الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَرُؤْيَةُ الْعَذَابِ، كِنَايَةٌ عَنْ حُلُولِهِ بِهِمْ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا حِين لَا يَنْفَعُهُمُ الْإِيمَانُ، لِأَنَّ نُزُولَ الْعَذَابِ هُوَ ابْتِدَاءُ مُجَازَاتِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَلَيْسَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْمُجَازَاةِ عَفْوٌ.
وَمِنْ بَرَكَةِ هَذَا الدِّينِ أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ قَدْ هَدَاهُمُ اللَّهُ قَبْلَ أَنْ يُنْزِلَ بهم عذَابا.
[98]
[سُورَة يُونُس (10) : آيَة 98]
فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98)
الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ التَّغْلِيطِ عَلَى امْتِنَاعِ أَهْلِ الْقُرَى مِنَ الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمُ الْعَذَابُ عَلَى الْإِخْبَارِ بِأَنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ اللَّهِ أَنْ لَا يُؤْمِنُوا لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ فَإِنَّ أَهْلَ الْقُرَى مِنْ جُمْلَةِ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمُ الْكَلِمَةُ بِأَنْ لَا يُؤْمِنُوا. وَالْغَرَضُ مَنْ ذِكْرِ أَهْلِ الْقُرَى التَّعْرِيضُ بِالْمَقْصُودِ، وَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ قَرْيَةٍ فَكَانَ ذَلِكَ كَالتَّخَلُّصِ بِالتَّعْرِيضِ إِلَى الْمَخْصُوصِينَ بِهِ، وَلِلْإِفْضَاءِ بِهِ إِلَى ذِكْرِ قَوْمِ يُونُسَ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ قَرْيَةٍ.
وَ (لَوْلَا) حَرْفٌ يَرِدُ لَمَعَانٍ مِنْهَا التَّوْبِيخُ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ التَّوْبِيخِ كِنَايَةً عَنِ التَّغْلِيطِ، لِأَنَّ أَهْلَ الْقُرَى قَدِ انْقَضَوْا، وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ مَعْنَى (لَوْلَا) التَّحْضِيضُ، وَهُوَ طَلَبُ الْفِعْلِ بِحَثٍّ، فَإِذَا دَخَلَتْ عَلَى فِعْلٍ قَدْ فَاتَ وُقُوعُهُ كَانَتْ مُسْتَعْمَلَةً فِي التَّغْلِيطِ وَالتَّنْدِيمِ وَالتَّوْبِيخِ عَلَى تَفْوِيتِهِ، وَيَكُونُ مَا بَعْدَهَا فِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ فِعْلَ مُضِيٍّ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا [النُّور: 16] . وَإِذَا تَوَجَّهَ الْكَلَامُ الَّذِي فِيهِ (لَوْلَا) إِلَى غَيْرِ صَاحِبِ الْفِعْلِ الَّذِي دَخَلَتْ عَلَيْهِ كَانَتْ مُسْتَعْمَلَةً فِي التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُ، كَقَوْلِه: لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ [النُّور: 13]
وَقَوْلُهُ: فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا [الْأَنْعَام: 43] وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْرَحُ فِي ذَلِكَ لِوُجُودِ (كَانَ) الدَّالَّةِ عَلَى الْمُضِيِّ وَالِانْقِضَاءِ. وَالْمَقْصُودُ: التَّعْرِيضُ بِأَنَّ مُشْرِكِي أَهْلِ مَكَّةَ يُوشِكُ أَنْ يَكُونُوا عَلَى سُنَنِ أَهْلِ الْقُرَى. قَالَ تَعَالَى: مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ [الْأَنْبِيَاء: 6]، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ اسْتِعْمَالًا وَمَعْنًى قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ [هود: 116] ، وَذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِتَحْرِيضِ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى الْإِيمَانِ قَبْلَ نُزُولِ الْعَذَابِ.
