الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الترغيب والتحذير:
المعركة بين الخير والشر، والحق والباطل، والطيب والخبيث، تدور رحاها منذ أن خلق الله الإنسان من صلصال من حمإ مسنون، وأمر ملائكته بالسجود له، فسجدوا إلا إبليس، أبى أن يكون مع الساجدين، وكانت تلك بدايات الصراع الذى أدى إلى الهبوط إلى الأرض، بعضهم لبعض عدو، فكانت المعركة ضارية، لا يخمد لها أوار، ولا تطفأ نارها.
وقد تتكاثف الظلمات، ويضعف الحق فى فترة من الفترات، ولكن إلى حين، فإن النور لا بدّ وأن ينبثق، ويعلو صوت الحق، وقد كتب الله فى محكم قرآنه: لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة: 21].
وقد حفل القرآن الكريم بالآيات التى تحمل فى طياتها كل معانى الخير، والدعوة إلى العمل الصالح، وتحبب المؤمن فى التفوق على شهوات النفس، ولذائذ الحياة التى تطغيها، وتخرج بها إلى دائرة الحيوانية الرخيصة.
وأبواب الترغيب كثيرة، تشمل الحياة بأسرها، وبكل ما تحتاج إليه من جهد، وطاقة، وعلم، وتقى، وصلاح، يحقق سعادة النفس فى الدنيا، ويمهد لذلك اللقاء الباقى فى الآخرة، حيث يجد كل إنسان ما عمل من خير محضرا.
لذلك كانت الدعوة من الله هى دعوة إلى العمل الصالح، وترغيب فى خير يشمل خيرى الدنيا والآخرة، فى الأوامر التى تدعو إليها، والنواهى التى تنهى عنها، والتكاليف التى تلزم بها، والإتقان فى العمل عن طريق المراقبة لله، وممارسة العبادات، فإن الوقت الذى يقضيه المرء فى العبادة هو شحن لطاقة الإنسان بقوة جديدة، ونشاط زائد، فالصلاة هى أعظم طاقة مولدة للنشاط عرفت حتى يومنا هذا، وقد فشلت العقاقير فى معالجة كثير من المرضى، فلما عجز الطلب تدخلت الصلاة، فأبرأت الكثير من المرضى.
وقد يبدو فى ظاهر هذه التكاليف بعض المشقات التى يكابدها الإنسان، أو المتاعب التى يضيق بها حينا، كالامتناع عن الطعام والشراب شهرا من شهور العام، أو الأموال التى يخرجها عن نفسه وماله، ولكن لو نظر الإنسان نظر تبصر واعتبار، لعرف أن الله جل جلاله برّ رحيم بعباده، يدعوهم إلى الحسنى فى كل شىء، وينأى بهم عن الشر،
ويخوفهم من مغباته، وما يجره على النفس من مهالك.
وإذا كانت الأساليب المرغبة فى الخير، والناهية عن الشر، قد تنوعت فى أساليب القرآن من أخبار، وقصص، وتذكر لأحوال، وأمر، وتعجب، واستفهام
…
إلخ، وكان لها من التأثير ما يملك القلوب، ويصل إلى العقول، فتكون الاستجابة، والإقبال على الطاعة، فإن سوق هذا الترغيب والتحذير فى ثوب الأمثال ما يكون له من الإقناع، وتجلية الأمور الخفية وإيضاحها أكثر من وصف الشيء ذاته، وعرضه عرضا مباشرا، فكأنه يعطى المعنى، والدليل عليه، ويعرض الغائب فى سورة المشاهدة، وهذا سر تأثيره.
ومن الملاحظ أن الترغيب فى الإيمان إذا كان مجردا عن ضرب مثل به، ولم يتأكد وقوعه فى القلب، كما يتأكد إذا مثل بالنور، أو بشجرة طيبة، وإذا كرّه فى الكفر بمجرد الذكر لم يتأكد قبحه فى العقول كما يتأكد إذا مثل بالظلمة، أو بشجرة خبيثة، وإذا أخبر بضعف أمر من الأمور، وضرب مثله بنسج العنكبوت، كان ذلك أبلغ فى تقرير صورته من الإخبار بضعفه مجردا (1).
