الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأُطْلِقَ عَلَى تَأْجِيلِ اللَّهِ عَذَابَهُمُ اسْمُ الْمَكْرِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ لِأَنَّ هَيْئَةَ ذَلِكَ التَّأْجِيلِ فِي خَفَائِهِ عَنْهُمْ كَهَيْئَةِ فِعْلِ الْمَاكِرِ، وَحَسَّنَتْهُ الْمُشَاكَلَةُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي آيَةِ آلِ عِمْرَانَ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ اسْتِئْنَافُ خِطَابٍ لِلْمُشْرِكِينَ مُبَاشَرَةً تَهْدِيدًا مِنَ اللَّهِ، فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا لِاخْتِلَافِ الْمُخَاطَبِ. وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ لِكَوْنِ الْمُخَاطَبِينَ يَعْتَقِدُونَ خِلَافَ ذَلِكَ، إِذْ كَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يَمْكُرُونَ بِالنَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّ مَكْرَهُمْ يَتَمَشَّى عَلَيْهِ وَلَا يَشْعُرُ بِهِ فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ الْمُوَكَّلِينَ بِإِحْصَاءِ الْأَعْمَالِ يَكْتُبُونَ ذَلِكَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا أَنَّ ذَلِكَ مَحْصِيٌّ مَعْدُودٌ عَلَيْهِمْ لَا يُهْمَلُ، وَهُوَ إِنْذَارٌ بِالْعَذَابِ عَلَيْهِ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ.
وَعَبَّرَ بِالْمُضَارِعِ فِي يَكْتُبُونَ ويمكرون لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّكَرُّرِ، أَيْ تَتَكَرَّرُ كِتَابَتُهُمْ كُلَّمَا يَتَكَرَّرُ مَكْرُهُمْ، فَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: مَا تَمْكُرُونَ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ لِاخْتِلَافِ مُعَادَيِ الضَّمِيرَيْنِ.
وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ مَا تَمْكُرُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَهُ رَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ مَا يَمْكُرُونَ بِيَاءِ الْغَائِبِ، وَالضَّمِيرِ لِ النَّاسَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً. وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَالْكَلَامُ مُوَجَّهٌ لِلنَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم.
[22، 23]
[سُورَة يُونُس (10) : الْآيَات 22 الى 23]
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ هَذِهِ الْجُمْلَة بدل الشمَال مِنْ جُمْلَةِ وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً [يُونُس: 21] إِلَى آخِرِهَا لِأَنَّ الْبَغْيَ فِي الْأَرْضِ اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْمَكْرُ فِي آيَاتِ اللَّهِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ هُوَ قَوْلُهُ:
فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ وَمَا سِوَاهُ تَمْهِيدٌ وَإِدْمَاجٌ لِلِامْتِنَانِ. أَعْقَبَ التَّهْدِيدَ عَلَى كُفْرَانِ النِّعْمَةِ بِذِكْرِ بَعْضِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ثُمَّ ضَرَّاءَ تَعْقُبَ النِّعْمَةَ لِلِابْتِلَاءِ وَالتَّذْكِيرِ بِخَالِقِهِمْ، ثُمَّ كَيْفَ تُفْرَجُ عَنْهُمْ رَحْمَةً بِهِمْ فَيَكْفُرُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ كِلْتَا النِّعْمَتَيْنِ وَلَا يَتَذَكَّرُ، فَكَانَ الْمَقْصُودُ أَنَّ فِي ذَلِكَ أَعْظَمَ الْآيَاتِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ فَكَيْفَ يَقُولُونَ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [يُونُس: 20] وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ امْتِنَانٌ عَلَيْهِمْ بِالنِّعْمَةِ وَتَسْجِيلٌ لِكُفْرَانِهَا وَلِتَوَارُدِ الْآيَاتِ عَلَيْهِمْ وَلِكَيْلَا يَغْتَرُّوا بِالْإِمْهَالِ فَيَحْسَبُوهُ رِضًى بِكُفْرِهِمْ أَوْ عَجْزًا عَنْ أَخْذِهِمْ، وَهَذَا مَوْقِعٌ رَشِيقٌ جِدُّ الرَّشَاقَةِ لِهَذِهِ الْآيَةِ الْقُرْآنِيَّةِ.