وَالْمُسْتَخْلَصُ مِنَ الرِّوَايَاتِ الْوَارِدَةِ فِي قَوْمِ يُونُسَ أَنَّهُمْ بَادَرُوا إِلَى الْإِيمَانِ بَعْدَ أَنْ فَارَقَهُمْ يُونُسُ، تَوَقُّعًا لِنُزُولِ الْعَذَابِ، وَقَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمُ الْعَذَابُ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُعَامَلَةَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ لَيْسَتْ مُخَالَفَةً لِمَا عَامَلَ بِهِ غَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى، وَأَنْ لَيْسَتْ لِقَوْمِ يُونُسَ خُصُوصِيَّةً، وَبِذَلِكَ لَا يكون استثنائهم اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا.
وَإِذْ كَانَ الْكَلَامُ تَغْلِيطًا لِأَهْلِ الْقُرَى الْمُعْرِضِينَ عَنْ دَعْوَةِ الرُّسُلِ، وَتَعْرِيضًا بِالتَّحْذِيرِ مِمَّا وَقَعُوا فِيهِ. كَانَ الْكَلَامُ إِثْبَاتًا صَرِيحًا وَوُقُوعُ قَرْيَةٌ وَهُوَ نَكِرَةٌ فِي مَسَاقِ الْإِثْبَاتِ أَفَادَ الْعُمُومَ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ مِثْلَ قَوْلِ الْحَرِيرِيِّ:«يَا أَهْلَ ذَا الْمَغْنَى وُقِيتُمْ ضُرًّا» أَيْ كُلَّ ضُرٍّ لَا ضُرًّا مُعَيَّنًا، وَبِقَرِينَةِ الِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّهُ مِعْيَارُ الْعُمُومِ، وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ كَلَامٍ مُوجَبٍ فَلِذَلِكَ انْتَصَبَ قَوْلُهُ: إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ فَهَذَا وَجْهُ تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَجَرَى عَلَيْهِ كَلَامُ الْعُكْبَرِيِّ فِي «إِعْرَابِ الْقُرْآنِ» ، وَالْكَوَاشِيِّ فِي «التَّخْلِيصِ» وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ جَعَلُوا جُمْلَةَ: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فِي قُوَّةِ الْمَنْفِيَّةِ، وَجَعَلُوا الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعًا مَنْصُوبًا وَلَا دَاعِيَ إِلَى ذَلِكَ.
وَجُمْلَةُ: لَمَّا آمَنُوا مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَفْصِيلِ مُجْمَلِ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ. وَفِي الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يُعَامِلُهُمُ اللَّهُ مُعَامَلَةَ قَوْمِ يُونُسَ إِذْ آمَنُوا عِنْدَ رُؤْيَةِ الْعَذَابِ. وَذَلِكَ حَالهم عِنْد مَا تَسَامَعُوا بِقُدُومِ جَيْشِ غَزْوَةِ الْفَتْحِ الَّذِي لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهِ عِدَّةً وَعُدَّةً، فَيَكَادُ يَحِلُّ بِهِمْ عَذَابُ
اسْتِئْصَالٍ لَوْلَا أَنَّهُمْ عَجَّلُوا بِالْإِيمَانِ يَوْمَ الْفَتْحِ.
فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم: «أَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ»
.
