الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
انفرد ذلك الإنسان بتلك الميزة التى تجعله يعيش حياتين: دنيوية يكابد فيها، يسعد ويشقى، ويمرض ويصح، ويتطور فى خلقته من صغر إلى كبر، وحياة أخروية يجد فيها جزاء سعيه فى دنياه، ونتيجة عمله الذى قام به، وحريته التى اكتسبها، وهكذا ينفرد بتلك الخاصية التى لا تحظى بها مخلوقات أخرى من دواب ومخلوقات، وأرض وسماء.
بل إن هذه المخلوقات إنما جعلت فى هذه الدنيا لتخدم ذلك الإنسان الذى يبحث عن مصيره فى دنياه وأخراه، وعن ذاته، وكيف تتحقق، وعن وجوده، وكيف يكون، تخدمه بلا مقابل ولا جهد، فالزرع ينبت فى الأرض ويستوى على سوقه ويعطى ثماره، والشمس تشرق فترسل الدفء إلى الأجسام المقرورة، وتثير الرياح والسحاب كى يحمل فى طياته المطر الذى يبعث النماء والخير، كى يحيا الإنسان، عطاءات عديدة من قبل خالق الخلق بمقتضى ربوبيته لهذا الإنسان، والذى أمر ملائكته بالسجود له، وقال لهم:
إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ [البقرة: 30]، لا يسأل عما يفعل، فقد خلق ذلك الإنسان وهو يعلم بحقائقه علم انكشاف وإحاطة، وإدراك لما يتطلبه، لحكمة إلهية وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات:
55].
هذا هو المحور الذى تدور حوله الأمثال القرآنية، والترابط بين غاياتها فى تحرير هذا الإنسان من كل إصر يعوق عقيدته، من أن تنطلق نحو الإيمان الحق بالله الواحد، والابتعاد عن مواطن الأهواء، والنزعات الضارة المفسدة لتلك الفطرة النقية الصافية التى خلقها الله سبحانه وتعالى، لتتشرب روح الحياة كما خلقها خالقها، ولتسير فى ضوء هداه، واضحة المنهج، متمتعة بطيبات ما أحل الله، بعيدة عن نزعات الشيطان، محققة ذلك الإنسان المميز بعقله، وحريته، واختياره، والذى يستحق كلمة الله فى حقه:
إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ [البقرة: 30].
المقارنة بين الأمثال القرآنية:
بالقراءة المتأنية والواعية لسور القرآن الكريم، يستطيع الإنسان القارئ أن يجد ألوانا من التفاوت والاختلاف فى الأمثال التى عرضت، تفاوت واختلاف يرجعان إلى طبيعة المكان، والزمان، والناس، والموضوع المعالج، إلى غير ذلك من أوجه الاختلاف، وقد استطعت بتوفيق من الله جل فى علاه، أن أحدد بعض هذه الأوجه، أعرضها فى الآتى:
1 -
الأمثال التى وردت فى القرآن الكريم فى السور المكية أكثر من التى وردت فى السور المدينة، ويرجع ذلك إلى بدء الدعوة فى مكة، وحاجة الناس إلى وسائل عديدة من الإرشاد والتوجه، حتى تصل الدعوة إلى نفوسهم وقلوبهم وعقولهم، عن طريق الاسترشاد بالأحداث والوقائع، وبخاصة أن الأمية والجهالة فاشية فى القوم، وكانت
التقاليد والعادات آخذة برقابهم، ومهيمنة على عقولهم، فهم لا ينفكون يقولون: هذا ما وجدنا عليه آباءنا.
والتغلب على هذه العقدة المسيطرة جد عسير، ما لم تستخدم تلك الوسائل المؤثرة فى النفس والعقل، فهم بمثابة أطفال وجدوا أنفسهم فى مقاعد للسمع، ويحتاجون إلى إدراك ما يزيل ما بهم من جهالة، ويرفع عنهم الغشاوة، ويفتح أعينهم على أنوار الحياة بكل معطياتها، ولا يتأتى ذلك بالتعليم المباشر، وبالنصح الغالب، وإنما تقوم وسائل الإيضاح بمهمتها خير قيام بعرض بعض قصص السابقين، ووصف أحوال الغابرين بتلك الصورة الموحية التى تستخلص نتائجها، ويستهدى بها العقل إذا وصلت إلى سمعه، واستقرت فى أعماقه، وقد تكون كما نفعل الآن بمثابة فيلم يعرض على الصغار، فيثبت فى أذهانهم المعلومة، وينقل إليهم التجربة، ويعرفون النتيجة بتلك الصور التى تستولى على مشاعرهم، هم فى دور التكوين والتعليم، فلتؤد وسيلة الإيضاح مهمتها بكل طريق.
