المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الفصل الأول التمهيد القرآن الكريم وظيفته الأصلية، وكيف يتخذه المسلمون

- ‌انتفاع الموتى بقراءة القرآن

- ‌بدع حول القرآن

- ‌الغاية من إنزال القرآن

- ‌وجوب طاعة الله وطاعة رسوله، ووعيد المخالفين

- ‌الأمر بتدبر وتفهم القرآن

- ‌وعيد المعرضين عن القرآن

- ‌فضائل قراءة القرآن وفضائل بعض سوره وآياته

- ‌تحزيب القرآن

- ‌لا تعرض عن قراءة القرآن

- ‌بدعية جمع القراءات فى سورة أو آية واحدة

- ‌بدع وضلالات متعلقة بالقرآن العظيم

- ‌ذكر أسباب إعراض الناس عن القرآن

- ‌حكم الجهر بقراءة سورة الكهف بالمسجد، وسماعها من المذياع فى المسجد

- ‌الفصل الثانى إلزام القرآن للماديين والمليّين

- ‌1 - معنى المادة والماديين

- ‌2 - إلزام القرآن للمليين

- ‌أما الأول: وهو التوحيد:

- ‌أما الثانى: وهو نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم:

- ‌كلمة للتاريخ

- ‌رجوع إلى الحق:

- ‌أ- الدين والفطرة

- ‌ب- من غير المنطق الإيمان بالوحى ثم الكفر بمحمد

- ‌رسالة إلى الرئيس الأمريكى كارتر:

- ‌الفصل الثالث الأمثال فى القرآن الكريم

- ‌المعجزات:

- ‌خصائص المعجزات العامة:

- ‌اختلاف المعجزات

- ‌معجزة القرآن الكريم:

- ‌الأسلوب القرآنى وتأثيره:

- ‌أوجه الإعجاز فى القرآن الكريم:

- ‌مظاهر التيسير فى القرآن:

- ‌دعوات هدامة:

- ‌الحاجة إلى علاج هذه الموضوعات:

- ‌التصوير فى الأسلوب القرآنى:

- ‌ الأمثال

- ‌رأى علماء البلاغة فى الأمثال:

- ‌رأى الفقهاء فى الأمثال:

- ‌الهدف من ضرب الأمثال:

- ‌أنواع الأمثال:

- ‌تمهيد:

- ‌1 - الدعوة إلى الإيمان بالله ووحدانيته:

- ‌2 - حقيقة التوحيد:

- ‌3 - البعث والنشور والحساب:

- ‌الترغيب والتحذير:

- ‌الإنفاق فى سبيل الله:

- ‌ما المقصود من الصدقة

- ‌النفس الإنسانية:

- ‌بناء الشخصية الإسلامية:

- ‌المنهج: مقدمة:

- ‌المقارنة بين الأمثال القرآنية:

- ‌الأمثال العربية:

- ‌1 - المنهج الذى قامت عليه الأمثال:

- ‌أ- بناء الإنسان:

- ‌1 - دع امرأ وما اختار:

- ‌2 - يداك أوكتا وفوك نفخ:

- ‌3 - تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها

- ‌4 - رب زارع لنفسه حاصد سواه:

- ‌5 - استعجلت قديرها فامتلت:

- ‌ب- الإنسان والمجتمع:

- ‌6 - أعط القوس باريها:

- ‌7 - قبل الرماء تملأ الكنائن:

- ‌8 - عند الصباح يحمد القوم السّرى:

- ‌ج- طريق التربية الناجحة:

- ‌كلمة أخيرة:

الفصل: ‌2 - حقيقة التوحيد:

نعم: لقد جهلوا حقيقة فطرتهم، وانحرفوا بها عن القصد، وسلكوا طريق من حرم التوفيق والبصيرة، والفهم بتلك العبادة الباطلة للأحجار والأصنام.

‌2 - حقيقة التوحيد:

إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 79].

الإيمان بوحدانية الله، وهو إفراده بألوهيته فى الأرض، كإفراده بالألوهية فى السماء، وعدم تعدده فى ذاته، وصفاته، وأفعاله، هو الفارق بين طريق وطريق، طريق الحق، وطريق الباطل، طريق الهدى، وطريق الضلال، وكانت هذه الحقيقة التى نطق بها أبو الأنبياء إبراهيم، عليه السلام.

هذه النقلة فى الاعتقاد كانت طريق الأنبياء والرسل، ولم يكن هذا الطريق ممهدا مملوءا بالورود والرياحين، ولكنه طريق الشوك والقتاد، طريق الصعاب، والألم، والتضحيات، فكم من نبى ورسول حورب من قومه، وقوبل بالهزء والسخرية، وكان محل تندر، وسخرية مريرة من أهله، وكم من نبى ورسول قتل فى سبيل هداية قومه إلى طريق الحق كما حدث فى بنى إسرائيل.