وبعرض هذه النماذج القرآنية المتقابلة تتضح الحقائق، حقائق النفوس، وحقائق الحياة، ويعرف الإنسان موقفه بين يدى ربه فى الآخرة، وليس هناك من رادع عن الشر، وزاجر عن الوقوع فى معصية، من عرض قصة، أو تبيان حالة، كما أنه ليس هناك من داع إلى الخير، ودافع إلى الإحسان، من التمثل بحال من الواقع، وسرد لحقيقة يصحبها الدليل والبرهان.
هكذا النفوس جبلت على الاقتداء، والإيمان بالممارسة والعمل، ولذا فإننا حين نعرض للأمثال القرآنية فى هذا السبيل الداعى إلى الخير، فإننا نتمثل الإنسان وما يصدر عنه، وما يحيط به، وما يقع منه، وكذلك نعرض لهذه الأمثال التى تحذر من الشر، والوقوع فى براثنه، والتأثر بمغريات الحياة وشهواتها من مال، وولد، وجنس، وكل ما يجعل للشيطان سبيلا إلى سيطرته على النفس، والمعتقد، والفكر.
أتت هذه الأمثال كما سنراها شاملة لجانبى الحياة من خير وشر، ومن فضيلة ورذيلة، حتى يسهل عن طريق الموازنة والمقابلة، الحكم على الأشياء، وبضدها تتميز الأشياء.
(1) من كتاب هداية المرشدين إلى طريق الوعظ والخطابة، للشيخ على محفوظ (ص 177).
ولا يحتاج هذا الأمر إلى دراسات مذهبية، ولا فلسفات فكرية، بل يصل إلى الاقتناع بها الكبير والصغير، والعالم والجاهل؛ لأنها من واقع الحياة، ومن ممارسات الإنسان، ولا تختلف فى ذلك عقائد، أو نحل، ولا ينكرها إلا كل مكابر، يرى ضوء الشمس، فيعمى عن النظر، ويرى الحقائق، فيغض الطرف عنها.
اعتمدت هذه الأمثال على مشاهد من الطبيعة الواقعة تحت أبصار الناس، من زرع، ونبات، وريح، وكلها مشاهد تولد فى النفس اليقين، وتعين على التبصر فى الأمر، والاقتناع بالنتائج، وقد أضيف إلى ذلك مسلك آخر فى الاعتبار، وهو ما حل بالسابقين من تجارب، وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ [إبراهيم: 45]، وهو مثل حى مبسوط أمام الأعين، لا يغيب عن أنظار الناس، يعطى دلالته فى كل لحظة، والعاقل من اتعظ بغيره، وهو يقوم على عرض بعض القصص، كما فى قصة أصحاب الجنة.
إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ [القلم: 17 - 32]، حرمهم الله من ثمارها، فرجعوا على أنفسهم باللوم، والاعتراف بالخطيئة.
وكذلك قصة صاحب الجنتين مع صاحب له من ذوى الإيمان الأول تبطره النعمة وينسى الله، ويعتقد أن ماله أخلده، والثانى معتز بإيمانه، ذاكر لربه، يرى النعمة دليلا على المنعم، وموجبة لحمد الله وشكره: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ
أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً [الكهف: 32 - 44].
1 -
قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ [إبراهيم: 24 - 27].
سبق هذا المثل بتبيان مواقف الكفار المخزية فى يوم يتحقق فيه وعد الله الذى كفروا به، وهو يوم القيامة، ولم يجدوا فيه نصيرا يدفع عنهم العذاب، حتى أن الشيطان الذى وسوس لهم وزين لهم المعصية فى الدنيا، نفض عن نفسه مسئولية كفرهم، وحملهم نتيجة أعمالهم، فما كان منهم من كفر، إنما كان بسبب رغبتهم فى الشر، وحبهم للمعصية، فاللوم واقع بهم، ولا لوم عليه، فهؤلاء الكفار يتحملون وزر شركهم وعباداتهم الباطلة، وما يقع بهم من عذاب، إنما هو جزاء ظلمهم وكفرهم.