ومن التجارب والأحداث والوقائع تكون الخبرات الصادقة، والنتائج القربية، ولم لا؟ أليس هؤلاء الناس أقرب إلى جو هذه الأمثال، وما بها من صدق وفكر، وتأثير بما يشتهر على ألسنتهم من حكمة صادقة يرسلونها إرسالا، فتدوى مع الزمن، وتصدق فى كل حين، أليست الحكمة التى يتحدثون بها فى ندواتهم ويتناشدونها فى أشعارهم إلا قسيما لذلك المثل الذى يردد بين الحين والحين، فيكون له تأثيره وأثره؟
إن الأمثال الحكمية بما ترسله من إشعاعات الفكر، وتأثيرات القول، وعمق التجربة، لتعلى من شأن قائلها على مدى العصور والأيام، وتعلى من شأن معتنقيها ومصدقيها لو ساروا على نهجها وهداها، لذلك كانت الأمثال فى هذا الجو، وفى هذا الميدان، من متطلبات الدعوة، تأتى فى آيات الله لتنزع الجهل والجهالة، وتقتلع بذور الشرك، وتضع اللبنات الأولى فى بناء ذلك المجتمع الذى يحتاج إلى كثير من مواد البناء من مثل، وحكمة، وأمر، ونهى، وتبيان
…
إلخ.
وعن طريق هذا المثل الذى يقوم على التشابه بين قصتين، وحالتين، دعوة لأولئك الناس إلى استخدام عقولهم فى التفكير الذى يقوم على الموازنة والتمييز بين شيئين ليختار العاقل الصالح من الأمر، وإعلامهم بأن العقل والفكر علامتان للإنسان الجديد الذى يدين بدين الإسلام، فلا خضوع لتقاليد، ولا إرهاب لسلطة مهما كانت مراكزها، ولا بجنس أو لون، وإنما الناس جميعا إخوة سواسية، إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: 13].
فى هذه البيئة الصخرية الحجرية فى طبيعتها، وفكر أصحابها، وتقاليد أسرها وعائلاتها، وتكوين مجتمعاتها، كان من الحكمة الإلهية أن يكثر قرع الآذان بتلك الدقات الشديدة من الأمثال؛ لتصل إلى مجامع القلوب، فتقوم من غفوتها، وتستيقظ من سباتها العميق الذى يحجب عنها الرؤية لذلك النور الإلهى الذى بدد الظلام، وأزال الغشاوة عما لحق بالصدور والقلوب من الشرك بالله، والانتماء للباطل بصوره وأشكاله.
وإذا كانت الفترة الزمنية الأولى فى بدء الدعوة قد امتدت إلى ثلاث عشرة سنة، مما أتاح للرسول، عليه الصلاة والسلام، أن يعمل على نشر الدعوة بين ربوع مكة وما جاورها، وأن يهيئ أولئك الرجال الذين اتبعوه وآمنوا بالقرآن الكريم ليحملوا رسالته فى كل مكان، فإن المجتمع الجديد الذى ستنتقل إليه الدعوة تختلف فيه الصورة عن المجتمع المكى، فهذا المجتمع المدنى يقوم على الزراعة، وطبيعته تختلف عن طبيعة مكة، فالأرض الخصبة تعطى، وتنبت الخير والرزق، وتنعكس تلك الطبيعة على أهلها برا، وسماحة، ولينا، واستجابة لدعوة الخير من أول نداء وجهه الرسول إليهم فى بيعاتهم التى بايعوا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا المجتمع تفتح ذهنه لهذا الفكر الوافد، وبدت ملامح اليقظة فى حركاته بفعل تأثره بغيره من المجتمعات الأخرى التى اختلطت به، وتميزت بفكرها، وكتبها السماوية، فكان الأمر سهلا، لا يحتاج إلى كبير معاناة فى توصيل الحقائق المباشرة التى تبنى الحياة بكل اتجاهاتها المختلفة.
فليس فيها ذلك الفكر المتسلط، ولا رهبة أصحاب السلطة الدينية، كما فى مكة، ولا تلك التقاليد البالية التى تعوق الفكر الجديد عن الوصول إلى قلوب الناس وعقولهم.
وكان القرب من اليهود فى ذلك الوقت سبيلا إلى معرفة مظاهرهم الدينية،
واختلاطهم بهم، وتناقلهم لأمثالهم وأقوالهم، لذلك كانت منهم الاستجابة السريعة لكلمة الإسلام والإصغاء لتعاليمه دون حاجة ماسة إلى ضرب الأمثال الكثيرة التى يحتاج إليها المعاندون والجاحدون لآيات الله.
2 -
تتشابه صياغة المثل المكى والمدنى فى كثير من المظاهر الخارجية، من حيث اشتمالها على المتمثل له، والمتمثل به، والإتيان بكاف التشبيه، الأداة، فى صورة قصصية، وصفة مجازية تصور حال كل منهما. إلا أن هناك أشياء جديرة بالملاحظة تعطى فروقا لها دلالتها، مثل:
(أ) يكثر فى المثل المكى استخدام الفعل ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا [إبراهيم: 24]، وما أخذ من هذا الفعل من المضارع والمصدر، وما لهذا الاستخدام من وقع، فهو يقرع الأسماع، فيدعوها إلى الالتفات والتنبه.
