الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْإِجْرَامُ: فِعْلُ الْجُرْمِ، وَهُوَ الْجِنَايَةُ وَالذَّنْبُ الْعَظِيمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [40] .
وَقَدْ كَانَ الْفَرَاعِنَةُ طُغَاةً جَبَابِرَةً فَكَانُوا يَعْتَبِرُونَ أَنْفُسَهُمْ آلِهَةً لِلْقِبْطِ وَكَانُوا قَدْ وَضَعُوا شَرَائِعَ لَا تَخْلُو عَنْ جَوْرٍ، وَكَانُوا يَسْتَعْبِدُونَ الْغُرَبَاءَ، وَقَدِ اسْتَعْبَدُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَذَلُّوهُمْ
قُرُونًا فَإِذَا سَأَلُوا حَقَّهُمُ اسْتَأْصَلُوهُمْ وَمَثَّلُوا بِهِمْ وَقَتَلُوهُمْ، كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [الْقَصَص: 4] ، وَكَانَ الْقِبْطُ يَعْتَقِدُونَ أَوْهَامًا ضَالَّةً وَخُرَافَاتٍ، فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ، أَيْ فَلَا يُسْتَغْرَبُ اسْتِكْبَارُهُمْ عَنِ الْحَقِّ وَالرَّشَادِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ فِي مُوسَى وَهَارُونَ إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى [طه: 63] فَأَغْرَاهُمُ الْغَرُورُ عَلَى أَنَّ سَمَّوْا ضَلَالَهُمْ وَخَوَرَهُمْ طَرِيقَةً مُثْلَى.
وَعَبَّرَ بِ قَوْماً مُجْرِمِينَ دُونَ كَانُوا مُجْرِمِينَ لِلْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَفِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذِه السُّورَة.
[76، 77]
[سُورَة يُونُس (10) : الْآيَات 76 إِلَى 77]
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77)
أَيْ لَمَّا رَأَوْا الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي هِيَ حَقٌ ثَابِتٌ وَلَيْسَتْ بِتَخَيُّلَاتٍ وَتَمْوِيهَاتٍ، وَعَلِمُوا أَنَّ مُوسَى صَادِقٌ فِيمَا ادَّعَاهُ، تَدَرَّجُوا مِنْ مُجَرَّدِ الْإِبَاءِ الْمُنْبَعِثِ عَنِ الِاسْتِكْبَارِ إِلَى الْبُهْتَانِ الْمُنْبَعِثِ عَنِ الشُّعُورِ بِالْمَغْلُوبِيَّةِ.
وَالْحَقُّ: يُطْلَقُ اسْمًا عَلَى مَا قَابَلَ الْبَاطِلَ وَهُوَ الْعَدْلُ الْصَالِحُ، وَيُطْلَقُ وَصْفًا عَلَى الثَّابِتِ الَّذِي لَا رِيبَةَ فِيهِ، كَمَا يُقَالُ: أَنْتَ الصَّدِيقُ الْحَقُّ. وَيُلَازِمُ الْإفِرْادَ لِأَنَّهُ
مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ. وَالَّذِي أَثْبَتَ لَهُ الْمَجِيءَ هُنَا هُوَ الْآيَاتُ الَّتِي أَظْهَرَهَا مُوسَى إِعْجَازًا لَهُمْ لِقَوْلِهِ قَبْلَهُ:
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا [الْأَعْرَاف: 103] فَكَانَ جَعْلُ الْحَقِّ جَائِيًا بِتِلْكَ الْآيَاتِ صَالِحًا لِمَعْنَيَيِ الْحَقِّ، لِأَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ لَمَّا كَانَتْ ثَابِتَةً لَا رِيبَةَ فِيهَا كَانَتْ فِي ذَاتِهَا حَقًّا فَمَجِيئُهَا حُصُولُهَا وَظُهُورُهَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ إِثْبَاتُ صِدْقِ مُوسَى فِي رِسَالَتِهِ فَكَانَ الْحَقُّ جَائِيًا مَعَهَا، فَمَجِيئُهُ ثُبُوتُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ [الْإِسْرَاء: 81] وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ لِكَلِمَةِ الْحَقُّ هُنَا مِنَ الْوَقْعِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى تَمَامِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ، وَلِكَلِمَةِ مِنْ عِنْدِنا مَا لَيْسَ لغَيْرِهِمَا فِي الْإِيجَازِ، وَهَذَا مِنْ حَدِّ الْإِعْجَازِ.
وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ آيَاتِ الصِّدْقِ ظَهَرَتْ وَأَنَّ الْمَحْجُوجِينَ أَيْقَنُوا بِصِدْقِ مُوسَى وَأَنَّهُ جَاءَ بِالْحَقِّ.
وَاعْتِذَارُهُمْ عَنْ ظُهُورِ الْآيَاتِ بِأَنَّهَا سِحْرٌ هُوَ اعْتِذَارُ الْمَغْلُوبِ الْعَدِيمِ الْحُجَّةِ الَّذِي
قَهَرَتْهُ الْحُجَّةُ وَبَهَرَهُ سُلْطَانُ الْحَقِّ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُ مُنْتَشَبٌ مِنَ الْمُعَارَضَةِ الْمَقْبُولَةِ فَهُوَ يُهْرَعُ إِلَى انْتِحَالِ مُعَارَضَاتٍ بِمَعَاذِيرَ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ التَّمْحِيصِ وَلَا تَثْبُتُ فِي مَحَكِّ النَّقْدِ.
