المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

نور يهدى ولا يضل، يرفع ولا يضع، يحقق للإنسان الحائر - عون الحنان في شرح الأمثال في القرآن

[على أحمد عبد العال الطهطاوى]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الفصل الأول التمهيد القرآن الكريم وظيفته الأصلية، وكيف يتخذه المسلمون

- ‌انتفاع الموتى بقراءة القرآن

- ‌بدع حول القرآن

- ‌الغاية من إنزال القرآن

- ‌وجوب طاعة الله وطاعة رسوله، ووعيد المخالفين

- ‌الأمر بتدبر وتفهم القرآن

- ‌وعيد المعرضين عن القرآن

- ‌فضائل قراءة القرآن وفضائل بعض سوره وآياته

- ‌تحزيب القرآن

- ‌لا تعرض عن قراءة القرآن

- ‌بدعية جمع القراءات فى سورة أو آية واحدة

- ‌بدع وضلالات متعلقة بالقرآن العظيم

- ‌ذكر أسباب إعراض الناس عن القرآن

- ‌حكم الجهر بقراءة سورة الكهف بالمسجد، وسماعها من المذياع فى المسجد

- ‌الفصل الثانى إلزام القرآن للماديين والمليّين

- ‌1 - معنى المادة والماديين

- ‌2 - إلزام القرآن للمليين

- ‌أما الأول: وهو التوحيد:

- ‌أما الثانى: وهو نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم:

- ‌كلمة للتاريخ

- ‌رجوع إلى الحق:

- ‌أ- الدين والفطرة

- ‌ب- من غير المنطق الإيمان بالوحى ثم الكفر بمحمد

- ‌رسالة إلى الرئيس الأمريكى كارتر:

- ‌الفصل الثالث الأمثال فى القرآن الكريم

- ‌المعجزات:

- ‌خصائص المعجزات العامة:

- ‌اختلاف المعجزات

- ‌معجزة القرآن الكريم:

- ‌الأسلوب القرآنى وتأثيره:

- ‌أوجه الإعجاز فى القرآن الكريم:

- ‌مظاهر التيسير فى القرآن:

- ‌دعوات هدامة:

- ‌الحاجة إلى علاج هذه الموضوعات:

- ‌التصوير فى الأسلوب القرآنى:

- ‌ الأمثال

- ‌رأى علماء البلاغة فى الأمثال:

- ‌رأى الفقهاء فى الأمثال:

- ‌الهدف من ضرب الأمثال:

- ‌أنواع الأمثال:

- ‌تمهيد:

- ‌1 - الدعوة إلى الإيمان بالله ووحدانيته:

- ‌2 - حقيقة التوحيد:

- ‌3 - البعث والنشور والحساب:

- ‌الترغيب والتحذير:

- ‌الإنفاق فى سبيل الله:

- ‌ما المقصود من الصدقة

- ‌النفس الإنسانية:

- ‌بناء الشخصية الإسلامية:

- ‌المنهج: مقدمة:

- ‌المقارنة بين الأمثال القرآنية:

- ‌الأمثال العربية:

- ‌1 - المنهج الذى قامت عليه الأمثال:

- ‌أ- بناء الإنسان:

- ‌1 - دع امرأ وما اختار:

- ‌2 - يداك أوكتا وفوك نفخ:

- ‌3 - تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها

- ‌4 - رب زارع لنفسه حاصد سواه:

- ‌5 - استعجلت قديرها فامتلت:

- ‌ب- الإنسان والمجتمع:

- ‌6 - أعط القوس باريها:

- ‌7 - قبل الرماء تملأ الكنائن:

- ‌8 - عند الصباح يحمد القوم السّرى:

- ‌ج- طريق التربية الناجحة:

- ‌كلمة أخيرة:

الفصل: نور يهدى ولا يضل، يرفع ولا يضع، يحقق للإنسان الحائر

نور يهدى ولا يضل، يرفع ولا يضع، يحقق للإنسان الحائر فى دنيا القلق، والتوتر، والمتاعب الصحية النفسية، والعقلية، والروحية، التى تأخذ بيده إلى مرفإ الأمن والأمان اللذين امتن الله بهما على قريش فى سابق عهدها: الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش: 4].

إن ما يعانى منه العالم الآن هو الحرمان من الأمن والأمان، والخوف من التعرض للمحن التى تحمل فى طياتها الكوارث المخفية التى تلحق بالعالم، كوارث الحروب، والتلوث، والجوع، والتصحر

إلخ، لذا فإن الدول تتسابق وتتعاون، وبخاصة تلك الدول التى تقدمت علما وتطبيقا فى إجراء بحوثها وتوجيه طاقاتها إلى بث الطمأنينة فى نفوس شعوبها، وتحقيق الطمأنينة النفسية بجانب الطمأنينة المادية من مأكل ومشرب ومسكن فى الحياة.

ولكن هل تنجح تلك الجهود فى تحقيق ما يريدون إلا على أشلاء شعوب أخرى ضعيفة عانت وتعانى من الظلم والإرهاب.

‌المنهج: مقدمة:

ماذا نقصد بالمنهج؟ أهو ما تعارف عليه الناس فى اقتصاره على ما هو مألوف وموضوع لتلك المواد والمقررات الدراسية التى يضعها المربون والأخصّائيون للمراحل المختلفة حسب السن؟ أهو ما يركز عليه ذلك المنهج العلمى من إعطاء المعلومة، والاهتمام بالتلقين، والحفظ، وتخزين المعلومات؟

كل هذا ليس بالوارد فى موضوعنا، وإنما نقصد ذلك المنهج الذى يبنى الحياة بكل متطلباتها، ويبنى الإنسان بقيمه وبثقافاته العديدة، ويحقق رسالة العلم الحقيقة، ويبتعد عن تلك الأطر الضيقة التى تهتم بمرحلة من العمر ضيقة، وتنسى المراحل الأخرى من العمر، وهى جديرة بالعناية والرعاية، حتى تكون مناهج مستوعبة، شاملة عامة، تخرج من حدود الزمان والمكان، ولا تهتم بجنس دون آخر.

