الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَ (مِنَ) تَفْضِيلِيَّةٌ، وَهِيَ لِلِابْتِدَاءِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، أَيْ لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ. وَذُكِرَ اسْمُ الْجَلَالَةِ عِوَضًا عَنْ ضَمِيرِهِ لِإِحْضَارِ الْمَعْنَى الْجَامِعِ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ. وَالْعَهْدُ: الْوَعْدُ بِحلف والوعد الْمُؤَكّد، وَالْبَيْعَةُ عَهْدٌ، وَالْوَصِيَّةُ عَهْدٌ.
وَتَفَرَّعَ عَلَى كَوْنِ الْوَعْدِ حَقًّا عَلَى اللَّهِ، وَعَلَى أَنَّ اللَّهَ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ كُلِّ وَاعِدٍ، أَنْ يَسْتَبْشِرَ الْمُؤْمِنُونَ بِبَيْعِهِمْ هَذَا، فَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَأُضِيفَ الْبَيْعُ إِلَى
ضَمِيرِهِمْ إِظْهَارًا لِاغْتِبَاطِهِمْ بِهِ.
وَوَصْفُهُ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ تَأْكِيدًا لِمَعْنى بِبَيْعِكُمُ، فَهُوَ تَأْكِيدٌ لَفْظِيٌّ بِلَفْظٍ مُرَادِفٍ.
وَجُمْلَةُ: وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ تَذْيِيلٌ جَامِعٌ، فَإِنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ الْوَاقِعَ فِي أَوَّلِهِ جَامِعٌ لِصِفَاتِ ذَلِكَ الْبَيْعِ بِعِوَضَيْهِ. وَأُكِّدَ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ وَبِالْجُمْلَةِ الاسمية وَالْوَصْف بِ الْعَظِيمُ الْمُفِيد للأهمية.
[112]
[سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 112]
التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
أَسْمَاءُ الْفَاعِلِينَ هُنَا أَوْصَافٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [التَّوْبَة: 111] فَكَانَ أَصْلُهَا الْجَرَّ، وَلَكِنَّهَا قُطِعَتْ عَنِ الْوَصْفِيَّةِ وَجُعِلَتْ أَخْبَارًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ ضَمِيرُ الْجَمْعِ اهْتِمَامًا بِهَذِهِ النُّعُوتِ اهْتِمَامًا أَخْرَجَهَا عَنِ الْوَصْفِيَّةِ إِلَى الْخَبَرِيَّةِ، وَيُسَمَّى هَذَا الِاسْتِعْمَالُ نَعْتًا مَقْطُوعًا، وَمَا هُوَ بِنَعْتٍ اصْطِلَاحِيٍّ وَلَكِنَّهُ نَعْتٌ فِي الْمَعْنَى.
فَ التَّائِبُونَ مُرَادٌ مِنْهُ أَنَّهُمْ مُفَارِقُونَ لِلذُّنُوبِ سَوَاءً كَانَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ اقْتِرَافِ ذَنْبٍ يَقْتَضِي التَّوْبَةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيءِ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ [التَّوْبَة: 117] الْآيَةَ أَمْ كَانَ بَعْدَ اقْتِرَافِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ [التَّوْبَة: 74] بَعْدَ قَوْلِهِ:
وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ [التَّوْبَة: 74] الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ آنِفًا. وَأَوَّلُ التَّوْبَةِ الْإِيمَانُ لِأَنَّهُ إِقْلَاعٌ عَنِ الشِّرْكِ، ثُمَّ يَدْخُلُ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ لَهُ ذَنْبٌ مَعَ الْإِيمَانِ وَتَابَ مِنْهُ. وَبِذَلِكَ فَارَقَ النَّعْتُ الْمَنْعُوتَ وَهُوَ الْمُؤْمِنِينَ [التَّوْبَة: 111] .
والْعابِدُونَ: الْمُؤَدُّونَ لِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
والْحامِدُونَ: الْمُعْتَرِفُونَ لِلَّهِ تَعَالَى بِنِعَمِهِ عَلَيْهِمُ الشَّاكِرُونَ لَهُ.