وَإِسْنَادُ التَّسْيِيرِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ سَبَبُهُ لِأَنَّهُ خَالِقُ إِلْهَامِ التَّفْكِيرِ وَقُوَى الْحَرَكَةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْجَسَدِيَّةِ، فَالْإِسْنَادُ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، فَالْقَصْرُ الْمُفَادُ مِنْ جُمْلَةِ: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ. وَالْكَلَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِامْتِنَانِ وَالتَّعْرِيضِ بِإِخْلَالِهِمْ بِوَاجِبِ الشُّكْرِ.
وحَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ، وَهِيَ غَايَةٌ لِلتَّسْيِيرِ فِي الْبِحَارِ خَاصَّةً. وَإِنَّمَا كَانَتْ غَايَةً بِاعْتِبَارِ مَا عُطِفَ عَلَى مَدْخُولِهَا مِنْ قَوْلِهِ: دَعَوُا اللَّهَ- إِلَى قَوْلِهِ- بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَالْمُغَيَّا هُوَ مَا فِي قَوْلِهِ يُسَيِّرُكُمْ مِنَ الْمِنَّةِ الْمُؤْذِنَةِ بِأَنَّهُ تَسْيِيرُ رِفْقٍ مُلَائِمٍ لِلنَّاسِ، فَكَانَ مَا بَعْدَ (حَتَّى) وَمَعْطُوفَاتِهَا نِهَايَةَ ذَلِكَ الرِّفْقِ، لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ الَّتِي بَعْدَ (حَتَّى) يَنْتَهِي عِنْدَهَا السَّيْرُ الْمُنْعَمُ بِهِ وَيَدْخُلُونَ فِي حَالَةِ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَهَذَا النَّظْمُ نَسْجٌ بَدِيعٌ فِي أَفَانِينِ الْكَلَامِ.
وَمِنْ بَدِيعِ الْأُسْلُوبِ فِي الْآيَةِ أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ بِصَدَدِ ذِكْرِ النِّعْمَةِ جَاءَتْ بِضَمَائِرِ
الْخِطَابِ الصَّالِحَةِ لِجَمِيعِ السَّامِعِينَ، فَلَمَّا تَهَيَّأَتْ لِلِانْتِقَالِ إِلَى ذِكْرِ الضَّرَّاءِ وَقَعَ الِانْتِقَالُ مِنْ ضَمَائِرِ الْخِطَابِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ لِتَلْوِينِ الْأُسْلُوبِ بِمَا يُخَلِّصُهُ إِلَى الْإِفْضَاءِ إِلَى مَا يَخُصُّ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: وَجَرَيْنَ بِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ، أَيْ وَجَرَيْنَ بِكُمْ. وَهَكَذَا أُجْرِيَتِ الضَّمَائِرُ جَامِعَةً لِلْفَرِيقَيْنِ إِلَى أَنْ قَالَ: فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ شِيَمِ الْمُؤْمِنِينَ فَتَمَحَّضَ ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ هَذَا لِلْمُشْرِكِينَ، فَقَدْ أَخْرَجَ مِنَ الْخَبَرِ مَنْ عَدَا الَّذِينَ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ تَعْوِيلًا عَلَى الْقَرِينَةِ لِأَنَّ الَّذِينَ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ لَا يَشْمَلُ الْمُسْلِمِينَ.
وَهَذَا ضَرْبٌ مِنَ الِالْتِفَاتِ لَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَعَانِي وَهُوَ كَالتَّخْصِيصِ بِطَرِيقِ الرَّمْزِ.
وَقَدْ عُدَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَمْثِلَةِ الِالْتِفَاتِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ فِي ضَمَائِرِ الْغَيْبَةِ كُلِّهَا تَبَعًا «لِلْكَشَّافِ» بِنَاءً عَلَى جَعْلِ ضَمَائِرِ الْخِطَابِ لِلْمُشْرِكِينَ وَجَعْلِ ضَمَائِرِ الْغَيْبَةِ لَهُمْ أَيْضًا، وَمَا نَحَوْتُهُ أَنَا أَلْيَقُ.