إن هذا المنهج الذى نهدف إليه إنما يتحقق عن طريق رؤيتنا الواعية لمشكلات عصرنا، وإحاطتنا بكل احتياجات حياتنا، إن المنهج الذى نقصد إليه هو التربية الناجحة التى تهتم بالعلم وأساليبه من أجل تنمية الفكر والتفكير، وتشجيع المبادأة والإبداع، وإيجاد روح التنافس الشريف، والقدوة الصالحة فى المجتمع، وبناء الأمة على أساس من

ص: 251

المستقبل القائم على النقاء، والطهارة، والإيمان، والعمل، والعلم، وكل ما من شأنه تملك زمام النفس والحياة.

وإذا أردنا أن نخطط لبناء مجتمع أو أمة، فلن يكون الأمر إلا عن طريق بناء الفرد النواة التى يتكون منها ذلك المجتمع، وتكوين الوعى لدى جماهير الأمة يستحيل بناؤه بمعزل عن الدين، والفهم العميق له، ودوره فى التقدم، فإذا كانت المجتمعات الغربية قد أفلست فى الماضى عن أن تحقق نجاحا فى أن تتخذ من الدين وسيلة إلى النهوض والتقدم والرقى، فدفعها ذلك إلى تنحيته عن معارك الحياة، وإبعاد من اتخذوه سلعة وتجارة، فإن الدين الإسلامى ليس على هذا النحو، فهو الحياة بكل ما فيها من متطلبات، تعنى بشأن الفرد والجماعة، والأخذ بيد الإنسان كى يحيا حياته التى خلقه الله من أجلها، فالدين ليس حكرا على أحد، وليس نزعة للتسلط، وإنما هو أول مصدر من مصادر الوعى لدى الإنسان بحقيقة الحياة الكونية والاجتماعية، والمتمشى مع فطرته التى فطره الله عليها، يعدل من مساره ويتسامى بغرائزه، ولا يقف ضد حاجيات نفسه المادية، والروحية، والسلوكية، والنفسية، إلا بمقدار ما يوجه ويرشد.

لذا كانت لتعاليمه التى نزلت من أربعة عشر قرنا من الزمن، سمة الصلاحية والاستمرار، لا يدخلها تغيير أو تبديل، بخلاف ما نرى من نظريات تقوم العقول البشرية بوضعها لتنقذ الإنسان فى اعتقادهم من براثن الحياة، ومن شر ما يحيط به فى أجوائها تحت أسماء الاشتراكية أو الرأسمالية، إلى آخر ما يصنفون ويبدعون، ثم ما تلبث أن تتهاوى تلك النظريات بفعل التطبيق، وتظهر الأيام قصورها، وحاجاتها إلى التغيير والتبديل لتوائم الحياة بأحداثها ومتطلباتها.

رسالة الإسلام تحقيق الهداية للبشر فى اعتقادهم، وتوجيه حركة الحياة للفرد والجماعة، عن طريق ما تثبته من قيم نبيلة للأفراد والجماعات.

1 -

قال الله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها (1) فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ (2) فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها (3) وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ (4)

(1) خرج من الآيات بأن كفر بها.

(2)

فاتبعه الشيطان: لحقه الشيطان بعد أن اخار هذا الانسلاخ.

(3)

لو أردنا أن نرفعه بتلك الآيات إلى درجة الكمال والعرفان التى تقرن العلم بالعمل.

(4)

أخلد إلى الأرض: مال إلى الدنيا وحطامها.

ص: 252

وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ (1) يَلْهَثْ (2) أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ [الأعراف: 175 - 177].

جاء هذا المثل القرآنى بعد آيات تعرضت لموقف الخلق من لدن آدم، عليه السلام، حيث أخذ الله عليهم العهد بعبادته وحده، والإيمان بربوبيته، وإقرارهم على ذلك، وتنصلهم مما يفعله المجرمون من غفلتهم عن هذه الحقيقة، واتباعهم لغيرهم فى عبادات فاسدة، وإقرارات أخرى زينها لهم الشيطان ومن اتبعه، فضلوا عن سواء السبيل، فصلت الآيات ذلك حتى يكون الاهتداء إلى الحق طريق من يطلبه ويسعى إليه، ويهديه الله إليه بالفهم الواعى، والعلم النافع، والقلب السليم.

قال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف: 172 - 174].

وإذا كان أول طريق إلى تحقيق هذه الهداية هو العلم والانتفاع به فى مجال الإيمان بآيات الله المنزلة على رسوله صلى الله عليه وسلم وما يساندها من آيات ودلائل كونية ونقلية، فإذا كان عالما بها، حافظا لقواعدها، عارفا بأصولها وأحكامها، عاملا بها، كان الإنسان مؤمنا حقا، أما إذا تباين عمله مع عمله، ولم ينظر فى تلك الآيات نظر اعتبار، فلا بد وأن يسلب هذه النعمة، وهذا المعنى يظهر فى تلك الآيات البينات التى تعرض المثل القرآنى، فقد صور المثل حال الذى أعطى العلم، ولم يعمل به، فسلبه الله تلك النعمة، فأشبه فى حالته تلك الحية التى تنسلخ من جلدها، وتتركه على الأرض.

صورة معجزة، واضحة الدلالة لهؤلاء المكذبين بالرسول مع ما أتى به من آيات واضحات وحجج قاطعة، الذين يشبهون حال ذلك العالم الذى حرم ثمرة علمه، فكل منهما لم يستفد شيئا ولم ينظر نظر اعتبار، فخرج من الآيات، وكفر بها، ومال إلى الدنيا وحطامها، وما فيها من شهوات، وتمتع بلذائذها، وقد كان فى إمكان ذلك العالم أن

(1) إن تحمل عليه: تزجره وتطرده.