ولم يكن محمد، عليه الصلاة والسلام، بدعا من الأمر، أو بعيدا عن مواطن المشقات والمتاعب، فقد أرسل إلى قوم غلف القلوب، غلاظ الأكباد، صم الآذان، عمى العيون، لا يستمعون لكلمة الله ولا يصيخون لدعوة الحق، ولا تؤثر فيهم موعظة حسنة، حتى إذا نزلت إليهم الآيات القرآنية تدعوهم إلى عبادة الله وحده بطرائقها العديدة، وأساليبها المختلفة من أمر إلى نهى، من استفهام إلى خبر، من قصة إلى مثل؛ لاستمالتهم والتأثير فى نفوسهم، اتخذوا من ذلك أداة للتندر والتفكه، وأعرضوا عن السماع، مع ما لهم من ملكة التذوق والفهم لهذه الأساليب التى أتت من جنس ما يتكلمون ويتحدثون، ولكنه الكبرياء الذى تمكن من نفوسهم، والغرور الذى سيطر على قلوبهم،

فكيف يدعو محمد إلى ذلك، ويظهر من بين أيديهم، ولا يكون من أولئك العظماء الذين يدينون لهم بالطاعة والخضوع، ويعرفون لهم مكان الشرف والسيادة: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ [الزخرف: 32]، وفى آية أخرى. وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ

ص: 189

وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص: 4، 5].

تدرجت الآيات القرآنية بأساليبها العديدة فى دعوتهم عن طريق الإقناع، وسوق الدليل؛ لتنمى فيهم جانب العقل والتفكير، حتى إذا كان الإيمان كان على بصيرة من الأمر واقتناع بما أنزل الله، وإيمان كامل بوحى الله وشريعته.

استمر الرسول يدعو إلى الإيمان بوحدانية الله، وهى الأساس الإيمان بكل ما جاء من عنده، فى مكة ثلاثة عشر عاما، ثم انتقل بعد ذلك إلى الهجرة إلى المدينة، فكان الانتقال إلى مرحلة البناء والجهاد فى سبيل الله، والاتصال بالمجتمعات الأخرى، وإرسال الرسائل إلى الملوك والأمراء، يدعوهم إلى كلمة الله والدخول فى الإسلام، وكان اللقاء مع أولئك الذين صدّوا عن سبيل الله فى ميادين القتال فى الحرب والسلام.

كانت مرحلة التأسيس، وتطهير النفوس والقلوب مما ران عليها من الشرك، والجهل، والتقليد، هى أخطر المراحل، وأولاها بالاهتمام، يبدو هذا من آيات الله فى أمثاله، والإكثار منها، وما تناولته من عقائد وشرعته من شرائع، ودعت إليه من قيم.

ثم كانت بعد ذلك مرحلة البناء، والمحافظة عليه بالحرب والسلم فى المدينة، وهى مرحلة بدأها رسول الله بالوحى الذى أنزل عليه، ثم سار بعد ذلك على دربها صحابته ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

ونحن إذ نعرض لتلك الآيات القرآنية التى تعالج الدعوة إلى وحدانية الله، والإيمان به، فى ذلك الثوب القرآنى، ثوب الأمثال، لا نقصد من وراء إيرادها على ذلك النهج أن تكون خاضعة لتسلسل نزولها، ففي ذلك جهد لا نملك أدواته، ولا نستطيع أن نقطع فيه برأى، وإنما نقصد من وراء ذلك تحقيق الهدف والغاية التى إليها نسعى، ونقصد من كتابة هذه الموضوعات وهى غرس القيم الدينية البعيدة عن الانحراف، القيم التى تدعو إلى الإيمان بالله ووحدانيته، واتصافه بالكمال المطلق، والإيمان بما أنزل.

هذه القيم هى التى يجب أن يعلو صوتها فوق كل صوت، وتأثيرها فوق كل تأثير، فى وقت نعيش فيه، ويعيش فيه شبابنا، ويحسون بذلك الفراغ الروحى الذى يسيطر على كل خطواتهم وميولهم واتجاهاتهم، فيحسون معه بالضياع، والاكتئاب، والقلق، والعثار، ويتلمسون كل وسيلة يعتقدون أن وراءها حلا لمشكلاتهم، وقضاء على

ص: 190

معاناتهم، وقد يقعون نتيجة ذلك فريسة سهلة لألوان من المخدرات القاتلة التى تذهب بأرواحهم وقوتهم وعقولهم، دون أن تبدو منهم مقاومة لها؛ لأنهم لا يملكون من وسائل القدرة على ذلك ما ينفعهم فى موقفهم، فعقولهم وأفئدتهم خواء لا شىء يعمرها، ولا فكر يمد يده لينقذها مما تردت فيه.

