الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالظَّنُّ: هُنَا اسْمٌ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ لَمْ يُقْصَدْ تَعْلِيقُهُ بِمَظْنُونٍ مُعَيَّنٍ، أَيْ شَأْنُهُمُ اتِّبَاعُ الظُّنُونِ. وَالْمُرَادُ بِالظَّنِّ هُنَا الْعِلْمُ الْمُخْطِئُ.
وَقَدْ بَيَّنَتِ الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَهَا أَنَّ ظَنَّهُمْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ.
وَالْخَرْصُ: الْقَوْلُ بِالْحَزْرِ وَالتَّخْمِينِ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [116] وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ.
[67]
[سُورَة يُونُس (10) : آيَة 67]
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)
جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [يُونُس: 66] وَجُمْلَةِ: قالُوا اتَّخَذَ
اللَّهُ وَلَداً
[يُونُس: 68] جَاءَتْ مَجِيءَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى فَسَادِ ظَنِّهِمْ وَخَرْصِهِمْ بِشَوَاهِدِ خَلْقِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ الْمُشَاهَدِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنَ الْعُمْرِ مَرَّتَيْنِ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ عَنْ دَلَالَتِهِ، وَهُوَ خَلْقُ نِظَامِ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ.
وَكَيْفَ كَانَ النَّهَارُ وَقْتًا يَنْتَشِرُ فِيهِ النُّورُ فَيُنَاسِبُ الْمُشَاهَدَةَ لِاحْتِيَاجِ النَّاسِ فِي حَرَكَاتِ أَعْمَالِهِمْ إِلَى إِحْسَاسِ الْبَصَرِ الَّذِي بِهِ تَتَبَيَّنُ ذَوَاتُ الْأَشْيَاءِ وَأَحْوَالُهَا لِتَنَاوُلِ، الصَّالِحِ مِنْهَا فِي الْعَمَلِ وَنَبْذِ غَيْرِ الصَّالِحِ لِلْعَمَلِ.
وَكَيْفَ كَانَ اللَّيْلُ وَقْتًا تَغْشَاهُ الظُّلْمَةُ فَكَانَ مُنَاسِبًا لِلسُّكُونِ لِاحْتِيَاجِ النَّاسِ فِيهِ إِلَى الرَّاحَةِ مِنْ تَعَبِ الْأَعْمَالِ الَّتِي كَدَحُوا لَهَا فِي النَّهَار. فاكانت الظُّلْمَةُ بَاعِثَةً النَّاسَ عَلَى الرَّاحَةِ وَمُحَدِّدَةً لَهُمْ إِبَّانَهَا بِحَيْثُ يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْفَطِنُ وَالْغَافِلُ.
وَلَمَّا قَابَلَ السُّكُونَ فِي جَانِبِ اللَّيْلِ بِالْإِبْصَارِ فِي جَانِبِ النَّهَارِ، وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ ضِدَّانِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ السُّكُونِ عَدَمُ الْإِبْصَارِ، وَأَنَّ الْإِبْصَارَ يَقْتَضِي الْحَرَكَةَ فَكَانَ فِي الْكَلَامِ احْتِبَاكٌ.
وَوَصْفُ النَّهَارِ بِمُبْصِرٍ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ فِي حُصُولِ الْإِبْصَارِ فِيهِ حَتَّى جَعَلَ النَّهَارَ هُوَ الْمُبْصِرَ. وَالْمُرَادُ: مُبْصِرًا فِيهِ النَّاسُ.
وَمِنْ لَطَائِفِ الْمُنَاسَبَةِ أَنَّ النُّورَ الَّذِي هُوَ كَيْفِيَّةُ زَمَنِ النَّهَارِ، شَيْءٌ وُجُودِيٌّ، فَكَانَ زَمَانُهُ حَقِيقًا بِأَنْ يُوصَفَ بِأَوْصَافِ الْعُقَلَاءِ، بِخِلَافِ اللَّيْلِ فَإِنَّ ظُلْمَتَهُ عَدَمِيَّةٌ فَاقْتَصَرَ فِي الْعِبْرَةِ بِهِ عَلَى ذِكْرِ الْفَائِدَةِ الْحَاصِلَةِ فِيهِ وَهِيَ أَنْ يَسْكُنُوا فِيهِ.
وَفِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ الْقَصْرِ وَهُوَ تَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ. وَهُوَ هُنَا قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ وَلَيْسَ إِضَافِيًّا كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ الْكَاتِبِينَ إِذْ جَعَلَهُ قَصْرَ تَعْيِينٍ، وَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ دَفْعَ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ، فَالْمَقْصُودُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِخَصَائِصِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي مِنْهَا الْخَلْقُ وَالتَّقْدِيرُ، وَأَنَّ آلِهَتَهُمُ انْتَفَتْ عَنْهَا خَصَائِصُ الْإِلَهِيَّةِ، وَقَدْ حَصَلَ مَعَ الِاسْتِدْلَالِ امْتِنَانٌ عَلَى النَّاسِ بِجَعْلِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عَلَى هَذَا النِّظَامِ.
