الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سُورَة يُونُس (10) : الْآيَات 42 إِلَى 43]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43)
لَمَّا سَبَقَ تَقْسِيمُ الْمُشْرِكِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اعْتِقَادِهِمْ فِي الْأَصْنَامِ إِلَى مَنْ يَتَّبِعُ الظَّنَّ وَمَنْ يُوقِنُ بِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا شَيْءَ، وَتَقْسِيمُهُمْ بِالنِّسْبَةِ لِتَصْدِيقِ الْقُرْآنِ إِلَى قِسْمَيْنِ: مَنْ يُؤْمِنُ بِصِدْقِهِ وَمَنْ لَا يُؤْمِنُ بِصِدْقِهِ كَمَّلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَقْسِيمَهُمْ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّلَقِّي مِنَ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم إِلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٍ يَحْضُرُونَ مَجْلِسَهُ وَيَسْتَمِعُونَ إِلَى كَلَامِهِ، وَقِسْمٍ لَا يَحْضُرُونَ مَجْلِسَهُ وَإِنَّمَا يَتَوَسَّمُونَهُ وَيَنْظُرُونَ سَمْتَهُ. وَفِي كِلَا الْحَالَيْنِ مَسْلَكٌ عَظِيمٌ إِلَى الْهُدَى لَوْ كَانُوا مُهْتَدِينَ فَإِنَّ سَمَاعَ كَلَامِ النَّبِيءِ وَإِرْشَادِهِ يُنِيرُ عُقُولَ الْقَابِلِينَ لِلْهِدَايَةِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَ اسْتِمْرَارُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى كُفْرِهِمْ مَعَ سَمَاعِهِمْ كَلَامَ النَّبِيءِ أَوْ رُؤْيَةِ هَدْيِهِ مُؤْذِنًا بِبُلُوغِهِمُ الْغَايَةَ فِي الضَّلَالَةِ مَيْئُوسًا مِنْ نُفُوذِ الْحَقِّ إِلَيْهِمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِقُصُورِ كَلَامِهِ عَنْ قُوَّةِ الْإِبْلَاغِ إِلَى الِاهْتِدَاءِ، كَمَا أَنَّ التَّوَسُّمَ فِي سَمْتِهِ الشريف وَدَلَائِل نبوءته الْوَاضِحَةِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ كَافٍ فِي إِقْبَالِ النَّفْسِ عَلَيْهِ بِشَرَاشِرِهَا، فَمَا عُدِمَ انْتِفَاعُ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يُعَايِنُونَ ذَاتَهُ الشَّرِيفَةَ بِمُعَايَنَتِهَا إِلَّا لِشِدَّةِ بُغْضِهِمْ إِيَّاهُ وَحَسَدِهِمْ، وَقَدْ أَفَادَ سِيَاقُ الْكَلَامِ أَنَّهُمْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْهِ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَلَا يَنْتَفِعُونَ
بِذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُسْتَمِعِينَ إِلَيْهِ وَالنَّاظِرِينَ إِلَيْهِ هُنَا اسْتَمَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَمِنْهُمْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَطُوِيَتْ جُمْلَةُ: وَلَا يَنْتَفِعُونَ أَوْ نَحْوُهَا لِلْإِيجَازِ بِدَلَالَةِ التَّقْسِيمِ. وَجِيءَ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ دُونَ اسْمِ الْفَاعِلِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَكَرُّرِ الِاسْتِمَاعِ وَالنَّظَرِ.
وَالْحِرْمَانُ مِنَ الِاهْتِدَاءِ مَعَ ذَلِكَ التَّكَرُّرِ أَعْجَبُ.
فَجُمْلَةُ: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لَا يَعْقِلُونَ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ: مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ مَعَ مَا طُوِيَ فِيهَا. وَفِي هَذَا التَّفْرِيعِ بَيَانٌ لِسَبَبِ عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِسَمَاعِ كَلَامِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم، وَتَسْلِيَةٌ لَهُ وَتَعْلِيمٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَقُرِّبَتْ إِلَيْهِمْ هَذِهِ الْحَالَةُ الْغَرِيبَةُ بِأَنَّ أُولَئِكَ الْمُسْتَمِعِينَ بِمَنْزِلَةِ صُمٍّ لَا يَعْقِلُونَ فِي أَنَّهُمْ حُرِمُوا التَّأَثُّرَ بِمَا يَسْمَعُونَ مِنَ الْكَلَامِ
فَسَاوَوُا الصُّمَّ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ فِي ذَلِكَ، وَهَذِهِ اسْتِعَارَةٌ مُصَرَّحَةٌ إِذْ جَعَلَهُمْ نَفْسَ الصُّمِّ.
