: 40] على حذف كلمة (وعلى آبائكم)، وإما أن يجعل الخطاب لجميع بنى إسرائيل الحاضرين والغائبين بتغليب الحاضرين، فإنه لو لم يتكلف أحد هذين الوجهين، للزم أن يجمع بين الحقيقة والمجاز فى قوله تعالى: عَلَيْكُمْ بأن يراد ما أنعم به عليهم وعلى آبائهم.
وقيل: أراد بقوله تعالى: أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ما أنعم به على جميع البشر من خلقهم أحياء قادرين، ومن خلق جميع ما فى الأرض، ثم تسوية السموات السبع لينتظم جميع ما يصلح به أمر معاشهم ومعادهم، إلى غير ذلك من النعم الشاملة لجميع المكلفين، فعلى هذا فالخطاب وإن كان خاصا ببنى إسرائيل لكونهم مقصودين بالتبكيت، حيث إن هذه السورة أول سورة نزلت بالمدينة، وقد آمن من أجلها من آمن، ولم يبق إلا معاند، ونعنى ببنى إسرائيل اليهود الذى نسوا نعمة الله عليهم، وتركوا شكرها، إلا أن جميع الناس يشاركونهم فى حكم هذا الخطاب، وهو وجوب ذكر نعمته تعالى عليهم لما رزقوا من فنون النعم التى لا تحصى، وعلى هذا يقال: ما دام المراد بالنعمة النعمة العامة لكل البشر، فلم قيدت النعمة بهم، حيث وصفها بقوله تعالى: الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ؟.
فنقول: قصد بهذا استمالة قلوبهم، وحملهم على أداء شكرها فيما أمر به ونهى عنه، وهذا المقصود إنما يتم إذا لوحظت النعم باعتبار وصولها إلى المنعم عليه، مع قطع النظر عن حصولها لغيره، فإن هذه الملاحظة بهذه الجهة توجب استمالة قلوبهم، وتحملهم على أداء شكرها.
والذى يتخلص فى بيان المراد من النعمة عليهم: إما أن يكون المراد بالنعمة عليهم نعم آبائهم خاصة، ويكون المراد من قوله سبحانه فيما بعد: وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [البقرة: 49] التأكيد والتقوية لهذا المعنى، وإما أن يكون المراد نعم آبائهم الماضين، ونعمه سبحانه عليهم فى إدراكهم زمن محمد صلى الله عليه وسلم، ويكون قوله سبحانه:
وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ تأكيدا أيضا بالنسبة لنعم الآباء الماضين على ما هو ظاهر، وإما أن يكون المراد بالنعمة عليهم ما أنعم به على جميع البشر، كما تقدم إيضاحه، ويكون قوله:
وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ تأسيسا لا تأكيدا كما لا يخفى.
ثم ليعلم أن الكلام جرى معهم من هنا يا بَنِي إِسْرائِيلَ [البقرة: 40] إلى
حزب: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ [البقرة: 142]، فتارة دعاهم بالملاطفة، وذكر الإنعام عليهم وعلى آبائهم كما بينا، وتارة بتوبيخهم على سوء أعمالهم وذكر عقوبتهم التى عاقبهم بها، وكان فى ذكر هذا كله وإيضاحه وتفصيله على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو النبى الأمى الذى لم يقرأ، ولم يكتب، ولم يخالط أحدا ممن له دراية بالقراءة والكتابة، أصدق شاهد وأكبر برهان على نبوّته صلى الله عليه وسلم وصحة دعوته لهم ولغيرهم، وعلى وجوب الانضواء تحت لوائه، والتصديق بما جاء به.
قال سيدى عبد الرحمن الثعالبى الجزائرى فى تفسيره المرسوم بالجواهر الحسان فى تفسير القرآن ما نصه: قال الطبرى: وفى إخبار القرآن على لسان النبى صلى الله عليه وسلم بهذه المغيبات التى لم تكن من علم العرب، ولا وقعت إلا فى خفى علم بنى إسرائيل دليل واضح عند بنى إسرائيل وقائم عليهم بنبوّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
تصديق القرآن لما سبقة:
ولنتكلم على قوله تعالى: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ [البقرة: 41]، اندرج الأمر بالإيمان بالقرآن فى قوله: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي [البقرة: 40] فى الآية قبل، إلا أنه أفرد الأمر به على طريق عطف الخاص على العام، تنبيها على شرفه من حيث إنه طاعة مقصودة فى نفسها، متعبدة بذاتها، لا تتوقف صحته واعتباره على شىء آخر من الطاعات، بل هو عمدة يعتمد عليه سائر الطاعات، وبه اعتبارها، وأنها من فروعه وثمراته. ولما كان أصلا مقصودا بالذات من التكليف، ورعاية الوفاء بالعهود، صار كأنه أمر مغاير للعهود المأمور بإيفائها.
وقوله: مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ، وجه تصديقه لما معهم من الكتب من حيث إنه نازل حسبما نعت فيها، أو مطابق لها فى الدعاء إلى التوحيد، والأمر بالعبادة، والعدل بين الناس، والنهى عن المعاصى والفواحش، وغير ذلك من الأمور التى لا تتبدل باختلاف الأمم والأديان، فلا يجرى فيها النسخ، فهو مصدق لها فى هذه الأمور، ومصدق لها كذلك فيما يخالفها من جزئيات الأحكام وفروعها بسبب اقتضاء مصلحة كل قوم وزمانهم، من حيث إن كل واحدة منها حق بالنسبة إلى زمانها، ومنسوخة عند انقضاء زمانها، فالجزئيات المخالفة بحسب الزمان كحل فعل ما، وحرمته متطابقة من حيث إن كل واحدة منها حق تقتضيه مصلحة كل قوم وزمانهم.
قال الإمام زادة (1): قال الراغب: لا منافاة بين ما أتى به الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، من أصول العبادات، وأنهم كنفس واحدة، من حيث إنه يتساوى دعاؤهم إلى التوحيد والأركان الثلاثة من الشرائع، التى هى العبادات الخمس، وأحكام الحلال والحرام، والمزاجر، وإنما الاختلاف بينهم فى جزئيات الأحكام وفروعها، كيفما تقتضيه مصلحة كل قوم وزمانهم، فكل نبى مصدق للآخر فيما أتى به، من حيث إن كليات شرائعهم متساوية، وأن فروعها حق بالإضافة إلى زمان كل واحد منهم وأمته، حتى لو كان أحدهم فى زمن الآخر لم ير المصلحة إلا فيما أتى به الآخر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم فى حق موسى بن عمران:«ما وسعه إلا اتباعى» ، فعلى هذا وإن كانت فى القرآن أحكام جزئية مخالفة لما فى الزمان الأول والكتب السابقة صورة، فإنها موافقة من حيث إن كل واحد منها مقتضى الحكمة والمصلحة، فظهر من هذا أن المنسوخ موافق للناسخ حقيقة، من حيث إن كل واحد منها مقتضى الحكمة. أ. هـ.
والحديث المشار إليه نصه: «لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعى» ، وقد رواه الإمام أحمد فى مسنده، كما ذكره الخطيب الشربينى فى تفسيره، فما دام القرآن الكريم مصدقا للكتب السماوية، فاتباع هذه الكتب لا ينافى الإيمان بالقرآن، بل يوجب الإيمان به؛ لكونه مطابقا لها ومصدقا، ولذلك قال جل شأنه: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ [البقرة: 41]، فالمقصود به تأكيد الأمر بالإيمان به، وتقوية لإيجابه، كأنه قيل: آمنوا بما أنزلت، بل كان الواجب عليكم أن تكونوا أول من آمن به، لكونه مصدقا لما معهم من الكتب المنزلة عليهم، وواجب عليهم اتباع ما يطابقها بعد الاعتقاد بحقيقته وحقيقة ما فيه من الأحكام، وإلا لم يكونوا معتقدين بحقيقة كتابهم ومتبعين إياه.
وقد عرف أهل الكتاب موافقة القرآن الكريم لكتبهم، حيث لم يتكلفوا جمع القرآن إلى كتبهم، ومقابلة البعض بالبعض، ولو كان مخالفا لهم فى زعمهم لفعلوا ذلك حتى يظهر الخلاف، فيظهر كذبه، عليه الصلاة والسلام، فى قوله: إن القرآن منزل عليه، فينجوا من تعرضه لها، فلما لم يفعلوا، دل ذلك على أنهم عرفوا أن القرآن موافق لكتبهم.
نعم عليهم أن يكونوا أول من آمن به؛ لما تقدم من مطابقة القرآن الكريم لما معهم، ولأنهم كانوا أهل نظر فى معجزاته صلى الله عليه وسلم، والعلم بنشأته؛ لأنه قد مرّ أن الخطاب فى
(1) حواشى زاده على البيضاوى.
قوله: يا بَنِي إِسْرائِيلَ [البقرة: 40] لعلماء أهل الكتاب، فهم أهل النظر والاستدلال بخلاف المشركين وجهلة أهل الكتاب، فإنهم ليسوا مثل هؤلاء العلماء فى أهلية النظر والاستدلال، وكانوا يستفتحون على الذين كفروا، أى يطلبون الفتح والنصرة على المشركين، ويقولون: قد آن بعث النبى الأمى الذى نجده فى التوراة والإنجيل، فإذا بعث فنحن نؤمن به أول الناس كلهم ونقاتلكم معه، وهو ما يصرح به قوله سبحانه: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا
فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ
[البقرة: 89]، كما أنهم كانوا يبشرون العرب بزمانه صلى الله عليه وسلم، ويقولون: قد أظل زمان نبى يخرج بتصديق ما قلنا من طلب الاستفتاح والنصر، فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فهذه الأمور تقتضى أن يكونوا أول من آمن بالقرآن، وبواسطة اقتضائها يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل المشركين والجهلة منهم.
تبديل اليهود لآيات الله:
وقوله سبحانه: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [البقرة: 41]، اختلف فى الثمن الذى نهوا أن يشتروه بالآيات، فقالت طائفة: إن الأحبار كانوا يعلمون دينهم بالأجرة، فنهوا عن ذلك، وقيل: كانت للأحبار مأكلة يأكلونها على العلم، وقال قوم: إن الأحبار أخذوا رشى من الحكام على تغيير صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال قوم: معنى الآية لا تشتروا بأوامرى ونواهى وآياتى ثمنا قليلا، يعنى الدنيا ومدتها، والعيش الذى هو نزر لا خطر له، وهذا القول الأخير هو الأليق، فإن معناه أنهم كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم حقدا، وحسدا، وجحدا، وعنادا.
كفروا به مخافة أن يفوتهم ما هم فيه من رئاسة، وسيطرة على العامة، يعنى غرتهم الدنيا، ومالت بهم عن الحق الواضح والصراط المستقيم، نعم لو ثبت أنهم كانوا يأخذون الرشوة، أو كانت لهم مآكل على العامة، أو كانوا يأخذون على تعليم التوراة أجرا وهم منهيون عن ذلك، وجب المصير إليه، وإلا فالقول الأخير أوفق وأحكم كما تقدم، ولذلك قال بعض الأئمة: واعلم أن هذا النهى صحيح، سواء كان فيهم من فعل ذلك أو لم يكن، بل لو ثبت أن علماءهم كانوا يأخذون الرشى على كتمان أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وتحريف ما يدل على ذلك كان الكلام أبين.
ثم وبخهم الله تعالى على سوء صنيعهم، وإضلالهم أمر العامة، فقال: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 42]، أمروا أولا بتكميل نفوسهم بالإيمان، واتباع الآيات، وترك الضلال، ثم نهوا عن إضلال غيرهم، وإضلال الغير له طريقان، وذلك لأنه إن كان قد سمع دلائل الحق، فإضلاله إنما يكون بتشويش تلك الدلائل عليه بالشبهات الباطلة، وإذا كان لم يسمعها، فإضلاله إنما يكون بكتمها وإخفائها عنه حتى لا يصل إليها ويستدل بها على الحق.
فقوله تعالى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ، نهى عن الطريق الأول بالإضلال، وقوله: وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ، نهى عن الطريق الثانى، وهو منعه من الوصول إلى الدلائل، واللبس الخلط، يقال: لبس الحق بالباطل، من باب ضرب، أى خلطه به، وقد يلزمه جعل الشيء شبيها بغيره، وقد لا يلزمه، كما فى خلط التفاح بالزبيب، فإن خلطه به لا يؤدى إلى الاشتباه والالتباس، كما فى خلط الباطل بالحق، بحيث يشتبه أحدهما بالآخر حتى لا يميز بينهما، فيستعمل اللبس الذى فى الآية فى لازم معناه الأصلى، وهو الاشتباه وعدم الامتياز، حتى لا يقال: إنهم لم يخلطوا الحق بالباطل، بل جعلوا الباطل موضع الحق، فإن جعل الباطل موضع الحق يؤدى إلى اشتباه كل منهما بالآخر، وهو المراد المنهى عنه فى الآية الكريمة، فالباء على هذا تكون للاستعانة، كالتى فى:
كتبت بالقلم.
يعنى أنهم استعانوا على جعل الحق شبيها بالباطل بكتابة الباطل موضع الحق.
ولبعض العلماء ملحظ آخر فى توجيه معنى الاستعانة، أنهم لم يكتبوا الباطل موضع الحق، بل أبقوا الحق فى التوراة، ولكنهم صرفوه بالتأويل الفاسد إلى غير معناه المقصود، مثل قولهم: محمد رسول، ولكن إلى غيرنا، فإقرارهم ببعثته حق، وجحدهم أنه ما بعث إليهم باطل، ولعل هذا التوجيه أسلم.
فإذا ما قالوا: إنا لم نكتب باطلا موضع الحق، قلنا لهم: ومع ذلك فإنكم صرفتم اللفظ عن غير المراد من غير دليل، ولا برهان، ولذلك استبعد بعض العلماء أيضا كون الباء للتعدية، إذ المعنى عليه: لا تخلطوا الحق الذى فى التوراة بالباطل الذى تكتبونه فيها، فلهم أن يقولوا: لم نكتب باطلا بجانب حق، يعنى فلم يلزمهم، ولم يقطع عليهم كل أعذارهم، إلا أن يكون المعنى: ولا تلبسوا الحق بسبب الشبهات التى أوردتموها على السامعين، وذلك لأن النصوص الواردة فى التوراة فى أمر محمد صلى الله عليه وسلم كانت
نصوصا خفية يحتاج فى معرفتها إلى الاستدلال، ثم إنهم كانوا يحتالون فيها ويشوشون أوجه الدلالة على المتأملين فيها بإلقاء الشبهات، فهذا هو المراد بقوله: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ، وأما قوله: وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ، فمعناه إخفاءه عمن لم يسمعه، كما أن قوله: وَلا تَلْبِسُوا معناه التشويش على من سمعه، كما هو واضح مما تقدم، وهذا هو السر فى الجمع بينهما، فلكل منها اتجاه يغاير اتجاه الآخر ويخالفه.
