الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالزَّيْغُ: الْمَيْلُ عَنِ الطَّرِيقِ الْمَقْصُودِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [8] .
وَجُمْلَةُ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَقَدْ تابَ اللَّهُ أَيْ تَابَ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْفَرِيقِ مُطْلَقًا، وَتَابَ عَلَى هَذَا الْفَرِيقِ بَعْدَ مَا كَادَتْ قُلُوبُهُمْ تَزِيغُ، فَتَكُونُ ثُمَّ عَلَى أَصْلِهَا مِنَ الْمُهْلَةِ. وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا [التَّوْبَة: 118] .
وَالْمَعْنَى تَابَ عَلَيْهِمْ فَأُهِمُّوا بِهِ وَخَرَجُوا فَلَقُوا الْمَشَقَّةَ وَالْعُسْرَ، فَالضَّمِيرُ فِي قَوْله عَلَيْهِمْ لل فَرِيقٍ. وَجَوَّزَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ فِي الذِّكْرِ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا تَوْكِيدًا لِجُمْلَةِ تابَ اللَّهُ، فَالضَّمِيرُ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ كُلِّهِمْ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا على التفسيرين.
[118]
[سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 118]
وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَاّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)
وَعَلَى الثَّلاثَةِ مَعْطُوفٌ على النبيء [التَّوْبَة: 117] بِإِعَادَةِ حَرْفِ الْجَرِّ لِبُعْدِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، أَيْ وَتَابَ عَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا. وَهَؤُلَاءِ فَرِيقٌ لَهُ حَالَةٌ خَاصَّةٌ مِنْ بَيْنِ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ غَيْرِ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي قَوْلِهِ: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ [التَّوْبَة:
81] الْآيَةَ، وَالَّذِينَ ذُكِرُوا فِي قَوْلِهِ: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ [التَّوْبَة: 90] الْآيَةَ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الثَّلاثَةِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا مَعْرُوفِينَ بَيْنَ النَّاسِ، وَهُمْ:
كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، وَمُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ الْعَمْرِيُّ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ مِنْ بَنِي وَاقِفٍ، كُلُّهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ بِدُونِ عُذْرٍ. وَلَمَّا رَجَعَ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ سَأَلَهُمْ عَنْ تَخَلُّفِهِمْ فَلَمْ يَكْذِبُوهُ بالعذر وَلَكنهُمْ اعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ وَحَزِنُوا. وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ عَنْ كَلَامِهِمْ، وَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَعْتَزِلُوا نِسَاءَهُمْ. ثُمَّ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ بَعْدَ خَمْسِينَ
لَيْلَةً. وَحَدِيثُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فِي قِصَّتِهِ هَذِهِ مَعَ الْآخَرِينَ فِي «صَحِيحِ البُخَارِيّ» و «صَحِيح مُسْلِمٍ» طَوِيلٌ أَغَرُّ وَقَدْ ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» .
وخُلِّفُوا بِتَشْدِيدِ اللَّامِ مُضَاعَفُ خَلَفَ الْمُخَفَّفِ الَّذِي هُوَ فِعْلٌ قَاصِرٌ، مَعْنَاهُ أَنَّهُ وَرَاءَ غَيْرِهِ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْخَلْفِ بِسُكُونِ اللَّامِ وَهُوَ الْوَرَاءُ. وَالْمَقْصُودُ بَقِيَ وَرَاءَ غَيْرِهِ. يُقَالُ:
خَلَفَ عَنْ أَصْحَابِهِ إِذَا تَخَلَّفَ عَنْهُم فِي المشيء يَخْلُفُ بِضَمِّ اللَّامِ فِي الْمُضَارِعِ، فَمَعْنَى خُلِّفُوا خَلَفَهُمْ مُخَلِّفٌ، أَيْ تَرَكَهَمْ وَرَاءَهُ وَهُمْ لَمْ يُخَلِّفُهُمْ أَحَدٌ وَإِنَّمَا تَخَلَّفُوا بِفِعْلِ أَنْفُسِهِمْ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خُلِّفُوا بِمَعْنَى خَلَّفُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ التَّجْرِيدِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَخْلِيفُهُمْ تَخْلِيفًا مَجَازِيًّا اسْتُعِيرَ لِتَأْخِيرِ الْبَتِّ فِي شَأْنِهِمْ، أَيِ الَّذِينَ خُلِّفُوا عَنِ الْقَضَاءِ فِي شَأْنِهِمْ فَلَمْ يَعْذُرْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا آيَسَهُمْ مِنَ التَّوْبَةِ كَمَا آيَسَ الْمُنَافِقِينَ. فَالتَّخْلِيفُ هُنَا بِمَعْنَى الْإِرْجَاءِ. وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ فَسَّرَهُ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فِي حَدِيثِهِ الْمَرْوِيِّ فِي «الصَّحِيحِ» فَقَالَ: وَلَيْسَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ مِمَّا خُلِّفْنَا عَنِ الْغَزْوِ وَإِنَّمَا تَخْلِيفُهُ إِيَّانَا وَإِرْجَاؤُهُ أَمْرَنَا عَمَّنْ حَلَفَ لَهُ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَقُبِلَ مِنْهُ. اه.
يَعْنِي لَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ خَلَّفُوا أَنْفُسَهُمْ عَنِ الْغَزْوِ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى خَلَّفَهُمْ أَحَدٌ، أَيْ جَعَلَهُمْ خَلَفًا وَهُوَ تَخْلِيفٌ مَجَازِيٌّ، أَيْ لَمْ يُقْضَ فِيهِمْ. وَفَاعِلُ التَّخْلِيفِ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم أَوِ اللَّهُ تَعَالَى.