والسَّائِحُونَ: مُشْتَقٌّ مِنَ السِّيَاحَةِ. وَهِيَ السَّيْرُ فِي الْأَرْضِ. وَالْمُرَادُ بِهِ سَيْرٌ خَاصٌّ مَحْمُودٌ شَرْعًا. وَهُوَ السَّفَرُ الَّذِي فِيهِ قُرْبَةٌ لِلَّهِ وَامْتِثَالٌ لِأَمْرِهِ، مِثْلُ سَفَرِ الْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ أَوِ السَّفَرِ لِلْحَجِّ أَوِ السَّفَرِ لِلْجِهَادِ. وَحَمْلُهُ هُنَا عَلَى السَّفَرِ لِلْجِهَادِ أَنْسَبُ بِالْمَقَامِ وَأَشْمَلُ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمَأْمُورِينَ بِالْجِهَادِ بِخِلَافِ الْهِجْرَةِ وَالْحَجِّ.
والرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ: هُمُ الْجَامِعُونَ بَيْنَهُمَا، أَيِ الْمُصَلُّونَ، إِذِ الصَّلَاةُ الْمَفْرُوضَةُ
لَا تَخْلُو مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ.
والْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ: الَّذِينَ يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى الْهُدَى وَالرَّشَادِ وَيَنْهَوْنَهُمْ عَمَّا يُنْكِرُهُ الشَّرْعُ وَيَأْبَاهُ. وَإِنَّمَا ذُكِرَ النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ دُونَ بَقِيَّةِ الصِّفَاتِ، وَإِنْ كَانَ الْعَطْفُ وَتَرْكُهُ فِي الْأَخْبَارِ وَنَحْوِهَا جَائِزَيْنِ، إِلَّا أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ فِي عَطْفِ هَذَيْنِ دُونَ غَيْرِهِمَا مِنَ الْأَوْصَافِ أَنَّ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةَ قَبْلَهَا فِي قَوْلِهِ:
الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ ظَاهِرَةٌ فِي اسْتِقْلَالِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ. ثُمَّ لَمَّا ذُكِرَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ الْجَامِعُونَ بَيْنَهُمَا، أَيِ الْمُصَلُّونَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ. وَلِأَنَّ الْمَوْصُوفِينَ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مِمَّنْ وَعَدَهُمُ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ كَانَتْ صَلَاةُ بَعْضِهِمْ رُكُوعًا فَقَطْ، قَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِ دَاوُدَ عليه السلام: وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ [ص: 24] ، وَبَعْضُ الصَّلَوَاتِ سُجُودًا فَقَطْ كَبَعْضِ صَلَاةِ النَّصَارَى، قَالَ تَعَالَى: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمرَان: 43] . وَلَمَّا جَاءَ بَعْدَهُ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَكَانَا صِفَتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ عُطِفَتَا بِالْوَاوِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ اعْتِبَارُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا كَالْوَصْفَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُمَا وَهُمَا الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ فَالْوَاوُ هُنَا كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً [التَّوْبَة: 112] .
والْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ: صِفَةٌ جَامِعَةٌ لِلْعَمَلِ بِالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ عِنْدَ تَوَجُّهِهَا.
وَحَقِيقَةُ الْحِفْظِ تَوَخِّي بَقَاءِ الشَّيْءِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يُرَادُ كَوْنُهُ فِيهِ رَغْبَةُ صَاحِبِهِ فِي بَقَائِهِ وَرِعَايَتِهِ عَنْ أَنْ يَضِيعَ. وَيُطْلَقُ مَجَازًا شَائِعًا عَلَى مُلَازَمَةِ الْعَمَلِ بِمَا يُؤْمَرُ بِهِ عَلَى نَحْوِ مَا أُمِرَ بِهِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، أَيْ وَالْحَافِظُونَ لِمَا عَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ، أَيْ غَيْرِ الْمُضَيِّعِينَ لِشَيْءٍ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ.