(2)

يلهث: يخرج لسانه من النفس الشديد عطشا أو تعبا.

ص: 253

يكون فى راحة بال وطمأنينة نفس بما آتاه الله من علم، ولكن هكذا الدنيا، فكلما زاد الإنسان غنى ازداد رغبة وطمعا، فهو كمن يشرب من ماء البحر ليروى عطشه، ولكن هيهات، وكذلك العالم الذى لا يستهدى بعلمه، ولا يتخذ منه طريق دلالة يظلم نفسه، فلا هو استراح بالمعرفة والعلم، ولا استراح الجاهل بجهله.

ولذلك يأمر الله سبحانه وتعالى رسوله أن يحذر من يعلمون شيئا أن ينتهوا إلى تلك النهاية البائسة، وأن يصيروا إلى هذا اللهاث الذى لا ينقطع أبدا، وأن يظلموا أنفسهم ذلك الظلم الذى لا يظلمه لعدوه، فإنهم لا يظلمون إلا أنفسهم، فالعلم بكل صوره وأشكاله يحقق الهدف من المعرفة والإيمان، ويبحث فى الوجود والطبيعة، وفى كل ما

ينفع الناس دنيا وأخرى، وهو قوة وزاد لا يدخل عقل إنسان، إلا وينتقل إلى نفسه وأسلوب حياته، ومعيشته، وطريقة تعامله فى مجتمعه مع تباين الناس فى علمهم، هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9]، وأمر الله سبحانه وتعالى رسوله، عليه السلام، أن يدعو قائلا: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: 114].

فإذا نظر الإنسان إلى الكون وما فيه بالتأمل، وحاول أن يفهم السنن التى جرت وتجرى فى تسخيره، لاهتدى إلى مفتاح الكون لإدارته بقدرة الله، وهذا يزيده قربى من الله، وقد كان ذلك أول خطوة خطاها أبو الأنبياء، عليه السلام، كما ذكرت ذلك الآيات القرآنية: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام: 75].

وبهذا الأسلوب استطاع الإنسان الهداية إلى خالقه الأعظم، وتحرر من أسر العادات الباطلة، والخرافات الجاهلة، والخضوع للآخرين، وقد أثبتت التجارب أن العلماء بأبحاثهم واكتشافاتهم هم أقرب الناس إلى الإيمان الصحيح القائم على الأدلة والبراهين، إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28].

2 -

قال الله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ [التحريم: 10 - 12].

ص: 254

سبقت هذه الآيات بأمر للرسول، عليه الصلاة والسلام، بمجاهدة تلك العناصر المناهضة للدعوة، والتى تمثلت فى عنصرى الكافرين والمنافقين، وهذه المجاهدة هى لون من ألوان العلاج لهؤلاء وأمثالهم فى كل عصر وحين، تختلف فى أشكالها وأنواعها، فلا بد وأن الجزاء من جنس العمل، والدواء مما يتناسب مع المرض مرارة وشدة، فقد أمر الرسول بمجاهدة فى طياتها غلظة وشدة لا تعرف الرحمة والشفقة، فهم نماذج سيئة للإنسان الذى ضل سواء السبيل، ولم يتبع الهدى، لذلك كان مأواهم جهنم وبئس المصير.

ثم جاءت الأمثال أيضا بنماذج من الأعمال الطالحة، والأعمال الصالحة من أقوام سابقين تحمل فى ثناياها العظة والاعتبار، نماذج من جنس النساء تمثل نزعتين من النزعات اختلفتا هداية، وضلالا، ومسلكا، وعاقبة، وطباعا، وأخلاقا، وتحملت كل نفس وزر عملها، فلم تنفعها صلة قربى، أو وشيجة نسب، كما لم تضرها سيئة ليست من كسب يدها.

هذا هو الصرح الثانى فى هذا المنهج القرآنى بعد العلم، واستخدام العقل والتدبر، وهو إبراز ذاتية الإنسان، وحريته فى العمل، وتحمله للمسئولية فى نشاطاته المختلفة فى الحياة، والعمل من أجل الكرامة والعقيدة.

امرأة نوح، وامرأة لوط، انفصمتا عن زوجيهما الصالحين بأعمالهما الفاسدة، فكانتا من الكافرين، ولم تنفعهما صلة الزوج، ولم تنقذهما من عذاب الله؛ لأنهما تآمرتا على زوجيهما، وأفشيا سرهما إلى قومهما، فكانا عونا للكافرين، ومشاركين للباطل فى وقفته ضد الحق وأهله.

هذه القرابة الأسرية مرفوضة؛ لأنها قامت على غير هدى وطاعة، وقد وقف نوح، عليه السلام، هذا الموقف من ابنه، وهو يوشك على الغرق حينما أراد الاعتصام بالجبل ليحميه من الطوفان والغرق، وكان من جملة الكافرين، فقال: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [هود: 45، 46]، صدق الله العظيم.

فالقرابة هى الطاعة والدين، ولا قرابة لعاص، ولا لخارج عن أوامر الله.

ص: 255

ثم ذكرت الآية ذلك المثل الرائع لوقفة الحق ضد هجمة الباطل، وما له من أعوان من العتاد، والفكر، لامرأة فرعون، ومريم ابنة عمران فى الطاعة لله، والإيمان برسله، والصلاحية من الأمر، والثبات فى المواجهة الظالمة التى تتعرض لهما ولسمعتهما.

من خلال النموذجين نرى تربية القرآن الكريم للمؤمن الذى يتحمل نتيجة أعماله أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى [النجم: 38 - 41].

وعلى المؤمن أن يندمج فى مجتمعه، ويفهم حياته وما تستوجبه من عمل لغده، وتحرير لإرادته ونفسه من عوامل المهانة والذل، ومن كل الموبقات التى تؤدى به إلى المهالك، فقد رأينا خائن العقيدة لا تنفعه قرابة، ولا تغنى عنه صلة نسب، ولو كان برسول الله: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ [المؤمنون: 101].