ولا بدّ لنا من الكلام على إعراب هذه الجملة: وَتَكْتُمُوا، وبيان هل هى مجزومة عطفا على النهى السابق فى قوله: وَلا تَلْبِسُوا، أو منصوبة فى جواب هذا النهى بأن مضمرة وجوبا بعد واو المعية، إذ المعنى يختلف على كل منهما؟ فنقول: قال فريق:
إنها مجزومة داخلة تحت حكم النهى، كأنه قيل: لا تكتموا الحق، فيكون النهى متوجها إلى كل واحد من الفعلين على حدة، أى لا تفعلوا هذا ولا هذا، إذ كل واحد منهما مستقل بالقبح، ووجوب الانتهاء عنه. وقال فريق: إنها منصوبة بإضمار أن فى جواب النهى بعد الواو التى تقتضى المعية، فإن النهى حينئذ هو الجمع بين الفعلين، كأنه قيل:
لا تجمعوا بين لبس الحق والباطل وكتمانه، كما فى قول الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتى مثله
…
عار عليك إذا فعلت عظيم
ومعلوم أن «أن» مع ما فى حيزها، تكون فى تأويل المصدر، فلا بد من تأويل الفعل الذى قبلها بالمصدر أيضا؛ ليكون من قبيل عطف الاسم على مثله، والتقدير: لا يكن
منكم لبس الحق بالباطل مع كتمانه، وعلى هذا لا يعلم النهى على كل واحد من الفعلين إلا بدليل خارجى.
لا يقال: يلزم عليه جواز تلبيسهم بدون الكتمان وعكسه، كما فى: لا تأكل السمك وتشرب اللبن؛ لأنا نمنع ذلك، إذ النهى عن الجمع لا يدل على جواز البعض ولا على عدمه، وإنما يدل عليه دليل آخر، أما فى مسألة السمك فللطب، وأما فى الآية فلقبح كل منها، وفائدة الجمع المبالغة فى النعى عليهم، وإظهار القبح فى أفعالهم من كونهم جامعين بين فعلين، إن انفرد كل منهما عن صاحبه كان قبيحا، يعنى فالطب فى مسألة السمك هو الذى أجاز أحد الفعلين منفردا عن الآخر، ولم يجوز ذلك النهى عن الجمع فى قولهم: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، وقبح كل واحد من الفعلين فى الآية منع جواز أحدهما، ولم يمنعه النهى عن الجمع فيها كذلك. وقوله تعالى: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
جملة اسمية فى محل نصب حال، وعاملها إما تَلْبِسُوا أو تَكْتُمُوا، والمعنى:
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنكم لابسون الحق بالباطل كاتمون، فإنه أقبح، إذ الجاهل قد يعذر.
تكذيب القرآن لدعاوى اليهود:
هذا وقد استمر الكلام مع اليهود إلى حزب «سيقول» كما قلنا قبل ذلك، وفيه الرد عليهم وإلزامهم الحجة ما هو فوق الكفاية، ولنأت من هذا بآيتين سيقتا لغرض واحد وهو: تكذيب القرآن لليهود فى ادعائهم أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس، قال تعالى: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [البقرة: 94، 95]، يعنى أن من جملة قبائحهم أنهم كانوا يأمنون من سوء الخاتمة ولا يخافون منها، بل يحكمون بأن الدار الآخرة وما أعد الله تعالى لعباده من الملك العظيم والنعيم المقيم لهم دون غيرهم، كما قال تعالى حكاية عنهم: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة: 111]، وقولهم: كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا [البقرة: 135]، وقولهم: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 18].
وقولهم: وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [البقرة: 80]، فأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم: إن كانت الدار الآخرة لكم كما تزعمون، وإن كنتم أبناء الله وأحباءه كما تدعون، فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ [البقرة: 94]، وذلك لأن المرء لا يكره الانتقال إلى داره وبستانه، بل يتمنى ذلك، وكذلك المرء لا يكره القدوم على الله تعالى، ولا على حبيبه، ولا يخاف منهما النقمة، بل يتوقع عندهما الكرامات، والدرجات، والعطايا، والهدايا، فإن كان الأمر كما تقولون، فتمنوا الموت حتى تنجوا من غم الدنيا ومن تحمل الشدائد التى أنتم فيها، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [البقرة: 94] فى زعمكم بأن الآخرة لكم وأنكم أبناء الله وأحباؤه.
فإذا ما قال اليهود اعتراضا على هذا الإلزام: إنكم تقولون: إن الآخرة للمؤمنين، فلم لا نرى أن أحدا من المؤمنين يتمنى الموت إذا قيل له: تمن الموت، فكل عذر لاح لكم فهو عذر لنا، فلا معنى لاحتجاجكم بذلك علينا، قلنا: أجاب العلماء عن هذا الإشكال بوجهين:
أحدهما: أن المؤمنين لم يجعلوا لأنفسهم من الفضل والمنزلة عند الله تعالى مثل ما
جعل اليهود لأنفسهم، بل المؤمنين، وإن جل قدرهم، غير الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، لا يزول عنهم خوف الخاتمة، ومن كان قد ابتلى بشيء من الخطايا، فهو مفتقر إلى زمن يتدارك فيه ما فاته، فلهذا لم يتمن المؤمنون الموت، فأما اليهود، فقد ادعوا أنهم من أهل الجنة، وليس بها شىء من الشدة، والدنيا دار شدة وبلية، فلا معنى لامتناعهم عن تمنى الموت لو كانوا صادقين فى دعواهم.
وثانيهما: أنهم كانوا يزعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه، وفى تمنيهم الموت وصول إلى أبيهم وحبيبهم فى زعمهم، ولا أحد يرغب ولا ينفر عن الحبيب والأب، فدل امتناعهم من ذلك على كذبهم فى دعواهم، وأما المسلمون فلا يدعون ذلك، ولا يتمنون الموت، بل يرغبون فى امتداد الحياة لمزيد الأعمال الصالحة كما هو ظاهر.
وقوله: خالِصَةً الخالص كالصافى، لكن الصافى يقال فيما لم يكن فيه شوب قبل ذلك، ولا يقال: خالص، إلا إذا كان فيه شوب من قبل فزال، وقوله: مِنْ دُونِ النَّاسِ لفظ دُونِ لما كان فى الأصل اسما للقاصر عن الشيء، اعتبر ذلك فى المكان تارة، وفى الشرف تارة، وفى الاختصاص تارة، فيقال فى المكان: دونك هذا، أى خذه من أدنى مكان منك. ويقال فى الاختصاص: هذا إلى دونك، ويقال فى الشرف:
فلان دون فلان، أى أقل منه رتبة ومنزلة.
فإن قيل: كيف قال: مِنْ دُونِ النَّاسِ والمخاطبون أيضا هم الناس؟ قيل: المراد بالناس أكثرهم، إذ لفظه عام، ومعناه خاص، أى دون باقى الناس وسائرهم. وقال بعضهم: فيه لطيفة، وهى أنه جل جلاله يعرض بهم، ويشير بأنهم ليسوا من الناس، والكلمة بأصل وضعها تحتمل المدح والذم، فالمدح نحو قولك: فلان ليس بإنسان، بل هو ملك كريم، والذم نحو قولك: يغرنك من فلان مظهر صلاحه، فهو ليس بإنسان، إذ المعنى أنه أحط إلى درجة الحيوانية، ولا شك أنهم من القبيل الثانى، فهذه هى اللطيفة التى فى الآية التى قال بها البعض.
وقد أخبر الله تعالى أنهم لن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم، وفى هذا بيان للعلة التى بسببها لا يتمنون الموت، فإنهم عالمون بما صنعوا من الكفر بعيسى والإنجيل، وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن، وبتحريف التوراة، فيعلمون بما لهم عند الله تعالى من العذاب الأليم والعقاب الدائم، وأنه لا نصيب لهم فى الجنة، وإنما قالوا: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ
[المائدة: 18]، وأنهم من أهل الجنة على الخصوص بطريق النعت والمكابرة، ولذلك لم يتمنوا الموت.
وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم: «أنهم لو تمنوا الموت، لغض كل إنسان بريقه، فمات مكانه، وما بقى على وجه الأرض يهودى» ، والغصة: الشجى، وهو ما تعلق بالحق من العظم ونحوه، ولم ينزل إلى الجوف، والمعنى: لا يقدر على أن يبتلع ريقه فيموت فى مكانه.
من دلائل النبوة المحمدية:
وهذه الجملة وهى قوله سبحانه: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً [البقرة: 95] إخبار بالغيب، فإن عدم تمنيهم فى المستقبل، وهو غيب لا يعلم بالحس، ولا ببديهة العقل، ولم ينصب عليه دليل أيضا، فكانت الآية من المعجزات الدالة على حقية رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه لما أخبر الله تعالى أنهم لا يتمنون الموت أبدا، كان الأمر كما قال، مع أن تكذيبه، عليه السلام، أهم الأمور عندهم، وأن ما يدعوهم إليه ممكن متوفر بالنسبة إليهم، وأن قولهم: تمنينا الموت، سهل وغير متعسر عليهم، فلو قال أحد منهم، لظهر كذبه، عليه السلام، فيما أخبر به عن الله تعالى، ولتبين بذلك كذبه فى دعوى الرسالة أيضا، ومع ذلك امتنعوا من أن يقولوا ذلك، وكان الأمر كما قال، فعلم بذلك أنه، عليه السلام، إنما علم ذلك، وأخبر به، بأن أوحى إليه من عند الله تعالى، وأنه رسول حقا.
هذا وقد جاء فى الشفا للقاضى عياض حسبما نقله صاحب تفسير الجواهر الحسان عند هذه الآية ما نصه: ومن الوجوه البينة فى إعجاز القرآن آى وردت بتعجيز قوم فى قضايا وإعلامهم أنهم لا يفعلونها، فما فعلوا ولا قدروا على ذلك، كقوله تعالى لليهود:
قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ
…
الآية. قال أبو إسحاق الزجاج: فى هذه الآية أعظم حجة، وأظهر دلالة على صحة الرسالة؛ لأنه قال لهم: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ [البقرة: 94]، وأعلمهم أنهم لن يتمنوه أبدا، فلم يتمنه واحد منهم. وعن النبى صلى الله عليه وسلم:«والذى نفسى بيده، لا يقولها رجل منهم إلا غص بريقه» ، يعنى يموت مكانه. قال أبو محمد الأصيلى: من أعجب أمرهم أنه لا توجد منهم جماعة ولا واحد من يوم أمر الله تعالى نبيه بذلك يقدم عليه، ولا يجيب إليه، وهذا موجود مشاهد لمن أراد أن يمتحنهم.
المراد بتمنى الموت:
قال جماعة: هو إرادة بالقلب، مع السؤال باللسان. وقال البعض: هو السؤال باللسان فقط. فإن قلت: من أعلمك أنهم لم يتمنوا؟ أجيب: بأنهم لو تمنوا لنقل ذلك عنهم كما نقل سائر الحوادث، ولكثر ناقلوه من أهل الكتاب وغيرهم من أولى المطاعن فى الإسلام، وهم أكثر من الذر، وليس أحد منهم نقل ذلك.
فإن قيل: التمنى من أعمال القلوب، وهو سر لا يطلع عليه أحد، فمن أين علمت أنهم لم يتمنوا!؟ أجيب: بأن التمنى ليس من أعمال القلوب، إنما هو قول الإنسان باللسان: ليت لى كذا، فإذا قاله، قالوا: تمنى، وليت كلمة تمن، ومحال أن يقع التحدى بما فى الضمائر والقلوب، ولو كان التمنى بالقلوب وتمنوا، لقالوا: تمنينا الموت فى قلوبنا، ولم ينقل أنهم قالوا ذلك.
فإن قيل: لم يقولوه؛ لأنهم علموا أنهم لا يصدقون. أجيب: بأنه كم حكى عنهم من أشياء قالوها للمسلمين من الافتراء على الله، وتحريف كتابه، وغير ذلك مما علموا أنهم غير مصدقين فيه، ولا محمل له إلا الكذب الصرف، ولم يبالوا، فكيف يمنعون من أن يقولوا: إن التمنى من أفعال القلوب، وقد فعلناه مع احتمال أن يكونوا صادقين فى قولهم، وإخبارهم عن ضمائرهم، وكان الرجل يخبر عن نفسه بالإيمان فيصدق مع احتمال أن يكون كاذبا؛ لأنه أمر خفى ولا سبيل إلى الاطلاع عليه.
فإن قيل: عدم نقل تمنيهم الموت إلى الآن لا يدل على عدم تمنيهم أبدا. أجيب: بأنه لا محيص عن هذا الإشكال إلا أن يكون الخطاب مع المعاصرين، وقد انقرضوا ولم يتمنوا، وإلا لنقل ذلك واشتهر، فلما لم ينقل، علم أنهم لم يتمنوه.
ولعل هذا القول يخالف ما تقدم آنفا عن الشفا نقلا عن أبى محمد الأصيلى، من أن عدم التمنى ثابت للاحقين منهم أيضا، والحاصل أن التمنى إما فعل اللسان، وإما فعل القلب، وأيا ما كان يثبت وهو أنهم لم يتمنوه.
من أنباء الغيب:
كذلك من الإخبار بالغيب الذى يلزمهم ولا يستطيعون رده، ما أشارت إليه الآية الكريمة فى قوله سبحانه: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران: 44].
أنباء الغيب هى ما تقدم قبل هذه الآية من ذكر قصة زكريا، ويحيى، ومريم، وأمها
امرأة عمران، وكل هؤلاء من بنى إسرائيل، ولا يمكن أن يعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بوحى إلهى، وهذا ولا شك دليل على بنى إسرائيل، وإلزام لهم بالحجة التى لا يستطيعون ردها، وبيان ذلك أن إخباره صلى الله عليه وسلم بهذه الأنباء، وهى معلومة عندهم وحاصلة لديهم على الوجه المطابق للواقع من دلائل صدقه فى دعوى النبوة، بناء على أن الإخبار بالشىء على الوجه المطابق للواقع يتوقف على العلم به، وطريق العلم منحصر فى:
1 -
المشاهدة.
2 -
الاستماع من أهل العلم وقراءة أسفارهم.
3 -
الوحى.
