الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سُورَة يُونُس (10) : آيَة 37]
وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37)
لَمَّا كَانَ الْغَرَضُ الْأَوَّلُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ إِبْطَالَ تَعَجُّبِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْإِيحَاءِ بِالْقُرْآنِ إِلَى النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم وَتَبْيِينَ عَدَمِ اهْتِدَائِهِمْ إِلَى آيَاتِهِ الْبَيِّنَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَكَيْفَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي أَحْوَالِ الرَّسُولِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ، وَكَيْفَ سَأَلُوهُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَأْتِيَ بِقُرْآنٍ غَيْرِهِ أَوْ يُبَدِّلَ آيَاتِهِ بِمَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ. ثُمَّ انْتَقَلَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى سُؤَالِهِمْ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ أُخْرَى مِنْ عِنْدِ اللَّهِ غَيْرُ الْقُرْآنِ، وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ كُلَّهُ وَصْفُ افْتِرَائِهِمُ الْكَذِبَ فِي دَعْوَى الشُّرَكَاءِ لِلَّهِ وَإِقَامَةُ الْأَدِلَّةِ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَعَلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ، وَإِنْذَارُهُمْ بِمَا نَالَ الْأُمَمَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَتَذْكِيرُهُمْ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَإِمْهَالِهِمْ، وَبَيَانُ خَطَئِهِمْ فِي اعْتِقَادِ الشِّرْكِ اعْتِقَادًا مَبْنِيًّا عَلَى سُوءِ النَّظَرِ وَالْقِيَاسِ الْفَاسِدِ، لَا جَرَمَ عَادَ الْكَلَامُ إِلَى قَوْلِهِمْ فِي الْقُرْآنِ بِإِبْطَالِ رَأْيِهِمُ الَّذِي هُوَ مِنَ الظَّنِّ الْبَاطِلِ أَيْضًا بِقِيَاسِهِمْ أَحْوَالَ النُّبُوءَةِ وَالْوَحْيِ بِمِقْيَاسِ عَادَاتِهِمْ كَمَا قَاسُوا حَقِيقَةَ الْإِلَهِيَّةِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَقَارَعَتْهُمْ هَذِهِ الْآيَةُ بِذِكْرِ صِفَاتِ الْقُرْآنِ فِي ذَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ مِنَ اللَّهِ وَتَحَدَّتْهُمْ بِالْإِعْجَازِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ.
فَجُمْلَةُ: وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ: وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا [يُونُس: 36] بِمُنَاسَبَةِ اتِّبَاعِهِمُ الظَّنَّ فِي الْأَمريْنِ: شؤون الإلهية وَفِي شؤون النُّبُوءَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى مَجْمُوعِ مَا تَقَدَّمَ عَطْفَ الْغَرَضِ
عَلَى الْغَرَضِ وَالْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ، وَهُوَ مُفِيدٌ تَفْصِيلَ مَا أَجْمَلَهُ ذِكْرُ
الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَالْجُمَلِ الثَّلَاثِ الَّتِي بَعْدَ تِلْكَ الْحُرُوفِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي [يُونُس: 15] تَكْمِلَةً لِلْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِمِ ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ [يُونُس: 15] وَهَذَا الْكَلَامُ مَسُوقٌ لِلتَّحَدِّي بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ، وَهِي مفيدة للْمُبَالَغَة فِي نَفْيِ أَنْ يَكُونَ مُفْتَرًى مِنْ غَيْرِ اللَّهِ، أَيْ مَنْسُوبًا إِلَى اللَّهِ كَذِبًا وَهُوَ آتٍ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: مَا كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُقَالَ: مَا هُوَ بِمُفْتَرًى، لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فِعْلُ الْكَوْنِ مِنَ الْوُجُودِ، أَيْ مَا وُجِدَ أَنْ يُفْتَرَى، أَيْ وُجُودُهُ مُنَافٍ لِافْتِرَائِهِ، فَدَلَالَةُ ذَاتِهِ كَافِيَةٌ فِي أَنَّهُ غَيْرُ مُفْتَرًى، أَيْ لَوْ تَأَمَّلَ الْمُتَأَمِّلُ الْفَطِنُ تَأَمُّلًا صَادِقًا فِي سُوَرِ الْقُرْآنِ لَعَلِمَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَضْعِ الْبَشَرِ، فَتَرْكِيبُ مَا كَانَ أَنْ يُفْتَرَى بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ: مَا كَانَ لِيُفْتَرَى، بِلَامِ الْجُحُودِ، فَحَذَفَ لَامَ الْجُحُودِ عَلَى طَرِيقَةِ حَذْفِ الْجَارِّ اطِّرَادًا مَعَ (أَنْ) ، وَلَمَّا ظَهَرَتْ (أَنْ) هُنَا حُذِفَ لَامُ الْجُحُودِ وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ أَنْ يُذْكَرَ لَامُ الْجُحُودِ وَتُقَدَّرَ (أَنْ) وَلَا تُذْكَرَ، فَلَمَّا ذُكِرَ فِعْلُ (كَانَ) الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يُذْكَرَ مَعَ لَامِ الْجُحُودِ اسْتُغْنِيَ بِذِكْرِهِ عَنْ ذِكْرِ لَامِ الْجُحُودِ قَصْدًا لِلْإِيجَازِ.
وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِلَامِ الْجُحُودِ بِأَنْ يُقَالَ: مَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ لِيُفْتَرَى، لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ لَامَ الْجُحُودِ تَقَعُ فِي نَفْيِ كَوْنٍ عَنْ فَاعِلٍ لَا عَنْ مَفْعُولٍ بِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّامُ مِنْ مَعْنَى الْمِلْكِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِخْبَارَ بِ أَنْ وَالْفِعْلِ يُسَاوِي الْإِخْبَارَ بِالْمَصْدَرِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ لِأَنَّ صِلَةَ أَنْ هُنَا فِعْلٌ مَبْنِيٌّ لِلنَّائِبِ. وَالتَّقْدِيرُ مَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ افْتِرَاءَ مُفْتَرٍ، فَآلَ إِلَى أَنَّ الْمَصْدَرَ الْمُنْسَبِكَ مِنْ (أَنْ) مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ، وَهُوَ أَيْضًا أَقْوَى مُبَالَغَةً مِنْ أَنْ يُقَالَ: مَا كَانَ مُفْتَرًى، فَحَصَلَتِ الْمُبَالغَة فِي جِهَتَيْنِ: جِهَةِ فِعْلِ (كَانَ) وَجِهَةِ (أَنِ) الْمَصْدَرِيَّةِ.
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ دُونِ اللَّهِ لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ مُتَعَلِّقَةٌ بِ يُفْتَرى أَيْ أَنْ يَفْتَرِيَهُ عَلَى اللَّهِ مُفْتَرٍ. فَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِ اللَّهِ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يُفْتَرى وَهِيَ فِي قُوَّةِ الْوَصْفِ الْكَاشِفِ.
وَالِافْتِرَاءُ: الْكَذِبُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [103] .
وَلَمَّا نُفِيَ عَنِ الْقُرْآنِ الِافْتِرَاءُ أُخْبِرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ تَصْدِيقٌ وَتَفْصِيلٌ، فَجَرَتْ أَخْبَارُهُ كُلُّهَا
بِالْمَصْدَرِ تَنْوِيهًا بِبُلُوغِهِ الْغَايَةَ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي حَتَّى اتَّحَدَ بِأَجْنَاسِهَا.
وتَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ كَوْنُهُ مُصَدِّقًا لِلْكُتُبِ السَّالِفَةِ، أَيْ مُبَيِّنًا للصادق مِنْهَا ومييزا لَهُ عَمَّا زِيدَ فِيهَا وَأُسِيءَ مِنْ تَأْوِيلِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [48] . وَأَيْضًا هُوَ مُصَدَّقٌ (بِفَتْحِ الدَّالِ) بِشَهَادَةِ الْكُتُبِ السَّالِفَةِ فِيمَا أَخَذَتْ مِنَ الْعَهْدِ عَلَى أَصْحَابِهَا أَنْ يُؤْمِنُوا بِالرَّسُولِ الَّذِي يَجِيءُ مُصَدِّقًا وَخَاتَمًا. فَالْوَصْفُ بِالْمَصْدَرِ صَالِحٌ لِلْأَمْرَيْنِ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ يَقْتَضِي فَاعِلًا وَمَفْعُولًا.
وَالتَّفْصِيلُ: التَّبْيِينُ بِأَنْوَاعِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَعْرِيفَ الْكِتابِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ فَيَسْتَغْرِقُ الْكُتُبَ كُلَّهَا. وَمَعْنَى كَوْنِ الْقُرْآنِ تَفْصِيلًا لَهَا أَنَّهُ مُبَيِّنٌ لِمَا جَاءَ مُجْمَلًا فِي الْكُتُبِ السَّالِفَةِ، وَنَاسِخٌ لِمَا لَا مَصْلَحَةَ لِلنَّاسِ فِي دَوَامِ حُكْمِهِ، وَدَافِعٌ لِلْمُتَشَابِهَاتِ الَّتِي ضَلَّ بِهَا أَهْلُ الْكِتَابِ، فَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي مَعْنَى التَّفْصِيلِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [48] . وَهَذَا غَيْرُ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ [يُوسُف: 111] فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى.
وَجُمْلَةُ: لَا رَيْبَ فِيهِ مُسْتَأْنَفَةٌ رَدَّتْ مَزَاعِمَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُ مُفْتَرًى بِاقْتِلَاعِ دَعْوَى افْتِرَائِهِ، وَأَنَّهَا مِمَّا لَا يَرُوجُ عَلَى أَهْلِ الْفِطَنِ وَالْعُقُولِ الْعَادِلَةِ، فَالرَّيْبُ الْمَنْفِيُّ عَنْهُ هُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحْوَالِهِ فِي ذَاتِهِ وَمُقَارَنَاتِهِ مَا يُثِيرُ الرَّيْبَ، وَلِذَلِكَ كَانَ رَيْبُ الْمُرْتَابِينَ فِيهِ رَيْبًا مزعوما مدعى وَهُوَ لَوْ رَاجَعُوا أَنْفُسَهُمْ لَوَجَدُوهَا غَيْرَ مُرْتَابَةٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِ هَذَا فِي طَالِعَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [2] .
وَمَوْقِعُ قَوْلِهِ: مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ مُحْتَمِلٌ وُجُوهًا أَظْهَرُهَا أَنَّهُ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ عَنْ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ ضَمِيرُ الْقُرْآنِ، وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ثَانٍ، وَ (مِنْ) ابْتِدَائِيَّةُ تُؤْذِنُ بِالْمَجِيءِ، أَيْ هُوَ وَارِدٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَيْ مِنْ وَحْيِهِ وَكَلَامِهِ، وَهَذَا مُقَابِلُ قَوْلِهِ: مِنْ دُونِ اللَّهِ.