وأما موقف المؤمنين، فهو موقف مغاير لذلك الموقف المخزى، موقف أصحاب الحق، وإخلاص النية، فلهم جزاء النعيم فى جنات تجرى من تحتها الأنهار، يجدون فيها جزاء أعمالهم الصالحة، وتحيتهم فيها سلام.
مواقف واضحة الدلالة، ظاهرة الاعتبار لمن أراد أن يذكر، فأخذها من الآيات القرآنية: وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ [إبراهيم: 22، 23].
ويعقب تبيان هذه المواقف المتقابلة هذا المثل القرآنى الذى يتعرض للكلمة، وما لها من نتائج فى النفوس، وتأثير فى القلوب، وتغيير فى الاتجاهات، فالله سبحانه وتعالى
يضرب هذا المثل: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا [إبراهيم: 24]؛ ليصوّر للناس سنته الجارية فى الطيب والخبيث فى هذه الحياة بالشجرة الطيبة، والشجرة الخبيثة.
فالكلمة الطيبة هى كلمة الحق، وهى أساس الوجود، ولا تستطيع قوى البغى والطغيان أن تقضى عليها، أو هى كلمة التوحيد، فهى كالشجرة الطيبة، ثابتة، مثمرة، متعالية، فبذورها تنبت فى تلك التربة الخصبة، وكذلك الكلمة الطيبة تثبت فى النفوس الطيبة، وفى ظل هذا يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ [إبراهيم: 27]، والقول الثابت: بكلمات القرآن، وبالعمل الصالح، وبكلمات الإيمان، يكون العون من الله، والتثبت للذين آمنوا.
وأما الكلمة الخبيثة، فهى على النقيض من ذلك، هى كلمة الشرك والباطل التى تعمل على إفساد الحياة، وفى نشر بذور الشر فى كل مكان، وفى كل نفس، وهى كالشجرة
الخبيثة التى قد تتشابك أغصانها، وتتعالى فروعها، ولكنها لا تثمر إلا ثمرا مرا، ولا تعطى فائدة، وفى نفس الوقت لا تتحمل أية هزة، فلا قرار لها ولا بقاء.
وفى ظل هذه الكلمة الخبيثة وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ [إبراهيم:
27] بسبب ظلمهم وشركهم، واتباع الهوى، وتمكن الخرافات والأباطيل من نفوسهم القلقلة المضطربة، يفعل الله ما يشاء بإرادته المطلقة.
مشاهد من قصص المؤمنين والمكذبين، ومصير هؤلاء وهؤلاء، وصور تتضح فيها النفس التى يزكيها صاحبها فيفلح، والنفس التى يسوقها صاحبها إلى الهاوية من خلال ما رأينا فى المثل من مقابلة وموازنة بين حالتين يلمسهما السامع والقارئ، فينحاز إلى ما هو جدير به أن ينحاز إليه من عمل صالح، وابتعاد عن الطالح من الأمر، وقد يفهم من هذا التصوير أن المؤمن مثل الشجرة، لا يزال يعطى من ثماره فى كل وقت، صيفا وشتاء، ليلا ونهارا، وكذلك المؤمن لا يزال يرفع له عمل آناء الليل وأطراف النهار، وفى كل وقت وحين. والكلمة الخبيثة تمثل كفر الكافر، لا أصل له، ولا نبات، ولا فرع، ولا يصعد له عمل، ولا يتقبل منه شىء.
وفى هذا المجال يأتى دور العالم والجاهل فى بناء هذه الحياة، وما يؤثران به فى مجريات الأمور، فإذا زلّ العالم زلّ بزلته عالم.
