الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التصوير فى الأسلوب القرآنى:
قد يعرض المعنى فى الأسلوب القرآنى عرضا مباشرا معتمدا على استخدام الكلمة والجملة فى الاستعمال الحقيقى الذى لا يحتمل غيره، فيفيد بذلك السامع والقارئ، ولا يحوجه إلى كبير معاناة فى الفهم، أو الجرى وراء التماس معان أخرى يبحث عنها، ويبدو ذلك دائما فى كل ما ورد من ألفاظ القرآن الكريم وآياته التى تناولت الأحكام والفرائض والمعاملات، مثل: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ [المائدة: 6]، وقوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ [البقرة: 197]، وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة: 282].
ألفاظ واضحة الدلالة تصل إلى السامع مباشرة، فلا يحتاج معها إلى بحث، إلا إذا كان استخدام اللفظ غريبا على سمعه لجهله به، أو لصعوبة تلفظه به، فإنه لا بدّ وأن يعمد إلى المعجم ليعرف معناه.
ولكن يبقى بعد ذلك استخدام الكلمة فى غير ما وضعت له، وهذا أمر شائع فى كل لغات العالم، وبالتالى فهو شائع أيضا فى اللغة العربية، وقد استعمله القرآن الكريم ليفيد اللغة اتساعا من الناحية اللغوية، ويفيدها أيضا جمالا من الناحية الجمالية، ويسمى ذلك مجازا، وفى هذا المجاز قوة وتأثير وتصوير، فإذا استمعنا إلى قول الله
تبارك وتعالى:
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [النور: 24]، وقوله أيضا: وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت: 21]، فى هذه الآيات عبارات ناطقة قوية بالغة القوة فى استنطاقها ما لا ينطق، وفى حوارها فيما بينها، وأمام صاحبها، وهو صامت مأخوذ من نطقها (1).
وقد أدى استخدام هذا المجاز واتساعه إلى كثير من ألوان البيان، بدءا بالتشبيه إلى الاستعارة بأنواعها المختلفة، وكلها إضافات جديدة للاستخدام اللغوى بدلالات اجتماعية ونفسية.
وليس المقام هنا عرض نماذج عديدة لكثير من ألوان البيان، ولكنا نكتفى ببعض الأمثلة التى تكون أساسا لما نريد الوصول إليه من طبيعة التصوير فى الأسلوب القرآنى ووظيفته.
(1) انظر: التيارات الأدبية فى الشرق والغرب، لدكتور/ إبراهيم سلامة.
فقد نجد التشبيه يأخذ مكانه فى الأسلوب القرآنى؛ لتتم عن طريقه المقارنة بين طرفين، والموازنة بينهما، فمثلا يقول الله تعالى فى كتابه العزيز: وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ [الواقعة: 22، 23]، فقد تماثل المشبه وهو الحور العين، مع المشبه به وهو اللؤلؤ المكنون، فى صفة مشتركة هى الصفاء واللمعان، عن طريق أداة التشبيه وهى الكاف، أركان أربعة قام عليها أسلوب التشبيه، وفيه انتقاله بالمشبه إلى مرتبة أعلى مما كانت له سابقا لم يكتسبها إلا عن هذا الطريق البيانى، وقد يتدرج الأسلوب بحذف الأداة، ووجه الشبه إلى ما يسمى بالتشبيه البليغ الذى يعطى قوة ومبالغة أكثر، كأن المشبه هو عين المشبه به، وهكذا تختلف الصورة من صياغة إلى صياغة، فإذا حذف أحد الركنين الأساسيين، المشبه أو المشبه به، كان ذلك انتقالا إلى مبالغة أقوى، واستخدام أكثر تأثيرا، وهو ما يطلق عليه اسم الاستعارة، تصريحية أو مكنية.
وقد تقوم المشابهة بين الطرفين على صفات مشتركة، وأحوال متقاربة، وهو ما يسمى بالتشبيه التمثيلى، أو التشبيه المركب، فتبدو الصورة كاملة التأثير بما ترسمه من كلمات تتوفر فيها عناصر اللون، والحركة، والصوت، وتتجمع جميعها فى إبراز مكونات الحالة الأولى المتمثل لها المشبه بالحالة الثانية المتمثل بها المشبه به، إلى تلك الصورة الرائعة بمكوناتها وتأثيراتها المختلفة التى تصدق عليها، وعلى غيرها مما تنطبق عليه هذه الأحوال.
فإذا نظرنا إلى تلك الصورة الرائعة فى قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً [الجمعة: 5]، وجدنا أنها عرضت صورة لليهود الذين أعطوا التوراة ولم ينتفعوا بما فيها من هداية وتعاليم، بحال الحمار الذى يحمل كتبا كثيرة نافعة فوق ظهره، ولكنه لا يستفيد بها، ولا ينتفع بشيء منها.
فالمشبه مركب من أجزاء: حامل، وهم اليهود، ومحمول نافع، وهو التوراة، وعدم انتفاع بالمحمول لانصرافهم عن العمل بما جاء فى التوراة التى حفظوها.
والمشبه به: مركب من أجزاء هى: حمار حامل، محمول نافع، وهو كتب العلم، وعدم انتفاع الحمار بما يحمل؛ لأنه لا يدرك ما فيه مع تحمل المشقة فى الحمل.
وكذلك إذا نظرنا إلى قوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ [البقرة: 17]، وجدنا أن