وهذه النماذج الناطقة المصورة التى ضربت وتضرب، حتى فى مستقبل الأيام، للكافرين والمؤمنين تقدم أيضا الدرس لزوجات الرسول، عليه الصلاة والسلام، وللنساء فى كل جيل، لتتحمل كل واحدة تبعة أعمالها، ومسئولية ما يقع منهن.

بل إن القرآن أوضح فى مجالات لا تحتمل اللبس أن هذه القربى لها تبعاتها العظمى فى مضاعفة الأجر إذا كان العمل صالحا، ومضاعفة العذاب إذا كان الأمر سيئا: يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً [الأحزاب: 30، 31]، صدق الله العظيم.

3 -

قال الله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ

مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً

[الفتح: 29].

تقدمت آية قرآنية ذلك المثل تفيد تفضل الله على عباده بإرسال رسول إليهم، يحمل الهداية والنور إلى الناس، برسالة هى الرسالة الخاتمة لكل ما سبقها من رسالات تحمل توصياتها وشرائعها، وتشمل كل ما تفرق على أيدى الأنبياء والرسل، وذلك لتكون

ص: 256

مشعلا على طريق الحياة، وتبصرة بالمواقف الجادة التى تنتصر على كل فكرة سابقة لا تحمل ضوءها ونورها من الله جل فى علاه، ويكفى أن الله شهيد على ذلك: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً [الفتح: 28].

هذه مكرمة خص الله بها رسوله، والذى تتضح صورته، وصورة صحبه ومن آزره ونصره فى دعوته، وإعلاء كلمة الله فى المثل الذى نعرضه فى الآية.

فالله يضرب المثل بأولئك الذين خلصت نياتهم، وأخلصوا أعمالهم لوجه الله، وفى سبيل دعوته بمحمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الذين آزروه، ونصروه، واتبعوا النور الذى أنزل معه، فكانوا من المفلحين الذين يتراحمون فيما بينهم، ويتآخون برباط الإسلام، ويكثرون من العبادة والطاعة لله، ولا يقصدون من أدائها إلا ابتغاء وجه الله ورضوانه، قد صفت وخلصت من الغرض، وهم يهبون أنفسهم للدفاع عن الدين والعقيدة، والاستشهاد فى سبيل الله، وهم أشداء على الكفار أعداء الله.

ظهرت آثار أعمالهم الصالحة على صفحات وجوههم، وهكذا المؤمن إذا كانت سريرته صحيحة مع الله، أصلح الله ظاهره للناس.

قلة قليلة بدأت بمحمد صلى الله عليه وسلم، ثم قويت واستحكمت، وترقى أمرها يوما بعد يوم، فكانت كما قال صاحب الكشاف: كما يقوى الطاقة الأولى ما يحتف بها مما يتولد منها.

وظاهر المثل: أن الزرع هو محمد صلى الله عليه وسلم، والشطء: أصحابه. قيادة حكيمة اختارها الله من بين خلقه لتؤدى أمانة الوحى بالقدوة الطيبة والموعظة الحسنة، وتحمل الرسول الكريم الكثير من ألوان الإيذاء، والعنت فى سبيل تبليغ دعوة الحق، ومحاربة الباطل، وكان حريصا على هداية القوم، يتعرض لهم فى كل مكان، ويسلك لذلك كل طريق، حتى نزل قول الله سبحانه وتعالى: ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ [المائدة: 99].

القائد والجند تجمعهما رابطة العقيدة، وبينهما مدد مشترك يبعث فيهما القوة والنماء والروح، مدد روحى من القرآن الكريم، ومن نور الله يستمد الضوء، فيكون الزرع الذى استغلظ واستوى على سوقه، ويكون الشطء الذى آزره، وكان عونا له فى سير الحياة.

مثل للمؤازرة الحميمة، والمساندة التى لا يمكن أن تنفصم إلا بفعل الله سبحانه

ص: 257

وتعالى. هذه الصورة ذكرت فى الكتب السماوية القديمة، التوراة، والإنجيل، وأبرزت صفات محمد وصحبه فى جهاد الدعوة بتلك الصورة المشرقة التى تدعو إلى الاقتداء بجليل الأعمال، والإخلاص فى الدعوة وتحمل تبعاتها، استجابة لأمر الله وإتماما لنوره، حتى يصل إلى كل قلب واع، وروح متفتح إلى الإيمان بالله، والتنزه عن دنس الشرك، ووسوسة الشيطان، واتباع الهوى.

ومن الملاحظ أن تلك الصفات التى وصف بها محمد وصحبه إنما تناولت تلك القيم النفسية، من قوة فى الحق، وتراحم بين الناس، ومؤاخاة، وإخلاص طاعة، وكلها صفات وقيم تغطى على تلك القيم التى تواضع الناس عليها فى وقتنا الحاضر من تفاخر بالمال وكثرته، وطغيان بالمركز والجاه، وتعالى على الآخرين باللون والحسب والنسب، قيم باطلة زائفة لا تصمد على الأيام، وهى ما تلبث أن تذروها الرياح ولا يبقى منها شىء.

ولكن هل استطاعت هذه الصورة أن تصل إلى تلك القلوب الغلف فتهديها إلى سواء السبيل؟ هل وجدت الأرض ممهدة؟ هل أرست دعوتها فى بناء هذه الأمة دون مكابدة وعناء؟.

4 -

قال الله تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ [النحل: 112].

سبق هذا المثل بآية قرآنية تلفت النظر إلى ذلك اليوم الذى يجب أن يعمل حسابه كلّ مخلوق، وأن يزن أعماله قبل أن توزن عليه، ويحاسب نفسه قبل أن يحاسب فيه، وهو يوم القيامة الذى تقف فيه الأنفس والخلائق خاشعة بين يدى ربها ذليلة، تحاول أن تبرئ ساحتها مما لحق بها من سيئات، وأن تنفض عنها غبار الذنوب والآثام، وتحاول أن تظهر حسن نياتها بما عملت فى دنياها، والله عليم بكل نفس، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف: 49]، فهو يعطى لكل ذى حق حقه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7، 8].