فقد يتعرض الغافل والجاهل لسقطات فى الحياة تجر عليهما أوخم العواقب، وقد
يغفر الناس لهما هذه الزلات؛ لجهلهما وغفلتهما، ولكن الذى لا يغتفر أن تقع هذه الزلات ممن يدرك أبعادها، ومن يقصد إلى غايتها، ويميل به الهوى، ويجر على نفسه ومجتمعه ودينه الدمار والهلاك.
وفى مقابل ذلك صلاح يؤدى إلى صلاح الحياة والعالم، فهذا العالم بمثابة الرأس من الجسد، والقلب من الإنسان، له أجره المضاعف، وثوابه الكبير بما ينطق به من قول طيب، وما يسطره من فكر.
وإذا كان قد بدأ بالإنسان وما يصدر منه من قول وعمل، وما إلى ذلك من مؤثرات فى النفس والمجتمع فى الكلمة الطيبة والعمل الصالح، وفى مقابلهما من كلمة خبيثة وعمل خبيث يؤديان إلى فساد الحياة والنفس، فإنه فى التدرج التالى لهذه الكلمة الطيبة كلمة الحق، وما لها من أثر نافع لا يزول مع الأيام، والكلمة الخبيثة كلمة الباطل الذى يذهب جفاء.
تدرج نراه فى ذلك المثل الرائع الذى صورته لنا الآية الكريمة فى تلك الصورة التى استمدت جزئياتها من الطبيعة بما فيها من أرض وسماء، ومن حياة الناس فيما يتخذون من أدوات مستخدمة فى الحياة، كل ذلك امتداد طبيعى لتقوية وتثبيت الفكرة الأساسية، التى بنى عليها المثل السابق من طريق الخير المؤدى إلى الفلاح، وتبيان طريق الضلال والشر المؤديان إلى الفساد.
2 -
قال الله تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ [الرعد: 17].
أتى هذا المثل عقب آية قرآنية حوت كل قيمة بناءة فى بناء العقيدة الصحيحة، من الاعتقاد، والإيمان بالله رب السموات والأرض، وأنه الجدير بالعبادة والطاعة وحده، وأن الانحراف والشرك بالله باتخاذ تلك الأصنام التى لا تضر ولا تنفع، إنما يعد نقصا فى الإيمان والتفكير، وخروجا عن حد الاعتدال، فلا يصح فى حكم العقل أن يتساوى الناقص بالكامل، والأعمى والبصير، والظلمات والنور، وكذلك لا يتساوى من بيده القدرة على الخلق والإيجاد، وغير الخالق، فالله خالق كل شىء وهو الواحد القهار:
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [الرعد: 16].
قيم عالية تدعو إلى الإيمان بالله الواحد القهار الذى لا يغلبه شىء، ويحتاج إلى تثبيت من واقع الحياة، كما يظهر ذلك فى المثل القرآنى.
فى المثل موقفان متقابلان، للحق فى ثباته وبقائه، وللباطل فى اضمحلاله وفنائه، فالحق مهما توارى زمنا لا بدّ وأن يعلو، والباطل مهما يرتفع فإنه لا محالة زائل، وقد ضرب الله المثل حتى لا ييأس أصحاب الحق، وحتى لا يغتر أصحاب الباطل.
يضرب الله بهما المثل من واقع الحياة التى يعيشها الناس، فيرون فيها الباطل وقد ظهر أمره، وفشا فى المجتمع وعلا، حتى أنه يغطى ما عداه من كلمة الحق، ولكنه فى حقيقة أمره زبد أو خبث ما يلبث أن يذهب جفاء، لا حقيقة له، ولا تماسك فيه، فهو كالزبد الذى يعلو فوق سطح الماء، ولكنه لا يثبت معه، يتكوّن ثم يضمحل، وكخبث الحديد الذى يعلو فوق الذهب حين انصهاره.