وأن ما عدا الوحى من طريق العلم منتف عنه صلى الله عليه وسلم، فتعين أنه، عليه السلام، إنما أخبر بتلك الأنباء بالوحى، وأنه نبي حقا، ثم إنه تعالى لم ينف من طريق العلم فى الآية الكريمة، إلا أنه صلى الله عليه وسلم لم يشاهد هذه الوقائع كما يصرح به قوله: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ
…
[آل عمران: 44] إلخ، وفى ظاهر الحال أنه لا حاجة إلى نفى المشاهدة لكون انتفائها معلوما قطعا؛ لأن مشاهدة الإنسان ما سبق على وجوده سبقا زمانيا مستحيلة، واستحالتها معلومة لكل أحد، بخلاف الاستماع من أهل العلم وأصحاب التواريخ، فإنه وإن كان منفيا فى نفس الأمر أيضا كانتفاء المشاهدة، إلا أنه متوهم وليس استحالته كاستحالة المشاهدة، فالتصريح بنفى ما لا حاجة إلى نفيه، وترك التعرض بنفى ما ينبغى التعرض بنفيه خلاف مقتضى الظاهر، فما الوجه؟
قال العلماء فى تحقيق ذلك: إن الآية صرحت بنفى المشاهدة مع عدم الحاجة إليه، وتركت التعرض بنفى السماع، مع أن العقل يجوزه فى الجملة لنكتة، وهى التهكم باليهود المنكرين لنبوته صلى الله عليه وسلم؛ ولأن يوحى إليه. وطريق التهكم أن العلم منحصر فى الثلاثة المذكورة لا محالة، وأنهم ينكرون الوحى إليه، ويعترفون أيضا بأنه صلى الله عليه وسلم ليس من أهل السماع، وقراءة كتب التواريخ للقطع بأنه، عليه السلام، لم يخالط أهل الكتاب، ولم يصاحب منهم أحدا، فلم يبق من طريق العلم فى حقه صلى الله عليه وسلم إلا مشاهدة ما أخبر به من الوقائع، وذلك أنهم كما ينكرون الوحى إليه صلى الله عليه وسلم مع اعترافهم له بأنه لم يصاحب أحدا من أهل الكتاب، فإذا نفت الآية المشاهدة، وانتفاؤها معلوم قطعا ويقينا عند كل أحد، كان المقصود التهكم بمنكر الوحى، كأنه قيل لهم: أيها المنكرون، أن يوحى إليه صلى الله عليه وسلم
والمتهمون له فى دعوى نبوته ليس لكم سبب فى اتهامكم سوى أنكم تجوزون أن يكون إخباره صلى الله عليه وسلم بذلك مبنيا على مشاهدته ومعاينته ذلك، وأنه غاية فى السفاهة، ونهاية الجنون والجهالة، ومن أضل ممن عدل عن الاحتمال الثابت بالمعجزات القاطعة والبراهين القطعية، وهو أنه صلى الله عليه وسلم يوحى إليه إلى احتمال لا يذهب إليه وهم أحد، وهو أنه صلى الله عليه وسلم أخبر عن هذه الحقائق بالمشاهدة.
محاجة القرآن للنصارى فى عبادة عيسى:
قال الله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ [آل عمران:
59] الآية.
سبب النزول:
روى أن وفد نصارى نجران جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: ما لك تشتم صاحبنا، قال:«وما أقول؟» ، قالوا: تقول: إنه عبد الله ورسوله، قال:«أجل، إنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول» ، فغضبوا وقالوا: هل رأيت إنسانا قط من غير أب، فإن كنت صادقا فأرنا مثله، فنزل قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ [آل عمران: 59].
كأنهم قالوا: يا محمد، لما سلمت أنه لا أب له من البشر، وجب أن يكون أبوه هو الله تعالى، فقال: إن آدم ما كان له أب ولا أم، ولم يلزم من ذلك أن يكون أبوه هو الله تعالى، وأن يكون هو ابنا له تعالى، فكذا القول فى عيسى، عليه الصلاة والسلام.
ولعله من الواضح بعد بيان هذه المشابهة الواقعة بين عيسى وآدم، عليهم السلام، أن تبطل شبهتهم فى قولهم فى عيسى: إنه ابن الله تعالى، وعليهم بمقتضى هذا أن ينزلوا عن اعتقادهم فى بنوة عيسى، وأنه ابن الله تعالى، ولم يستطيعوا أن يفروا من هذا أبدا، اللهم إلا ما كان من عنادهم واستكبارهم.
آية المباهلة:
ثم قال تعالى زيادة فى الإلزام وتأكيدا لإظهار الحجة عليهم: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ [آل عمران: 61]، المراد بالعلم
البينات الموجبة له من الدلائل والبراهين، مثل قوله تعالى قبل ذلك: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا [آل عمران: 46]، وما أشبه ذلك مما يدل على أنه وجد بعد أن كان معدوما، واستقر فى مضيق الرحم، ثم ترعرع وصار شابا يأكل، ويشرب، ويحدث، وينام، ويستيقظ.
وإنما فسر العلم بالبينات والبراهين؛ لأن العلم الذى حصل فى قلبه، عليه الصلاة والسلام، لا يوجب إفحامهم، وانقطاع جدالهم وشبهاتهم، ولا إقدامهم على المباهلة والملاعنة، بل الذى يوجب ذلك هو إيراد الدلائل عليهم، بحيث يلجئهم إلى الاعتراف بالحق وقبوله، أو إلى إصرارهم على إنكاره وتكذيبه، عنادا واستكبارا، مع أن نفس العلم لا يتصف بالمجىء والانتقال من موضعه، بخلاف الدليل، فإنه يوصف بالورود والقيام.
والمراد بالمباهلة الملاعنة، بأن يقال: بهلة الله، أى لعنته على الكاذبين منا ومنكم بأمر عيسى، عليه السلام. والبهلة، بضم الباء وفتحها، وأصله الترك، من قولهم: بهلت الناقلة إذا تركت بلا صرار (1)، ومعنى قوله: تَعالَوْا أى بالرأى والعزم، لا بالأجساد والأشخاص؛ لأنهم حاضرون عنده، عليه الصلاة والسلام، بأجسادهم حيث إنهم يجادلونه صلى الله عليه وسلم فى شأن عيسى، عليه السلام.
قوله: نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ
…
الآية، أى ليدع كل منا ومنكم نفسه وأعزة أهله، وإنما قدمهم على النفس؛ لأن الرجل يخاطر بنفسه لأجلهم، ويحارب دونهم، فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية على وفد نجران، ودعاهم إلى المباهلة، قالوا: حتى نرجع وننظر فى أمرنا، ثم نأتيك غدا.
فخلا بعضهم ببعض، وقالوا للعاقب، وكان ذا رأيهم: يا عبد المسيح، ما ترى؟
فقال: والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمدا نبى مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم، والله ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم، ولا نبت صغيرهم، ولئن فعلتم لنهلكن، فإن أبيتم إلا الإقامة على دينكم وعلى ما أنتم عليه من القول فى صاحبكم، فوادعوا هذا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وقد غدا محتضنا للحسين، آخذا بيد الحسن، وفاطمة تمشى خلفه، وعلى بن أبى الخطاب خلفها،
(1) فى المختار: صر الناقة: شد عليها الصرار، بالكسر، وهو خيط يشد لئلا يرضعها ولدها.
رضى الله تعالى عنهم، وهو صلى الله عليه وسلم يقول لهم:«إذا أنا دعوت فأمنوا» .
فقال أسقف نجران، وهو اسم سريانى لرئيس النصارى وعالمهم، وهو غير العاقب:
يا معشر النصارى، إنى لأرى وجوها لو سألوا الله تعالى أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله، فلا تباهلوا فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصرانى إلى يوم القيامة.
فقالوا: يا أيا القاسم، رأينا أن لا نباهلك، وأن نقرك على دينك، ونثبت على ديننا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين، وعليكم ما عليهم» ، فأبوا، فقال:«إنى أنابذكم» ، فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تردنا عن ديننا، على أن نؤدى إليك كل عام ألفى حلة، ألف فى صفر، وألف فى رجب، نؤديها للمسلمين، وعارية ثلاثين درعا، وثلاثين فرسا، وثلاثين بعيرا، وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزون بها، والمسلمون ضامنون لها حتى يؤدوها، فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، وقال:«والذى نفسى بيده، إن العذاب تدلى على أهل نجران، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير، ولأضرم عليهم الوادى نارا، ولاستأصل الله تعالى نجران وأهله، حتى الطير على رءوس الشجر، ولما حال الحول على النصارى حتى هلكوا كلهم» .
وجاء فى بعض الروايات عن عائشة، رضى الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وعليه مرط مرجل من شعر أسود، فجاء الحسن فأدخله، ثم جاء الحسين فأدخله، ثم فاطمة، ثم علىّ، رضى الله عنهم، ثم قال: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ [الأحزاب: 33]، وفى ذلك دليل على نبوته صلى الله عليه وسلم، وعلى فضل أهل الكساء، رضى الله تعالى عنهم، وعن بقية الصحابة أجمعين.
نعم انقطعوا عن المباهلة وخافوها، ولم يجرءوا بعد مشاورة أهل الرأى فيهم على الدخول فى ساحتها، وذلك أعظم دليل ملزم وقاطع لشبههم، وإلا فما كان أسهل عليهم وأيسر لهم أن يلاعنوا ويقولوا فى تضرع: لعنة الله على الكاذبين منا ومنكم بأمر عيسى.
قال بعض العلماء: فإن قيل: الأولاد إذا كانوا صغارا لم يجز نزول العذاب بهم، وقد ورد فى الخبر أنه صلى الله عليه وسلم أدخل فى المباهلة الحسن والحسين، رضى الله عنهما، فما الفائدة؟
والجواب: أن عادة الله تعالى جارية بأن عقوبة الاستئصال إذا نزلت بقوم هلك معهم
الأولاد والنساء، فيكون ذلك فى حق البالغين عقابا، وفى حق الصبيان والنساء لا يكون عقابا، بل يكون جاريا مجرى إهانتهم، وإيصال الإيلام إليهم، ومعلوم أن شفقة الإنسان على أولاده شديدة جدا، وربما جعل الإنسان نفسه فداء لهم، وإذا كان كذلك فهو، عليه الصلاة والسلام، أخذ صبيانه ونساءه معه، وأمرهم بأن يفعلوا مثل ذلك، ليكون أدعى للخصم إلى قبول الحق، وأبلغ فى الزجر عن المخالفة، وأقوى فى تخويفهم، وأدل على وثوقه، عليه الصلاة والسلام، بأن الحق معه. انتهى.
عيسى عبد الله ورسوله:
ثم يأتى بعد ذلك قوله سبحانه: إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران: 62].
ونرى فى صدر هذه الآية الكريمة، أن ما قصه الله تعالى فى شأن عيسى، وأنه عبد الله ورسوله، هو الإخبار الصحيح، والقول الحق، دون ما ادعته النصارى، من أنه ابن الله تعالى والله سبحانه أبوه، ونرى فى قوله تعالى: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ نفى الإلهية فى عموم واستغراق عن غير الله تعالى وإثباتها له وحده، جل جلاله، وعظم شأنه. ثم يأتى ختام الآية: وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لنرى فيه ردا قويا على إلهية عيسى، وإلزاما لا مفر منه بأنه عبد الله ورسوله، وبيانه كالآتى:
إن تعريف كل من المسند والمسند إليه وتوسيط ضمير الفصل بينهما، يفيد الحصر والتخصيص، ويدل على انتفاء القدرة التامة، والحكمة البالغة عن عيسى، عليه السلام، فالنصارى لما اعتمدوا فى زعمهم إلهية عيسى، عليه السلام، على قدرته على إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وعلى إخباره بالمغيبات من أحوالهم، أجاب الله تعالى عن هذه الشبهات بأن هذا القدر من القدرة لا يكفى فى الإلهية، بل لا بدّ أن يكون القادر عزيزا غالبا لا يقهر، وأنتم قد اعترفتم بأن عيسى، عليه السلام، ما كان كذلك، بل قلتم إن اليهود قتلوه، وأيضا فإن ما فيه من علمه بالمغيبات وإخباره عنه لا يكفى أيضا فى إلهيته، بل لا بدّ أن يكون العالم حكيما، أى عالما بجميع المعلومات، وبجميع عواقب الأمور، فقوله تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ باعتبار دلالته على أن عيسى، عليه السلام، بمعزل عن القدرة التامة، والحكمة البالغة، فهو جواب عن شبهة النصارى واستدلالهم بقدرته على إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، وبعلمه
المغيبات وإخباره عنها على إلهيته.
وفى هذا بيان لواقع محسوس، ومشاهد ملموس، وهو أن قدرة عيسى، عليه السلام، ليست تامة، وعلمه ليس شاملا، وليس فى وسعهم إنكار هذا أبدا، إلا فى إصرار على الباطل وعناد مع الحق، نعم عاندوا وأصروا على ما هم عليه من الزعم الفاسد والاعتقاد الباطل فى حق عيسى، عليه السلام، وأعرضوا عن الحجج والبينات المؤدية إلى الاعتقاد الحق، والتدين بالدين القويم، فأوعدهم الله بقوله: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ [آل عمران: 63]، أى فإن أعرضوا عن التمسك بالحجج والاعتقاد بوحدانية
الإله، فاعلم أن توليهم وإعراضهم ليس إلا على سبيل العناد، فاقطع كلامك عنهم، وفوّض أمرك إلى الله تعالى، فإنه تعالى مطلع على ما فى قلوبهم من التمرد والعناد، قادر على مجازاتهم، ثم إن قوله: فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ فيه وضع للظاهر موضع المضمر ليدل على أن التولى عن الحجج والإعراض عن التوحيد، إفساد للدين والاعتقاد، المؤدى إلى فساد النفس، بل إلى فساد العالم.
إلى كلمة سواء:
ثم إن القوم لما أعرضوا على المباهلة خوفا من أن يهلكهم الله تعالى بطريق الاستئصال، وأظهروا بعض الانقياد والصغار، حيث التزموا بأداء الجزية كما تقدم ذلك، أعرض الله تعالى عن المجادلة معهم بتجهيلهم وبيان سخافة عقولهم، وسلك سبيل الرشاد باللطف والإنصاف، بحيث لا يميل فيه إلى جانب، ولا يشوبه شىء من التعصب والتحكم، فقال تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران: 64]، أى هلموا إلى كلمة ذات استواء وعدل، وسواء مصدر، كذهاب وصلاح وفساد، ومعناه الاستواء والاعتدال، وصفت الكلمة به مبالغة فى استوائها، وعدم الاختلاف فيها بين الكتب المنزلة من السماء وبين الأنبياء المرسلين، فهو من قبيل رجل عدل.