وَابْتُدِئَ الْإِتْيَانُ بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ مِنْ آخِرِ ذِكْرِ النِّعْمَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ لِلتَّصْرِيحِ بِأَنَّ النِّعْمَةَ شَمِلَتْهُمْ، وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ مَجِيءَ الْعَاصِفَةِ فَجْأَةً فِي حَالِ الْفَرَحِ مُرَادٌ مِنْهُ ابْتِلَاؤُهُمْ وَتَخْوِيفُهُمْ. فَهُوَ تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ.
وَالسَّيْرُ فِي الْبَرِّ مَعْرُوفٌ لِلْعَرَبِ. وَكَذَلِكَ السَّيْرُ فِي الْبَحْرِ. كَانُوا يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ إِلَى الْيَمَنِ وَإِلَى بِلَادِ الْحَبَشَةِ. وَكَانَتْ لِقُرَيْشٍ رِحْلَةُ الشِّتَاءِ إِلَى الْيَمَنِ وَقَدْ يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ لِذَلِكَ.
وَقَدْ وَصَفَ طَرَفَةُ بْنُ الْعَبْدِ السُّفُنَ وَسَيْرَهَا، وَذَكَرَهَا عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ فِي مُعَلَّقَتِهِ، وَالنَّابِغَةُ فِي دَالِيَّتِهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُسَيِّرُكُمْ- بِتَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ مَضْمُومَةٍ فَسِينٍ مُهْمَلَةٍ بَعْدَهَا تَحْتِيَّةٌ بَعْدَهَا رَاءٌ- مِنَ السَّيْرِ، أَيْ يَجْعَلُكُمْ تَسِيرُونَ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ يَنْشُرُكُمْ بِتَحْتِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ فِي أَوَّلِهِ بَعْدَهَا نُونٌ ثُمَّ شِينٌ مُعْجَمَةٌ ثُمَّ رَاءٌ- مِنَ النَّشْرِ، وَهُوَ التَّفْرِيقُ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ [الرّوم: 20] وَقَوْلِهِ: فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ [الْجُمُعَة: 10] .
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ عَوْفِ بْنِ أَبِي جَمِيلَةَ وَأَبِي الزَّغَلِ: كَانُوا (أَيْ أهل الْكُوفَة) يقرأون يَنْشُرُكُمْ فَنَظَرُوا فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَوَجَدُوهَا يُسَيِّرُكُمْ (أَيْ بِتَحْتِيَّةٍ فَسِينٍ مُهْمَلَةٍ فَتَحْتِيَّةٍ) فَأَوَّلُ مَنْ كَتَبَهَا كَذَلِكَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ، أَيْ أَمَرَ بكتبها فِي مصاحب أَهْلِ الْكُوفَةِ.
وحَتَّى غَايَةٌ لِلتَّسْيِيرِ. وَهِيَ هُنَا ابْتِدَائِيَّةٌ أُعْقِبَتْ بِحَرْفِ الْمُفَاجَأَةِ وَجَوَابِهِ، وَالْجُمْلَةُ وَالْغَايَةُ هِيَ مُفَادُ جَوَابِ إِذا وَهُوَ قَوْلُهُ: جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ، فَمَجِيءُ الرِّيحِ الْعَاصِفِ هُوَ غَايَةُ التَّسْيِيرِ الْهَنِيءِ الْمُنْعَمِ بِهِ، إِذْ حِينَئِذٍ يَنْقَلِبُ التَّسْيِيرُ كَارِثَةً وَمُصِيبَةً.
وَالْفُلْكُ: اسْمٌ لِمَرْكَبِ الْبَحْرِ، وَاسْمُ جَمْعٍ لَهُ بِصِيغَةٍ وَاحِدَةٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] . وَهُوَ هَنَا مُرَادٌ بِهِ الْجَمْعُ.
وَالْجَرْيُ: السَّيْرُ السَّرِيعُ فِي الْأَرْضِ أَوْ فِي الْبَحْرِ، قَالَ تَعَالَى: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها [هود: 41] وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا.
وَالرِّيحُ مُؤَنَّثَةٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [57] . وَالطَّيِّبَةُ: الْمُلَائِمَةُ الرَّفِيقَةُ بِالرَّاكِبِينَ.