هذا هو اليوم، وهو موقف تتعرى فيه النفس الإنسانية، وتظهر على حقيقتها، قال الله تعالى: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [النحل: 111].

ص: 258

ثم جاء المثل عقب ذلك ليسوق ما يحمله من حقيقة تلك القرية وقاطنيها، المنعمين بخيراتها، الرافلين فى حلل الأمن والطمأنينة النفسية والمادية، ثم تتبدل بهم الأحوال بفعل أنفسهم، وتغير أخلاقهم، فيكفرون بنعم الله، فيذيقهم الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون.

والمثل يضرب لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة، وكفروا وتولوا، فأنزل الله نقمته بهم، وهؤلاء القوم قد يراد بهم أهل مكة التى كانت آمنة مطمئنة، مستقرة، يأتيها

رزقها رغدا من كل مكان، ويتخطف الناس من حولها، وهى آمنة، ثم كفرت بأنعم الله عليها، وجحدت فضله، فلم تشكر الله على ما أعطاها من نعم، وخصها به من منح، وليست هناك منحة أعظم، ولا نعمة أوفى من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنها استقبلتها بالجحود والنكران، فكانت نقمة الله عليها شديدة، إذ بدل حالها، فألبسها الله لباس الجوع والخوف بعصيان أهلها لأمر الله وكفرانهم، فدعا عليهم رسول الله بسنين كسنى يوسف، عليه السلام، فأصابتهم سنة أذهبت كل شىء، وسيطر عليهم الخوف بما حققه رسول الله صلى الله عليه وسلم من انتصارات فى غزواته المختلفة، حتى تم فتح مكة، وذلك بسبب تكذيبهم لرسول الله الذى بعثه الله من بين أظهرهم داعيا، ومبشرا، ونذيرا، وعاد عاقبة الظلم على أهله.

وإذا كانت هذه صورة قائمة لذلك المجتمع المكى الذى ساند بعضه بعضا على الباطل، ووقف ضد نور الله يحاول أن يطفئه، فكانت يد الله الغالبة، وجاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا، وتكسرت الأصنام، وحطمت تلك المعبودات يوم فتح مكة، كما تحطمت معها أنصارها وأعوانها من مفسدين وظالمين بما كانوا يصنعون.

فهى أيضا صورة لكل من سار على درب الضلال فى كل حين، ضلال الفكر والاعتقاد، وضلال العمل، والفسوق، والعصيان، والمصير هو المصير، فالقانون الإلهى يجرى على الناس جميعا لا يتخلف، فما دام هناك كفر وعصيان وابتعاد عن الحق وأهله، كانت هناك نقمات من الله من جوع يؤدى إلى نقص فى الأموال، والأنفس، والثمرات، والإمكانات المادية، وخوف يسيطر على الأفئدة، فتحرم نعمة الأمن والأمان فى الحياة، وتتبدد القوى المادية والمعنوية التى هى عماد الحياة الحقيقية، وذلك كله جزاء تلك الأعمال السيئة التى اقترفتها الأيدى، والنوايا الخبيثة التى أضمرتها القلوب.

ص: 259

5 -

قال الله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً [2 لكهف: 32 - 43].

تعرض الآيات السابقة لهذا المثل لحال من ذاق حلاوة الإيمان، وعرف الطريق إلى الله، ولم ينضم لحظيرة الكافرين والمنافقين، بل كان منه العمل الصالح، والمسارعة إلى الخيرات، والجهاد فى سبيل الله، فحفظ الله له أعماله فيما كتبه له من ثواب عميم، وأجر عظيم، فى جنات عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، وأسبغ عليهم من نعيمه وخيراته ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ذلك كله فى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً [الكهف: 30، 31].

أما ما سيق فى هذا المثل القرآنى، فهو الجدير بإعمال النظر والفكر، فعن طريق الموازنة يعرف العاقل طريقه، وفى أى الفريقين يتمنى أن يكون، ومع من يعمل فى دنياه، وبأى سلاح يتسلح لمواجهة أخراه، ذلكم ما نراه فى هذه الرؤية العاقلة، والحوار البناء.

بصيص من نور فى قلب وفكر يعرف طريق الحق، فينصح ويبذل الخير لغيره حتى يهتدى.

ص: 260

يضرب الله هذا المثل لأولئك المشركين المستكبرين عن مجالسة الضعفاء والمساكين من المسلمين، الذين آمنوا بالله ورسوله، أخذ هؤلاء الكفار يفتخرون عليهم بما عندهم من كثرة مال، وضياع، وتجارة، وأحساب، وأنساب، يصور هذا كله فى صورة رجلين، أحدهما له جنتان مثمرتان، وقد حوتا ألوان الثمار، وزخرتا بكل ألوان الجمال البادى فى المياه الجارية، والزروع، والنخيل، والأعناب، مما كان دافعا بصاحبها إلى الغرور، والتباهى على الآخر بكثرة ما لديه، وأنه لن يفنى أبدا، وأن حظه فى الآخرة، إن كانت هناك آخرة، سيكون أوفر ثراء، وأكثر رزقا، ظلم نفسه بهذا التفكير الأخرق، وبكفره، وضعف يقينه بالله، وإعجابه بالحياة الدنيا، ونسيانه للآخرة، وبذلك عرضها للعقاب يوم القيامة.

صورة مؤلمة لمن يخدع بالمظاهر البراقة التى قد تخدع، وتغرى بما لا يحمل فى طياته من القيم الرفيعة التى يعتز بها الإنسان، يخدع بمتاع زائل، وجاه عريض، وسلطان مزيف، ولذائذ رخيصة، وينسى تلك القيم التى تعلى من شأن الإنسان، وإن كان فقيرا مجردا من المال والسلطان، من جهاد النفس، والزهد فى الحياة، والعلم، والعمل، والبذل فى سبيل الدعوة.