والمعنى: تعالوا إلى كلمة عادلة مستقيمة مستوية بين أهل الشرائع الإلهية، إذا أتينا بها نحن وأنتم كنا على السواء والاستقامة، سمى الكلام التام المفيد للمقصود كَلِمَةٍ على طريق تسمية الكل باسم جزئه، ومن تسميتهم القصيدة بتمامها قافية، مع أن
القافية جزء منها، وفى الحديث: «أصدق كلمة قالها شاعر قول لبيد:
ألا كل شىء ما خلا الله باطل
…
وكل نعيم لا محالة زائل
ثم إنه تعالى فسر الكلمة بقوله سبحانه وتعالى: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ، ووجه كونه تفسيرا لها أن قوله: أَلَّا نَعْبُدَ إما بدل من كَلِمَةٍ بدل كل من كل، أو أنه خبر مبتدأ محذوف، أى هى ألا نعبد، والجملة استئنافية، فإنه لما قيل: تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ قال قائل: ما هى؟ فقيل: هى أَلَّا نَعْبُدَ، فعلى التقديرين صح كونها مفسرا لما قبلها.
وأما قوله سبحانه: وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ، يعنى: ولا نقول عزير ابن الله، ولا المسيح ابن الله، ولا نطيع الأحبار فيما أحدثوه من التحليل والتحريم؛ لأن كلا منهم بشر مثلنا.
روى أنه لما نزلت: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:
31]، قال عدى بن حاتم: ما كنا نعبدهم يا رسول الله، قال:«أليس كانوا يحلّون لكم ويحرّمون فتأخذون بقولهم؟» ، قال: نعم، قال:«هو ذاك» .
قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ، يعنى: فإن تولوا عن كلمة التوحيد المجمع عليها بين الشرائع والكتب السماوية، فقولوا لهم: قد لزمتكم الحجة وأصبحتم مغلوبين بها، إلا أنه دل على هذا الجواب بلازمه، وهو قوله: فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ، أى قولوا اشهدوا واعترفوا بأن من أتى بالكلمة السواء وعمل بمدلولها فهو المسلم، دون من خالفها وتولى عن العمل بمدلولها.
ويصح أن يكون قوله: فَقُولُوا اشْهَدُوا هو الجواب، ويكون فيه تعريض بكفرهم، أى اعترفوا يا أهل الكتاب بأنكم كافرون من حيث إنكم أعرضتم عن الحق المتفق عليه بين العقلاء. قال العلماء: والمعنى: فإن تولوا وأعرضوا عن الإجابة لما دعوتهم إليه، فليس إعراضهم ذلك لأجل مساعدة الحجة إياهم، فقل لهم: قد أسفر الصبح وتبين لذى عينين، فاعترفوا بأنا مسلمون منقادون للحق دونكم، ونظيره قول الغالب فى جهاد، أو صراع، أو نحوهما: اعترف بأنى أنا الغالب، وسلم إلى الغلبة. أ. هـ.
قال الخطيب الشربينى فى تفسيره: قال البيضاوى: تنبيه: انظر إلى ما راعى الله سبحانه فى هذه القصة من المبالغة، والإرشاد، وحسن التدريج فى الحجاج، فبين أولا أحوال عيسى وما تعاور عليه من الأطوار المنافية للإلهية، ثم ذكر ما يحل عقدتهم ويزيل
شبهتهم، فلما رأى عنادهم ولجاجهم دعاهم إلى المباهلة بنوع من الإعجاز، ثم لما أعرضوا عنها وانقادوا بعض الانقياد، دعاهم بالإرشاد، وسلك طريقا أسهل وألزم، بأن دعاهم إلى ما وافق عليه عيسى، والإنجيل، وسائر الأنبياء والكتب، ثم لما لم يجد ذلك أيضا عليهم، وعلم أن الآيات والنذر لا تغنى عنهم، أعرض عن ذلك، وقال:
اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. انتهى.
بيان ما احتواه التنبيه:
قوله: بين أولا أحوال عيسى
…
إلخ، هو قوله سبحانه: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران: 46] ونحوه على ما ذكرناه سابقا.
وقوله: ثم ذكر ما يحل عقدتهم، هو قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [آل عمران: 59].
وقوله: بنوع من الإعجاز، وهو تقديم ذكر من يخاطر المرء بنفسه لأجلهم ويحارب دونهم.
طوائف النصارى:
قال الله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ
[المائدة:
72، 73].
تبين الآية الأولى من هاتين الآيتين رأى طائفة من النصارى فى شأن عيسى، وهم اليعقوبية، القائلون باتحاد الإله مع عيسى، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
وتبين الآية الثانية رأى طائفتين منهم، وهما النسطورية والملكانية، ويبين الله تعالى فى كلتا الآيتين، الرد على هذه المزاعم الفاسدة، من تلكم الطوائف الكافرة، ففي الآية الأولى حكم الله تعالى عن عيسى، عليه السلام، أنه متبرئ من هذه الاعتقادات، آمرا لهم بعبادة الله تعالى رب الجميع وخالق الكل، اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ [المائدة: 72]، ثم
توعدهم وهددهم، حيث قال: وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [المائدة: 73]، وهذا الرد فى هاتين الآيتين هو عين الحقيقة، ونفس الصواب، لو كان لهم عقول تفكر، وقلوب تسمع وتتدبر.
حقيقة المسيح وأمه:
ولكن الله تعالى، وهو الرحيم بخلقه، الرءوف بعباده، يزيد الأمر إيضاحا، وتأكيدا، وكشفا، وتبيانا، فيلزمهم برد واقعى محسوس لا يقدرون على الفكاك منه، ولا يستطيعون أن يخرجوا من دائرته إلى دائرة الوهم والباطل، وهذا هو ما جاء بعد ذلك من الآيتين الكريمتين وهما: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [المائدة:
75، 76].
قوله تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أى ليس هو بإله كالرسل الذين مضوا لم يكونوا آلهة، وما من خارق إلا وقد كان مثله أو أعجب منه لمن كان قبله، فإن كان الله قد أحيا الموتى على يده، فقد أحيا العصا، وجعلها حية تسعى على يد موسى، وهو أعجب، وإن كان قد خلقه من غير أب، فقد خلق آدم من غير أب وأم، وهو أغرب.
وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ، أى بليغة الصدق فى نفسها كسائر النساء اللاتى يلازمن الصدق فى الأقوال والأفعال فى المعاملة مع الخلق، وصدق الأفعال والأقوال فى المعاملة مع الخالق لا يصدر منهن ما يكذب دعوى العبودية والطاعة، فإن من كان مجتهدا فى إقامة وظائف العبودية وملازمة الإنابة والطاعة يسمى صديقا أو صديقة، تصدق الأنبياء، كما قال تعالى فى وصفها: وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها [التحريم: 12].
قال بعض العلماء: وهذه الآية من أدلة من قال: إن مريم، عليها السلام، لم تكن نبية، فإنه تعالى ذكر أشرف صفاتها فى معرض الرد على من قال بإلهيتهما إشارة إلى ما هو الحق فى اعتقاد ما لها من أعلى الصفات، فإن أعظم صفات عيسى، عليه السلام، الرسالة، وأكمل صفات أمه، عليها السلام، الصديقية.
ولما بين سبحانه أقصى ما لهما من الكمالات، بين أن ذلك لا يوجب لهما الإلهية
بقوله تعالى: كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ؛ لأن من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام وما يتبعه من الهضم، لم يكن إلا جسما مركبا من عظم، ولحم، وعروق، وأعصاب، وأخلاط، وغير ذلك، مما يدل على أنه مصنوع ومؤلف مدبر كغيره من الأجساد، فكيف يكون إلها، وخص الأكل بالذكر لأنه أصل الحاجات، والإله لا يكون محتاجا، وقيل: هذا كناية عن الحدث؛ لأن من أكل وشرب لا بدّ له من البول والغائط، ومن كانت هذه صفته، كيف يكون إلها؟ ثم لما أوضح الله تعالى لهم الأدلة فى أمرهما حتى ظهر كالشمس بعدهما عما ادعوا فيهما أتبعه التعجب بقوله سبحانه: انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ على وحدانيتنا.
ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ، أى يصرفون عن الحق مع قيام البرهان، وكان العطف ب ثُمَّ للتفاوت بين العجب من بيان الله للآيات على التوحيد، وبين العجب من إعراضهم عن هذا البيان، وأن إعراضهم أعجب.
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أى غيره، يعنى عيسى، ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً، أى لا يستطيع أن يضركم بمثل ما يضر الله تعالى به من البلايا، والمصائب فى الأنفس، والأموال، ولا أن ينفعكم بمثل ما ينفعكم الله تعالى به من صحة الأبدان، والسعة، والخصب، وكل ما يستطيعه البشر من المضار والمنافع، فبإقدار الله تعالى وتمكينه.
وهذا دليل قاطع على أن أمر عيسى مناف للربوبية، حيث جعله لا يستطيع ضرا ولا نفعا، وصفة الرب تعالى أن يكون قادرا على كل شىء، لا يخرج مقدور عن قدرته تعالى، وإنما قال: ما فى حق من يعقل مع أن أصله يطلق على غير العاقل، نظرا إلى ما هو عليه فى ذاته فإنه، عليه السلام، فى أول أحواله لا يوصف بعقل ولا بشيء من الفضائل، وإنما ظهر على يديه من بعض المنافع، وإزالة بعض المضار بإقدار الله تعالى على ذلك وتمكينه إياه، فكيف يكون إلها؟ وكان التعبير ب ما تنبيها على أنه من جنس ما لا يعقل، بمعنى أنه فى ذاته لا يملك ضرا ولا نفعا إلا بتمليك الله له وإقداره كما بينا.
وهذا القدر مشترك بينه وبين غيره وأنه، عليه السلام، واحد من آحاد تلك الحقيقة، ومن كانت له حقيقة تقبل المجانسة والمشاركة، فبمعزل عن الإلهية، وبيان ذلك
وتوضيحه
أن من كان له حقيقة يشارك بها غيره، لا بدّ أن يكون له ما يتميز به عن غيره، فيتركب مما به الاشتراك، وما به الامتياز، والتركيب ينافى الإلهية، فعيسى، عليه السلام، باعتبار ذاته لا يملك شيئا نفعا ولا ضرا، وهو بهذا الاعتبار يشترك مع آحاد كل من لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، فإذا ما انضم إليه خصيصة تميزه عن بقية آحاد هذه الحقيقة، بأن قدر بأقدار الله تعالى على جلب نفع، أو دفع ضر، كان مركبا، والتركيب ينافى الإلهية كما قدمنا آنفا.
غلو اليهود والنصارى:
ثم يقول الله تعالى بعد ذلك خطابا لأهل الكتاب عامة من يهود ونصارى، كما هو رأى الأكثر: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ [المائدة: 77]، الغلو نقيض التقصير.
وقوله تعالى: غَيْرَ الْحَقِّ يفيد أن الغلو فى الدين نوعان: غلو حق، وهو أن يجتهد فى تحصيل حججه، كما يفعل المتكلمون، وغلو باطل، وهو أن يتجاوز الحق ويتخطاه بالإعراض عن الأدلة، فيرفعوا عيسى، عليه السلام، إلى أن يدّعوا له الإلهية.
وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ فى غلوهم، وهم أسلافهم الذين قد ضلوا بتماديهم فى الباطل من التثليث وغيره، حتى ظن حقا ضَلُّوا أى بعد مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ، أى طريق الحق، وهو الإسلام، والسواء فى الأصل هو الوسط، والأهواء هاهنا المذاهب التى تدعوا إليها الشهوة دون الحجة.
قال أبو عبيد: لم يذكر الهوى إلا فى موضع الشر، لا يقال: فلان يهوى الخير، إنما يقال: يريد الخير ويحبه، وقيل: سمى الهوى هوى؛ لأنه يهوى بصاحبه إلى النار، وقال رجل لابن عباس: الحمد لله الذى جعل هواى على هواك، فقال: كل هوى ضلالة.
وبعد فما أصدق هذه الحقائق القرآنية، وما أعظم هذه الآيات التنزيلية، وما أشد إلزامها لليهود والنصارى فى انحرافهم عن التوحيد وبعدهم عما جاء به القرآن الكريم من العقيدة الحقة، والأعمال التشريعية الصالحة، وما أصدق قول الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:
33].
محاجة القرآن لليهود والنصارى معا:
هذا وإذا كانت الآيات السابقة قد ألزمت الحجة كلا من اليهود والنصارى على حدة وانفراد، فهناك آيات جمعتهما فى خطاب واحد، وألزمتهما الحجة والبرهان، نسوق منها ما يلى:
أولا: قال تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ [المائدة:
15].
حكى الله تعالى قبل ذلك عن اليهود والنصارى نقضهم العهد، وتركهم ما أمروا به، ثم دعاهم بعد ذلك إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ
…
الآية، فهى دعوة صريحة خاصة لهم، وخطاب قوى موجه إليهم، وإيرادهم بعنوان أَهْلَ الْكِتابِ لانطواء الكلام المصدر به على ما يتعلق بالكتاب، وللمبالغة فى التشنيع عليهم، فإن أهلية الكتاب من موجبات مراعاته، والعمل بمقتضاه، وبيان ما فيه من الأحكام، وقد فعلوا من الكتم والتحريف ما فعلوا وهم يعلمون، فقد أخفت اليهود آية الرجم، كما أخفت النصارى بشارة الإنجيل بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وفى إعلامه صلى الله عليه وسلم يخفى ما فى كتبهم، وهو أمى لا يكتب ولا يصحب القرّاء، دليل على صحة نبوته، لو ألهمهم الله الخير، وقوله: وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ، يعنى مما يكتمونه، فلا يتعرض له ولا يؤاخذهم به؛ لأنه لا حاجة إلى إظهاره، والفائدة فى ذلك أنهم يعلمون كون النبى صلى الله عليه وسلم عالما بما يخفون، وهو معجزة له أيضا، فيكون ذلك داعيا إلى الإيمان به.
وفى قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يعنى القرآن، فإنه الكاشف لظلمات الشك والضلال، والكتاب الواضح الإعجاز، فالنور والكتاب المبين متحدان بالذات، وعطف أحدهما على الآخر من قبيل عطف الصفة على الصفة، مع اتحاد الموصوف بهما، وهو القرآن. وقيل: يريد بالنور محمدا صلى الله عليه وسلم، وعلى ذلك فالعطف من قبيل عطف الذات على الذات، وأيا ما كان، فالمراد بهذه الجملة المستأنفة أن فائدة مجىء الرسول ليست منحصرة فيما ذكر من بيان ما كانوا يخفونه، بل إنه جاء لهم نورا يهتدون به فى معرفة الحق، ويسترشدون به إلى الغاية المنشودة.
