الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْعَقْلِيِّ، وَلَيْسَ الْخَبَرُ بِفِتْنَةٍ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْمَصْدَرِ إِذْ لَا يَفْرِضُونَ أَنْ يَكُونُوا فَاتِنِينَ وَلَا يَسْمَحُ الْمَقَامُ بِأَنَّهُمْ أَرَادُوا لَا تَجْعَلْنَا مَفْتُونِينَ لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
وَوَصَفُوا الْكُفَّارَ بِ الظَّالِمِينَ لِأَنَّ الشِّرْكَ ظُلْمٌ، وَلِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُمْ تَلَبَّسُوا بِأَنْوَاعِ الظُّلْمِ: ظُلْمِ أَنْفُسِهِمْ، وَظُلْمِ الْخَلَائِقِ، ثُمَّ سَأَلُوا مَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ فَطَلَبُوا النَّجَاةَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، أَيْ مِنْ بَطْشِهِمْ وَإِضْرَارِهِمْ.
وَزِيَادَةُ بِرَحْمَتِكَ لِلتَّبَرُّؤِ مِنَ الْإِدْلَالِ بِإِيمَانِهِمْ لِأَنَّ الْمِنَّةَ لِلَّهِ عَلَيْهِمْ، قَالَ تَعَالَى:
قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الحجرات: 17] .
وَذِكْرُ لَفْظِ الْقَوْمِ فِي قَوْلِهِ: لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَقَوْلِهِ: مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ لِلْوَجْهِ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي أَوَاسِطِ الْبَقَرَةِ، وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ غير مرّة.
[87]
[سُورَة يُونُس (10) : آيَة 87]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ: وَقالَ مُوسى يَا قَوْمِ [يُونُس: 84] ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ، أَيْ عَلَى مَجْمُوعِ الْكَلَامِ السَّابِق، لِأَن مَجْمُوعه قصَص هِيَ حِكَايَةُ أَطْوَارٍ لِقِصَّةِ مُوسَى وَقَوْمِهِ.
وَوَقَعَ الْوَحْيُ بِهَذَا الْأَمْرِ إِلَى مُوسَى وَهَارُونَ- عليهما السلام لِأَنَّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الرَّاجِعَةِ إِلَى تَدْبِيرِ أَمْرِ الْأُمَّةِ، فَيُمْكِنُ الِاشْتِرَاكُ فِيهَا بَيْنَ الرَّسُول ومؤازره.
والتبوّؤ: اتِّخَاذُ مَكَانٍ يَسْكُنُهُ، وَهُوَ تَفَعُّلٌ مِنَ الْبَوْءِ، أَيِ الرُّجُوعِ، كَأَنَّ صَاحِبَ الْمَسْكَنِ يُكَلِّفُ نَفْسَهُ الرُّجُوعَ إِلَى مَحَلِّ سَكَنِهِ وَلَوْ كَانَ تَبَاعَدَ عَنهُ فِي شؤون اكْتِسَابِهِ بِالسَّيْرِ إِلَى السُّوقِ أَوِ الصَّيْدِ أَوِ الِاحْتِطَابِ أَوْ قَطْفِ الثِّمَارِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَتَقَدَّمَ
عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ فِي آلِ عمرَان [121] . فَمَعْنَى تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما اجْعَلَا قَوْمَكُمَا مُتَبَوِّئِينَ بُيُوتًا.
وَفَاعِلُ هَذَا الْفِعْلِ فِي الْأَصْلِ هُوَ السَّاكِنُ بِالْمَبَاءَةِ، وَإِنَّمَا أُسْنِدَ هُنَا إِلَى ضَمِيرِ مُوسَى وَهَارُونَ- عليهما السلام عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، إِذْ كَانَا سَبَب تبوّؤ قَوْمِهِمَا لِلْبُيُوتِ.
وَالْقَرِينَةُ قَوْلُهُ: لِقَوْمِكُما إِذْ جَعَلَ التَّبَوُّؤَ لِأَجْلِ الْقَوْم.
