الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَوَقَعَ الِاسْتِدْرَاكُ بِقَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ لِأَنَّ الْجُمْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُ أُرِيدَ بِهِمَا الرَّدُّ عَلَى مُعْتَقِدِي خِلَافَهُمَا فَصَارَتَا فِي قُوَّةِ نَفْيِ الشَّكِّ عَنْ مَضْمُونِهِمَا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَا شَكَّ يَحِقُّ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فَلِذَلِكَ يَشُكُّونَ.
وَتَقْيِيدُ نَفْيِ الْعِلْمِ بِالْأَكْثَرِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يَجْحَدُهُ مُكَابَرَةً، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ [يُونُس: 40] . فَضَمِيرُ أَكْثَرَهُمْ لِلْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ فِيمَا تقدم.
[57]
[سُورَة يُونُس (10) : آيَة 57]
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)
اسْتِئْنَافٌ أَوِ اعْتِرَاضٌ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِابْتِدَاءِ غَرَضٌ جَدِيدٌ وَهُوَ خِطَابُ جَمِيعِ النَّاسِ بِالتَّعْرِيفِ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ وَهَدْيِهِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ الْكَلَامُ فِي جِدَالِ الْمُشْرِكِينَ وَالِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَنَّ الْآتِيَ بِهِ صَادِقٌ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ تَهْدِيدِهِمْ وَتَخْوِيفِهِمْ مِنْ عَاقِبَةِ تَكْذِيبِ الْأُمَمِ رُسُلَهَا، وَمَا ذُيِّلَ بِهِ ذَلِكَ مِنَ الْوَعِيدِ وَتَحْقِيقِ مَا تُوُعِّدُوا بِهِ، فَالْكَلَامُ الْآنَ مُنْعَطِفٌ إِلَى الْغَرَضِ الْمُفْتَتَحِ بِقَوْلِهِ: وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَوْ كانُوا لَا يُبْصِرُونَ [يُونُس: 37- 43] . فَعَادَ الْكَلَامُ إِلَى خِطَابِ جَمِيعِ النَّاسِ لِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمَنَافِعِ الصَّالِحَةِ لَهُمْ، وَالْإِشَارَةِ إِلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي مِقْدَارِ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَلِذَلِكَ
كَانَ الْخِطَابُ هُنَا عَامًّا لِجَمِيعِ النَّاسِ وَلَمْ يَأْتِ فِيهِ مَا يَقْتَضِي تَوْجِيهَهُ لِخُصُوصِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ ضَمَائِرَ تَعُودُ إِلَيْهِمْ أَوْ أَوْصَافٍ لَهُمْ أَوْ صِلَاتِ مَوْصُولٍ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَلَيْسَ فِي الْخِطَابِ بِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْقُرْآنَ مَوْعِظَةٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ وَإِنَّمَا انْتَفَعَ بِمَوْعِظَتِهِ الْمُؤْمِنُونَ فَاهْتَدَوْا وَكَانَ لَهُمْ رَحْمَةً.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْمُشْرِكِينَ بِنَاءً عَلَى الْأَكْثَرِ فِي خِطَابِ الْقُرْآنِ بِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ فَيَكُونَ ذِكْرُ الثَّنَاءِ عَلَى الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ إِدْمَاجًا وَتَسْجِيلًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ
بِأَنَّهُمْ حَرَمُوا أَنْفُسَهُمُ الِانْتِفَاعَ بِمَوْعِظَةِ الْقُرْآنِ وَشِفَائِهِ لِمَا فِي الصُّدُورِ، فَانْتَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ.
وافتتاح الْكَلَام ب قَدْ لِتَأْكِيدِهِ، لِأَنَّ فِي الْمُخَاطَبِينَ كَثِيرًا مِمَّنْ يُنْكِرُ هَذِهِ الْأَوْصَافَ لِلْقُرْآنِ.