(ب) يكثر فى المثل المكى أيضا التعقيب بقوله: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ [البقرة: 219]، كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ [الأنعام: 122]، فَاقْصُصِ الْقَصَصَ [الأعراف: 176]، ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ [إبراهيم: 18]، يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ [إبراهيم: 27].
وهذا التعقيب بعد ذكر المثل له دلالته، فهو يبين الحكمة من إيراد المثل، ويوقظ فى النفوس والعقول ما هى بحاجة إليه من رغبة فى الهداية وبعد عن الجهل والضلال.
(ج) البدء فى المثل المدنى يكثر فيه استعمال المثل: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً [البقرة: 17].
3 -
اعتمدت الأمثال المكية فى أدواتها التأثيرية على كثير من مظاهر الحياة المكية، فهذا المجتمع يقوم التعامل فيه على التجارة، والقوافل، والعبيد، واستغلال مواسم الحج، وما يجلبه ذلك من نفع مادى يعود على الجميع، ونفع ثقافى، حيث تتناقل فيه السير والأحداث التى تلوكها الألسنة، وتبقى فى عقول الناس راسبة، بالإضافة إلى أسواق
أدبية شهيرة، تعقد فيها حلقات الشعر، وتعرض فيها نماذج الشعر الجيد، ويتبارى فى ذلك الكثيرون، حتى إذا حكم لأحدهم بالتفوق، كتبت قصيدته بماء الذهب، وعلقت على الكعبة، أسواق شهيرة، أسواق عكاظ، وذى المجنة، وذى المجاز.
فى هذا الجو المفعم بالتأثيرات المادية والثقافية، كان لا بدّ وأن تكون الأمثال القرآنية
معرضا لما تريد أن تقتلعه من النفوس من أفكار سقيمة، وتفرقة ظالمة، وقيم جاهلة، وهضم للحقوق، وأن تكثر من ذكر الأحداث للاعتبار والاتعاظ فى تلك الحياة التى انغمسوا فيها، تتكلم عن البعيد، وتذكر الأحداث التاريخية، وتندد بالشركاء فى التجارة، والشرك فى العقيدة، والكفر، والعناد.
أما فى المجتمع المدنى، فتساق الأمثال معتمدة على مظاهر الحياة التى تحيط بالناس، فتأخذ من مظاهر الطبيعة، وما فيها من ظلمة ونور، ورياح وغيث، ونباتات وجمادات، وأصوات ومخلوقات، ما توجه إليه أنظار الناس؛ ليكون محل تدبر وإبصار، فتكون الهداية، وكما تأخذ من مظاهر الحياة الخارجية التى تحيط بفكرهم، كاليهود وأشياعهم، فتندد بمواقف أصحاب هذه الكتب من الرسول ودعوته، وذكر أحوال الأمم السابقة، وما حل بهم جزاء كفرهم وعنادهم، وما يجب أن يكون عليه المؤمن الحق من صفات، وإخلاص الإيمان بالله صاحب القدرة المطلقة، والاهتمام بالقيم النبيلة، وعدم الاغترار بالحياة الدنيا وما فيها.
4 -
أما مضمون الأمثال وموضوعاتها، فتختلف اختلافا واضحا بين المكى والمدنى، اختلافا دعت إليه ظروف الدعوة الإسلامية، واختلاف الناس والمجتمع، والحالات التى تستدعى علاجا معينا، ويبدو ذلك فى الآتى:
المجتمع المكى مجتمع جاهلى تتحكم فيه تلك العادات الباطلة، والتقاليد البالية، وتسيطر عليه أفكار وثنية خائبة تلغى العقل ودوره، وتسمح للطبقية أن تعلو، وللعنصرية أن توجد، وللرأسمالية الظالمة الباغية أن تتحكم، كل هذه العناصر جعلت صوت الحق يخبو، ونور الله يتبدد بين قوم قساة القلوب، غلاظ الأكباد، نفوسهم قدت من صخر، لا تلين لدعوة، ولا تستجيب لنداء كريم، حتى كانت كلمة الله، ونزل الوحى على محمد صلى الله عليه وسلم ابن هذه البيئة، ولكن الله اختاره من صفوة خلقه ليعالج هذا الأمر بالقرآن الذى يوحى إليه، وبكل الطرق التى يسلكها رسول الله، فكانت هذه الأمثال وهذه الآيات التى تعالج الكفر بالله، وتندد بدعاة هذا الكفر وأصحابه، وتقبح أعمال الكفار الذين يتخذون الأصنام آلهة من دون الله، ويلغون عقولهم وتفكيرهم، وتقبح لهم اتخاذ الشركاء، وتزجرهم عن المعاصى، وتحبب إليهم الإيمان، وتكره إليهم الكفر، والفسوق، والعصيان.