وَقَوْمُ يُونُسَ هُمْ أَهْلُ قَرْيَةِ نَيْنَوَى (1) مِنْ بِلَادِ الْعِرَاقِ. وَهُمْ خَلِيطٌ مِنَ الْآشُورِيِّينَ وَالْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا فِي أُسَرِ مُلُوكِ بَابِلَ بَعْدَ بُخْتُنَصَّرَ. وَكَانَتْ بِعْثَةُ يُونُسَ إِلَيْهِمْ فِي أول الْقرى الثَّامِنِ قَبْلَ الْمَسِيحِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ يُونُسَ وَتَرْجَمَتُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
وَلَمَّا كَذَّبَهُ أَهْلُ نَيْنَوَى تَوَعَّدَهُمْ بِخَسْفِ مَدِينَتِهِمْ بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَخَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ غَاضِبًا عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا خَرَجَ خَافُوا نُزُولَ الْعَذَابِ بِهِمْ فَتَابُوا وَآمَنُوا بِاللَّهِ فَقَبِلَ اللَّهُ إِيمَانَهُمْ وَلَمْ يُعَذِّبْهُمْ. وَالْمَذْكُورُ أَنَّهُمْ رَأَوْا غَيْمًا أَسْوَدَ بَعْدَ مُضِيِّ خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا مِنْ حِينِ تَوَعَّدَهُمْ يُونُسُ- عليه السلام بِحُلُولِ الْعَذَابِ فَعَلِمُوا أَنَّهُ مُقَدِّمَةُ الْعَذَابِ فَآمَنُوا وَخَضَعُوا لِلَّهِ تَعَالَى فَأَمْسَكَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ. وَسَيَجِيءُ ذِكْرُ مَا حَلَّ بِيُونُسَ- عليه السلام فِي خُرُوجِهِ ذَلِكَ مِنِ ابْتِلَاعِ الْحُوتِ إِيَّاهُ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ.
وَالْكَشْفُ: إِزَالَةُ مَا هُوَ سَاتِرٌ لِشَيْءٍ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الرَّفْعِ. وَالْمُرَادُ: تَقْدِيرُ الرَّفْعِ وَإِبْطَالُ الْعَذَابِ قَبْلَ وُقُوعِهِ فَعُبِّرَ عَنْهُ بِالْكَشْفِ تَنْزِيلًا لِمُقَارَبَةِ الْوُقُوعِ مَنْزِلَةَ الْوُقُوعِ.
وَالْخِزْيُ: الْإِهَانَةُ وَالذُّلُّ. وَإِضَافَةُ الْعَذَابِ إِلَى الْخِزْيِ يَجُوزُ كَوْنُهَا بَيَانِيَّةً لِأَنَّ الْعَذَابَ كُلَّهُ خِزْيٌ، إِذْ هُوَ حَالَةٌ مِنَ الْهَلَاكِ غَيْرُ مُعْتَادَةٍ فَإِذَا قَدَّرَهَا اللَّهُ لِقَوْمٍ فَقَدْ أَرَادَ إِذْلَالَهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تكون الْإِضَافَة حَقِيقَة لِلتَّخْصِيصِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الْخِزْيِ الْحَالَةُ الْمُتَصَوَّرَةُ مِنْ حُلُولِهِ. وَهِيَ شَنَاعَةُ الْحَالَةِ لِمَنْ يُشَاهِدُهُمْ مِثْلُ الْخَسْفِ وَالْحَرْقِ وَالْغَرَقِ، وَأَشْنَعُ الْخِزْيِ مَا كَانَ بِأَيْدِي أُنَاسٍ مِثْلِهِمْ، وَهُوَ عَذَابُ السَّيْفِ الَّذِي حَلَّ بِصَنَادِيدِ قُرَيْشٍ يَوْمَ بَدْرٍ، وَالَّذِي كَادَ أَنْ يَحِلَّ بِجَمِيعِ قُرَيْشٍ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَنَجَّاهُمُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا نَجَّى قَوْمَ يُونُسَ.
(1) بِفَتْح النونين بَينهمَا يَاء تحتية سَاكِنة وَبعد النُّون الثَّانِيَة وَاو مَفْتُوحَة بعْدهَا ألف، هِيَ إِحْدَى مدن بِلَاد أشور من الْعرَاق كائنة على الضفة الْيُسْرَى من الدجلة بناها الْملك أشور سنة 2229 قبل الميلاد وَكَانَت مصطافا لملوك أشور من عهد شلمناصر الأول.