ثانيا: قال تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة: 19].
نص هو فى غاية البيان أنه صلى الله عليه وسلم أرسل لليهود والنصارى، وليس معنى إرساله إليهم إلا أن يؤمنوا بما جاء به من توحيد خالص، ويعبدوا الله على شريعته التى رسمها وبينها من صلاة وصيام، وما إلى ذلك، وما أروع قوله فى الآية الكريمة: أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ، فهو يدل على أنهم فيما هم عليه من شريعة حرّفوها، ودين أضاعوه فى أمس الحاجة إلى بيان شاف، وإيضاح للحق كامل، فمعنى الآية هو الامتنان عليهم بأن الرسول بعث إليهم حين انطماس آثار الوحى، وهم أحوج
إليه لإزالة العذر، وإلزام الحجة، فعليهم أن يعوا ذلك نعمة من الله عليهم، ورحمة منه بهم.
ثالثا: قال تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [المائدة: 68].
بعد أن أمرهم الله تعالى فى الآيتين السابقتين باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وبين لهم أنه صلى الله عليه وسلم إنما جاء لهم ليصحح العقيدة، ويرشدهم إلى السبيل السوى، قال لهم فى هذه الآية الكريمة:
أن ما هم عليه من دين باطل لا يعتد به إطلاقا، حتى يكون ذلك حافزا لهم إلى الدخول فى دين محمد صلى الله عليه وسلم، فإن المرء يأنف أن يكون على عقيدة باطلة، أو عبادة فاسدة، ما دام سليم الطبع، بعيدا عن التعصب والتمسك بالباطل، فقوله تعالى: لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ أى يعتد به حتى يسمى شيئا لفساده وبطلانه، كما تقول: هذا ليس بشيء، تريد تحقيره وتصغيره، وفى أمثالهم: أقل من لا شىء.
حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، أى بأن تعملوا بما فيها، ومنها الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، والإذعان لحكمه، فإن الكتب الإلهية بأسرها آمرة بالإيمان بمن صدقته المعجزة الناطقة بوجوب الطاعة له، والمراد بقوله: وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ هو القرآن الكريم، وما أبدع قوله: وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، يعنى فالقرآن أنزل إليهم ولهم، وهم مقصودون به ضمن من قصد، ومطالبون بالعمل بأحكامه ضمن من طلب إليه ذلك من بقية المكلفين.
وأما قوله: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ
…
إلى آخره، فهو بيان لما هم عليه من كفر
بالقرآن، وحقد على من جاء به، وقد سماهم الله تعالى كافرين، حيث لم يؤمنوا به، وقد نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن أن يحزن على كفرهم، ففي المؤمنين مندوحة عنهم وغناء، أى غناء له صلى الله عليه وسلم، يعنى فهم كفار بمقتضى هذه الآية القرآنية وغيرها من النصوص القرآنية الأخرى التى ذكرنا بعضها سابقا، وما داموا كذلك، فليس لهم فى الآخرة أدنى نصيب من رحمة الله تعالى.
رابعا: ويؤكد هذا ويوضحه ويزيده بيانا ما جاء فى قوله جل جلاله: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف: 156 - 158].
قال العلماء: هذا النص من أبين الأدلة على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم وشمولها لكل الطوائف وجميع الأجناس على تباين مذاهبها واختلاف نحلها.
ونسوق تفسير هذا النص، وبيان ما فيه من عظيم الفوائد، وجليل المنافع، الأمر الذى هو موضوع بحثنا، ومرتبط به أتم الارتباط، فقوله سبحانه: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ سيق هذا الكلام جوابا لدعاء سيدنا موسى فى قوله قبل ذلك: أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ [الأعراف: 155، 156].
فجاء قوله تعالى بعد ذلك: قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، فقوله: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، أى من خلقى فى الدنيا، ما من مسلم، ولا كافر، ولا مطيع، ولا عاص، إلا وهو متقلب فى نعمتى، وهذا معنى حديث أبى هريرة فى الصحيحين:«إن رحمتى سبقت غضبى» ، وفى رواية:«غلبت غضبى» ، وأما فى الآخرة، فقال تعالى: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وخصها بالذكر لنفعها المتعدى، ولأنها كانت أشق عليهم.
روى أنه لما أنزل: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ قال إبليس: أنا من ذلك الشيء، فقال تعالى: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ، ولا
يكفرون بشيء منها، فأيس إبليس منها، وتمناها اليهود والنصارى، وقالوا: نحن نتقى ونؤمن بآيات ربنا، فأخرجهما الله تعالى بقوله: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ، ومعنى الأمى أنه لا يقرأ ولا يكتب، وهى صفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم:«نحن أمة أمية لا نكتب، ولا نحسب» ، والعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون ولا يقرءون، أى الخط، والنبى صلى الله عليه وسلم كان كذلك.
قال أهل التحقيق: وكونه أميا بهذا التفسير، كان من جملة معجزاته، وبيان ذلك من وجوه:
الأول: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ عليهم كتاب الله تعالى منظوما مرة بعد أخرى، من غير تبديل ألفاظه، ولا تغيير كلماته، والخطيب من العرب إذا ارتجل خطبة ثم أعادها، فلا بد وأن يزيد فيها، أو ينقص عنها بالقليل والكثير، ثم إنه صلى الله عليه وسلم مع أنه ما كان يكتب ولا يقرأ يتلو كتاب الله تعالى من غير زيادة، ولا نقصان، ولا تغيير، فكان ذلك معجزة، وإليه الإشارة بقوله تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [الأعلى: 6].
ثانيا: أنه لو كان يحسن الخط والقراءة، لكان متهما فى أنه ربما طالع كتب الأولين، فحصل على هذه العلوم من تلك المطالعة، فلما أتى بالقرآن العظيم المشتمل على العلوم الكثيرة من غير تعلم أو مطالعة، كان ذلك من المعجزات، وهذا هو المراد من قوله تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ
[العنكبوت: 48].
ثالثا: تعلم الخط شىء سهل، فإن أقل الناس ذكاء وفطنة يتعلمون الخط بأدنى سعى، فعدم تعلمه يدل على نقصان عظيم فى الفهم، ثم إنه تعالى آتاه علوم الأولين والآخرين، وأعطاه من العلوم والحقائق ما لم يصل إليه أحد من الخلق، ومع تلك القوة العظيمة فى العقل والفهم جعله بحيث لم يتعلم الخط الذى يسهل تعلمه على أقل الخلق عقلا وفهما، فكان الجمع بين هاتين الحالتين المادتين جاريا مجرى المعجزات. انتهى.
ثم إن هذا الاتباع الذى وصف به اليهود والنصارى تارة يكون بالقوة فقط لمن تقدم موته على زمانه صلى الله عليه وسلم، وتارة يخرج من القوة إلى الفعل كمن لحق زمانه زمان دعوته، فمن علم الله تعالى منه أنه لا يتبعه إذا أدركه لا يغفر له، ولو عمل جميع الطاعات، وقد عرفه سبحانه لهم بجميع خواصه حتى لا يتطرق عند مجيئه ريبة، ولا يتعلل أحد فى أمره بعلة،
ولذلك اتبعه الَّذِي يَجِدُونَهُ أى علماء اليهود مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ باسمه ونعته، ولكنهم كتموا ذلك وبدلوه وغيروه حسدا منهم وخوفا على زوال رياستهم، وقد حصل لهم ما كانوا يخافونه، فقد زالت رياستهم ووقعوا فى الذل والهوان.
وقوله تعالى: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ يجوز أن يكون استئنافا، ويجوز أن يكون المعنى يجدونه مكتوبا عندهم أنه يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر
…
إلخ، ويحتمل أن يكون متعلقا ب يَجِدُونَهُ فى موضع حال على تجوز، أى يجدونه فى التوراة آمرا بشرط وجوده.
حقيقة المعروف والمنكر:
المعروف ما عرف بالشرع، وكل معروف من جهة المروءة فهو معروف بالشرع، والمنكر مقابله. قال الرازى: ومجامع المعروف فى قوله صلى الله عليه وسلم: «التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله» ، وذلك لأن الموجود إما واجب الوجود لذاته، وإما ممكن لذاته.
أما الواجب لذاته: فهو الله تعالى، لا معروف أشرف من تعظيمه، وإظهار الخشوع، والخضوع على باب عزته، والاعتراف بكونه موصوفا بصفات الكمال، مبرءا عن النقصان والآفات، منزها عن الأنداد والأضداد.
وأما الممكن لذاته: فإن لم يكن حيوانا، فلا سبيل إلى ايصال الخير إليه؛ لأن الانتفاع مشروط بالحياة، ومع ذلك فإنه يجب النظر إلى كلها بعين التعظيم من حيث إنها مخلوقة لله، ومن حيث إن كل ذرة من ذرات المخلوقات لما كانت دليلا ظاهرا، وبرهانا باهرا على توحيده وتنزيهه، فإنه يجب النظر إليه بعين الاحترام، ومن حيث إن لله سبحانه وتعالى فى كل ذرة من ذرات المخلوقات أسرارا عجيبة وحكما خفية، فيجب النظر إليها بعين الاحترام.
وأما إن كان المخلوق من جنس الحيوان، فإنه يجب الشفقة عليه بأقصى ما يقدر الإنسان عليه، ويدخل فيه بر الوالدين، وصلة الأرحام، وبث المعروف، فيثبت أن قوله صلى الله عليه وسلم:«التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله» ، كلمة جامعة لجميع جهات الأمر بالمعروف. ولا شك أن المنكر هو ضد الأمور المذكورة.
قوله تعالى: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ أى ما حرّم عليهم فى شرعهم، كالشحوم،
ويحرّم عليهم الخبائث، أى كالدم، ولحم الخنزير، والربا، وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ، أى ثقلهم الذى كان يحمل عليهم، وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ من الدين والشريعة، وذلك مثل قتل النفس فى التوبة، وقطع الأعضاء الخاطئة، وقرض النجاسة من البدن، والثوب بالمقراض، وغير ذلك من الشدائد التى كانت على بنى إسرائيل، شبهت بالأغلال التى تجمع اليد إلى العنق، كما أن اليد لا تمتد مع وجود الغل، فكذلك لا تمتد على الحرام الذى نهيت عنه، وكانت هذه الأثقال فى شريعة موسى، عليه السلام، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم نسخ ذلك كله، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:«بعثت بالحنفية السهلة السمحة» .
فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ أى بمحمد صلى الله عليه وسلم، وَعَزَّرُوهُ أى وقّروه وعظموه، وأصل التعزير المنع والنصرة، وتعزير النبى صلى الله عليه وسلم تعظيمه، وإجلاله، ودفع الأعداء عنه، وَنَصَرُوهُ على أعدائه وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أى القرآن، سمى نورا لأنه به تستنير قلوب المؤمنين، فتخرج من ظلمات الشك والجهالة إلى ضياء اليقين والعلم.
ولا يقال: إن القرآن ما أنزل مع شخص محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما نزل مع جبريل. لأنا نقول:
معناه لأنه أنزل مع شخصه صلى الله عليه وسلم؛ لأن نبوّته ظهرت مع ظهور القرآن، ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الصفات، قال: أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، أى الفائزون بالمطلوب فى الدنيا والآخرة.
عموم الدعوة الإسلامية:
وقوله سبحانه: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف:
158]، هذا أمر الله تعالى لنبيه بإشهار دعوته، وهذه من خصائصه صلى الله عليه وسلم من بين سائر الرسل، فإنه صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافة، وإلى الجن عامة، وكل نبى بعث إلى قومه خاصة، لقوله صلى الله عليه وسلم:«أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلى: أرسلت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لى الأرض مسجدا وطهورا، ونصرت على عدوى بالرعب منى مسيرة شهر، وأطعمت الغنيمة دون من قبلى، وقيل لى: سل تعطه، واختبأت شفاعتى لأمتى» .
فإن قيل: كان آدم، عليه السلام، مبعوثا إلى جميع أولاده، ونوح لما خرج من السفينة كان مبعوثا إلى الذين كانوا معه، مع أن جميع الناس فى ذلك الزمان ما كانوا إلا ذلك القوم. أجيب بأن ذلك لم يكن لعموم رسالتهما، بل للحصر المذكور، فليس ذلك من باب عموم الرسالة.
قوله تعالى: جَمِيعاً حال من إليكم، أى أن الكل يشترط عليهم الإيمان بى والاتباع لى، قال بعض الفضلاء: وقد طار الخبر بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم إلى كل أفق وتغلغل فى كل نفق، ولم يبق الله تعالى أهل مدر، ولا وبر، ولا سهل، ولا جبل، ولا بحر، ولا بر، فى مشارق الأرض ومغاربها، إلا وقد ألقاه إليهم، وملأ به مسامعهم، وألزمهم به الحجة، وهو سائلهم عنه يوم القيامة.
فهذه الآيات القرآنية الصادقة، وتلكم البراهين التنزيلية الحقة، تلزم اليهود والنصارى بالإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من التوحيد الذى انحرفوا عنه وضيّعوه، ومن التعبد والخضوع لله تعالى على وفق ما رسم القرآن، وبين من أحكام وشريعة تخالف وتغاير ما جاء فى كتبهم على ما اقتضته الحكمة الإلهية من نزول الشرائع على ما يناسب كل أمة مع رسولها.
فما قالوه عن إيمانهم بالله تعالى، فقد تبين فساده، حيث ثلثوا وأثبتوا له البنوّة جل جلاله، وما قالوه عن إيمانهم باليوم الآخر، فهو فاسد كذلك، حيث لم يؤمنوا به على حقيقة ما أخبر الله عنه، بل على ما فهموه زورا وبهتانا، كما أنهم ليس لهم يقين فيما فهموه، إذ اليقين هو العلم المتقين بالدليل، وإنما اعتقادهم خيال فاسد، وجهل محض، ولذلك قال عز من قائل فى وصف المتقين فى أول سورة البقرة: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة: 4]، قال المفسرون: إن قوله: بِالْآخِرَةِ متعلق ب يُوقِنُونَ فلم قدم عليه؟ وإن قوله: هُمْ فاعل فى المعنى ل يُوقِنُونَ فلم جعل مبتدأ وقدم عليه؟
ومحصول الجواب أنه عدل إلى كل واحد من المتقدمين ليفيد التقدم الأول، وهو تقديم بالآخرة، أن إيقانهم مقصور على ما هو حقيقة الآخرة لا يتعداها إلى ما هو خلاف حقيقتها كما يزعم اليهود، كأنه قيل: يوقنون بالآخرة لا بغيرها، وفيه تعريض بأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالقرآن بأن ما كانوا عليه ليس من الإيمان بحقيقة الآخرة لعدم خلوص علمهم بالآخرة عن الشبهة الباطلة، فإن اعتقادهم فى أمر الآخرة غير مطابق لحقيقة الآخرة.