يجب أن يكون للقيم النبيلة تلك الصدارة على قيم أخرى التى تعتبر أدنى مرتبة وأقل تأثيرا فى النفس، لقد انعكست الأمور فى وقتنا الحاضر، فأخذت المادية تطغى على كل النفوس فى مواقف الحياة، وفى التعاملات، والعلاقات، والتطلعات المختلفة، والطموحات العديدة التى يرنو إليها كل شاب متطلع للحياة بكل ما فيها، وهذا هو موطن الخطورة، يحس بذلك أولو الأمر فى اتجاهاتهم السياسية والثقافية، ويشعر بها المربون والآباء فى سعيهم الثقافى، والتربوى، والاجتماعى، ويرون فى ذلك نذيرا لمستقبل لا يبدو باسما بحال، ولا مبشرا بطريق مستقيم.

ولكن إذا بدأت القيم تغير من أماكنها على مسرح الحياة، وفى شعور الناس وعقولهم، وبدأت تسترد اعتباراتها التى كانت لها فى الماضى، ويعاد ترتيبها من جديد، وتحتل القيم الرفيعة صدارتها الأولى، كان ذلك بداية إلى ما هو أفضل فى الحياة، وقضاء على عادات وانغماسات فى مهالك مردية يقع فيها الكثيرون.

إن ما نلحظه فى وقتنا الحاضر أن تلك الأنظمة التى شدت انتباه الناس، وبخاصة الشباب الذى بهر بما فيها من حرية وانطلاق، واستمتاع مطلق بكل ما تحمله المدينة الحديثة فى طياتها من خبائث الشراب والجنس، بدأت تلك الأنظمة تعيد النظر فى ترتيب أوراقها، وترجع إلى فهم حقيقى للحرية المنشودة للإنسان المعاصر، الحرية التى تلتزم بالقيم النابغة من الدين، المحافظة على الأخلاق العامة وعلى حقوق الآخرين.

1 -

قال الله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت: 41 - 43].

جاء هذا المثل القرآنى عقب آيات تناولت أحوال أمم سابقة لهم فى مجال المعصية دور مشهود، وفى محاربة الرسل السابقين لهم عمل مشهور، وفى إنكار الدعوات

ص: 191

الصالحة التى تدعوهم إلى الإيمان بالله الواحد القهار، وتدعوهم إلى تطهير أنفسهم من قبائح الحياة والرذائل المتفشية فيهم، فأصابهم الله جزاء أعمالهم وظلمهم لأنفسهم بتلك العقوبات التى تنوعت بإرسال الحاصب من السماء، والرجفة التى تهلك، والخسف، والإغراق.

ألوان من العذاب تتناسب مع كفرهم بالله، وظلمهم لأنفسهم، واعتمادهم على أفكار ضالة، وإيمانهم بعبادات باطلة، فكان الاستحقاق من جنس العمل، ولا يظلم ربك أحدا، وكأن هذا إشارة إلى عقوبات مماثلة تلحق بمن يتشابه مع السابقين فى مواقفهم، ولن يكون المصير مختلفا، فالنتائج واحدة ما دامت الأعمال واحدة، وقد قال الله فى هذه الآيات: فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت: 40].

فى ضوء هذا التمهيد، جاء المثل ليبين حقيقة أولئك القوم الكافرين الذين أرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما وصلوا إليه من فهم سقيم، فالمشرك الذى يعبد الأصنام ويعتقد فى نفعها وضررها، وألغى بذلك تفكيره بالقياس إلى المؤمن الذى يعبد الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذى بيده النفع والضرر، والإحياء والإماتة، يشبهان فى حاليهما بحال تلك العنكبوت التى لجأت إلى نسجها الضعيف الواهى تلتمس فيه نجاة، وتتخذ منه حماية لها ولحياتها، وهو لا يدفع عنها شيئا من حر أو برد، بالقياس إلى من بنى بيتا حصينا اعتمد فى إقامته على كل ما يثبت دعائمه.

وهكذا تتضح الصورة، ففرق بين بيت وبيت، وفرق بين عبادة وعبادة، عبادة قائمة على شىء واه ضعيف، وعبادة قائمة على أساس سليم من الاعتقاد، والفكر، والاقتناع، ولذلك جاء التأكيد بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [العنكبوت: 42].

فالإنسان الذى له مسكة من عقل، جدير به أن يستند إلى حقيقة ودعامة ثابتة تقيه شر تقلبات الحياة، وما تأتى به من أرزاء، تلك الدعامة التى تعلى من شأن الإنسان وترفع من مكانته، فلا يذل لمخلوق، ولا يحرم نفسه من مكانة أعزه الله بها، وهى خلافة الله فى الأرض، يعمرها بالفكر والعقل، والإرادة، والحرية، والتحكم فى شهوات النفس وغرائزها.

ص: 192

هذا هو الإنسان الذى أسلم وجهه حقا لله، وعرف حقيقة وضعه، فتجرد من أنانيته، وكان مستعدا لتلقى وحى الله، ودعوة رسله، لا يخضع لصنم، ولا يركع لوثن، ولا يذل لطاغوت، وإنما يؤمن بمن خلق الصنم والوثن، وخلق الكافر والمؤمن، والحياة والموت، يؤمن بالله الذى بيده الأمر، وهو على كل شىء قدير: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الروم: 27]، والذى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ [الروم: 19، 20].