وَهَذَا الِامْتِنَانُ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ: جَعَلَ لَكُمُ وَمِنْ تَعْلِيلِ خَلْقِ اللَّيْلِ بِعِلَّةِ سُكُونِ النَّاسِ فِيهِ، وَخَلْقِ النَّهَارِ بِعِلَّةِ إِبْصَارِ النَّاسِ، وَكُلُّ النَّاسِ يَعْلَمُونَ مَا فِي سُكُونِ اللَّيْلِ مِنْ نِعْمَةٍ وَمَا فِي إِبْصَارِهِمْ بِالنَّهَارِ مِنْ نِعْمَةٍ كَذَلِكَ، فَإِنَّ فِي الْعَمَلِ بِالنَّهَارِ نِعَمًا جَمَّةً مِنْ تَحْصِيلِ رَغَبَاتٍ، وَمُشَاهَدَةِ مَحْبُوبَاتٍ، وَتَحْصِيلِ أَمْوَالٍ وَأَقْوَاتٍ، وَأَنَّ فِي السُّكُونِ بِاللَّيْلِ نِعَمًا جَمَّةً مِنِ
اسْتِجْمَامِ الْقُوَى الْمَنْهُوكَةِ وَالْإِخْلَادِ إِلَى مُحَادَثَةِ الْأَهْلِ وَالْأَوْلَادِ، عَلَى أَنَّ فِي اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، مَا يَدْفَعُ عَنِ الْمَرْءِ الْمَلَالَ.
وَفِي إِدْمَاجِ الِاسْتِدْلَالِ بِالِامْتِنَانِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الَّذِينَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ جَمَعُوا وَصْمَتَيْنِ هُمَا: وَصْمَةُ مُخَالَفَةِ الْحَقِّ، وَوَصْمَةُ كُفْرَانِ النِّعْمَةِ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ مُسْتَأْنَفَةٌ. وَالْآيَاتُ: الدَّلَائِلُ الدَّالَّةُ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ، فَإِنَّ النِّظَامَ الَّذِي نَشَأَ عَنْهُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ مُشْتَمِلٌ عَلَى دَقَائِقَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْقُدْرَةِ وَإِتْقَانِ الصُّنْعِ.
فَمِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ: خَلْقُ الشَّمْسِ، وَخَلْقُ الْأَرْضِ، وَخَلْقُ النُّورِ فِي الشَّمْسِ، وَخَلْقُ الظُّلْمَةِ فِي الْأَرْضِ، وَوُصُولُ شُعَاعِ الشَّمْسِ إِلَى الْأَرْضِ، وَدَوَرَانُ الْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ بِحَيْثُ يَكُونُ نِصْفُ كُرَتِهَا مُوَاجِهًا لِلشُّعَاعِ وَنِصْفُهَا الْآخَرُ مَحْجُوبًا عَنِ الشُّعَاعِ، وَخَلْقُ الْإِنْسَانِ وَجَعْلُ نِظَامِ مِزَاجِهِ الْعَصَبِيِّ مُتَأَثِّرًا بِالشُّعَاعِ نَشَاطًا، وَبِالظُّلْمَةِ فُتُورًا، وَخَلْقُ حَاسَّةِ الْبَصَرِ، وَجَعْلُهَا مُقْتَرِنَةً بِتَأَثُّرِ الضَّوْءِ وَجَعْلُ نِظَامِ الْعَمَلِ مُرْتَبِطًا بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ وَخَلْقُ نِظَامِ الْمِزَاجِ الْإِنْسَانِيِّ مُشْتَمِلًا عَلَى قُوَى قَابِلَةٍ لِلْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ ثُمَّ مَدْفُوعًا إِلَى اسْتِعْمَالِ قُوَاهُ بِقَصْدٍ وَبِغَيْرِ قَصْدٍ بِسَبَبِ نَشَاطِهِ الْعَصَبِيِّ، ثُمَّ فَاقِدًا بِالْعَمَلِ نَصِيبًا مِنْ قُوَاهُ مُحْتَاجًا إِلَى الِاعْتِيَاضِ بِقُوَى تَخَلُّفِهَا بِالسُّكُونِ وَالْفُتُورِ الَّذِي يُلْجِئُهُ إِلَى تَطَلُّبِ الرَّاحَةِ. وَأَيَّةُ آيَاتٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ، وَأَيَّةُ مِنَّةٍ عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْظَمُ من إِيدَاع الله فِيهِ دَوَاعِيَ تَسُوقُهُ إِلَى صَلَاحِهِ وَصَلَاحِ نَوْعِهِ بِدَاعٍ مِنْ نَفسه.
وَوصف لِقَوْمٍ بِأَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلَ تَنْهَضُ دَلَالَتُهَا لِلْعُقُولِ بِالتَّأَمُّلِ فِيهَا، وَأَنَّ تَوَجُّهَ التَّفْكِيرِ إِلَى دَلَائِلِهَا غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَّا إِلَى التَّنْبِيهِ عَلَيْهَا وَلَفْتِهِ إِلَيْهَا، فَلَمَّا كَانَ سَمَاعُ تَذْكِيرِ اللَّهِ بِهَا هُوَ الْأَصْلُ الْأَصِيلُ فِي اسْتِخْرَاجِ دَلَالَتِهَا وتفريع مَدْلُولَاتِهَا عَلَى تَفَاوُتِ الْأَذْهَانِ فِي الْفِطْنَةِ وَتَرْتِيبِ الْأَدِلَّةِ جَعَلَ آيَاتِ دَلَالَتِهَا حَاصِلَةً لِلَّذِينَ يَسْمَعُونَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ يَسْمَعُونَ تَفَاصِيلَ تِلْكَ الدَّلَائِلِ فِي تَضَاعِيفِ سُوَرِ الْقُرْآنِ، وَعَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ فَالْوَصْفُ بِالسَّمْعِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَهْتَدُوا بِهَا وَلَا تَفَطَّنُوا لِدَلَالَتِهَا بِمَنْزِلَةِ الصُّمِّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ [الزخرف: 40] .