وَ (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) صِفَةٌ لِـ عَذابَ الْخِزْيِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي يَحِلُّ بِالْأُمَمِ الْكَافِرَةِ هُوَ عُقَابٌ فِي الدُّنْيَا وَبَعْدَهُ عِقَابٌ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّ الْأُمَمَ الَّتِي لَمْ تُعَذَّبْ فِي الدُّنْيَا قَدِ ادُّخِرَ لَهَا عَذَابُ الْآخِرَةِ.
وَالتَّمْتِيعُ: الْإِمْهَالُ.
وَإِبْهَامُ حِينٍ لِأَنَّهُ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ آجَالِ آحَادِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِهِ التَّمْتِيعُ بِالْحَيَاةِ لَا بِكَشْفِ الْعَذَابِ، لِأَنَّهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ نَاجُونَ مِنَ الْعَذَابِ إِذْ كَانُوا قَدْ آمَنُوا وَأَخْلَصُوا.
وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي نَجَاةِ قَوْمِ يُونُسَ تَتَمَثَّلُ فِي أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّ تَكْذِيبَهُمْ يُونُسَ- عليه السلام فِي ابْتِدَاءِ دَعْوَتِهِ لَمْ يَكُنْ نَاشِئًا عَنْ تَصْمِيمٍ عَلَى الْكُفْرِ وَاسْتِخْفَافٍ بِعَظَمَةِ اللَّهِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ شَكًّا فِي صِدْقِ يُونُسَ- عليه السلام. وَلَعَلَّ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى بَقِيَّةٍ مِنْ شَرِيعَةِ مُوسَى- عليه السلام وَإِنَّمَا حَرَّفُوا وَحَادُوا عَنْ طَرِيقِ الْإِيمَانِ مِمَّا يَعْلَمُهُ اللَّهُ، فَإِنَّ فِي نَيْنَوَى كَثِيرًا مِنْ أَسْرَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ كَانُوا فِي أَسْرِ الْآشُورِيِّينَ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا، فَلَمَّا أَوْعَدَهُمْ يُونُسُ- عليه السلام بِالْعَذَابِ بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَرَأَوْا أَمَارَاتِهِ بَعْدَ خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا اهْتَدَوْا وَآمَنُوا إِيمَانًا خَالِصًا.
وَثَانِيهُمَا: أَنَّ يُونُسَ- عليه السلام لَمَّا صَدَرَتْ مِنْهُ فَلْتَةُ الْمُغَاضَبَةِ كَانَ قَدْ خَلَطَ فِي دَعْوَتِهِ شَيْئًا مِنْ حَظِّ النَّفْسِ وَإِنْ كَانَ لِفَائِدَةِ الدِّينِ، فَقَدَّرَ اللَّهُ إِيمَانَ قَوْمِهِ لِعِلْمِهِ كَمَالَ الْإِيمَانِ وَالصَّبْرِ وَالتَّسْلِيمِ لِلَّهِ، وَهَذَا عَتَّابٌ وَتَأْدِيبٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَلِذَلِكَ حَذَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْأُمَّةَ مِنْ تَوَهُّمِ أَنَّ مَا جَرَى لِيُونُسَ- عليه السلام مِنَ الْمُغَاضَبَةِ وَالْمُعَاقَبَةِ يُنْقِصُ مِنْ قَدْرِهِ
فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى»
يَعْنِي فِي صِحَّةِ الرِّسَالَةِ لَا فِي التَّفَاضُلِ فِيهَا.
وَقَدْ كَانَ حَالُ أَهْلِ مَكَّةَ كَحَالِ قَوْمِ يُونُسَ إِذْ بَادَرُوا إِلَى الْإِيمَانِ بِمُجَرَّدِ دُخُولِ جَيْشِ الْفَتْحِ مَكَّةَ وَقَبْلَ أَنْ يَقَعُوا فِي قَبْضَةِ الْأَسْرِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