يعرض على أولئك الكفار فى هذه الآيات مشاهد مألوفة ومحسوسة لديهم، تقع عليها أنظارهم، وتتصل بحياتهم ومعاشهم، لعلها تثير فيهم نزعة التفكير والتأمل، وتوجه حواسهم إلى أداء وظائفها على أكمل وجه فى الإيمان بالله، والاعتراف بفضله ونعمه التى لا تعد ولا تحصى.

هذا ما يعرضه المثل القرآنى، وما يهدف إلى تحقيقه، ولكن كيف استقبل أولئك المشركون هذا المثل؟

لقد استقبل هؤلاء المشركون هذا المثل الذى يوضح حقيقتهم بطريق المقابلة والموازنة، استقبال أهل الغفلة والضلالة، فهم لا ينظرون إلى الحكمة والمقصد، وإنما يتعلقون بالقشرة الظاهرة، وهذا دأب التافهين الذين لا يفكرون ولا يتعمقون فى الأمر، نظروا إلى ما فى المثل من عنكبوت، وإلى أمثال أخرى تحوى ذبابا وبعوضا، تمثل أحوالهم، وتعرض صورهم، فقالوا: إن رب محمد يضرب الأمثال بالذباب تارة، والعنكبوت أخرى، يتضاحكون ويستهزءون، فرد الله عليهم بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا [البقرة: 26].

حقا الله سبحانه وتعالى يضرب المثل بالشىء القليل والحقير الذى لا ينال من الكفار حقا من احترام؛ لأنهم جهلوا أن ضرب المثل يحقق حكمة يريدها الله، وهى العظة والاعتبار، زيادة الفهم والإدراك للأمور، وأن الله خالق الشمس والقمر، والكون الكبير، هو الخالق للصغير من الأمر، فليست هذه أصعب من تلك، فإذا اقتضت مشيئة الله أمرا خلقه بقدرته القادرة القاهرة، يشترك فى ذلك النملة والفيل، والكبير والصغير.

ص: 193

وكم من دلالات يتعلمها الإنسان، حتى فى علو مكانته، وسموّ منزلته، من تلك الأشياء الصغيرة، إن نظرة فى أعمق أعماق التاريخ يرى موقف ابن آدم، عليه السلام، حيث قتل أخاه، يقف موقف الخاسرين، لا يعرف ما يأتى وما يذر، فيبعث الله إليه غرابا يبحث فى الأرض ليريه كيف يوارى سوأة أخيه، فأصبح من النادمين.

وسليمان، عليه السلام، وهو نبى مرسل من قبل الله، يمرّ على بيت للنمل، فتراه النملة، فتقول: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل: 18، 19].

وكذلك موقفه من الهدهد الذى أتى إليه بأخبار ملكة سبأ، كل هذا كان مددا لسليمان، عليه السلام، من تلك الأشياء الصغيرة التى كانت مصدر علم ومعرفة لنبى الله، فكان منه الشكر، والطاعة لله رب العالمين، ليست العبرة إذن فى كثرة الأشياء وقلتها، وكبر الأحجام وصغرها، وثقل الأوزان وخفتها، وإنما فيما تتركه من أثر فى اهتداء العقل، وضلاله، وإيمانه، وانصرافه عن الحق.

2 -

قال الله تعالى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الروم: 28].

ما موقف الآيات التى سبقت هذا المثل ومهدت له؟ جاء هذا المثل عقب آيات تناولت قدرة الله المطلقة فى السموات والأرض، وأنه صاحب الأمر فيهما، وكل من خلقه خاضع لمشيئته، من إنس وجن، راجع إليه لا يخرج عن قدرته وسيطرته، وقدرته أيضا على الخلق والإعادة، واتصافه بصفات الكمال المطلق، العزيز الغالب الذى يصنع كل شىء فى حكمة وتقدير، قال الله تعالى: وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الروم: 26، 27].

هذا هو التمهيد والفرش لما يأتى من مثل بعد ذلك، يثير فى العقل الإنسانى وكل من يخاطب ويقع فى دائرة التكليف دفعة إلى التمييز بين المتقابلات، والفهم للحقائق، وحسن استخدام ما جعله الله تكريما للإنسان، وهو العقل.

ص: 194

تناول المثل واقع هؤلاء المشركين الذين يشركون مع الله إلها آخر يتنازلون برغبتهم واختيارهم عما ميزوا به من عقل، فاتجهوا إلى أصنام يعبدونها ويسلمون إليها رقابهم ويخضعون لمشيئتها، إن كانت لها مشيئة، وفى نفس الوقت لا يرضون أن يكون أولئك العبيد والأرقاء والإماء الذين يملكون رقابهم، لا يرضون أن يكونوا لهم شركاء فيما يملكون من مال، أو يتدخلون فى شئونهم الخاصة والعامة، وأن تتساوى تصرفاتهم مع تصرفات السادة والأمراء، يأنفون من ذلك، ويخافون أن يكونوا أندادا لهم.