وَمعنى تبوؤ الْبُيُوتِ لِقَوْمِهِمَا أَنْ يَأْمُرَا قَوْمَهُمَا بِاتِّخَاذِ الْبُيُوتِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي يَأْمُرَانِهِمْ بِهِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ دِيَارٌ فِي مِصْرَ مِنْ قَبْلُ، إِذْ لَا يَكُونُونَ قَاطِنِينَ مِصْرَ بِدُونِ مَسَاكِنَ، وَقَدْ كَانُوا سَاكِنِينَ أَرْضَ (جَاسَانَ) قُرْبَ مَدِينَةِ (مَنْفِيسَ) قَاعِدَةِ الْمَمْلَكَةِ يَوْمَئِذٍ فِي جَنُوبِ الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَا جَرَمَ أَنْ تَكُونَ الْبُيُوتُ الْمَأْمُورُ بِتَبَوُّئِهَا غَيْرَ الْبُيُوتِ الَّتِي كَانُوا سَاكِنِيهَا.
وَاضْطَرَبَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ مِنْ هَذِهِ الْبُيُوتِ وَذَكَرُوا رِوَايَاتٍ غَيْرَ مُلَائِمَةٍ لِحَالَةِ الْقَوْمِ يَوْمَئِذٍ. فَقِيلَ: أُرِيدَ بِالْبُيُوتِ بُيُوتُ الْعِبَادَةِ أَيْ مَسَاجِدُ يُصَلُّونَ فِيهَا، وَرُبَّمَا حَمَلَ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ مَنْ تَأَوَّلَهُ وُقُوعُ قَوْلِهِ: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ عَقِبَهُ. وَهَذَا بِعِيدٌ لِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُفَارِقُونَ مِصْرَ قَرِيبًا بِإِذْنِهِ. وَقِيلَ: الْبُيُوتُ بُيُوتُ السُّكْنَى وَأَمْسَكُوا عَنِ الْمَقْصُودِ مِنْ هَذِهِ الْبُيُوتِ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمُنَاسب للتبوؤ لِأَن التبوؤ السُّكْنَى، وَالْمُنَاسِبُ أَيْضًا لِإِطْلَاقِ الْبُيُوتِ، وَكَوْنِهَا بِمِصْرَ.
فَالَّذِي يَظْهَرُ بِنَاءً عَلَيْهِ أَنَّ هَذِهِ الْبُيُوتَ خِيَامٌ أَوْ أَخْصَاصٌ أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِاتِّخَاذِهَا تَهْيِئَةً لِلِارْتِحَالِ وَهِيَ غَيْرُ دِيَارِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَسْكُنُونَهَا فِي (جَاسَانَ) قُرْبَ مَدِينَةِ فِرْعَوْنَ وَقَدْ جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ مَا يَشْهَدُ بِهَذَا التَّأْوِيلِ فِي الْفَصْلِ الرَّابِعِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ مُوسَى أَنْ يَخْرُجَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الْبَادِيَةِ لِيَعْمَلُوا عِيدَ الْفِصْحِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَأَنَّ ذَلِكَ أَوَّلُ مَا سَأَلَهُ مُوسَى مِنْ فِرْعَوْنَ، وَأَنَّ فِرْعَوْنَ مَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّ مُوسَى كَرَّرَ طَلَبَ ذَلِكَ مِنْ فِرْعَوْنَ كُلُّ ذَلِكَ يَمْنَعُهُ كَمَا فِي الْفَصْلِ السَّابِعِ وَالْفَصْلِ الثَّامِنِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ، وَقَدْ صَارَ لَهُمْ ذَلِكَ عِيدًا بَعْدَ خُرُوجِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً أَيْ هَذِهِ الْخِيَامَ أَوِ الْأَخْصَاصَ الَّتِي تَتَّخِذُونَهَا