عرف الرجل الظالم لنفسه هذه الحقائق بعد أن اتضحت الصورة أمام عينيه، وتكشفت الحقائق، فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهى خاوية على عروشها، ويقول: يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً [الكهف: 42].

أما النموذج الآخر، فقد استطاع أن يسبر أغوار الحقيقة، وأن يفهم بتوفيق الله إياه جوهر الأمور، وأن المظاهر خادعة، وأن وراء المظاهر منشئها وخالقها الأول، الجدير بالعبادة والطاعة، وأن هذه النعم هى: فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ [المائدة: 54]، ولا يحرم على النفس إلا ما كان ضارا بها، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف: 32].

أحلّ الطيبات، وحرّم الخبائث، ليست هذه الطيبات غاية فى ذاتها، ولكنها سبيل إلى غاية أجل وأعظم من تقوية للبدن، والجسم، فقوى الإيمان لا ينظر للمال والحطام إلا نظره للأمور المتنقلة، والأعراض الزائلة المتحولة، فلو منحها شكر، ولو حرمها صبر،

ص: 261

وهو فى كل ذلك عزيز النفس، بعيد عن الدنايا وارتكاب الخطايا (1).

وهكذا تكاملت أمامنا فيما عرضناه صورة المجتمع الرافض للخير، وما كان له من عاقبة سيئة، ثم ظهور تلك النبتة الخضراء التى تحمل فى ثناياها الإيمان والفكر المستنير، فتأخذ بيد الحائر فى متاهات الحياة، والفكر، والعقل.

ويبدأ يتكون ذلك المجتمع المتكامل المؤمن، الذى يشق طريقه إلى تحقيق حرية الحياة، والعقيدة، والفكر، ويبذل فى سبيل ذلك كل مرتخص وغال من دم ومال، وهذا طريق البناء الصحيح فى تحمل أعباء الحياة، كما يبدو فى الآيات التالية.

6 -

قال الله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة: 214].

سبقت ذلك آيات بينات مهدت وفرشت لما يأتى به المثل القرآنى، فقد تعرضت إلى حكمة الله جل وعلا، التى اقتضت أن تكون هناك مجموعة من الخلائق خلقها الله فى أحسن تقويم؛ لتقوم بدورها العبادى عن طريق ما وهبت من تفكير وعقل، وما حباها الله به من مبعث أنبياء مبشرين لهم بالجنة، وحسن المآب، إذا صلحت منهم الأعمال، ومخوفين لهم من عذاب الله إذا أساءوا السلوك، وانحرفوا عن النهج، ولم يكتف بإرسال الرسل، بل أرسل مع هؤلاء الأنبياء كتبا تبين حقيقة العبادة، وجوهر الدين، وما يجب أن يكون عليه الحكم بين الناس فى القضاء والمعاملات والعبادات

إلخ من ألوان الفرائض التى فرضت وشرعت على يدى إبراهيم، وموسى، وعيسى

إلخ، هذه المواكب من الرسل والأنبياء الذين اصطفاهم الله من بين خلقه.

ولكن بعض النفوس التى جبلت على الكفر والعناد، أبت إلا أن تذهب فى فهمها لهذه الكتب مذهب المصلحة الخاصة، والبعد عن روح الدين، والتأويل للمقروء منها، حتى خرجوا بها عن صفائها ونقائها إلى غير المقصود منها، وقد جر هذا الاختلاف الكثير من المتاعب للرسل والأنبياء، والبعد بالرسالات إلى غير ما وجهت إليه، وقد هدى الله القلة القليلة التى أحسنت الفهم، ولم تخرج عن المنهج الذى وضع من قبل الله فى كتبه ورسالاته، واستطاعت أن تواصل حمل مشاعل الهداية على طريق الله وصراطه المستقيم.

(1) من كتاب العظات الدينية فى الأمثال القرآنية والنبوية.

ص: 262

قال الله تعالى فى هذه الآيات: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة: 213].

ويلى هذا مقارنة فى المثل القرآنى بين حالين، وعرض لنموذجين، تظهر من خلالهما تلك الدعوة النبيلة من الله عز وجل للمؤمن أن يكون أهلا لتحمل أعباء الحياة، وما تستلزمه من جهاد ومشقات فى سبيل الوصول إلى الغاية والفوز.

فالابتلاءات والاختبارات هى المحك الطبيعى لإفراز النفس المؤمنة الجديرة بالانتماء للإسلام، لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران: 186].

يصدق هذا على السابقين فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، وعلى اللاحقين الذين أتوا بعده، وعلى كل جيل يأتى، فليس الانتماء بالاسم موجبا لاستحقاق الرحمة يوم القيامة ودخول الجنة، بل طريق ذلك تحمل الإيذاء فى سبيل الله، وفى طريق الحق وهداية الخلق: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 142].

هذه سنة الله الجارية فى خلقه، لا تتغير ولا تتبدل، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب: 62]، وقد جرت سنة الله على أن الإيمان الحقيقى لمن اعتبر واتعظ بما حدث للسابقين الذين نزلت بهم الشدائد، وأحاطت بهم قوى الأعداء، ولم يروا بادرة من بوادر الفوز تلوح لهم، واعتقدوا أن وقت العناية الإلهية والنصر الذى وعدهم الله به قد حان، أو أبطأ حدوثه، فاستعجلوه بقولهم: مَتى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة: 214].

منهج تعرضه الآيات، جدير بالاعتبار والتقدير، وهو طريق إلى التربية الصحيحة للأفراد والمجتمعات والشعوب، إذا أرادت أن يكتب لها نجاح فى هذه الحياة، ففي تجارب الآخرين وأحداثهم، وبخاصة المتماثلون فى النهج والطريق والمشكلات، سبيل إلى التعلم والاستفادة، ولا خير فى شعوب وأمم وأفراد، أصمت آذانها عن سماع القول والحق، وعميت عن رؤية الأحداث، وإن تحقيق أى فوز فى الحياة مرهون بالتدبير،

ص: 263

والأخذ بالأسباب، بعد الاعتماد على الله سبحانه وتعالى خالق الأسباب والمسببات، فلا يأتى عشوائيا، ولا عن طريق الصدفة كما يدعى الماديون والقائلون بهذه المقولات الفاسدة التى لا تدل على إيمان، ويأخذون بظاهر الأمور.