ومع ذلك يرضى أولئك الكفار أن يشركوا مع الله فى عبادته تلك الأحجار والتماثيل العاجزة، وهو القادر الخالق حتى لهذه المعبودات، وينسبوا إليه الشركاء.

بهذا الأسلوب الإقناعى المستمد من الحياة التى يحياها أولئك الناس، الحياة الاقتصادية والاجتماعية التى تعتمد على تجارة العبيد، واستغلال الأرقاء والإماء، يخاطبهم ويوجه تقريعه ولومه لمن يهمل ما ميزه الله به من عقل فضله به على بقية المخلوقات، وأعطاه القدرة على الملاحظة، والتدبر، وحسن التصرف.

حقا إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الأعراف: 194].

اتجاهات ولا شك تدل على تدن فى التفكير، وإلغاء للعقل يخرج بالإنسان من دائرة الإكرام الذى عبرت عنه الآية الكريمة: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا [الإسراء:

70].

ما الموقف الذى يدعو إليه المثل؟ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الروم:

28]، بهذا الختام نلمس ما يدعو إليه من موقف سليم فى الاعتقاد، والعمل، والسلوك، موقف ذلك الإنسان الذى يتلقى ضوء السماء، فيسير فى حياته لا يتخبط، يحافظ على منزلته التى حباه الله بها فى دنياه، ويتجه اتجاها حقيقا إلى خالقه رب العباد جميعا، وخالق الأسباب والمسببات، وأن يقيم اعتقاده على الإيمان بالله وحده الذى يأخذ بيده على صراط الله المستقيم، فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم: 30].

وما دام هذا الدين هو الفطرة، فعلى كل مؤمن أن يرجع إلى ربه، وأن يعرف طريقه

ص: 195

إليه فى كل وقت وحين، فى سرائه وضرائه، فى صحوه ونومه، فى حركاته وسكناته:

مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم: 31، 32].

3 -

قال الله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [النحل: 75].

جاءت الآيات السابقة لهذا المثل، والممهدة له، توضح حقيقة أولئك الكافرين الذين يؤمنون بالباطل ويكفرون بنعم الله عليهم، والتى تمثلت فى قدرة الله التى جعلت لهم من أنفسهم أزواجا، وجعل لهم من أزواجهم بنين وحفدة، كما رزقهم من الطيبات، وأنعم عليهم بنعم كثيرة من الصحة والمال والعقل، ومع ذلك ألغوا عقولهم وتفكيرهم، فاتجهوا اتجاهات باطلة نحو عبادة ما لا يملك لنفسه نفعا، ولا يدفع عنها ضرا، عبادة أصنام لا تملك من أمرهم شيئا من رزق أو مرض، حياة أو موت، فهى مخلوقات ضعيفة قد حرمت صفة القدرة، والذى لا يملك التأثير فى نفسه لا يملكه فى غيره.

قال الله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل: 72 - 74].

وقد أبانت الآيات أن الله جلت قدرته يعلم حقائق ما يأمر به عباده من فعل، وما ينهاهم عنه من باطل، وبيده الأمر كله من نفع وضرر، وحياة وموت، ورزق وفقر، ونصر وهزيمة. والإنسان العاجز المخلوق قاصر عن فهم هذه الحقائق، جاهل بحقيقة نفسه، محتاج إلى الإيمان بخالقه، فكان هذا المثل الذى يوضح تلك الحقيقة الكبرى فى تلك الصورة المأخوذة من حياتهم الواقعية، وأمورهم الاقتصادية، حتى يكون العقل على إدراك كامل بحقيقة الموقف الذى ينحاز إليه.

صورة ذلك العبد الذى فقد حريته وأصبح خاضعا لغيره، ذليلا لمن يتحكم فى رقبته، وجهده، ووقته، فما يجنيه من عمل يحصل عليه سيده، وما يبذله من جهد إنما يذهب ريعه لمن اشتراه ودفع ثمنه، فهو بمثابة البهيمة التى لا تملك الدفاع عن نفسها

ص: 196

حين يراد ذبحها، أو بيعها، أو التصرف فى أمورها، حرم ذلك العبد سمات الإنسان الذى يملك القدرة على التفكير، وإبداء الرأى، والتصرف فى ملكه.

هذه هى صورة ذلك الكافر الذى نحت صنمه، وأخذ يسجد ويركع له، وهو من صنع يده، وقد أخضع نفسه وتصرفه لهذا الضعيف، يستشيره فى أموره، ولا يصدر رأيا، ولا يعزم على أمر إلا بالرجوع إليه.

هل يستوى هذا بمن رزقناه منا رزقا حسنا: صورة أخرى تختلف عن الأولى جديرة بالاحترام والتقدير، صورة السيد المالك لأمره، المتصرف فى أمر نفسه وأمر غيره، الحرّ الذى يفعل ما يشاء، وهو الله سبحانه وتعالى خالق الموجودات، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وكل مخلوقاته له عبيد.