وَالْمَجِيءُ: مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي الْإِعْلَامِ بِالشَّيْءِ، كَمَا اسْتُعْمِلَ لِلْبُلُوغِ أَيْضًا، إِلَّا أَنَّ الْبُلُوغَ أَشْهَرُ فِي هَذَا وَأَكْثَرُ، يُقَالُ: بَلَغَنِي خَبَرُ كَذَا، وَيُقَالُ أَيْضًا: جَاءَنِي خَبَرُ كَذَا أَوْ أَتَانِي خَبَرُ كَذَا. وَإِطْلَاقُ الْمَجِيءِ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَعَزُّ.
وَالْمُرَادُ بِمَا جَاءَهُمْ وَبَلَغَهُمْ هُوَ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ وَقُرِئَ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ بِأَرْبَعِ صِفَاتٍ هِيَ أُصُولُ كَمَالِهِ وَخَصَائِصِهِ وَهِيَ: أَنَّهُ مَوْعِظَةٌ، وَأَنَّهُ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ، وَأَنَّهُ هُدًى، وَأَنَّهُ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ.
وَالْمَوْعِظَةُ: الْوَعْظُ، وَهُوَ كَلَامٌ فِيهِ نُصْحٌ وَتَحْذِيرٌ مِمَّا يَضُرُّ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [63]، وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [145] . وَوَصَفَهَا بِ مِنْ رَبِّكُمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهَا بَالِغَةٌ غَايَةَ كَمَالِ أَمْثَالِهَا.
وَالشِّفَاءُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [14] .
وَحَقِيقَتُهُ: زَوَالُ الْمَرَضِ وَالْأَلَمِ، وَمَجَازُهُ: زَوَالُ النَّقَائِصِ وَالضَّلَالَاتِ وَمَا فِيهِ حَرَجٌ عَلَى النَّفْسِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ هُنَا.
وَالْمُرَادُ بِالصُّدُورِ النُّفُوسُ كَمَا هُوَ شَائِعٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ.
وَالْهُدَى تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ فِي طَالِعِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [2]، وَأَصْلُهُ:
الدَّالَّةُ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُوصِلِ إِلَى الْمَقْصُودِ. وَمَجَازُهُ: بَيَانُ وَسَائِلِ الْحُصُولِ عَلَى الْمَنَافِعِ الْحَقَّةِ.
وَالرَّحْمَةُ تَقَدَّمَتْ فِي تَفْسِيرِ الْبَسْمَلَةِ.
وَقَدْ أَوْمَأَ وَصْفُ الْقُرْآنِ بِالشِّفَاءِ إِلَى تَمْثِيلِ حَالِ النُّفُوسِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقُرْآنِ، وَإِلَى مَا جَاءَ بِهِ بِحَالِ الْمُعْتَلِّ السَّقِيمِ الَّذِي تَغَيَّرَ نِظَامُ مِزَاجِهِ عَنْ حَالَةِ الِاسْتِقَامَةِ فَأَصْبَحَ مُضْطَرِبَ الْأَحْوَالِ خَائِرَ الْقُوَى فَهُوَ يَتَرَقَّبُ الطَّبِيبَ الَّذِي يُدَبِّرُ لَهُ بِالشِّفَاءِ، وَلَا بُدَّ لِلطَّبِيبِ مِنْ مَوْعِظَةٍ لِلْمَرِيضِ يُحَذِّرُهُ بِهَا مِمَّا هُوَ سَبَبُ نَشْءِ عِلَّتِهِ وَدَوَامِهَا، ثُمَّ يَنْعَتُ لَهُ الدَّوَاءَ الَّذِي بِهِ شِفَاؤُهُ مِنَ الْعِلَّةِ، ثُمَّ يَصِفُ لَهُ النِّظَامَ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُ سُلُوكُهُ لِتَدُومَ لَهُ الصِّحَّةُ وَالسَّلَامَةُ وَلَا يَنْتَكِسَ لَهُ الْمَرَضُ، فَإِنْ هُوَ انْتَصَحَ بِنَصَائِحِ الطَّبِيبِ أَصْبَحَ مُعَافًى سَلِيمًا وَحَيِيَ حَيَاةً طَيِّبَةً لَا يَعْتَوِرُهُ أَلَمٌ وَلَا يَشْتَكِي وَصَبًا، وَقَدْ كَانَ هَذَا التَّمْثِيلُ لِكَمَالِهِ قَابِلًا لِتَفْرِيقِ تَشْبِيهِ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِأَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا، فَزَوَاجِرُ الْقُرْآنِ وَمَوَاعِظُهُ يُشَبَّهُ بِنُصْحِ الطَّبِيبِ عَلَى وَجْهِ الْمَكْنِيَّةِ، وَإِبْطَالُهُ الْعَقَائِدَ الضَّالَّةَ يُشَبَّهُ بِنَعْتِ الدَّوَاءِ لِلشِّفَاءِ مِنَ الْمَضَارِّ عَلَى وَجْهِ التَّصْرِيحِيَّةِ، وَتَعَالِيمُهُ الدِّينِيَّةُ وَآدَابُهُ تُشَبَّهُ بِقَوَاعِدِ حِفْظِ الصِّحَّةِ عَلَى وَجْهِ الْمَكْنِيَّةِ، وَعُبِّرَ عَنْهَا بِالْهُدَى، وَرَحْمَتُهُ لِلْعَالَمِينَ تُشَبَّهُ بِالْعَيْشِ فِي سَلَامَةٍ عَلَى وَجْهِ الْمَكْنِيَّةِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَلْفَاظَ الْمَكْنِيَّةِ يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مُسْتَعْمَلَةً فِي حَقَائِقِ مَعَانِيِهَا كَمَا هُنَا، وَيَصِحُّ أَنْ تُجْعَلَ تَخْيِيلًا كَأَظْفَارِ الْمَنِيَّةِ. ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ تَشْبِيهَ شَأْنِ بَاعِثِ الْقُرْآنِ بِالطَّبِيبِ الْعَلِيمِ بِالْأَدْوَاءِ وَأَدْوِيَتِهَا، وَيَقُومُ مِنْ ذَلِكَ تَشْبِيهُ هَيْئَةِ تَلَقِّي النَّاسِ لِلْقُرْآنِ وَانْتِفَاعِهِمْ بِهِ وَمُعَالَجَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهُمْ بِتَكْرِيرِ النُّصْحِ وَالْإِرْشَادِ بِهَيْئَةِ الْمَرْضَى بَيْنَ يَدَيِ الطَّبِيبِ وَهُوَ يَصِفُ لَهُمْ مَا فِيهِ بُرْؤُهُمْ وَصَلَاحُ أَمْزِجَتِهِمْ فَمِنْهُمُ الْقَابِلُ الْمُنْتَفِعُ وَمِنْهُمُ الْمُتَعَاصِي الْمُمْتَنِعُ.
فَالْأَوْصَافُ الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ ثَابِتَةٌ لِلْقُرْآنِ فِي ذَاتِهِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَنْ قَبِلَهَا وَعَمِلَ بِهَا، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهَا وَنَبَذَهَا، إِلَّا أَنَّ وَصْفَهُ بِكَوْنِهِ هُدًى لَمَّا كَانَ وَصْفًا بِالْمَصْدَرِ الْمُقْتَضِي لِلْمُبَالَغَةِ بِحَيْثُ كَأَنَّهُ نَفْسُ الْهُدَى كَانَ الْأَنْسَبُ أَنْ يُرَادَ بِهِ حُصُولُ الْهُدَى بِهِ بِالْفِعْلِ فَيَكُونَ فِي قِرَانِ الْوَصْفِ الرَّابِعِ. وَالْوَصْفُ الرَّابِعُ وَهُوَ الرَّحْمَةُ، خَاصٌّ بِمَنْ عَمِلَ بِمُقْتَضَى الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ، فَانْتَفَعَ بِهَا فَكَانَ الْقُرْآنُ رَحْمَةً لَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الْإِسْرَاء: 82] .
فَقَيْدُ لِلْمُؤْمِنِينَ مُتَعَلِّقٌ بِ رَحْمَةٌ بِلَا شُبْهَةٍ وَقَدْ خَصَّهُ بِهِ جُمْهُورُ