وَالطَّيِّبُ: الْمَوْصُوفُ بِالطِّيبِ الشَّدِيدِ. وَأَصْلُ مَعْنَى الطَّيِّبِ الْمُلَاءَمَةُ فِيمَا يُرَادُ مِنَ الشَّيْءِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [النَّحْل: 97]، وَيُقَالُ: طَابَ لَهُ الْمُقَامُ فِي مَكَانِ كَذَا. وَمِنْهُ سُمِّيَ الشَّيْءُ الَّذِي لَهُ رِيحٌ وَعُرْفٌ طِيبًا.
وَجُمْلَةُ: جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ جَوَابُ إِذا. وَفِي ذِكْرِ جَرْيِهِنَّ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرَحِهِمْ بِهَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مَجِيءَ الْعَاصِفَةِ حَدَثَ فَجْأَةً دُونَ تَوَقُّعٍ مِنْ دَلَالَةِ عَلَامَاتِ النَّوْتِيَّةِ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ بِتَقْدِيرٍ مُرَادٍ لِلَّهِ تَعَالَى لِيُخَوِّفَهُمْ وَيُذَكِّرَهُمْ بِوَحْدَانِيَّتِهِ. وَضَمِيرُ جاءَتْها عَائِدٌ إِلَى الْفُلْكِ لِأَنَّ جَمْعَ غَيْرِ الْعَاقِلِ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْمُفْرَدِ الْمُؤَنَّثِ.
وَالْعَاصِفُ: وَصْفٌ خَاصٌّ بِالرِّيحِ، أَيْ شَدِيدَةُ السُّرْعَةِ. وَإِنَّمَا لَمْ تَلْحَقْهُ عَلَامَةُ التَّأْنِيثِ لِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِوَصْفِ الرِّيحِ فَاسْتَغْنَى عَنِ التَّأْنِيثِ، مِثْلُ: نَافِسٍ وَحَائِضٍ وَمُرْضِعٍ، فَشَاعَ اسْتِعْمَالُهُ كَذَلِكَ، وَذُكِرَ وَصْفًا لِلرِّيحِ فَبَقِيَ لَا تَلْحَقُهُ التَّاءُ. وَقَالُوا: إِنَّمَا لَمْ تَلْحَقْهُ التَّاءُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى النَّسَبِ، مِثْلُ: لَابِنٍ، وَتَامِرٍ. وَفِيهِ نَظَرٌ.
وَمَعْنَى مِنْ كُلِّ مَكانٍ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِ الْفُلْكِ، فَالِابْتِدَاءُ الَّذِي تُفِيدُهُ (مِنْ) ابْتِدَاءُ الْأَمْكِنَةِ الْمُتَّجِهَةِ إِلَى الْفُلْكِ.
وَمَعْنَى أُحِيطَ بِهِمْ أُخِذُوا وَأُهْلِكُوا، فَالْعَرَبُ يَقُولُونَ: أَحَاطَ الْعَدُوُّ بِالْقَبِيلَةِ إِذَا تَمَكَّنَ مِنْهَا وَغَلَبَهَا، لِأَنَّ الْإِحَاطَةَ بِهَا تَدُلُّ عَلَى الْإِحْدَاقِ بِهَا وَتَطْوِيقِهَا. وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ هَزِيمَةً وَامْتِلَاكًا لَهَا صَارَ تَرْتِيبُ أُحِيطَ بِهِمْ اسْتِعَارَةً تَمْثِيلِيَّةً لِلْهَلَاكِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى: وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ [الْبَقَرَة: 19] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ [يُوسُف: 66] وَقَوْلِهِ: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ [الْكَهْف: 42] أَيْ هَلَكَتْ. فَمَعْنَى وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ظَنُّوا الْهَلَاكَ.
وَجُمْلَةُ: دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ جَوَابُ إِذا. وَمَعْنَى مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ مُمْحِضِينَ لَهُ الْعِبَادَةَ فِي دُعَائِهِمْ، أَيْ دَعَوْهُ وَلَمْ يَدْعُوا مَعَهُ أَصْنَامَهُمْ. وَلَيْسَ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ أَقْلَعُوا عَنِ الْإِشْرَاكِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ بَلْ تِلْكَ حَالَتُهُمْ فِي الدُّعَاءِ عِنْدَ الشَّدَائِدِ. وَهَذَا إِقَامَةُ حُجَّةٍ عَلَيْهِمْ بِبَعْضِ أَحْوَالِهِمْ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ [الْأَنْعَام: 40، 41] .