هل يستوى العبد بالسيد؟ وقيل: هو مثل مضروب للوثن، والحق تبارك وتعالى، الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [النحل: 75]: إيقاظ للنفس الإنسانية الغافلة كى تثوب إلى رشدها، وترجع إلى طبيعتها الجديرة بها، الطبيعة المفكرة العاقلة التى تعمر الكون، وتصل فى نهاية المطاف إلى أن تكون فى زمرة أولئك الذين يعلمون الحقائق،

ويؤمنون بالله الواحد، ويحمدون الله على تلك النتائج التى وصلت بهم إلى العقيدة الصحيحة، والإيمان القوى، والمعرفة بحقيقة دورهم فى عمارة الكون والاستخلاف فى الأرض.

4 -

قال الله تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [النحل: 76].

هذا المثل يكمل الصورة السابقة، ويؤكد بما يحويه من مضمون تلك الحقيقة الكبرى التى ترمى إليها الآيات، حقيقة الألوهية، والابتعاد عن الشرك، فإذا كان المثل السابق تكلم عن العبد العاجز الذليل الذى لا يملك حريته، ولا يتصرف بإرادته، وإنما هو خاضع لغيره فى كل تصرفاته، فهنا أيضا رجل لا يستطيع أن ينطق، حرم نعمة الكلام، فهو عاجز عن التعبير عن حاجة نفسه، وعن إرادته، عجزا حقيقيا لنقص فى أدوات الكلام، أو عجزا معنويا لحرمانه من كمال العقل والتفكير، وبذلك حرم من سمة الإنسان الذى له إرادة، وحركة، وقدرة، وعمل، فهو مقهور، ويحتاج إلى من يتحكم فيه،

ص: 197

يسير حسب أهوائه، فنفسه خبيثة طبعت على الرضا بالهوان، والمسكنة، والخضوع، لا ينتظر منه خير فى مسلك أو عمل صالح.

أما الرجل الآخر، فهو كنظيره فى المثل السابق الذى يملك ماله، ويتصرف بإرادته، ويفيض على الآخرين فى كل وقت وحين، له عمله، وحريته، وحركته البناءة التى تدل على حقيقة حاله، هنا أيضا له أمره الذى يصدره عن عزة واقتدار، لمن يخضع لمشيئته، فلا يملك إلا التنفيذ وسرعة الاستجابة، أمر يصدر يحمل فى طياته النفع، والخير، والهدى، والعدل.

هذه الأمثال التى تناولتها سورة النحل سبقت فى إطار واحد لتوضيح حقيقة لا لبس فيها، ولا غموض لدى الإنسان الذى يملك إرادته، ويعرف الحكمة من وجوده، وهى أن العبودية لله وحده؛ لأن السلطان بيده، والحكم له، يأمر بالعدل، وينهى عن المنكر، وكل فعل يجب أن يكون فى إطار ما شرع الله، وعلى هدى سننه، وكل تحرك بالعمل، والفهم فى هذه الحياة التى يحياها الإنسان يجب أن يأخذ نوره وقبسه من شرع الله، ويبتعد عن أولئك الظالمين لأنفسهم، والمضلين لغيرهم، الذين تحكمت فيهم عقائد الجاهلية وغوايات الشيطان.

5 -

قال الله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الزمر: 29]. هذا المثل أتى عقب آية قرآنية تشيد بأمرين جديرين بالتأمل والاستفادة، وهما:

(أ) أن الله اقتضت حكمته أن يكثر فى كتابه الكريم من ضرب الأمثال للتذكر، والعظة، والاعتبار.

(ب) وأن يكون ذلك فى معرض قرآنه الحكيم الذى أنزله بلسان عربى مبين؛ ليكون طريقا إلى الإيمان القوى، وليكون علاجا للنفوس المريضة التى لم تتشرب الإيمان الحقيقى، فيكون طريقا إلى التقوى والخوف من الله جل فى علاه، ومراقبته فى السر والعلن، وخشيته فى الظاهر والباطن، والإيمان به إيمانا قائما على إعمال الفكر، والتدبر، والنظر، والاستدلال، وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الزمر: 27، 28].

تبدو كل هذه المعانى فى ذلك المثل الذى يأخذ أمثلته من الحياة التى يحياها الناس،

ص: 198

وما يشغل بالهم وتفكيرهم فى كل وقت وحين، يأخذ أمثلته التى توضح فكرته التى يرمى إلى إيضاحها، ألا وهى حقيقة الألوهية أيضا التى تعزب عن بال أولئك المشركين، يأخذ أمثلته من واقع الحياة الاقتصادية التى يحيونها، تتشابك فيها المصارع، وتتصارع الرغبات، وتبدو الاهتمامات، ويظهر الطمع والجشع، وتبدو النفس عارية على حقيقتها بما فيها من شرور وآثام.