«وَلَا بُدَّ لِلْمَغْلُوبِ مِنْ بَارِدِ الْعُذْرِ» وَإِذْ قَدِ اشْتُهِرَ بَيْنَ الدَّهْمَاءِ مِنْ ذَوِي الْأَوْهَامِ أَنَّ السِّحْرَ يُظْهِرُ الشَّيْءَ فِي صُورَةِ ضِدِّهِ، ادَّعَى هَؤُلَاءِ أَنَّ مَا ظَهَرَ مِنْ دَلَائِلِ صِدْقِ مُوسَى هُوَ سِحْرٌ ظَهَرَ بِهِ الْبَاطِلُ فِي صُورَةِ الْحَقِّ بِتَخْيِيلِ السِّحْرِ.
وَمَعْنَى ادِّعَاءِ الْحَقِّ سِحْرًا أَنَّ دَلَائِلَهُ مِنْ قَبِيلِ التَّخَيُّلَاتِ وَالتَّمْوِيهَاتِ، فَكَذَلِكَ مَدْلُولُهُ هُوَ مَدْلُولُ السِّحْرِ وَهُوَ إِنْشَاءُ تَخَيُّلٍ بَاطِلٍ فِي نُفُوسِ الْمَسْحُورِينَ، وَقَدْ حَمَلَهُمُ اسْتِشْعَارُهُمْ وَهَنَ مَعْذِرَتِهِمْ عَلَى أَنْ أَبْرَزُوا دَعْوَاهُمْ فِي صُورَةِ الْكَلَامِ الْمُتَثَبِّتِ صَاحِبُهُ فَأَكَّدُوا الْكَلَامَ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ التَّوْكِيدِ وَلَامُ الِابْتِدَاءِ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ، وَزَادُوا ذَلِكَ تَرْوِيجًا بِأَنْ وَصَفُوا السِّحْرَ بِكَوْنِهِ مُبِينًا، أَيْ شَدِيدَ الْوُضُوحِ. وَالْمُبِينُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَبَانَ الْقَاصِرِ، مُرَادِفُ بَانَ:
ظَهَرَ.
وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا إِلَى مَا هُوَ مُشَاهَدٌ بَيْنَهُمْ حِينَ إِظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ مِثْلُ انْقِلَابِ الْعَصَا حَيَّةً، وَخُرُوجِ الْيَدِ بَيْضَاءَ، أَيْ أَنَّ هَذَا الْعَمَلَ الَّذِي تُشَاهِدُونَهُ سِحْرٌ مُبِينٌ.
وَجُمْلَةُ: قالَ مُوسى مُجَاوِبَةٌ مِنْهُ عَنْ كَلَامِهِمْ فَفُصِلَتْ مِنَ الْعَطْفِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي اسْتَخْرَجْنَاهَا فِي حِكَايَةِ الْأَقْوَالِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ، إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها
[الْبَقَرَة: 30] ، وَنَظَائِرِهِ الْكَثِيرَةِ. تَوَلَّى مُوسَى وَحْدَهُ دُونَ هَارُونَ مُجَادَلَتَهُمْ لِأَنَّهُ الْمُبَاشِرُ لِلدَّعْوَةِ أَصَالَةً، وَلِأَنَّ الْمُعْجِزَاتِ ظَهَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ.
وَاسْتِفْهَامُ أَتَقُولُونَ إِنْكَارِيٌّ. وَاللَّامُ فِي لِلْحَقِّ لَامُ التَّعْلِيلِ. وَبَعْضُهُمْ يُسَمِّيهَا لَامَ الْبَيَانِ. وَبَعْضُهُمْ يُسَمِّيهَا لَامَ الْمُجَاوَزَةِ بِمَعْنَى (عَنْ) .
وَجُمْلَةُ: أَسِحْرٌ هَذَا مُسْتَأْنَفَةٌ لِلتَّوْبِيخِ وَالْإِنْكَارِ، أَنْكَرَ مُوسَى عَلَيْهِمْ وَصْفَهُمُ الْآيَاتِ الْحَقَّ بِأَنَّهَا سِحْرٌ. وَالْإِشَارَةُ تُفِيدُ التَّعْرِيضَ بِجَهْلِهِمْ وَفَسَادِ قَوْلِهِمْ، بِأَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى تِلْكَ الْآيَاتِ كَافِيَةٌ فِي ظُهُورِ حَقِيقَتِهَا وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ السِّحْرِ فِي شَيْءٍ. وَلِذَلِكَ كَانَ مَفْعُولُ أَتَقُولُونَ مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ وَهُوَ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ فَالتَّقْدِيرُ: أَتَقُولُونَ هَذَا الْقَوْلَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ [آل عمرَان: 183] وَقَوْلُهُ: بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ [النِّسَاء: 81] .
وَلَمَّا نَفَى مُوسَى عَنْ آيَاتِ اللَّهِ أَنْ تَكُونَ سِحْرًا ارْتَقَى فَأَبَانَ لَهُمْ فَسَادَ السِّحْرِ وَسُوءَ عَاقِبَةِ مُعَالِجِيهِ تَحْقِيرًا لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُنَوِّهُونَ بِشَأْنِ السِّحْرِ. فَجُمْلَةُ: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: أَسِحْرٌ هَذَا.
فَالْمَعْنَى: هَذَا لَيْسَ بِسِحْرٍ وَإِنَّمَا أَعْلَمُ أَنَّ السَّاحِرَ لَا يُفْلِحُ، أَيْ لَوْ كَانَ سَاحِرًا لَمَّا شَنَّعَ حَالَ السَّاحِرِينَ، إِذْ صَاحَبُ الصِّنَاعَةِ لَا يُحَقِّرُ صِنَاعَتَهُ لِأَنَّهُ لَوْ رَآهَا مُحَقَّرَةً لما التزمها.