الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لَقُوهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَالنَّفَقَةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تَكُونُ إِلَّا عَنْ قَصْدٍ يَتَذَكَّرُ بِهِ الْمُنْفِقُ أَنَّهُ يَسْعَى إِلَى مَا هُوَ وَسِيلَةٌ لِنَصْرِ الدِّينِ، وَالنَّفَقَةُ الْكَبِيرَةُ أُدْخِلَ فِي الْقَصْدِ، فَلذَلِك نبه عَلَيْهَا وَعَلَى النَّفَقَةِ الصَّغِيرَةِ لِيُعْلَمَ بِذَكَرِ الْكَبِيرَةِ حُكْمُ النَّفَقَةِ الصَّغِيرَةِ لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْكَبِيرَةِ أَظْهَرُ وَكَانَ هَذَا الْإِطْنَابُ فِي عَدِّ مَنَاقِبِهِمْ فِي الْغَزْوِ لِتَصْوِيرِ مَا بَذَلُوهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وَقَطْعُ الْوَادِي: هُوَ اجْتِيَازُهُ. وَحَقِيقَةُ الْقَطْعِ: تَفْرِيقُ أَجْزَاءِ الْجِسْمِ. وَأُطْلِقَ عَلَى الِاجْتِيَازِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ.
وَالْوَادِي: الْمُنْفَرَجُ يَكُونُ بَيْنَ جِبَالٍ أَوْ إِكَامٍ فَيَكُونُ مَنْفَذًا لِسُيُولِ الْمِيَاهِ، وَلِذَلِكَ اشْتُقَّ مِنْ وَدَى بِمَعْنَى سَالَ. وَقَطْعُ الْوَادِي أَثْنَاءَ السَّيْرِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَذَكَّرَ السَّائِرُونَ بِسَبَبِهِ أَنَّهُمْ سَائِرُونَ إِلَى غَرَضٍ مَا لِأَنَّهُ يُجَدِّدُ حَالَةً فِي السَّيْرِ لَمْ تَكُنْ مِنْ قَبْلُ. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ نُدِبَ الْحَجِيجُ إِلَى تَجْدِيد التَّلْبِيَة عِنْد مَا يَصْعَدُونَ شَرَفًا أَوْ يَنْزِلُونَ وَادِيًا أَوْ يُلَاقُونَ رِفَاقًا.
وَالضَّمِيرُ فِي كُتِبَ عَائِدٌ إِلَى عَمَلٌ صالِحٌ [التَّوْبَة: 120] . وَلَامُ التَّعْلِيلِ مُتَعَلِّقَةٌ بِ (كُتِبَ) ، أَيْ كَتَبَ اللَّهُ لَهُمْ صَالِحًا لِيَجْزِيَهُمْ عَنْ أَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ.
وَلَمَّا كَانَ هَذَا جَزَاءً عَنْ عَمَلِهِمُ الْمَذْكُورِ عُلِمَ أَنَّ عَمَلَهُمْ هَذَا مِنْ أَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ.
وَانْتَصَبَ أَحْسَنَ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ عَنْ أَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أَوْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [النُّور:
38] وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنا [الْقَصَص: 25] فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْقَبِيلِ
وَأَنَّ (أَجْرَ) مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ.
وَفِي ذِكْرِ كانُوا وَالْإِتْيَانِ بِخَبَرِهَا مُضَارِعًا إِفَادَةُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْعَمَلِ كَانَ ديدنهم.