يضرب الله المثل لأولئك الكافرون بما بين أيديهم من أدوات الحياة الاقتصادية التى يستخدمونها وهم العبيد. فهذا عبد مشرك حكم عليه بالعبودية، يتحكم فيه عديد من السادة، ويتنازعون فى رقبته، كل له رغبة قد تتفق وقد تختلف، وهذا العبد حائر بين أيدى سادته، لا يعرف له طريقا، ولا يبصر له نهجا ينقذه من حيرته وضلاله.

ورجل آخر مؤمن له سيد واحد يخضع لما يأمره به، وينفذ ما يريد دون أن تتبدد قواه، أو تتوزع نفسه بين جملة شركاء، يعرف طريقه، ويسير على هدى وبصيرة من الأمر، هل يستويان؟ لا شك أن الأول ضائع، معذب فى دنياه، والثانى منعّم يشعر ببرد الراحة والهدوء فى سيره ونهجه. وكذلك من يعبد غير الله، ويتخذ آلهة له وشركاء فى عبادته مظلم النفس والبصيرة، ومن يعبد الله لا يلتوى به الطريق، ويعرف طريقه نحو خالق السماء والأرض.

لذلك ختمت الآية بقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الذى اختار لعباده الأمن والطمأنينة، وإن صدرت منهم أعمال تتصف بأعمال الجاهلية، وبعيدة عن روح الدين وحقيقة التوحيد، فأكثرهم لا يعلمون.

6 -

قال الله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة: 171]. أتى المثل القرآنى عقب آية تندد بكل تفكير معوج، وبالعادات البالية التى سيطرت على أخلاق الكافرين فى أفكارهم، وباعدت بينهم وبين استلهام الضوء من مصدره الجدير بالاتباع والإيمان، فإذا بذل رسول الله نصحه لهم باتباع ما أنزل عليه، غلبت عليهم شقوتهم وأغضبتهم الجاهلية، وفكرهم المريض الذى يدعوهم إلى التقليد، ومسخ الصورة الآدمية التى كرمها الله بالعقل والتمييز، وجعلها جديرة بالاستخلاف فى الأرض، ولذلك كان هذا الرد المعوج الذى تعرضه الآية القرآنية فى قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة: 170].

ص: 199

نعم يصرون على موقف، وهم يعلمون أنهم جاهلون بنتائجه، ويصرون على الاتباع ولو كان يؤدى إلى الهلاك، وبخاصة وقد حرم أولئك المتبعون من السابقين من نعمة العقل والاهتداء، وإلا لكانوا فى موقف آخر من الإيمان، ومحو عار الجاهلية الذى لصق بهم، واستدعى إرسال الرسل إليهم، ودليل ذلك إصرارهم على معاداة النبى ومحاربته، والوقوف ضد دعوة الإسلام، حتى بهذا التدنى فى المرتبة التى تصمهم بوصمة الحيوانية التى سلبت العقل والهداية، وهذا ما عرضه المثل بعد ذلك: يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً [البقرة: 171].

جو واحد، تشابهت فيه الأشخاص والدواب، وسلكت كلها فى مسلك واحد، لا تفكير، ولا اهتداء، وإنما اتباع مضلل، وطريق إلى الهاوية، نرى ذلك كله فيما يعرضه المثل من صورة أولئك المقلدين لغيرهم فى خطواتهم الضالة، والذين ألغوا عقولهم وتفكيرهم التى خلقها الله للاهتداء بها، فهم يرون الحق ويعرضون عنه، ويصرفون أنفسهم عن دلالته وآياته، ويتبعون خطوات الشيطان، ويقولون على الله بغير علم، ولا دليل ولا برهان، وهم على فساد من الأمر.

صورهم الله فى هذا المثل بتلك البهيمة السارحة التى لا تفقه ما يقال لها إذا صاح فيها راعيها، بل هم أضل منها، فهى ترى وتسمع وتصيح، ولكنهم: صم، بكم، عمى، مع وجود هذه الحواس، ولكنهم معطلون لها، ولا تؤدى وظيفتها التى خلقها الله من أجلها، صم لا يسمعون الحق سماع تدبر وفهم، بكم لا ينطقون به عن اعتقاد وعلم، ولا يعقلون مبدأ ما هم فيه، ولا غايته كما يطلب من الإنسان، وإنما ينقادون لغيرهم كما هو سائر الحيوان. وهؤلاء الكفار هم المشركون الذين تكرر منهم القول: بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا [البقرة: 170].

صورة تحذر من اتباع الشيطان، وتعطيل الفكر عن المعرفة والهداية، وتلقى أمر الله والشريعة من غير الجهة التى يتلقى منها أمر العقيدة والشريعة.

7 -

قال الله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الجمعة: 5]. جاء هذا المثل بعد آيات أربع افتتحت بها سورة الجمعة، وتناولت هذه الآيات:

ص: 200

(أ) تمجيد الله وتعظيمه بذكر صفاته، وخضوع المخلوقات من إنس، وجن، وسماء، وأرض، له، وتسبيحها بحمد الله، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء: 44].