وليفيد تقديم الفاعل المعنوى أن الإيقان بالآخرة مقصور على المؤمنين، لا يتجاوزهم إلى أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالقرآن، وفيه تعريض لهم بأن اعتقادهم
الذى يزعمون أنه إيقان ليس إيقانا أصلا، بل هو جهل محض، كما أن معتقدهم خيال باطل، وإنما الإيقان ما عليه المؤمنون، كما أن الآخرة هى التى يعتقدونها، فإن أهل الكتاب يقولون: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، وأن اليهود قالوا:
وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [البقرة: 80]، إلى آخر مفترياتهم الباطلة، والله يقول الحق، وهو يهدى السبيل.
الرد على المحامى أحمد حسين:
لقد رأينا كتابا بعنوان: فى الإيمان والإسلام (1)، وضعه أحد المحامين فى هذا العصر، وهو الأستاذ أحمد حسين، وفيه ما لا يتفق مع النصوص القرآنية السابقة، لذلك رأينا من الواجب علينا إزاء الدعوة الإسلامية أن نبين ما فيه، إخلاصا للحقيقة، ووضعا للحق فى نصابه، فنقول مستعينين بالله وحده، ومتوكلين دائما عليه:
قال الكاتب فى صفحة (174، 175) من هذا الكتاب تحت عنوان: الإسلام يؤاخى بين الأديان ويوفق بينها، بعد كلام ما نصه: فجاء الإسلام على خلاف جميع العقائد التى سبقته يؤاخى بين الأديان كلها.
الإسلام والأديان:
نقول: إن الإسلام كما هو معلوم وثابت يوافق الأديان السابقة كلها، ويتآخى معها ويرتبط بها أشد الارتباط فى أمر التوحيد بنص قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25]، ويتآخى معها كذلك فى أصول العبادات دون هيئاتها وأشكالها، قال تعالى حكاية عن بنى إسرائيل: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً، إلى أن قال:
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ [البقرة: 83].
وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: 183]، أما هيئات العبادة وأشكالها، فمختلف فيها قطعا، حيث إن لكل أمة مع رسولها تشريعا خاصا فى هذه العبادات اقتضته الحكمة الإلهية، كما أوضحناه سابقا فى أول البحث، ودليل هذا الاختلاف فى التشريع قوله جل جلاله:
لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة: 48].
قال العلامة أبو السعود عند هذه الآية ما نصه: والمعنى: لكل أمة كائنة منكم أيها
(1) طبعة دار القلم، الطبعة الثانية.
الأمم الباقية والخالية جَعَلْنا أى عينا ووضعنا شِرْعَةً وَمِنْهاجاً خاصين بتلك الأمة، لا تكاد أمة تتخطى شرعتها التى عينت لها، فالأمة التى كانت من مبعث موسى إلى عيسى، عليهما السلام، شرعتهم التوراة، والتى كانت من مبعث عيسى إلى النبى صلى الله عليه وسلم شرعتهم الإنجيل، وأما أنتم أيها الموجودون من سائر المخلوقات، فشرعتكم
القرآن ليس إلا، فآمنوا به وآمنوا بما فيه.
وقال العلامة الجمل فى حواشيه على الجلالين: قال ابن عباس: قوله: شِرْعَةً وَمِنْهاجاً سنة وسبيلا. وقال قتادة: سبيلا وسنة، فالسنن مختلفة، فللتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللقرآن شريعة يحل الله بها عز وجل فيها ما يشاء، ويحرم ما يشاء، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، والدين الذى لا يقبل التغير هو التوحيد والإخلاص لله تعالى والإيمان بما جاءت به جميع الرسل، عليهم السلام. وقال علىّ بن أبى طالب:
الإيمان منذ بعث آدم، عليه السلام، شهادة أن لا إله إلا الله، والإقرار بما جاء من عند الله تعالى، ولكل قوم شرعة ومنهاج.
قال العلماء: وردت آيات دالة على عدم التباين بين طرق الأنبياء، منها قوله تعالى:
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً إلى قوله: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13]، ومنها قوله سبحانه: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90].
وردت آيات دالة على حصول التباين بينها، منها هذه الآية، وهى قوله تعالى:
لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً، وطريق الجمع بين هذه الآيات أن كل آية دلت على عدم التباين، فهى محمولة على أصول الدين من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، فكل ذلك جاءت به الرسل من عند الله تعالى، فلم يختلفوا فيه.
وأما الآيات الدالة على حصول التباين بينها، فمحمول على الفروع وما يتعلق بمظاهر العبادات، فجائز أن يتعبد الله عباده فى كل وقت بما شاء، فهذا هو طريق الجمع بين الآيات، والله أعلم بأسرار كتابه. انتهى.
هذا هو القرآن الحكيم، وهذا هو فهم الراسخين من أولى العلم فيه، نقلناه ليكون حجة نيرة، وبرهانا ساطعا على من انحرف فى القول وخلط فيه، وبعد عن الصواب والمنهج المستقيم.
كذلك ذكر الإمام القرطبى فى تفسير قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً [الشورى: 13] فى بيان حكمة اقتصار الآية الكريمة على البدء بنوح بدون آدم، نقلا عن القاضى ابن العربى ما نصه: ثبت فى الحديث الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم قال فى حديث الشفاعة المشهور الكبير: «ولكن ائتوا نوحا، فإنه أول رسول بعثه الله تعالى إلى الأرض، فيأتون نوحا، فيقولون له: أنت أول رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض» ، وهذا صحيح لا إشكال فيه، كما أن آدم أول رسول نبى بغير إشكال، إلا أن آدم لم يكن معه إلا بنوه، ولم تفرض له الفرائض، ولا شرعت له المحارم، وإنما كان شرعه تنبيها على بعض الأمور، واقتصارا على ضروريات المعاش، وأخذا بوظائف الحياة والبقاء، واستمر هذا إلى نوح، فبعثه الله تعالى بتحريم الأمهات والبنات والأخوات، ووظف عليه الواجبات، وأوضح له الآداب والديانات، ولم يزل ذلك يتأكد بالرسل، ويتناصر بالأنبياء، صلوات الله عليهم، واحدا بعد واحد، وشريعة إثر شريعة، حتى ختمها الله تعالى بخير الملل، ملتنا، على لسان أكرم الرسل، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وكأن المعنى: أوصيناك يا محمد ونوحا دينا واحدا، يعنى فى الأصول التى لا تختلف فيها الشرائع، وهى التوحيد، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والتقرب إلى الله تعالى بصالح الأعمال، والصدق، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وتحريم الكفر، والقتل، والزنا، والإذاية للخلق كيفما تصورت، والاعتداء على الحيوان كيفما دار، واقتحام الدناءات وما يعود بخرم المروءات، فهذا كله مشروع دينا واحدا، وملة متحدة لم تختلف على ألسنة الأنبياء، وإن اختلفت أعذارهم، وذلك قوله تعالى: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ، أى اجعلوه دائما، قائما، مستمرا، محفوظا، مستقرا من غير خلاف فيه ولا اضطراب، فمن الخلق من وفى بذلك، ومنهم من نكث، ومن ينكث فإنما ينكث على نفسه، واختلفت الشرائع وراء هذه فى أحكامها حسبما أراد الله تعالى مما اقتضت المصلحة، وأوجبت الحكمة وضعه فى الأزمنة على الأمم، والله أعلم.
فهذا هو التوحيد بين الأديان والاختلاف بينها، وقد تبين بوضوح أن ذلك لازم لكل دين، وضرورى فى كل رسالة سبقت الإسلام وتقدمت عليه، على خلاف ما يفهم من عبارة الكاتب التى نقلناها عنه سابقا فى قوله: فجاء الإسلام على خلاف جميع العقائد التى سبقته يؤاخى بين الأديان كلها، فقوله: على خلاف جميع العقائد، يقصد به جميع الأديان، وهو كلام لا سند له ولا دليل، بل الدليل يبطله ويأتى عليه من أساسه، قال
تعالى: وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ [المائدة:
46] الآية، فقوله: مُصَدِّقاً فى الموضعين حال، الأول من «عيسى» ، والثانى من «الإنجيل». قال العلماء: إنها حال مؤكدة، إذ مقتضى أن عيسى رسول من الله تعالى، أن يكون مؤمنا بما فى التوراة، ومقتضى أن الإنجيل كتاب من الله، أن يكون مصدقا للتوراة التى هى من عند الله كذلك.
وقال تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ [المائدة: 48]، قال الخطيب الشربينى فى تفسيره عند هذه الآية ما نصه: ولما كانت الكتب السماوية من شدة تصادقها كالشيء الواحد، عبر تعالى بالمفرد، فقال: مِنَ الْكِتابِ، أى الكتب المنزلة التى جاء بها الأنبياء من قبل، فاللام الأولى فى الكتاب للعهد؛ لأنه عنى به القرآن، والثانية للجنس؛ لأنه عنى به جنس الكتب المنزلة.
فثبت بهذا بطلان قول الكاتب أن العقائد السابقة لا تآخى بينها، ويجب أن لا يغيب عن البال أن تصادقها إنما هو على ما أوضحناه وبيناه من التوحيد بينها فى الأصول والاختلاف بينها فى الفروع، وإلا لما قال تعالى فى شأن التوراة: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا [المائدة: 44].
ولما قال سبحانه فى شأن الإنجيل: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ [المائدة: 47]، وبناء على ما بينها من تصادق واتحاد يجب على كل أصحاب ديانة سابقة أن يدخلوا فى الديانة اللاحقة لها، متعبدين لله على ما فيها من فروع الأحكام التى تخالف الشريعة السابقة، وإلا فهم كافرون مخلدون فى النار.
فإن أراد الكاتب بتآخى الإسلام مع بقية الأديان هذا الذى أوضحناه وبيناه لهو صحيح ثم صحيح، وإن أراد غير ذلك بأن أراد أن ما فى الأديان الأخرى من تشريع يخالف تشريع القرآن صحيح يتعبد به وينال به عند الله الثواب الجزيل والنعيم الدائم، وأن من صلى من أهل الديانات الأخرى، وصام، وحج على وفق ما جاء فى شريعته، يساوى ويعادل من صلى، وصام، وحج على وفق شريعة القرآن، وأن كلا منهما يرضى عنه الله فى دار البقاء، فهذا كفر صريح لا شبهة فيه على ما قدمنا من الأدلة والبراهين الملزمة بالدخول فى الإسلام والانضواء تحت لوائه.
جدال أهل الكتاب:
وقال الكاتب فى صفحة (178) ما نصه: ولقد أمر الإسلام معتنقيه أمرا ألا يجادلوا أصحاب الديانات الأخرى إلا بالتى هى أحسن، وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت: 46]، وما ذلك إلا ليشعروا أن المتدين أخو المتدين، وإن اختلفا فى بعض الآراء والأفكار.
وذكر الكاتب قبل كلامه هذا أن من أصحاب الديانات أتباع كنفشيوس فى الصين، وبوذا فى الهند، وزاردشت بالفرس، وإخناتون المصرى القديم، وقال: إنه لا يحق لمسلم أن يزدريهم أو أن يحقرهم، فقد يكونون من الرسل الذين لم يقص القرآن قصصهم.
ونقول له قبل أن نتكلم معه فى الآية الكريمة التى ساقها دليلا على دعواه: إن الرسل الذين لم يقصهم الله تعالى علينا فى القرآن هم ضمن الغيب الذى لم يطلعنا الله عليه لحكمة يعلمها هو، فعلينا أن نؤمن بأن هناك رسلا دعت الناس إلى توحيد الله وعبادته دون أن نعرف أشخاصهم وأزمنتهم وما لابس وجودهم من وقائع وحوادث، فقد قال العلماء فى قوله تعالى: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [النساء: 164]، معناه أن هناك رسلا سميناهم لك فى القرآن، وعرفناك أخبارهم، وإلى من بعثوا من الأمم، وما حصل لهم من قومهم، وقوله: لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ، أى لم نسمهم لك، ولم نعرفك أخبارهم، فمجرد تجويز أنهم رسل لا يكفى أبدا لإعطائهم قداسة الرسل.
ولنتكلم معه فى الآية: نقول: إنه لم يسق الآية بتمامها، وفى ذلك تغطية للحقيقة وستر لها عن أعين المتطلعين إليها والراغبين فى معرفتها، فالآية فى سوقها هذا تدل على أن لا نجادل إلا بالتى هى أحسن دائما أبدا، وهذا غير مراد قطعا بدليل قوله سبحانه بعد هذا مباشرة: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا، ولنذكر معنى الآية بعد ذلك، فنقول:
قوله تعالى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ [العنكبوت: 46]، أى اليهود والنصارى ظنا منكم أن الجدال ينفع، أو يزيد فى اليقين، أو يرد واحدا عن ضلال مبين، إِلَّا بِالَّتِي، أى المجادلة التى هِيَ أَحْسَنُ، كمعارضة الخشونة باللين، والغضب بالكظم والدعاء إلى الله تعالى بآياته، والتنبيه على حججه كما قال: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [المؤمنون: 96].
إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ بأن حاربوا وأبوا أن يقروا بالجزية، فجادلوهم بالسيف إلى أن يسلموا، أو يعطوا الجزية، وقيل: إلا الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: إلا الذين أثبتوا الولد والشريك، والاستثناء فى قوله: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا متصل، وإنما فسر الظلم فى الآية بمحاربتهم المؤمنين حتى لا يقال: كيف قال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مع أن أهل الكتاب جميعا ظالمون؛ لأنهم كافرون، قال تعالى: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة: 254].
فالآية الكريمة شروع فى بيان إرشاد أهل الكتاب ودعوتهم إلى الإسلام بعد بيان إرشاد أهل الشرك فى قوله تعالى قبل ذلك: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً [العنكبوت: 41] الآية، فمجادلة أهل الكتاب بالحسنى معناه دعوتهم إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به؛ لأن هذا هو المتعين المفروض الذى يلزم كل مكلف من المسلمين فى حدود الاستطاعة والقدرة كما هو واضح، وما أبدع قوله فى هذه الآية: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ بعد قوله سبحانه فيها: وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ.
قال الخطيب الشربينى عندها ما نصه: أى خاضعون منقادون أتم انقياد فيما يأمرنا به بعد الأصول من الفروع، سواء كانت موافقة لفروعكم، كالتوجه بالصلاة إلى بيت المقدس، أو ناسخة كالتوجه إلى الكعبة، ولا نتخذ الأحبار والرهبان أربابا من دون الله لنأخذ ما يشرعونه لنا مخالفا لكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. انتهى هذا هو معنى الآية، وهذا هو ما يفهم منها على مقتضى الموازين الصحيحة والضوابط الدقيقة، هذا هو ما تعطيه الآية على وفق ما قاله أئمة الهدى والراسخون فى التحقيق والمعرفة.
قلنا فيما تقدم: إن الآية فى دعوة أهل الكتاب إلى الإسلام، والكاتب يقول: إن المجادلة للإشعار أن المسلم فى دينه أخو اليهودى والمسيحى فى دينهما. ولا ندرى من أين جاءت هذه الأخوة وهم يتجهون إلى بيت المقدس، ونحن نتوجه إلى الكعبة، وصلاتنا تخالف صلاتهم، وصيامنا يخالف صيامهم، إلى غير ذلك.
وقد نطق القرآن بكفرهم كما يصرح به قوله: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ، اللهم إلا إذا أمكن أن يقال فى المتضادات: إن بينها أخوة، وفى المتباينات: إن فيها صلة ورابطة.
الإيمان والعمل الصالح:
وقال فى صفحة (179) تحت عنوان: الإيمان والعمل الصالح، بعد كلامه ما نصه:
فكل من آمن وعمل صالحا فى هذه الدنيا فله أجره عند ربه، سواء فى ذلك المسلم، أو المسيحى، أو اليهودى، أو المتدين بأى دين من الأديان، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.
قلنا فيما تقدم عند ردنا عليه فى قوله: الإسلام يؤاخى بين الديان، ما نصه: فإن أراد الكاتب بتآخى الإسلام مع بقية الأديان الأخرى، هذا الذى أوضحناه، فهو صحيح، وإن أراد غير ذلك بأن أراد أن ما فى الأديان الأخرى من تشريع يخالف تشريع القرآن صحيح يتعبد به، وينال به عند الله تعالى الثواب الجزيل، والنعيم الدائم، وأن من صلى من أهل الديانات الأخرى وصام وحج على وفق ما جاء فى شريعته يساوى ويعادل من صلى وصام وحج على وفق شريعة القرآن، وأن كلا منهما يرضى عنه الله فى دار البقاء، فهذا كفر صريح لا شبهة فيه.
أما هنا وفى هذا الموضع، فقد انكشف لنا الغطاء عما يقول الكاتب من أن الإسلام يؤاخى بين الأديان، وأنه لا يقصد بتآخى الإسلام مع بقية الأديان إلا هذا الذى يصرح به هنا من أن كل من عمل صالحا على أى دين، فله أجره عند ربه، وقد تأيد هذا بما ذكره الكاتب فى مقدمة الطبعة الأولى فى كتابه هذا، فقال فى صفحتى (13 و 14) تحت عنوان: المادية هى الخطر المشترك، ما نصه: وعلى أية حال، فقد حان الوقت ليدرك كل صاحب عقيدة دينية أيا كان موضعها ومحورها، أن الخطر الذى أصبح يهدد عقيدته ليس ما يقول به دين آخر. إلى أن قال: وإنما الخطر الذى أوشك أن يهدد العقائد ويقتلعها من جذورها هو هذه المادية الطاغية الجارفة المسعورة.
فهو يرى أن الأديان كلها متآخية، وأن أصحابها ناجون، يرضى الله عنهم جميعا دون الماديين الذين استهوتهم المادة وغلبهم حبها، وتغلغل هذا الرأى فى نفس الكاتب إلى حد أنه رسم على غلاف كتابه ما ينبئ عن هذا التآخى ويشير إليه، فقد رسم على الغلاف مئذنة وصليبا بجانبها، وبجانب الصليب من فوق رسم شمسا، وبجانب الصليب من أسفل رسم نجمة، وبين الشمس والنجمة فى محازاة الصليب وبجانبه رسم شخصا فرعونيا، يعنى فهو يدعو إلى الفكرة قولا، وكتابة، ورسما، وتصويرا، وتفسير هذا
الرسم على حسب ما جاء فى كلامه الذى ذكرناه قريبا أن الرجل الفرعونى والشمس رمزان إلى أخناتون المصرى، والنجمة هى رمز وشعار اليهودية، أما الصليب فهو معروف أنه للنصارى، والمئذنة معلوم أنها للمسلمين، ولا ندرى ما رمز الزرادشتية، ولا رمز الكونفشيوسية، ولا رمز البوذية، وعلى كل، فهذا الذى ذكرناه هو ما أمكننا أن نستخلصه من هذا الرسم، ولعله يقول فيما لم يرمز إليه أنه محمول على غيره ومقصود معه، بدليل كلامه السابق الذى ذكرناه.
ونقول نحن من جانبنا: كل من يقول وهو غير مؤمن بالقرآن وبرسالة محمد صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة، وأن الله تعالى عنه راض، وأنه تعالى يثيبه على عقيدته أو عبادته فى دار البقاء، فهو كاذب خاطئ، قال تعالى حاكيا عن اليهود والنصارى: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 111، 112].
سمى الله تعالى هذا القول منهم أمنية تمنوها، وشهوة رغبوا فيها، يعنى فلا دليل على ذلك ولا برهان، ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يطلب منهم البرهان فى ذلك، وأن يظهروا ما عندهم من حجة إن كانت لهم حجة أو برهان، وكانت الإجابة ب بَلى لإثبات ما نفوه من دخول غيرهم الجنة، وبين سبحانه بهذا أن الجنة لن تكون إلا لمن أسلم وانقاد لله تعالى بقلبه باطنا، وبجوارحه ظاهرا.
وقال بعد ذلك أيضا حاكيا عنهم: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [البقرة: 135]، فالله سبحانه بهذه الآيات يكذبهم تكذيبا صريحا، ويبين لهم كيف يكون الوصول إلى الجنة ونيل ما عند الله تعالى من الثواب، وإذا كان القرآن يكذب اليهود والنصارى فى هذه الدعاوى التى قالوها، وهم أصحاب شرع سماوى سابق، فغيرهم ممن لم يعلم له كتاب ولم يعرف له رسول من سائر المذاهب والأديان التى ذكرها الكاتب، أولى بهذا التكذيب وأحق به، وعلى الكل أن ينضوى تحت لواء القرآن، وأن يصدق بما جاء فيه من تشريع وأحكام.
فحقيقة الإيمان الصحيح اللازم لكل مكلف فى أى جنس، وعلى أى ملة ومذهب، الإيمان المعتبر عند الله تعالى فى النجاة من الخلود فى النار، وفى نيل الثواب الدائم
والنعيم المقيم فى الجنة، هو الإيمان بالقرآن وسائر الكتب السماوية السابقة عليه، قال تعالى فى أول سورة البقرة فى بيان وصف المتقين: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة: 4]، قال المفسرون عند هذه الآية: والإيمان بالإنزالين جملة فرض عين، وبالأول دون الثانى تفصيلا من حيث إنا متعبدون بتفاصيله فرض، ولكن على الكفاية؛ لأن وجوبه على كل أحد يوجب الحرج ويشوش المعاش.
قال تعالى من هذه السورة أيضا: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة: 136].
وَالْأَسْباطِ جمع سبط، وهو الحافد، والمراد حفدة يعقوب وأبناؤه وذراريه، فإنهم حفدة إبراهيم وإسحاق، وقد نسبت صحف إبراهيم إلى الأسباط؛ لأنهم كانوا متعبدين بتفاصيلها، داخلين تحت أحكامها، فكأنها أنزلت إليهم، كما أن القرآن لهذا الاعتبار نزل إلينا.
ثم قال تعالى كذلك فى هذه السورة: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة: 177].
اختلف نظر المفسرين فى بيان المخاطب بهذه الآية، وعلى أى قول منها، فهى دليل واضح على أن الإيمان لن تكون له حقيقة منجية إلا إذا كان بجميع الأنبياء وما نزل إليهم.
قال فريق: إن المراد بالمخاطب أهل الكتاب، وعليه يكون المعنى: ليس البر صلاة اليهود إلى المغرب، وصلاة النصارى إلى المشرق، فإنهم أكثروا الخوض فى أمر القبلة حين حوّلت، وادعى كل طائفة أن البر هو التوجه إلى قبلته، فرد الله تعالى عليهم وقال:
ليس البر ما أنتم عليه، فإنه منسوخ، ولكن البر ما فى هذه الآية. وقوله تعالى:
وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ على تأويل حذف مضاف، أى بر من آمن، أو بتأويل البر بمعنى ذى البر، أى ولكن البر الذى ينبغى أن يهتم به بر من آمن، أو لكن ذا البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب، أى الكتب، إن أريد به الجنس، وإلا فالقرآن.
ويرى البعض أن المخاطبين هم المسلمون، والمعنى عليه: ليس البر كله فى الصلاة،
ولكن البر ما فى هذه الآية. وبعضهم عمها فى المسلمين وأهل الكتابين، أى ليس البر مقصورا بأمر القبلة.
ومقصودنا من هذه الآية لا يختلف على أى قول من الأقوال كما قدمنا آنفا. كذلك جاء فى آخر هذه السورة قوله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ.
فهذه دلائل صادقة وبراهين قوية دامغة على ما قلناه فى بيان حقيقة الإيمان المنجى، من أخل بجزئية من هذه الحقيقة، فإيمانه غير صحيح ولا معتبر شرعا، بمعنى أن من فرّق فى إيمانه بين كتاب وكتاب، أو رسول ورسول، أو ما إلى ذلك، فهو كافر.
قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً [النساء: 150، 151]. وقال حكاية عن اليهود خاصة: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ [البقرة: 89]، إلى أن قال: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ [البقرة: 91].
فالفروق التى ذكرها الكاتب فى كلامه الذى ذكرناه قبل لا تؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ولا بقرآنه، فهى كافرة بمقتضى هذه النصوص القرآنية، وما دامت كافرة فلن يقبل الله تعالى لها عملا عنده فى دار البقاء، قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ [إبراهيم: 18]، يعنى: فكل عمل طيب يصدر عن الكافر من صدقة، وصلة رحم، وفك أسير، وإقراء ضيف، وبر والد، فى عدم الانتفاع به، كرماد اشتدت به الريح، فلم تبق له عينا ولا أثرا، فهم لا يجدون لهذا العمل ثوابا عند الله تعالى لفقد شرطه، وهو الإيمان الصحيح، وقال تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان: 23]، يعنى قصدنا إلى أعمالهم التى عملوها من مكارم الأخلاق، كالجود، وإغاثة الملهوف، ونحو ذلك، فَجَعَلْناهُ، لكونها لم تؤسس على الإيمان، هَباءً وهو ما يرى من شعاع الشمس الداخل من كوة مما يشبه الغبار
مَنْثُوراً أى مفرقا فهو مثله فى عدم النفع، إذ لا ثواب فيه لعدم شرطه.
قال العلماء: وإن كانوا قد يجازون عليه فى الدنيا. وما دامت أعمالهم الصالحة لا ثواب عليها لفقد شرطها وهو الإيمان، فليس لهم إلا النار مستقرا ومقيلا.
ثم إن الكاتب لما استشهد على دعواه بالآية الكريمة، قال بعدها مباشرة: وقد تكررت هذه الآية فى القرآن بنصها ومعناها أكثر من مرة حتى أصبحت بمثابة قاعدة أساسية من قواعد الدين الإسلامى، حتى لقد جعل منها تشريعا قائما عند ما أباح للمسلم أن يتزوج بكتابية على غير دينه، وأن تبقى على دينها.
أما بالنسبة للآية، فنقول: لا يمكن أبدا فى ميزان العقل السليم والمنطق الصحيح أن تفهم الآية على ما يبدو منها للكاتب بعد أن بين القرآن حقيقة الإيمان، وما يجب على المكلف أن يؤمن به، وبعد أن حكم بالكفر على من كذّب وفرّق بين رسول ورسول، كما قدمنا كل ذلك صريحا دون لبس أو غموض، وإلا لكان القرآن من عند غير الله تعالى، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وإذن فلا بد من فهمها على هذه الحقائق، وعلى أساس هذه الأصول، وتلكم الحجج القوية الدامغة. قال أئمة التفسير: اختلف فى الذين آمنوا فى هذه الآية، فقالت فرقة:
«الَّذِينَ آمَنُوا» هم المؤمنون حقا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله:«مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ» يكون فيهم بمعنى من ثبت ودام، وفى سائر الفرق بمعنى من دخل فيه.
وقالت فرقة: المراد بالذين آمنوا، المؤمنون بالأنبياء قبل بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ويكون المعنى: أن الذين آمنوا على التحقيق فى زمن الفترة مثل: قس بن ساعدة، وورقة بن نوفل، وبحيرا الراهب، وأبى ذر الغفارى، وسلمان الفارسى، وهؤلاء هم أصحاب الإيمان الحق قبل ظهور النبى صلى الله عليه وسلم، والذين كانوا على الدين الباطل المبدل من اليهود والنصارى والصابئين من آمن منهم بالله واليوم الآخر وبمحمد صلى الله عليه وسلم عند إدراكهم زمنه، فلهم أجرهم
…
إلخ.
فالآية تبين بهذا أن أى دين قبل ظهور محمد صلى الله عليه وسلم لو كان صحيحا لا ينفع المتدينين به عند ظهوره صلى الله عليه وسلم، وعليهم أن يؤمنوا بالقرآن، وبما جاء به، عليه السلام، إذا أدركوا زمنه، وإلا فهم هالكون، ومن باب أولى ما إذا كان باطلا ومبدلا كدين اليهود والنصارى، فلو فرض أن إنسانا قبل ظهور بعثة النبى صلى الله عليه وسلم كان يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن عيسى
رسول الله، على معناها الصحيح الصادق، لم تنفعه هذه الشهادة عند ظهور البعثة المحمدية، وعليه إذا أدرك زمانها أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فالأديان كلها لاغية وباطلة، سواء كانت صحيحة أو فاسدة عند ظهور الدعوة المحمدية.
هذا ما تعطيه الآية على ما قدمنا من كلام أئمة التفسير، إذن فهى ضد ما قال الكاتب، وضد دعواه، وهى عليه لا له.