[122]
[سُورَة التَّوْبَة (9) : آيَة 122]
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
كَانَ غَالِبُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ تَحْرِيضًا عَلَى الْجِهَادِ وَتَنْدِيدًا عَلَى الْمُقَصِّرِينَ فِي شَأْنِهِ، وَانْتَهَى الْكَلَامُ قَبْلَ هَذَا بِتَبْرِئَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالَّذِينَ حَوْلَهُمْ مِنَ التَّخَلُّفِ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَا جَرَمَ كَانَتْ قُوَّةُ الْكَلَامِ مُؤْذِنَةً بِوُجُوبِ تَمَحُّضِ الْمُسْلِمِينَ لِلْغَزْوِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ مِنْ مَقَاصِدِ الْإِسْلَامِ بَثُّ عُلُومِهِ وَآدَابِهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ وَتَكْوِينُ جَمَاعَاتٍ قَائِمَةٍ بِعِلْمِ الدِّينِ وَتَثْقِيفِ أَذْهَانِ الْمُسْلِمِينَ كَيْ تَصْلُحَ سِيَاسَةُ الْأُمَّةِ عَلَى مَا قَصَدَهُ الدِّينُ مِنْهَا، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ عَقُبَ التَّحْرِيضُ عَلَى الْجِهَادِ بِمَا يُبَيِّنُ أَنْ لَيْسَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ تَمَحُّضُ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ لِأَنْ يَكُونُوا غُزَاةً أَوْ جُنْدًا، وَأَنْ لَيْسَ حَظُّ الْقَائِمِ بِوَاجِبِ التَّعْلِيمِ دُونَ حَظِّ الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ كِلَيْهِمَا يَقُومُ بِعَمَلٍ لِتَأْيِيدِ الدِّينِ، فَهَذَا يُؤَيِّدُهُ بِتَوَسُّعِ سُلْطَانِهِ وَتَكْثِيرِ أَتْبَاعِهِ، وَالْآخَرُ يُؤَيِّدُهُ بِتَثْبِيتِ ذَلِكَ السُّلْطَانِ وَإِعْدَادِهِ لِأَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ مَا يَضْمَنُ انْتِظَامَ أَمْرِهِ وَطُولَ دَوَامِهِ، فَإِنَّ اتِّسَاعَ الْفُتُوحِ وَبَسَالَةَ الْأُمَّةِ لَا يَكْفِيَانِ لِاسْتِبْقَاءِ سُلْطَانِهَا إِذَا هِيَ خَلَتْ مِنْ جَمَاعَةٍ صَالِحَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالسَّاسَةِ وَأُولِي الرَّأْيِ الْمُهْتَمِّينَ بِتَدْبِيرِ ذَلِكَ السُّلْطَانِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ مُلْكُ اللَّمْتُونِيِّينَ فِي الْأَنْدَلُسِ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى تَقَلَّصَ، وَلَمْ تَثْبُتْ دَوْلَةُ التَّتَارِ إِلَّا بَعْدَ أَنِ امْتَزَجُوا بِعُلَمَاءِ الْمُدُنِ الَّتِي فَتَحُوهَا وَوَكَلُوا أَمْرَ الدَّوْلَةِ إِلَيْهِمْ.
وَإِذْ قَدْ كَانَتِ الْآيَةُ السَّابِقَةُ قَدْ حَرَّضَتْ فَرِيقًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الِالْتِفَافِ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْغَزْوِ لِمَصْلَحَةِ نَشْرِ الْإِسْلَامِ نَاسَبَ أَنْ يُذْكَرَ عَقِبَهَا نَفْرُ فَرِيقٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ لِيَكُونُوا مُرْشِدِينَ لِأَقْوَامِهِمُ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ.
وَمِنْ مَحَاسِنَ هَذَا الْبَيَانِ أَنْ قَابَلَ صِيغَةَ التَّحْرِيضِ عَلَى الْغَزْوِ بِمِثْلِهَا فِي التَّحْرِيضِ عَلَى الْعِلْمِ إِذِ افْتُتِحَتْ صِيغَةُ تَحْرِيضِ الْغَزْوِ بِلَامِ الْجُحُودِ فِي قَوْلِهِ: مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ [التَّوْبَة: 120] الْآيَةَ وَافْتُتِحَتْ صِيغَةُ التَّحْرِيضِ عَلَى الْعِلْمِ وَالتَّفَقُّهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ إِذْ يَقُولُ: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً.
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَجْمُوعِ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهَا فَهِيَ جُمْلَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لغَرَض جَدِيد ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا [التَّوْبَة: 38] ثُمَّ عَنْ قَوْلِهِ: مَا
كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا
[التَّوْبَة: 120] إِلَخْ. وَمَعْنَى أَنْ يَتَخَلَّفُوا هُوَ أَنْ لَا يَنْفِرُوا، فَنَاسَبَ أَنْ يُذْكَرَ بَعْدَهُ وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً.