وَبِنَاءُ فِعْلِ خُلِّفُوا لِلنَّائِبِ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ خَلَّفُوا أَنْفُسَهُمْ.
وَتَعْلِيقُ التَّخْلِيفِ بِضَمِيرِ الثَّلاثَةِ مِنْ بَابِ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِاسْمِ الذَّاتِ. وَالْمُرَادُ:
تَعْلِيقُهُ بِحَالٍ مِنْ أَحْوَالِهَا يُعْلَمُ مِنَ السِّيَاقِ، مِثْلُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: 3] .
وَهَذَا الَّذِي فَسَّرَ كَعْبٌ بِهِ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِلْغَايَةِ بِقَوْلِهِ: حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ لِأَنَّ تَخَيُّلَ ضِيقِ الْأَرْضِ عَلَيْهِمْ وَضِيقِ أَنْفُسِهِمْ هُوَ غَايَةٌ لِإِرْجَاءِ أَمْرِهِمُ انْتَهَى عِنْدَهَا التَّخْلِيفُ، وَلَيْسَ غَايَةً لِتَخَلُّفِهِمْ عَنِ الْغَزْوِ، لِأَنَّ تَخَلُّفَهُمْ لَا انْتِهَاءَ لَهُ.
وَضِيقُ الْأَرْضِ: اسْتِعَارَةٌ، أَيْ حَتَّى كَانَتِ الْأَرْضُ كَالضَّيِّقَةِ عَلَيْهِمْ، أَيْ عِنْدَهُمْ.
وَذَلِكَ التَّشْبِيهُ كِنَايَةٌ عَنْ غَمِّهِمْ وَتَنَكُّرِ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ. فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ تَخَيَّلُوا الْأَرْضَ فِي أَعْيُنِهِمْ كَالضَّيِّقَةِ كَمَا قَالَ الطِّرِمَّاحُ:
مَلَأْتُ عَلَيْهِ الْأَرْضَ حَتَّى كَأَنَّهَا
…
مِنَ الضِّيقِ فِي عَيْنَيْهِ كِفَّةُ حَابِلِ
وَقَوْلُهُ: بِما رَحُبَتْ حَالٌ مِنَ الْأَرْضُ. وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيِ الْأَرْضُ الْمُلَابِسَةُ لسعتها الْمَعْرُوفَة. وبِما مَصْدَرِيَّةٌ.
ورَحُبَتْ اتَّسَعَتْ، أَيْ تَخَيَّلُوا الْأَرْضَ ضَيِّقَةً وَهِيَ الْأَرْضُ الْمَوْصُوفَةُ بِسِعَتِهَا الْمَعْرُوفَةِ.
وَضِيقُ أَنْفُسِهِمُ: اسْتِعَارَةٌ لِلْغَمِّ وَالْحَزَنِ لِأَنَّ الْغَمَّ يَكُونُ فِي النَّفْسِ بِمَنْزِلَةِ الضِّيقِ.
وَلِذَلِكَ يُقَالُ لِلْمَحْزُونِ: ضَاقَ صَدْرُهُ، وَلِلْمَسْرُورِ: شُرِحَ صَدْرُهُ.
وَالظَّنُّ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْيَقِينِ وَالْجَزْمِ، وَهُوَ مِنْ مَعَانِيهِ الْحَقِيقِيَّةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [46]- وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:- وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [66] ، أَيْ وَأَيْقَنُوا أَنَّ أَمْرَ التَّوْبَةِ عَلَيْهِمْ مَوْكُولٌ إِلَى اللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ بِمَا يُوحِي بِهِ إِلَى رَسُولِهِ، أَيِ الْتَجَئُوا إِلَى اللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ. وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ أَنَّهُمْ تَابُوا إِلَى اللَّهِ وَانْتَظَرُوا عَفْوَهُ.
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ عَطْفٌ عَلَى ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ وَمَا بَعْدَهُ، أَيْ حَتَّى وَقَعَ ذَلِكَ كُلُّهُ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ بَعْدَهُ.
وثُمَّ هُنَا لِلْمُهْلَةِ وَالتَّرَاخِي الزَّمَنِيِّ وَلَيْسَتْ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ، لِأَنَّ مَا بَعْدَهَا لَيْسَ أَرْفَعَ دَرَجَةً مِمَّا قَبْلَهَا بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ، وَهُوَ مُغْنٍ عَنْ جَوَابِ (إِذَا) لِأَنَّهُ يُفِيدُ مَعْنَاهُ، فَهُوَ بِاعْتِبَارِ الْعَطْفِ تَنْهِيَةٌ لِلْغَايَةِ، وَبِاعْتِبَارِ الْمَعْطُوفِ دَالٌّ عَلَى الْجَوَابِ.
وَاللَّامُ فِي لِيَتُوبُوا لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ تَابَ عَلَيْهِمْ لِأَجْلِ أَنْ يَكُفُّوا عَنِ الْمُخَالَفَةِ وَيَتَنَزَّهُوا عَنِ الذَّنْبِ، أَيْ لِيَدُومُوا عَلَى التَّوْبَةِ، فَالْفِعْلُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الدَّوَامِ عَلَى التَّلَبُّسِ بِالْمَصْدَرِ لَا عَلَى إِحْدَاثِ الْمَصْدَرِ.