وقفة مع آية:
بقى قوله: وقد تكررت هذه الآية فى القرآن بنصها ومعناها أكثر من مرة، حتى أصبحت بمثابة قاعدة أساسية من قواعد الدين الإسلامى، حتى لقد جعل منها تشريعا قائما عند ما أباح للمسلم أن يتزوج بكتابية على غير دينه، وأن تبقى على دينها.
نقول: أما عن تكرار آية فى القرآن بنصها ومعناها أكثر من مرة، فنحن نطالبه بالدليل على ذلك، ولا يكلفه الدليل أكثر من أن يتصفح المصحف الشريف سوره وآياته، حتى يأتى لنا بمواضع التكرار التى قالها وادعاها، وسوف لا يجد بعد أن يتقصى القرآن كله أوّله وآخره، ووسطه وطرفيه، ما يثبت له هذا الذى قاله، ولا ذلك الذى ادعاه.
فمقتضى كلامه أن الآية كررت ثلاث مرات على الأقل، إذا راعينا المعنى الموضوع للعبارة، أما إذا راعينا المعنى العرفى لهذا التعبير، فالمعنى أن الآية كررت مرات ومرات.
والحقيقة والواقع أن هذه الآية الكريمة بالنص السابق الذى ذكرناه قبل قد ذكرت فى سورة البقرة، وذكرت أيضا فى سورة المائدة، ونصها فى سورة المائدة هو هذا: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [المائدة: 69]، ونرى فى هذه مع سابقتها اختلافا فى موضعين:
أولا: قال: وَالصَّابِئُونَ بالرفع وهناك: وَالصَّابِئِينَ بالنصب.
ثانيا: قال هنا: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [المائدة: 69]، وقال هناك:
فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 62]، وعبارة الكاتب تفيد أن التكرار كان بنص الأولى، وهذا غير الواقع المحسوس كما بينا، يعنى أن الآية الكريمة ذكرت مرتين فى القرآن الكريم فقط دون ما زيادة على ذلك، أما توجيه
قراءة: وَالصَّابِئُونَ بالرفع، وهى قراءة الجمهور، فقد قال العلماء فى بيان ذلك أنه من المقدم الذى معناه التأخير، كأنه قال: إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والصابئون والنصارى كذلك.
وأما قوله: حتى لقد جعل منها تشريعا قائما عند ما أباح للمسلم أن يتزوج بكتابية على غير دينه، وأن تبقى على دينها.
فنقول: لقد بينا المعنى الصحيح للآية، ذلك المعنى الذى لا يجوز فهم غيره منها، وهو الذى قال به أئمة المفسرين، وليس فى هذا المعنى ما يدل أقل دلالة ولا يشير أدنى إشارة إلى زواج المسلم من الكتابية، حتى ولا فى مذهبه الفاسد الذى أبطلناه لا توجد هذه الدلالة، فلا يلزم من مذهبه هذا، كل من آمن وعمل صالحا من أى دين فله أجره عند ربه، لا يلزم منه زواج المسلم من الكتابية؛ لأنه لو جاز زواج المسلم من الكتابية بمقتضى هذا المذهب لجاز للمسلم أيضا زواج المرأة الزرادشتية والكونفشيوسية، ولا يقول بذلك مسلم.
نعم أباح الله تعالى زواج المسلم من الكتابية بآية أخرى من سورة المائدة، وهى:
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ إلى أن قال: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة: 5]. قال الخطيب الشربينى عند هذه الآية فى قوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ، قال: هم اليهود والنصارى، أى أحل لكم أن تنكحوهم وإن كن حربيات. وقال ابن عباس: لا تحل الحربيات، وأما الإماء المسلمات، فيحل نكاحهن فى الجملة، بخلاف الإماء الكتابيات، فلا يحل نكاحهن عند أبى حنيفة، رحمه الله تعالى.
هذا وقد جاء فى مجلة «منبر الإسلام» عدد جمادى الأول سنة (1384 هـ) مقال بعنوان: حول ترجمة القرآن، للأستاذ محمد وصفى، فيه ما يأتى: قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 62].
لقد ذهب المستشرقون إلى ترجمة هذه الآية الكريمة ترجمة مضللة بعيدة كل البعد عن المعنى الحقيقى الذى هدفت إليه، ومناقضة لتعاليم الإسلام وعقائد المسلمين صريحا إلى
أبعد الحدود.
وقبل أن نناقش الترجمة، نرى لزاما علينا أن نذكر نص هذه الترجمة، ضاربين مثلا بترجمة «رودل» مثلا، هذا مع العلم بأن ترجمة من التراجم التى بأيدينا، لم تأت بالترجمة الصحيحة، وإنه ليؤسفنا أن محمد بقول، المسلم، جارى المستشرقين من غير المسلمين فى نفس الخطأ الذى وقعوا فيه، ثم ذكر الكاتب نص الترجمة بالإنجليزية، فليراجعها من شاء.
وهذه الترجمة تعنى أن الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ويعلمون عملا طيبا سيكافئون من سيدهم، وسوف لا يلحقهم خوف أو حزن، سواء كانوا مسلمين، أو متبعين
للديانة الإسرائيلية، أو صليبيين أو صابئين.
ويفهم من هذه الترجمة أن جميع من على الأرض اليوم من الإسرائيليين وأهل التثليث والصابئين، هم كالمسلمين سواء، ولن يصيبهم حزن أو خوف يوم القيامة ما داموا مؤمنين بوجود الله، وأن سيرهم حسن فى الدنيا حسب أديانهم التى يعتنقونها، وهو ما يتناقض كل التناقض مع قوله تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ [آل عمران: 85].
إن الآية الكريمة معناها أن المسلمين الذين آمنوا برسالة خاتم النبيين، واليهود الذين اتبعوا شريعة موسى وآمنوا برسالته فى زمنه، وساروا على تعاليم التوراة الحقيقة، ودعوا الله قائلين: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ [الأعراف: 156]، والنصارى الذين ما بعث إليهم المسيح عيسى ابن مريم حتى آمنوا برسالته، واتبعوا الإنجيل الحقيقى طوال الزمن المحدد لرسالته، والصابئين الذين آمنوا برسالة رسولهم فى زمنه، كل أولئك لهم أجر عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون؛ لأنهم هم الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويعلمون الأعمال الصالحة التى جاءت بها الكتب التى أرسلت إليهم على يد رسل الله الذين أرسلوا لهدايتهم، فمن كان اليهود زمن المسيح عيسى ابن مريم ولم يؤمن به، فقد حبط عمله؛ لأن رسالة موسى تتضمن وجوب الإيمان برسالة عيسى ونبوّته، واتباع تعاليم شريعته متى جاءت، والمفروض كذلك على النصارى الذين وجدوا أيام نزول القرآن الكريم أن يؤمنوا برسالة خاتم النبيين.
ولقد حكى الله تعالى عن الذين آمنوا بالرسول الكريم من النصارى عند نزول
القرآن الكريم، فقال: وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [القصص: 51 - 54].
فالمؤمنون من أهل الكتاب الذين يكافئهم الله تعالى ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، هم الذين يقيمون التوراة والإنجيل والقرآن، ولا يكفرون بأحدها، هذا مع العلم بأنها جميعا تفرض الإيمان برسالة محمد الكريم. قال تعالى: عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ
…
[الأعراف: 156، 157] الآية. أ. هـ.
ونرجع إلى الكاتب أحمد حسين، فنراه يقول فى صفحة (180) بعد أن ذكر الآية الكريمة، وهى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7، 8] استشهادا على مذهبه ما نصه: وتطبيقا لذلك، فإن أهل الكتاب كالمسلمين سواء بسواء، من يفعل منهم مثقال ذرة من الخير، فإن الله يثيبه عليه، وما يفعله من شر فإن الله يجازيه عليه، واقرءوا إن شئتم: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ [آل عمران: 113 - 115].
نقول: إن آية وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ
…
[الزلزلة: 7] إلخ، لا تنطبق على أهل الكتاب إطلاقا؛ لأنهم كافرون بالقرآن وبرسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وشرط العمل الصالح كما قدمنا الإيمان بجميع الكتب المنزلة والرسل جميعا، خص الكاتب هنا أهل الكتاب بالذكر بعد أن جعلهم فيما مضى ضمن أهل الأديان كلها، وأن الكل ناجون، مستشهدا على هذا بآية: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى [البقرة: 62] على ما مر بيانه.
واستشهد هنا بآية كريمة أخرى على دعواه حسبما نقلناه عنه آنفا.
ونحن بعون الله تعالى ننقض القول فى بيان وإيضاح، فنقول زيادة على ما تقدم فى أول البحث: إن الله تعالى قد خاطب أهل الكتاب بالإيمان بالقرآن، وتوعدهم على تركه
بأقصى وأشد أنواع العقوبات، وهم بهذا يتساوون مع المشركين الماديين فى أن الله تعالى طالبهم بالإيمان بالقرآن، كذلك قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [النساء: 47].
وقال جل ذكره فى سورة التغابن بعد أن حكى عن المشركين أنهم ينكرون البعث:
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا [التغابن: 8]، يعنى فالمليّون والماديون متساوون فى التكليف من الله تعالى بالإيمان بالقرآن، ولذلك أمر الله تعالى نبيه، عليه السلام، أن يوبخ الفريقين على ترك الإيمان به، فقال تعالى: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ [آل عمران: 20].
وقد جعل الله تعالى أهل الكتاب فى عداد من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، قال تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ [التوبة: 29].
قال سيدى عبد الرحمن الثعالبى الجزائرى فى تفسيره عند هذه الآية ما نصه: ونفى سبحانه عن أهل الكتاب الإيمان بالله واليوم الآخر، حيث تركوا شرع الإسلام، وأيضا فكانت اعتقاداتهم غير مستقيمة؛ لأنهم تشعبوا وقالوا: عزير ابن الله، والله ثالث ثلاثة، وغير ذلك، ولهم أيضا فى البعث آراء فاسدة، كشراء منازل الجنة من الرهبان، إلى
غير ذلك من الهذيان، وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ [التوبة: 29]، أى لا يطيعون ولا يمتثلون، ومنه قول عائشة، رضى الله عنها:«وما عقلت أبوى إلا وهما يدينان الدين» ، والدين هنا الشريعة.
فصار المعنى: ولا يطيعون ولا يمتثلون شريعة الحق، وشريعة الحق هى ما جاء به النبى صلى الله عليه وسلم؛ لأنها نسخت جميع الأديان وجميع الشرائع السابقة، بدليل قوله تعالى بعد ذلك فى هذه السورة أيضا: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة: 33].
فتبين بهذا أن أهل الكتاب ليسوا كالمسلمين سواء بسواء كما ادعى الكاتب، وإنما هم
كافرون كالمشركين سواء بسواء، ما داموا لم يؤمنوا بالقرآن وشريعته، بل كفرهم يزيد قبحا على كفر بقية الكافرين، ولذلك يقول الخطيب الشربينى عند تفسير قوله تعالى:
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ [آل عمران:
98] ما نصه: وتخصيص أهل الكتاب بالخطاب دليل على أن كفرهم أقبح، وأنهم وإن زعموا أنهم مؤمنون بالتوراة والإنجيل، فهم كافرون بهما.
أما عن الآية والاستشهاد بها، فبعد أن أبطلنا قوله: إن أهل الكتاب كالمسلمين بما تقدم إيضاحه، فقد أصبحت الآية لا تتصل بدعواه إطلاقا، وأما عن معناها وتفسيرها فهو هذا، ونسوق الآية بكمالها، قال تعالى: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ
…
[آل عمران: 113] الآيات.
جاء قبل هذه الآية قوله تعالى: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ [آل عمران: 110]، يعنى لو آمن أهل الكتاب بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لكان الإيمان خيرا لهم مما هم عليه؛ لأنهم إنما آثروا دينهم على دين الإسلام حبا للرئاسة واستتباع العوام، مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ كعبد الله بن سلام وأصحابه، وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ، أى المتمردون فى الكفر.
وقيل خيرا لهم من الكفر الذى هم عليه، فالخيرية إنما هى باعتبار زعمهم، وفى ضرب من التهكم بهم ولم يتعرض لما يؤمنون به إشعارا بشهرته، ثم قال هنا: لَيْسُوا سَواءً [آل عمران: 113]، الواو فى قوله: لَيْسُوا تعود على أهل الكتاب، وهى اسم ليس، وسواء خبرها، فالوقف عليه تام. والمعنى أنهم ينقسمون إلى مؤمن وكافر؛ لقوله تعالى: مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ [آل عمران: 110]، فانتفى استواؤهم، وقد سيقت هذه الجملة تمهيدا وتوطئة لتعداد محاسن مؤمنى أهل الكتاب.
وقوله تعالى: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ [آل عمران: 113] استئناف مبين لكيفية عدم تساويهم، ومزيل لما فيه من الإبهام ووضع أهل الكتاب موضع الضمير العائد إليهم لتحقيق ما به الاشتراك بين الفريقين وللإيذان بأن تلك الأمة ممن أوتى نصيبا وافرا من الكتاب لا من أراذلهم.
وقوله: قائِمَةٌ معناه المستقيمة العادلة، من أقمت العود فقام، بمعنى استقام، وهذه الأمة، كعبد الله بن سلام وأصحابه من اليهود الذين أسلموا، وكالنجاشى
وأصحابه من النصارى الذى أسلموا أيضا، فكل صفات الخير التى أتت بعد ذلك فى الآيات الكريمة إنما هى لمن آمن منهم بالقرآن ودخل فى حوزة الإسلام، وعبد الله تعالى على شريعة النبى محمد صلى الله عليه وسلم لا كما زعمه الكاتب فى تحريفه الآيات، وحملها على من لم يؤمن من أهل الكتاب، ولو قرأ سابق الآية وتدبره حق التدبر، لاهتدى إلى المعنى الصحيح الذى قال به أئمة الهدى وأعلام المحققين.
وأما القسم الآخر من أهل الكتاب الذى أشارت إليه الآية، فلم يذكر فى الآية، اكتفاء بذكر أحد الفريقين. قال الخطيب الشربينى فى تفسيره عند هذه الآية ما نصه: أى والأمة الأخرى غير قائمة، بل منحرفون عن الحق، غير متعبدين بالليل، مشركون بالله، ملحدون فى صفاته، واصفون لليوم الآخر بغير صفته، متباطئون عن الخيرات، فترك هذه اكتفاء بذكر أحد الفريقين.
فأى مطمع للكاتب بعد هذا البيان فى هذه الآيات وأمثالها مما ادعى فيه أنه يؤيد رأيه الذى لم يقل به أحد، ولم يشهد له أى دليل من نقل صحيح، أو عقل سليم، والله يقول الحق، وهو يهدى السبيل.