وَالْمُرَادُ بِالنَّفِيرِ فِي قَوْلِهِ: لِيَنْفِرُوا وَقَوْلِهِ: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ الْخُرُوجُ إِلَى الْغَزْوِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [التَّوْبَة: 38] أَيْ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا ذَلِكَ النَّفْرَ كُلُّهُمْ.
فَضَمِيرُ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى قَوْلِهِ: الْمُؤْمِنُونَ، أَيْ لِيَتَفَقَّهَ الْمُؤْمِنُونَ. وَالْمُرَادُ لِيَتَفَقَّهَ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ وَهِيَ الطَّائِفَةُ الَّتِي لَمْ تَنْفِرْ، كَمَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ، فَهُوَ عَامٌّ مُرَادٌ بِهِ الْخُصُوصُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ إِلَى مَفْهُومٍ مِنَ الْكَلَامِ مِنْ قَوْلِهِ: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِأَنَّ مَفْهُومَهُ وَبَقِيَتْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، فَأُعِيدَ الضَّمِيرُ عَلَى (طَائِفَةٌ) بِصِيغَةِ الْجَمْعِ نَظَرًا إِلَى مَعْنَى طَائِفَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات: 9] عَلَى تَأْوِيلِ اقْتَتَلَ جَمْعُهُمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ النَّفْرِ فِي قَوْلِهِ: لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ نَفْرًا آخَرَ غَيْرَ النَّفْرِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهُوَ النَّفْرُ لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ، وَتَكُونُ إِعَادَةُ فِعْلِ (يَنْفِرُوا) وَ (نَفَرَ) مِنَ الِاسْتِخْدَامِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ فَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ:
لِيَتَفَقَّهُوا عَائِدًا إِلَى طائِفَةٌ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ.
وَقَدْ نقل عَن أيمة الْمُفَسِّرِينَ وَأَسْبَابِ النُّزُولِ أَقْوَالٌ تَجْرِي عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ.
وَالِاعْتِمَادُ فِي مَرَاجِعِ الضَّمَائِرِ عَلَى قَرَائِنِ الْكَلَامِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي الْإِيجَازِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَى فِطْنَةِ السَّامِعِ فَإِنَّهُمْ أُمَّةٌ فَطِنَةٌ.
وَالْإِتْيَانُ بِصِيغَةِ لَامِ الْجَحُودِ تَأْكِيدٌ لِلنَّفْيِ، وَهُوَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي النَّهْيِ فَتَأْكِيدُهُ يُفِيدُ تَأْكِيدَ النَّهْيِ، أَيْ كَوْنُهُ نَهْيًا جَازِمًا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ. وَذَلِكَ أَنَّهُ كَمَا كَانَ النَّفْرُ لِلْغَزْوِ وَاجِبًا لِأَنَّ فِي تَرْكِهِ إِضَاعَةَ مَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ كَذَلِكَ كَانَ تَرْكُهُ مِنْ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَاجِبًا لِأَنَّ فِي تَمَحُّضِ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ لِلْغَزْوِ إِضَاعَةَ مَصْلَحَةٍ لِلْأُمَّةِ أَيْضًا، فَأَفَادَ مَجْمُوعُ الْكَلَامَيْنِ أَنَّ النَّفْرَ لِلْغَزْوِ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ أَيْ عَلَى طَائِفَةٍ كَافِيَةٍ لِتَحْصِيلِ الْمَقْصِدِ الشَّرْعِيِّ مِنْهُ،
وَأَنَّ تَرْكَهُ مُتَعَيَّنٌ عَلَى طَائِفَةٍ كَافِيَةٍ مِنْهُمْ لِتَحْصِيلِ الْمَقْصِدِ الشَّرْعِيِّ مِمَّا أُمِرُوا بِالِاشْتِغَالِ بِهِ مِنَ الْعِلْمِ
فِي وَقْتِ اشْتِغَالِ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى بِالْغَزْوِ. وَهَذَا تَقْيِيدٌ لِلْإِطْلَاقِ الَّذِي فِي فِعْلِ (انْفِرُوا) ، أَوْ تَخْصِيصٌ لِلْعُمُومِ الَّذِي فِي ضَمِيرِ (انْفِرُوا) .