أما الحق، فهو الباقى الساكن الهادئ كالماء الذى يحيى الأرض بعد موتها، فتسيل به الأدوية على قدر الحاجة، أو المصلحة حسبما اقتضته مشيئة الله وحكمته، فينتفع به من مختلف الوجوه، ويمكث فى الأرض، يبقى بعضه فى منابعه، ويسلك بعضه فى عروق الأرض، إلى العيون، والقنوات، والأنهار. وكالمعدن الصريح الذى ينفع الناس فى الحلى، والأمتعة كالأوانى، وآلات الحرب، ويدوم ذلك مدة طويلة.
وقد يحسب بعض الناس فى فترات من الزمن أن الغلبة للباطل بحكم ما يرون من سطوات الظالمين، وقهر الرجال، والتحكم فى الرقاب، وأن الحق قد انزوى، فلا تسمح له الحياة بالبقاء، أو التغلب على الباطل وأعوانه. هذا الظن، أو الاعتقاد، فى غير موطنه، فالله قد حكم فى محكم قرآنه بقوله: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [الإسراء: 81].
وهكذا مصير كل دعوة حقة، وكل معتقد يقوم على أساس، ونهاية كل عمل طيب، وكل قول طيب، ينقذ الإنسان من نفسه، فلا يتملكه الغرور، ولا تتحكم فيه شهوة
تدفعه إلى المهالك.
وكم جرّ الغرور على أناس من المهالك، فأودى بهم إلى الجحيم، ومثال ذلك واضح من واقع ما عرض القرآن من صور أولئك الذين استبد بهم الغرور فقتلهم، من قصة قارون الذى دفعه الجهل والغرور إلى قوله: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي [القصص:
78]، فكانت نتيجته فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ [القصص: 81] طريق الانهيار الذى يبدو فى الجهالة المهلكة بحقيقة الكون وخالقه، وحقيقة الإنسان وقدراته، وطبيعة النفس البشرية، وما لها من حدود لا تتعداها فى ملكوت الله.
هذه هى الضوابط التى يجب على المؤمن بحق أن يتخذ منها سلاحا واقيا ضد نزوات الحياة، وخداع الفكر، ونسيان الله خالق هذه الحياة والجدير بالعبادة الحقة، وإذا تخلى الإنسان عن هذه الضوابط، وتسربت إليه النفس الأمارة بالسوء فى المعتقد والفكر، والعمل، فإن هذا يؤدى به فى النهاية إلى الهاوية، ويخرج من هذه الحياة صفر اليدين خاسرا، لا يملك ما يقدمه بين يدى ربه من صالح الأعمال، وهذا المثل القرآنى يوضح هذه الحقائق.
3 -
قال الله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (1)[الكهف: 45].
ذكرت آيات قبل هذا المثل توضح حقيقة النفس التى تنسى الله فى وقت الرخاء والنعمة، ولا تذكره جلت قدرته إلا فى وقت الأزمات والشدائد، حين يمسها الضرّ، وتقع بها المصائب فى وقت الرخاء، وإسباغ النعم، تستغرق فى شهواتها ولذائذها، ويتحكم فيها غرورها، ونزوات الحس، وتنسى خالقها الذى أنعم عليها بجليل النعم، وحباها من فضله بالكثير من صحة، وعقل، وتكريم.
صاحب الجنة نسى الله فى نعمه الكثيرة، ولم يعط حق الله فى هذا المال لأصحابه من فقراء ومحتاجين يقاسمونه الحياة بما فيها، فأصبحت هذه الجنة خاوية على عروشها، كأن لم تغن بالأمس، ولم يجد من أحد عونا فى موقفه يزيح عنه ما نزل به من بلاء، أو يخفف
(1) مقتدرا: قادرا على الكمال، ومن جملة الشيء: الإنشاء، والإفناء.