فالفوز بالآخرة مرتبط بالعمل، والصبر على صنوف الآلام والمتاعب والإيذاء، وأما التمنى والتغنى بالشعارات دون أن يصحب ذلك جهاد ومشقة، فبضاعة خاسرة لا تجد لها وزنا وتقديرا يوم توزن الأعمال، وتجد كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً [آل عمران: 30].

وأسمى ما يقدمه المؤمن من عمل فى دنياه تلك الروح التى تحررت من الخوف، والذل، والحرص على الحياة، والاسترخاء إلى الدعة وطيب العيش، كما يتحمل المسئوليات فى الأعمال المنوطة به.

ومن الأشياء التى توجه الآيات الأنظار والعقول إليها، أن آصرة العقيدة هى التى تربط المجتمع المسلم برباط التحابّ، والأخوة، والأخذ بتعاليم الإسلام وآدابه القائمة على التكاليف التى فرضها الإسلام، كما أن العلم الذى يكوّن النفوس المسلمة، ويصنع الحياة، هو القائم على النظر والاستدلال، ويربط بين العقل والقلب والعمل.

والدارس لمشكلات الشعب، والحياة الحاضرة، وما يجدّ من أزمات تأخذ بخناقنا، وبشبابنا وأولادنا وزوجاتنا، ومقارنة ذلك بما عرضناه من صور نابضة بالحياة، ومجاهدة النفس، والجهاد فى سبيل الله، والعمل على إيقاد جذوة الحياة بما فيها من قيم ومثل رفيعة، يرى من خلال هذه الموازنة والمقارنة أن أسباب ما نكابد وما نجد فى حياتنا من أزمات ومشكلات يرجع فى أساسه إلى تلك المصادر التى تولت تغذية عقولنا وأرواحنا بلبانها، وأرضعتنا بثقافتها، وأمدتنا بنماذجها البشرية؛ لتكون قدوة لنا فى الحياة، والعمل، والسلوك، والخلق.

إن هؤلاء الذين يعانون من تلك المآسى إنما يتلقون زادهم الفكرى وقيمهم المثلى من مصادر تشبع فيهم النهم، وتروى الظمأ الذى يستبد بنفوسهم وأرواحهم، مصادر لا يستطيع أى إنسان أن ينكر تأثيرها وإسهامها فى صنع قيم الإنسان، وتنمية عقله، وتغيير سلوكه، وبخاصة بعد تلك النقلة الجبارة فى العلم، والتقدم الحديث فى الاتصالات التى قربت بين الشعوب على اختلاف لغاتها ومذاهبها، وما تمارسه من عادات وأخلاق.

ص: 264

فإذا نظرنا إلى الإذاعة المرئية واستمعنا إلى المسموعة منها، وجدنا أنها تتجه فى الكثير من برامجها إلى إرضاء الجوانب الشهوانية التى تسيطر على اتجاهات الشباب، وتغذى عقله بتلك الآراء الفجة المسمومة التى تؤلف خصيصا لهذه الفئات، كى تفسد من تفكيرها، وتغرس فيها قيما بعيدة كل البعد عن معتقداتها، وما مشكلات الأحداث، وكثرة حوادث اغتصاب الفتيات، ومسلسل قتل الأزواج، إلا ولادة طبيعية لما يجرى أمام الأبصار فى برامج مهزوزة، فلا يجد من أصاب العطن عقله بالعقم، وشلت يده عن العمل نتيجة البطالة والكساد، وسقمت البرامج التعليمية عن تقديم ما يتناسب مع إدراكه وحاجياته الحقيقية فى الحياة، فلا يملك إزاء هذا إلا أن يقلد ما يرى ويسمع فى ليله ونهاره، وقد يدفعه ذلك أيضا إلى تلمس الغيبوبة عن الحياة التى يحياها، ولا يشعر بجدواها فيما يتناوله من مخدر، وأقراص تنسيه آلامه وقلقه وحيرته فى الحياة.

إنها مسئوليتنا جميعا، ولا نملك أن نحول بين هذا الشاب ونظائره ممن يتفقون معه أو يختلفون سلوكا ومنهجا، ويقعون فريسة التقليد فى المظهر، والمشرب، والمأكل، ولا نملك أن نحول بين سمعه وبصره ورؤية الأشياء المبثوثة فى جهاز التليفزيون، وشرائط الفيديو، والإذاعات الأجنبية، وبخاصة تلك الإذاعات التى تعمل عملها على تقويض دعائم الأمة الإسلامية بتقويض شبابها، وبث روح الانحلال فى أخلاق رجالها ونسائها، وإذا لم يكن قد كتب لها النجاح فى حروبها المستمرة، فإنها تملك ولا شك الوسائل الكفيلة بتحقيق انتصارات أخرى أقوى تأثيرا، وأشد تفتيتا لعضد هذه الأمة ومعقل قواها بالتأثير فى أرواحها، وتغيير سلوكها واتجاهاتها فى الحياة.

لقد أتاح التقدم العلمى لكل إنسان أن يشاهد وأن يسمع ما يقع فى الحياة بلغته وبغير لغته، ما يثير فيه الانتباه، ويغرس فيه القيم، ويشحذ منه الفكر، ويؤدى به إلى الانطلاق، ولكن ما الضمانات التى تكفل لنا نجاح هذه الأدوات فيما ترسله، وما تذيعه من برامج ومعلومات؟ لا سبيل إلى إنكار ما تقدمه من نجاحات علمية تفيد الحياة، والدارس، وتربط بين عقول العلماء والشعوب برباط المصلحة والنفع، وهو هدف نبيل لا ينكره إلا مكابر.