وَلِذَلِكَ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلًا فِي وُجُوبِ طَلَبِ الْعِلْمِ عَلَى طَائِفَةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وُجُوبًا عَلَى الْكِفَايَةِ، أَيْ عَلَى الْمِقْدَارِ الْكَافِي لِتَحْصِيلِ الْمَقْصِدِ مِنْ ذَلِكَ الْإِيجَابِ. وَأَشْعَرَ نَفْيُ وُجُوبِ النَّفْرِ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَإِثْبَاتُ إِيجَابِهِ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ بِأَنَّ الَّذِينَ يَجِبُ عَلَيْهِمُ النَّفْرُ لَيْسُوا بِأَوْفَرَ عَدَدًا مِنَ الَّذِينَ يَبْقَوْنَ لِلتَّفَقُّهِ وَالْإِنْذَارِ، وَأَنْ لَيْسَتْ إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ بِأَوْلَى مِنَ الْأُخْرَى عَلَى الْإِطْلَاقِ فَيُعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ مَنُوطٌ بِمِقْدَارِ الْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ لِلنَّفْرِ، وَأَنَّ الْبَقِيَّةَ بَاقِيَةٌ عَلَى الْأَصْلِ، فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ النَّفِيرَ إِلَى الْجِهَادِ يَكُونُ بِمِقْدَارِ مَا يَقْتَضِيهِ حَالُ الْعَدُوِّ الْمَغْزُوِّ، وَأَنَّ الَّذِينَ يَبْقَوْنَ لِلتَّفَقُّهِ يَبْقَوْنَ بِأَكْثَرِ مَا يُسْتَطَاعُ، وَأَنَّ ذَلِكَ سَوَاءٌ. وَلَا يَنْبَغِي الِاعْتِمَادُ عَلَى مَا يُخَالِفُ هَذَا التَّفْسِيرَ مِنَ الْأَقْوَالِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ وَمَوْقِعِهَا مِنَ الْآيِ السَّالِفَةِ.
وَلَوْلَا: حَرْفُ تَحْضِيضٍ.
وَالْفِرْقَةُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ تَفَرَّقُوا عَنْ غَيْرِهِمْ فِي الْمَوَاطِنِ فَالْقَبِيلَةُ فِرْقَةٌ، وَأَهْلُ الْبِلَادِ الْوَاحِدَةِ فِرْقَةٌ.
وَالطَّائِفَةُ: الْجَمَاعَةُ، وَلَا تَتَقَيَّدُ بِعَدَدٍ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [102] .
وَتَنْكِيرُ طائِفَةٌ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ النَّفْرَ لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِنْذَارِ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ. وَتَعْيِينُ مِقْدَارِ الطَّائِفَةِ وَضَبْطُ حَدِّ التَّفَقُّهِ مَوْكُولٌ إِلَى وُلَاةِ أُمُورِ الْفِرَقِ فَتَتَعَيَّنُ الطَّائِفَةُ بِتَعْيِينِهِمْ فَهُمْ أَدْرَى بِمِقْدَارِ مَا تَتَطَلَّبُهُ الْمَصْلَحَةُ الْمَنُوطُ بِهَا وُجُوبُ الْكِفَايَةِ.
وَالتَّفَقُّهُ: تَكَلُّفُ الْفَقَاهَةِ، وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ فَقِهَ (بِكَسْرِ الْقَافِ) إِذَا فُهِمَ مَا يَدِقُّ فَهْمُهُ فَهُوَ فَاقِهٌ. فَالْفِقْهُ أَخَصُّ مِنَ الْعِلْمِ، وَلِذَلِكَ نَجِدُ فِي الْقُرْآنِ اسْتِعْمَالَ الْفِقْهِ فِيمَا يَخْفَى عِلْمُهُ كَقَوْلِهِ: لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الْإِسْرَاء: 44] ، وَيَجِيءُ مِنْهُ فَقُهَ- بِضَمِّ الْقَافِ- إِذَا صَارَ الْفِقْهُ سَجِيَّتَهُ، فَقَّاهَةٌ فَهُوَ فَقِيهٌ.