عنه وقع المصيبة التى ألمت به، أو يمد له يد المساعدة فى أزمته؛ لأنه قطع هذه اليد بحرمانها من مال الله، ونفض عنه عون المعينين له بتلك السيئات التى بدرت منه فى حقهم، ونسيانه حق الأخوة والإنسانية لمن يعيش معه فى ظل هذه الحياة التى تحتاج إلى التكافل والتعاضد، والمواساة فى الضراء، والعاقل من عمل لغده وعرف حقيقة حاضره، وأن الأمر بيد الله الذى يثيب على العمل الصالح الباقى إلى يوم الدين.
أما ما نراه من مظاهر الحياة الدنيوية، وما بها من مغريات، فهى إلى زوال، ما لم تحط بالشكر، ولم تؤد الحقوق إلى أصحابها، ولم يصحبها غرور النفس ونسيانها لموجدها، وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً [الكهف: 42 - 44].
وهذا التيار الذى يسير فيه ذلك المثل القرآنى، وهو علاج ما يبدو فى الحياة من اغترار بظواهرها، وما تزخر به الدنيا من متع وشهوات خادعة للإنسان عن حقيقة نفسه، ونسيان مآله ومصيره عالجه مثل آخر قرآنى، وهو قول الله تبارك وتعالى فى سورة يونس:
4 -
قال الله تعالى: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها (1) أَتاها أَمْرُنا (2) لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ (3) كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ (4) لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [يونس: 24].
المغريات كثيرة من مال وبنين، وصنوف مأكل ومشرب وملبس، ولكن سريعا ما تنقضى وتزول بهجتها ومناظرها الخادعة، وتنهار أمام أعين من يعرف حقيقتها، بذهاب رونقها وبهائها، فهذه الدنيا بما فيها من زينات ومتع شبيهة بحال تلك الأرض التى أرسل الله عليها المطر، فأنبتت ما يسرّ الناظرين، ثم نزلت بها جائحة من السماء،
(1) قادرون عليها: متمكنون من الاستمتاع بها.
(2)
أتاها أمرنا: أهلكها الله بقدرته بجائحة.
(3)
كأن لم تغن بالأمس: هلكت فجأة، فلم يبق من ثمرها شىء، حتى كأنها لم تنبت.
(4)
نفصل الآيات كهذا المثل، وما يوضحه من حال الدنيا، واغترار الناس بها، أو نفصل حقائق التوحيد وأصول التشريع، وكل ما فيه صلاح البشر.
فأهلكتها قبل الانتفاع بها، وتحول النبات النضر مهشوما تفرقه الرياح كأن لم يكن، وكان الله على كل شىء مقتدرا، فهو القادر على الإحياء والإفناء، والكل بيده، وإليه
المصير.
أمثلة شاخصة ناطقة تعرض نماذج أولئك الطغاة الذين يظلمون أنفسهم، وينقضون عهد الله من بعد ميثاقه بتوحيده وشكره وطاعته، وتذكره فى كل حين، فهذه هى سمات المؤمن الحق، إن أصابته نعماء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له، أما من ينسى الله فى وقت النعمة، والراحة، والطمأنينة، ولا يذكره إلا فى وقت الشدة والضيق ووقوع المصائب، فلن تكون حاله إلا حال ذلك النبات الذى صار هشيما تذروه الرياح بفقدان عمله، وضياع ثوابه، وذهاب أجره يوم القيامة.
5 -
قال الله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ [الحديد: 20].
سبقت هذه الصورة الموضحة لحقيقة الدنيا، وما بها من مظاهر الغرور بآيات تبين مواقف جديرة بالإعجاب والتقدير، وأخرى لا ينال أصحابها إلا الخزى، والعذاب المهين.
أما مواقف التقدير، فينالها الذين استجابوا لدعوة الله فى الإنفاق فى سبيله، وبذل المال عن طواعية ورغبة فى الأجر من الله، ذلك الأجر المضاعف فى ثوابه ونعيمه، ولأولئك الذين آمنوا بالله وبما أنزل وأرسل، ثم جاهدوا فى الله حق جهاده، وفى سبيل نشر كلمة الله منهم بذل، وعقيدة، وتضحية نفس متكاملة فى إيمانها لا تغتر بما فى الدنيا من مغريات المال، وحب النفس، والشهوات والتفاخر بالأهل والعصبية واللهو والزينة واللعب.