وَبُنِيَ عَلَى ذَلِكَ اسْتِفْهَامٌ عَنِ التَّمَكُّنِ مِنْ إِسْمَاعِ هَؤُلَاءِ الصُّمِّ وَهَدْيِ هَؤُلَاءِ الْعُمْيِ مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ ضَمُّوا إِلَى صَمَمِهِمْ عَدَمَ الْعَقْلِ وَضَمُّوا إِلَى عَمَاهُمْ عَدَمَ التَّبَصُّرِ. وَهَذَانِ الِاسْتِفْهَامَانِ مُسْتَعْمَلَانِ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَى دَعْوَةِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَعْقِلُونَهَا، وَإِذْ يَنْظُرُونَ أَعْمَالَهُ وَسِيرَتَهُ وَلَا يَهْتَدُونَ بِهَا، فَلَيْسَ فِي هَذَيْنِ الِاسْتِفْهَامَيْنِ مَعْنَى الْإِنْكَارِ عَلَى مُحَاوَلَةِ النَّبِيءِ إِبْلَاغَهُمْ وَهَدْيَهُمْ لِأَنَّ الْمَقَامَ يَنْبُو عَنْ ذَلِكَ.
وَهَذِهِ الْمَعَانِي الْمَجَازِيَّةُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَقَامِ وَالْقَرَائِنِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الِاسْتِفْهَامَانِ إِنْكَارًا، وَلِذَلِكَ لَا يُتَوَهَّمُ إِشْكَالٌ بِأَنَّ مَوْقِعَ (لَوِ) الْوَصْلِيَّةُ هُنَا بَعْدَ مَا هُوَ بِمَعْنَى النَّفْيِ بِحَيْثُ تَنْتَقِضُ الْمُبَالَغَةُ الَّتِي اجْتُلِبَتْ لَهَا (لَوِ) الْوَصْلِيَّةُ، بَلِ الْمَعْنَى بِالْعَكْسِ.
وَفِي هَذَيْنِ الِاسْتِفْهَامَيْنِ تَرْشِيحٌ لِاسْتِعَارَةِ الصُّمِّ وَالْعُمْيِ لِهَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ نُفُوسَهُمْ مَفْطُورَةً عَلَى الْمُكَابَرَةِ وَالْعِنَادِ وَبَغْضَاءِ مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَحَسَدِهِ كَانَتْ هَاتِهِ الْخِصَالُ حَوَائِلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ التَّأَثُّرِ بِالْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصَرَاتِ فَجِيءَ بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ التَّعْجِيبِيِّ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى تَقَوِّي الْخَبَرَ بِتَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ بِقَوْلِهِ: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ وَقَوْلُهُ: أَفَأَنْتَ تَهْدِي دُونَ أَنْ يُقَالَ: أتسمع الصم وتَهْدِي الْعُمْيَ، فَكَانَ هَذَا التَّعْجِيبُ مؤكدا مقوى.
و (لَو) فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ كانُوا لَا يَعْقِلُونَ وَقَوْلِهِ: وَلَوْ كانُوا لَا يُبْصِرُونَ، وَصْلِيَّةٌ دَالَّةٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْأَحْوَالِ، وَهِيَ الَّتِي يَكُونُ الَّذِي بَعْدَهَا أَقْصَى مَا يُعَلَّقُ بِهِ الْغَرَضُ.
وَلِذَلِكَ يُقَدِّرُونَ لِتَفْسِيرِ مَعْنَاهَا جُمْلَةً قَبْلَ جُمْلَةِ (لَوْ) مَضْمُونُهَا ضِدَّ الْجُمْلَةِ الَّتِي دَخَلَتْ عَلَيْهَا (لَوْ)، فَيُقَالُ هُنَا: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ لَوْ كَانُوا يَعْقِلُونَ بَلْ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ.
وَلَمَّا كَانَ الْغَرَضُ هُنَا التَّعْجِيبَ مِنْ حَالِهِمْ إِذْ لَمْ يَصِلُوا إِلَى الْهُدَى كَانَ عَدَمُ فَهْمِهِمْ وَعَدَمُ تَبَصُّرِهِمْ كِنَايَةً عَنْ كَوْنِهِمْ لَا يَعْقِلُونَ وَكَوْنِهِمْ لَا بَصَائِرَ لَهُمْ. فَمَعْنَى: لَا يَعْقِلُونَ
لَيْسَ لَهُمْ إِدْرَاكُ الْعُقُولِ، أَيْ وَلَوِ انْضَمَّ إِلَى صَمَمِهِمْ عَدَمُ عُقُولِهِمْ فَإِنَّ الْأَصَمَّ الْعَاقِلَ رُبَّمَا تَفَرَّسَ فِي مُخَاطِبِهِ وَاسْتَدَلَّ بِمَلَامِحِهِ.