وَأُطْلِقَتِ الْحُدُودُ مَجَازًا عَلَى الْوَصَايَا وَالْأَوَامِرِ. فَالْحُدُودُ تَشْمَلُ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ لِمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [229] . وَلِذَلِكَ خُتِمَتْ بِهَا هَذِهِ الْأَوْصَافُ. وَعُطِفَتْ بِالْوَاوِ لِئَلَّا يُوهِمَ تَرْكُ الْعَطْفِ أَنَّهَا مَعَ الَّتِي قَبْلَهَا صِفَتَانِ مُتَلَازِمَتَانِ مَعْدُودَتَانِ بَعْدَ صِفَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ.
وَقَالَ جَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ: وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاوٌ يَكْثُرُ وُقُوعُهَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عِنْدَ ذِكْرِ مَعْدُودٍ ثَامِنٍ، وَسَمَّوْهَا وَاوَ الثَّمَانِيَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
ذَكَرَهَا ابْنُ خَالَوَيْهِ فِي مُنَاظَرَتِهِ لِأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: 73] . وَأَنْكَرَهَا أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ. وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي
اللَّبِيبِ» «وَذَكَرَهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُدَبَاءِ كَالْحَرِيرِيِّ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ كَالثَّعْلَبِيِّ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْعَرَبَ إِذَا عَدُّوا قَالُوا: سِتَّةٌ سَبْعَةٌ وَثَمَانِيَةٌ، إِيذَانًا بِأَنَّ السَّبْعَةَ عَدَدٌ تَامٌّ وَأَنَّ مَا بَعْدَهَا عَدَدٌ مُسْتَأْنَفٌ، وَاسْتَدَلُّوا بِآيَاتٍ إِحْدَاهَا: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ- إِلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ- سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الْكَهْف: 22] . ثُمَّ قَالَ: الثَّانِيَةُ آيَةُ الزُّمَرِ [71] إِذْ قِيلَ: فُتِحَتْ فِي آيَةِ النَّارِ لِأَنَّ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ سَبْعَة، وَفُتِحَتْ [الزمر: 73] فِي آيَةِ الْجَنَّةِ إِذْ أَبْوَابُهَا ثَمَانِيَةٌ. ثُمَّ قَالَ: الثَّالِثَةُ: وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَإِنَّهُ الْوَصْفُ الثَّامِنُ. ثُمَّ قَالَ: وَالرَّابِعَةُ: وَأَبْكاراً فِي آيَةِ التَّحْرِيمِ [5] ذَكَرَهَا الْقَاضِي الْفَاضِلُ وَتَبَجَّحَ بِاسْتِخْرَاجِهَا وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى ذِكْرِهَا الثَّعْلَبِيُّ
…
وَأَمَّا قَوْلُ الثَّعْلَبِيِّ: أَنَّ مِنْهَا الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً [الحاقة: 7] فَسَهْوٌ بَيِّنٌ وَإِنَّمَا هَذِهِ وَاوُ الْعَطْفِ اه. وَأَطَالَ فِي خِلَالِ كَلَامِهِ بِرُدُودٍ وَنُقُوضٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ «وَحَدَّثَنِي أَبِي عَنِ الْأُسْتَاذِ النَّحْوِيِّ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْكَفِيفِ الْمَالِقِيِّ (1) وَأَنَّهُ قَالَ: هِيَ لُغَةٌ فَصِيحَةٌ لِبَعْضِ الْعَرَبِ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَقُولُوا إِذَا عَدُّوا: وَاحِدٌ، اثْنَانِ،
(1) قَالَ ابْن عَطِيَّة وَكَانَ مِمَّن استوطن غرناطة وأقرأ فِيهَا فِي مُدَّة ابْن حبوس (أَي ديس بن حبوس الَّذِي تملك غرناطة من سنة 420 إِلَى أَن توفّي سنة 465) .