أما الذين كفروا بربهم وكذبوا بآيات الله، فقد حرموا هذه المنزلة التى ساقها الله فى أول الآيات، ولا منزلة لهم إلّا فى الدرك الأسفل من النار، ملازمون لها، لا ينفكون عنها بحال.
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ
كَرِيمٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ [الحديد: 18، 19].
جاءت آية التصوير للدنيا وما بها من غرور، تحمل فى ثناياها الترغيب والتحذير، فهى توضح لنا مظاهر الاغترار بالدنيا، فمتاعها غرور لا حقيقة له، إن اطمأن بها الإنسان، وجعلها ذريعة للآخرة، ومثلها فى ذلك مثل ذلك المطر الذى يعجب الزارع، والذى أنبت نباتا كثيرا استطال حتى نضج، ثم ما لبث أن اصفر وأخذ فى الجفاف، ثم صار هشيما متكسرا، لا يبقى منه ما ينفع، وفى الآخرة عذاب شديد لمن آثر الدنيا، وأخذها بغير حقها، ومغفرة من الله ورضوان لمن آثر الآخرة على الدنيا.
وقال ابن كثير: ضرب الله المثل للحياة الدنيا فى أنها زهرة فانية، ونعمة زائلة بالمطر الذى يأتى بعد قنوط، فيعجب الزارع نبات ذلك الزرع الذى نبت بالغيث، كذلك تعجب الدنيا الكفار، فإنهم أحرص على كل شىء فيها.
ومن خلال هذه الأمثلة العديدة التى ذكرت للدنيا التى تغرر بالإنسان بما فيها من لهو، ولعب، وزينة، وتفاخر بالأنساب والأحساب وكلها على خلاف ما يعتقده الإنسان الجاهل، قوى ضعيفة لا تسانده مساندة حقيقية.
إنما العاقل الراشد فى تفكيره هو الذى يعمل لآخرته، كما يعمل لدنياه، وأن يفهم حقيقة ما يدعو إليه من عدم التكالب على حطامها، والتفانى فى جمع المال، حتى لا يكون ذلك سبيلا إلى التقاطع والتباغض بين الناس، فمن يغرق فى حاضره ويغفل عن الآخرة، تصدق عليه الآية الكريمة: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [يونس: 7، 8].
وهو ولا شك يغرر بنفسه، ويجلب عليها المتاعب بفعل ما يتسم بالتهور، والاندفاع، والطيش، وينقلب الأمر إلى حسرة، وندم كفاقئ عينيه عمدا، فلا يبصر طريقا، ويندم حيث لا ينفع الندم.
أما قصة ذلك المثل العربى، فكما ترويها كتب الأدب، تتلخص فى أن رواية الشاعر:
الفرزدق، قال: أتتنى النّوار زوجة الفرزدق، وقالت: كلم هذا الرجل أن يطلقنى، فأتيت الفرزدق، وقلت: يا أبا فراس، إن النوار تطلب الطلاق، فقال: ما تطيب نفسى حتى
أشهد الحسن، فأتى الحسن بن على، رضى الله عنه، وقال: يا أبا سعيد، اشهد أن النوار طالق ثلاثا، قال: قد شهدنا.
قال: فلما صار فى بعض الطريق، قال للنوار: طلقتك؟ قالت: نعم، قال: كلا، قالت: إذن يخزيك الله عز وجل، يشهد عليك الحسن وصحبه، فترجم، فقال:
ندمت ندامة الكسعىّ لمّا
…
غدت منى مطلقة نوار
وكانت جنتى فخرجت منها
…
كآدم حين أخرجه السرار
فكنت كفاقئ عينيه عمدا
…
فأصبح ما يضئ له النهار
ولو أنى ملكت يدى وقلبى
…
لكان علىّ للقدر الخيار
وما طلقتها شبعا ولكن
…
رأيت الدهر يأخذ ما يعار
6 -
قال الله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ [إبراهيم:
18].