وَأَمَّا مَعْنَى: لَا يُبْصِرُونَ فَإِنَّهُمْ لَا بَصِيرَةَ لَهُمْ يَتَبَصَّرُونَ بِهَا. وَهُوَ الَّذِي فَسَّرَ بِهِ «الْكَشَّافُ» وَهُوَ الْوَجْهُ، إِذْ بِدُونِهِ يَكُونُ مَعْنَى: لَا يُبْصِرُونَ مُسَاوِيًا لِمَعْنَى الْعَمَى فَلَا تَقَعُ الْمُبَالَغَةُ بِ (لَوِ) الْوَصْلِيَّةِ مَوْقِعَهَا، إِذْ يَصِيرُ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا عُمْيًا. وَمُقْتَضَى كَلَامِ «الْكَشَّافِ» أَنَّهُ يُقَال: أبْصر إِذا اسْتَعْمَلَ بَصِيرَتَهُ وَهِيَ التَّفْكِيرُ وَالِاعْتِبَارُ بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ. وَكَلَامُ «الْأَسَاسِ» يَحُومُ حَوْلَهُ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لَا يُبْصِرُونَ مَعْنَى التَّأَمُّلِ، أَيْ وَلَوِ انْضَمَّ إِلَى عَمَى الْعُمْيِ عَدَمُ التَّفْكِيرِ كَمَا هُوَ حَالُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مَدْلُولًا لِفِعْلِ يُبْصِرُونَ بِالْوَضْعِ الْحَقِيقِيِّ أَوِ الْمَجَازِيِّ. فَبِهَذَا النَّظْمِ الْبَدِيعِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ فِي أَوَّلِهِ وَعَلَى الْكِنَايَةِ فِي آخِرِهِ وَعَلَى التَّعْجِيبِ وَتَقْوِيَتِهِ فِي وَسَطِهِ حَصَلَ تَحْقِيقٌ أَنَّهُمْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِأَسْمَاعِهِمْ وَلَا بِأَبْصَارِهِمْ وَأَنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ وَلَا يَتَبَصَّرُونَ فِي الْحَقَائِقِ.
وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ الَّتِي اتَّصَفُوا بِهَا هِيَ حَالَةٌ أَصَارَهُمُ اللَّهُ إِلَيْهَا بِتَكْوِينِهِ وَجَعَلَهَا عِقَابًا لَهُمْ فِي تَمَرُّدِهِمْ فِي كُفْرِهِمْ وَتَصَلُّبِهِمْ فِي شِرْكِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْ دَعْوَةِ رَسُولِهِ وَلِذَلِكَ جَعَلَهُمْ صُمًّا وَعُمْيًا. فَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يُسْمِعُهُمْ وَيَهْدِيهِمْ لَا أَنْتَ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ لَا يَحْتَاجُ لِلْعِبَارَةِ.
وَقَدْ أَوْرَدَ الشَّيْخُ ابْنُ عَرَفَةَ سُؤَالًا عَنْ وَجْهِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ قَوْلِهِ: مَنْ يَسْتَمِعُونَ وَقَوْلِهِ:
مَنْ يَنْظُرُ إِذْ جِيءَ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ فِي الْأَوَّلِ وَبِضَمِيرِ الْمُفْرَدِ فِي الثَّانِي. وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْإِسْمَاعَ يَكُونُ مِنَ الْجِهَاتِ كُلِّهَا وَأَمَّا النَّظَرُ فَإِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الْجِهَةِ الْمُقَابِلَةِ. وَهُوَ جَوَابٌ غَيْرُ وَاضِحٍ لِأَنَّ تَعَدُّدَ الْجِهَاتِ الصَّالِحَةِ لِأَحَدِ الْفِعْلَيْنِ لَا يُؤَثِّرُ إِذَا كَانَ الْمُسْتَمِعُونَ وَالنَّاظِرُونَ مُتَّحِدِينَ وَلِأَنَّ الْجَمْعَ وَالْإِفْرَادَ هُنَا سَوَاءٌ لِأَنَّ مُفَادَ (مَنِ) الْمَوْصُولَةِ فِيهِمَا هُوَ مَنْ يَصْدُرُ مِنْهُمُ الْفِعْلُ وَهُمْ عَدَدٌ وَلَيْسَ النَّاظِرُ شَخْصًا وَاحِدًا.
وَالْوَجْهُ أَنَّ كِلَا الِاسْتِعْمَالَيْنِ سَوَاءٌ فِي مُرَاعَاةِ لَفْظِ (مَنْ) وَمَعْنَاهَا، فَلَعَلَّ الِابْتِدَاءَ بِالْجَمْعِ فِي صِلَةِ (مَنِ) الْأُولَى الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِ (مَنْ) غَيْرُ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ وَأَنَّ الْعُدُولَ