تَجْعَلُونَهَا مَفْتُوحَةً إِلَى الْقِبْلَةِ. قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَالْقِبْلَةُ: اسْمٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ لِجِهَةِ الْكَعْبَةِ. وَتِلْكَ الْجِهَةُ هِيَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لِأَنَّ قِبْلَةَ بِلَادِ مِصْرَ كَقِبْلَةِ الْمَدِينَةِ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَهِيَ الْجَنُوبُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْبِيرُ عَنْ تِلْكَ الْجِهَةِ بِالْقِبْلَةِ فِي الْآيَةِ حِكَايَةً لِتَعْبِيرِ مُوسَى عَنْهَا بِمَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى التَّوَجُّهِ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي يُصَلُّونَ إِلَيْهَا، وَهِيَ قِبْلَةُ إِبْرَاهِيمَ، فَيَكُونُ أَمْرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَوْمَئِذٍ جَارِيًا عَلَى الْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ قَبْلَ أَنْ يُنْسَخَ بِالِاسْتِقْبَالِ إِلَى صَخْرَةِ الْقُدْسِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُوسَى قَدْ عَبَّرَ بِمَا يُفِيدُ مَعْنَى الْجَنُوبِ فَحُكِيَتْ عِبَارَتُهُ فِي الْقُرْآنِ بِاللَّفْظِ الْمُرَادِفِ لَهُ الشَّائِعِ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْجَنُوبِ عِنْدَ الْعَرَبِ وَهُوَ كَلِمَةُ قِبْلَةٍ.
وَالْحِكْمَةُ فِي جَعْلِ الْبُيُوتِ إِلَى الْقِبْلَةِ أَنَّ الشَّمْسَ تَدْخُلُهَا مِنْ أَبْوَابِهَا فِي غَالِبِ أَوْقَاتِ النَّهَارِ فِي جَمِيعِ الْفُصُولِ وَفِي ذَلِكَ مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ.
وَالَّذِينَ فَسَّرُوا الْبُيُوتَ بِأَنَّهَا بُيُوتُ السُّكْنَى فَسَّرُوا قِبْلَةً: إِمَّا بِمَعْنَى مُتَقَابِلَةً، وَإِمَّا بِمَعْنَى اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَحَلَّ صَلَاتِكُمْ، وَكِلَا التَّفْسِيرَيْنِ بَعِيدٌ عَنِ الِاسْتِعْمَالِ.
وَأَمَّا الَّذِينَ تَأَوَّلُوا الْبُيُوتَ بِالْمَسَاجِدِ فَقَدْ فَسَّرُوا الْقِبْلَةَ بِأَنَّهَا قِبْلَةُ الصَّلَاةِ، أَيْ جِهَةُ الْكَعْبَةِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَتِ الْكَعْبَةُ قِبْلَةَ مُوسَى. وَعَنِ الْحَسَنِ: كَانَتِ الْكَعْبَةُ قِبْلَةَ كُلِّ الْأَنْبِيَاءِ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ يُلَائِمُ تَرْكِيبَ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً لِأَنَّ التَّرْكِيبَ اقْتَضَى أَنَّ الْمَجْعُولَ قِبْلَةً هُوَ الْبُيُوتُ أَنْفُسُهَا لَا أَنْ تُجْعَلَ الصَّلَاةُ فِيهَا إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَإِذَا افْتَقَدْنَا التَّأْوِيلَاتِ كُلَّهَا لَا نَجِدُهَا إِلَّا مُفَكَّكَةً مُتَعَسِّفَةً خَلَا التَّفْسِيرِ الَّذِي عَوَّلْنَا عَلَيْهِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ إِلَيْهِ.
وَأُسْنِدَ فِعْلُ اجْعَلُوا إِلَى ضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْجَعْلَ مِنْ عَمَلِ مُوسَى وَأَخِيهِ وَقَوْمِهِمَا إِذْ كُلُّ أَحَدٍ مُكَلَّفٌ بِأَنْ يَجْعَلَ بَيْتَهُ قِبْلَةً.