ولكن علينا أن نحسن استقبال ما يرسل إلينا عبر هذه الأقمار الصناعية، والإذاعات المسموعة، كما أحسنوا إرسالها، وذلك بحسن التطبيق والفهم المشترك بين العلماء الذى يخدم الحياة، وسرعة الاستجابة للمتغيرات التى تنشأ عن ذلك، ومحاولة إشراك الشباب

ص: 265

والأجيال فى هذه الطفرات العلمية بوضعها فى البرامج التعليمية، وتدريب أبنائنا على حسن استخدامها لتيسير سبيل الحياة.

أما الجانب الآخر، فهو ما يتعلق بالعادات والتقاليد والقيم التى تتصل بما لنا من أصالة، وترتبط بما نتلقى من تعاليم سماوية خصنا الله بها، وجعل لنا كتابا فيه هداية لنا وتبصرة بشئوننا، فهذا ما يجب أن يغرس فى النفوس؛ لتكون وقاية لنا ولأولادنا ضد هذه التيارات الوافدة إلينا ولا نملك لها منعا، كما لا نملك لأنفسنا ولا لشبابنا حجزا وحرمانا.

وبجانب تلك الوسائل المسموعة والمرئية، تقف وسيلة أخرى أسبق فى التأثير والوجود، وهى: الصحافة، فما كانت تلك الصحف التى تلقاها إبراهيم، وموسى، وعيسى، من قبل الله سبحانه وتعالى، إلا تربية للأمم والشعوب والأفراد، بما تحمله من تعاليم السماء، ووصايا تعلى من شأن القيم، وترفع من درجة الأعمال الصالحة إلى أن تكون المعيار الحقيقى الذى يميز بين إنسان وإنسان.

هذه الوسيلة مع تطور الأيام وظهور الطباعة والمطبعة، لعبت دورها البارز فى إثارة الأذهان، وتعميق الفكر، واستطاعت بما ينشر فيها على أيدى محرريها أن يشكلوا من طاقات الإنسان، وأن يوجهوا السلوك إلى اتجاه معين حكمته ظروف الحياة القديمة بما لها من تقاليد، ودفعت إليه من سياسات، كانت طريق هداية، ورسول بناء، ونداء حرية، وتحرير مستضعفين، أدت رسالتها؛ لأنها أحست بواجبها نحو نفسها، وشعبها، وحاجيات أمتها.

أما إذا أسىء استغلالها، كما يحدث فى تلك الصحافة الرخيصة، فإنها ولا شك تصبح معول هدم يفسد على الإنسان دينه، وخلقه، وقيمه، بما تبثه من فكر رخيص، وقصص

منحل، وأحداث تقع فى الشرق والغرب تغرى بالتتبع والتقليد، وبخاصة ممن يخدعون بالتقليد فى المظاهر البراقة، وأشكال المجون والترف، وأخطار هذا لا تقع تحت حصر فى حياتنا اليومية.

والشارع بما فيه ومن فيه من مجريات، وأحداث، وأناس، وما يقع من صراعات وتدافعات، يلقى على أذن الطفل الكثير من الكلمات، ويعرض على عينيه الكثير من المشاهد، ويوحى إليه بأمور تغاير طبعه، ويثبت فى أعماقه الكثير من المظاهر التى تعج

ص: 266

بها الحياة، وفيها ما فيها من المفسدات، من تهالك على المتع واللذائذ، وما ينتشر فى بيئات كثيرة من مخدرات تفعل فعلها فى إفساد الأسر والشباب، وما تعوّدهم من عادات الإدمان التى لا يفلح معها علاج، ولا ينفع فى كبح شرورها قانون، أو استشفاء.

ولذا نجد فى أحداث هذه الأيام، أن كثيرا من الأحداث الصغار السن قد قبض عليهم جهاز الشرطة فى تلك المواطن التى تنتشر فيها هذه المخدرات، يقدمون للمدمنين المخدرات، ويعلمون تحت أيدى عصابات توجههم هذا التوجيه الشائن الذى يفسد عليهم أنفسهم، وحياتهم، وأسرهم.

هذه أبرز المصادر الفعالة التى تؤثر فى صنع هذا الشباب، وما تؤدى إليه من سوء استخدام يعمل على زيادة هذه المشكلات التى يعانى منها المجتمع، ويعانى منها الشباب.

وقد ساعد على ذلك ظروف أخرى اقتصادية قاسية مرت بهذا المجتمع عقب تلك الحروب العديدة التى خاضها الشعب، والشباب، والمجتمع، ضد أعداء الحياة، فكانت هذه المآسى وهذه المشكلات، وكلها من خارج النفس، ومن صنع أيدينا؛ لذا كانت العثرات والسقطات، والبعد عن الصواب.

وبعد: أئمة ترابط بين الأمثال القرآنية؟ أتوجد بينها وحدة فى الأهداف، والاتجاهات، والمعالجة؟ هذه تساؤلات تجيب عنها تلك الدراسة المطولة التى سبقت، فهى على اختلاف صيغها ومضمونها ومواقعها، تهدف إلى استكناه حقيقة الإنسان، ووظيفته فى الحياة، والحكمة من وجوده، وتبيان خصائصه التى يستحق بموجبها عمارة الكون، وخلافة الله فى الأرض.

لقد سخرت مظاهر الكون بأرضه، وسمائه، وجباله، وأنهاره، ودوابه، ومخلوقاته، من أجل هذا الإنسان الذى ميزه الله بالعقل، وكرمه بإرسال الرسل، وفضله على بقية مخلوقاته، وجعله أهلا لتحمل الأمانة التى عرضها على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها، وحملها الإنسان، حملها بما له من إمكانات التدبير، والعقل، والفهم، والحرية، والاختيار فى الأمور، وتحمل المسئوليات التى يترتب عليها الثواب والعقاب، والجزاء فى الدنيا والآخرة.

ص: 267