(ب) اختيار رسول الله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور من جنس العرب؛ ليتلو عليهم آيات الله.

(ج) رحمة الله شملت غير العرب الذين آمنوا، ومن بقى من أمة محمد من الأجيال اللاحقة.

(د) أسبغ الله نعما كثيرة على عباده الذين أراد لهم الهداية، وجدير بمن يعرف هذه النعم أن يوفيها حقها من الذكر، وحق موجدها بالطاعة والعبادة والتوحيد، حتى يكون من جملة المسبحين والمعترفين بفضل الله.

أما أولئك القوم الذين ضرب بهم المثل من اليهود الذين كانوا فى عصر الرسول، وعرفوا حقيقته من الآيات التى بين أيديهم التى تحويها التوراة، وما عرفوه من علامات، حتى أنهم كانوا يستفتحون على غيرهم من الكفار بأنهم سيتبعون الرسول الذى سيرسل، وسيكونون عونا له عليهم، فلما أرسل الله محمدا، عليه الصلاة والسلام، إذا بهم ينكرون الرسالة ويحاربونه أشد محاربة؛ لأنهم كانوا يحسبونه من قومهم ومن جنسهم.

هؤلاء القوم الذين كلفوا العمل بالتوراة، ولم يؤمنوا بمحمد، ولجأوا إلى التأويل والتحريف والتبديل، ضرب الله لهم المثل بالحمار الذى يحمل فوق ظهره كتبا تحوى كنوز المعرفة واليقين، ولا يدرى عنها شيئا، ولا ينال من حملها إلا الثقل دون فائدة، بل هم أسوأ حالا من الحمار؛ لأن الحمار لا فهم له، وهؤلاء لهم فهوم لم يستعملوها.

وفى هذا التصوير القرآنى دعوة واضحة لكل ذى لب أن يستوعب علم ما يحمل، وأن يتفهم جوانبه وأهدافه ومراميه، حتى لا يلحقه الندم من جراء جهله بما معه، والذم ممن يراه، وأن يعمل بمقتضى ما فيه من نهج صالح، ودعوة بناءة فى الحياة الدنيا، وسعادة فى الآخرة.

إنها دعوة المعرفة التى تنتظم جوانب النفس، وجوانب المجتمع والحياة زراعة، صناعة، تجارة، حتى تصل إلى كفايتها التى تطمح إليها، ثم تصل فى نهايتها إلى المعرفة

ص: 201

الروحية، وهى صفاء القلب، وتفتح العقل ونوره، حتى لا يكون مظلما، وغير قادر على العمل، فالعقل مصدر كل شىء، والتقدم مرهون بتشغيل عقول الناس.

ومن خلال هذا المثل نرى الفرق واضحا بين من عطّل حواسه، ومن أحسن استغلالها فى فائدة تعود عليه، فمثل الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا أَفَلا تَذَكَّرُونَ [هود: 24]، وقال أيضا: وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ [الملك:

10، 11].

وبعد استعراض تلك الأمثال القرآنية التى تناولت فكرة الاعتقاد والدعوة إلى الإيمان بالله الواحد الذى يتجه إليه بالعبادة، ويفرد بالتعظيم والإجلال، وتطهير النفوس من غواشى الجهالة التى تسيطر عليها، فتحول بينها وبين الإيمان الصحيح القائم على استخدام العقل والفكر.

ولذلك كانت رسالة محمد ودعوته إلى الإيمان بالله الواحد الأحد، وما يتبع ذلك من أمور اعتقادية، هى من صميم الفكرة الأم التى دعا إليها القرآن، ونادى بها رسول الله، فالله هو خالق الخلق، وهو المحيى والمميت.

وإذا كانت هناك حياة، فلا بد وأن يكون هناك موت، وإذا كان هناك موت، فلا بد أن تكون هناك حياة أخرى للحساب، والعقاب، والمجازاة على الأعمال التى كانت

وحدثت من الإنسان فى دنياه، فلا يعد الإنسان إنسانا إلا إذا كان صاحب إرادة، وصاحب عمل يصدر عنه، ويكافأ عليه، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وهذا هو مقتضى العدل الإلهى الذى وضعه الله للإنسان فى دنياه وأخراه، وبذلك كان التمييز عن بقية المخلوقات التى تكون ترابا، والمخلوقات الأخرى فى ملكوت الله الواسع العظيم التى خلقها لتكون فى يومها الموعود على غير ما هى عليه فى الدنيا من نظام مرسوم.

حياة دنيوية هى مقر الإنسان، ومحل العمل، يترتب على ذلك جزاء وثواب، وعقاب فى الدنيا وفى الآخرة.

هذا هو طريق الإيمان الذى يجب أن يسلكه المؤمن فى اعتقاده، ولذلك كان البعث، والنشور، والحساب، من مستلزمات هذا الإيمان، والكفر بذلك يقتلع فكرة الإيمان من جذورها، ويجعلها لا تقوم على أساس، آمن بذلك القدامى، وسيطر ذلك على

ص: 202