أتى المثل القرآنى عقب آيات فضحت موقف أولئك الكفار، الذين ناصبوا الإسلام العداء، وظلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه، ولم يتقبلوا دعوة الحق، بل
عاندوا، فهؤلاء ينتظرون يوما شديدا يتجرعون فيه كأس المهانة والذلة، ولا يستطيعون له دفعا، فهو يوم القيامة بما فيه من عذاب غليظ نتيجة أعمالهم السيئة والظالمة.
وقد عبرت الآيات عن هذا كله تمام التعبير فى قوله تعالى: وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم: 15 - 17].
أما ما كان لأولئك الكفار من أعمال تبدو فى ظاهرها خيرة وصالحة، فيوضحها المثل القرآنى الذى أتى؛ ليبين لنا حقيقة هذه الأعمال، وأنها لا قيمة لها ما لم تكن مستندة على باعث نبيل يدفع إليها من إيمان، وعقيدة صحيحة، فهؤلاء الذين يعبدون غير الله، ويكذبون الرسل، ثم يقومون بأعمال فى ظاهرها الخير، والمنفعة، والعمل الصالح، تضيع كلها سدى، ولا ينتفع أصحابها بشيء من نتائجها التى تشبه ذلك الرماد الذى تنثره الرياح فى اليوم العاصف فى كل مكان، فلا قيمة لهذه الأعمال التى قاموا بها فى دنياهم ما لم تستند إلى إيمان حقيقى بالله، وبموجد هذا الكون، والتطابق بين
الظاهر والباطن هو دعوة الإسلام الحقيقة، ولذلك فإن أولئك الذين تعبر عنهم الآية القرآنية الآتية: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ [البقرة: 204، 205]، لا مكانة لأولئك الناس الذين لهم ظاهر يغرى، وباطن يؤذى، وكلاهما من الضلال البعيد، كما عبرت الآية فى المثل القرآنى.
7 -
قال الله تعالى: وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ [إبراهيم: 45].
سيق هذا المثل فى جو يبرز موقف الكافرين الذين ظلموا الرسول، فلم يؤمنوا بما جاء به، وظلموا أنفسهم، فألقوا بها فى المهالك جزاء عنادهم وإصرارهم على الباطل، ومتابعة الشيطان، فالله سبحانه وتعالى ليس غافلا عما يفعل الظالمون، وسيكون لهم ذلك الجزاء الذى يتناسب مع أعمالهم فى يوم تشخص فيه الأبصار، مهطعين مقنعى رءوسهم، لا يرتد إليهم طرفهم، ويتملكهم الفزع والرعب، ولا يستطيعون لهذا العذاب دفعا، حتى أنهم يتجهون إلى الله بالدعاء أن يكتب لهم حياة دنيوية أخرى يصلحون فيها أحوالهم، ويتبعون الرسول، ولكن هيهات، فقد بان منهم الكفر، وظهر منهم العناد، ووضحت حقيقتهم فى معارضتهم لآيات الله، واعتقادهم بأنه لا قدرة لأحد على إماتتهم، وأن دنياهم هى آخر المطاف، فلا رجعة مرة أخرى، ولا حياة ثانية يؤمنون بها.
كل ذلك تناولته الآيات القرآنية، وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ [إبراهيم: 42 - 44].
هذه الآيات مهدت لما يأتى فى المثل، فهى تجعل اللاحق كالسابق فى اعتقاده، وموقفه، وعقابه؛ لأنه ارتدى ثيابه، وسلك طريقه، وأخذ بتعاليمه، وصد صدوده، وسكن فى مساكنه.
فهذا المثل يضرب لكل طاغ ومتجبر يسكن مساكن الظالمين، الذين ظلموا أنفسهم وغيرهم، فكانت عاقبتهم الهلاك، ومع ذلك لا تؤثر فيه تلك الآثار الباقية التى تتحدث