وَجُمْلَةُ: لَئِنْ أَنْجَيْتَنا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ دَعَوُا لِأَنَّ مَضْمُونَهَا هُوَ الدُّعَاءُ.
وَالْإِشَارَةُ بِ هذِهِ إِلَى حَالَةٍ حَاضِرَةٍ لَهُمْ، وَهِيَ حَالَةُ إِشْرَافِهِمْ عَلَى الْغَرَقِ، فَالْمُشَارُ إِلَيْهِ هُوَ الْحَالَةُ الْمُشَاهَدَةُ لَهُمْ.
وَقَدْ أَكَّدَ وَعْدَهُمْ بِالشُّكْرِ بِثَلَاثِ مُؤَكِّدَاتٍ: لَامِ تَوْطِئَةِ الْقَسَمِ، وَنُونِ التَّوْكِيدِ، وَالتَّعْبِيرِ بِصِيغَةِ مِنَ الشَّاكِرِينَ دُونَ لَنَكُونَنَّ شَاكِرِينَ، لِمَا يُفِيدُهُ مِنْ كَوْنِهِمْ مِنْ هَذِهِ الزُّمْرَةِ الَّتِي دَيْدَنُهَا الشُّكْرُ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ خُصُوصِيَّةِ مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [56] .
وَأَتَى بِحَرْفِ (إِذَا) الْفُجَائِيَّةِ فِي جَوَابِ (لَمَّا) لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَعْجِيلِهِمْ بِالْبَغْيِ فِي الْأَرْضِ عَقِبَ النَّجَاةِ.
وَالْبَغْيُ: الِاعْتِدَاءُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [33] . وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْإِشْرَاكُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي نَظِيرِهَا فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت: 65] . وَسُمِّيَ الشِّرْكُ بَغْيًا لِأَنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَلَى حَقِّ الْخَالِقِ وَهُوَ أَعْظَمُ اعْتِدَاءٍ، كَمَا يُسَمَّى ظُلْمًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا قَوْلُهُ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: 13] .
وَلَا يَحْسُنُ تَفْسِيرُ الْبَغْيِ هُنَا بِالظُّلْمِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ شَأْنُ جَمِيعِهِمْ فَإِنَّ مِنْهُمْ حُلَمَاءَ قَوْمِهِمْ، وَلِأَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ بَعْدَ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ. وَلِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْقُرْآنِ نَظَائِرُ، كَقَوْلِهِ: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ [الزمر: 8] الْآيَةَ.
وَزِيَادَةُ فِي الْأَرْضِ لِمُجَرَّدِ تَأْكِيدِ تَمَكُّنِهِمْ مِنَ النَّجَاةِ. وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا
نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ
[لُقْمَان: 32] أَيْ جَعَلُوا مَكَانَ أَثَرِ النِّعْمَةِ بِالنَّجَاةِ مَكَانًا لِلْبَغْيِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: بِغَيْرِ الْحَقِّ هُوَ قَيْدٌ كَاشِفٌ لِمَعْنَى الْبَغْيِ، إِذِ الْبَغْيُ لَا يَكُونُ بِحَقٍّ، فَهُوَ كَالتَّقْيِيدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ [الْقَصَص: 50] .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اسْتِئْنَافُ خِطَابٍ لِلْمُشْرِكِينَ وَهُمُ الَّذِينَ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ.
وَافْتُتِحَ الْخِطَابُ بِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ لِاسْتِصْغَاءِ أَسْمَاعِهِمْ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا تَحْذِيرُ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ تَهْدِيدُهُمْ.
وَصِيغَةُ قَصْرِ الْبَغْيِ عَلَى الْكَوْنِ مُضِرًّا بِهِمْ كَمَا هُوَ مُفَادُ حَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ تَنْبِيهً عَلَى حَقِيقَةٍ وَاقِعِيَّةٍ وَمَوْعِظَةٍ لَهُمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ التَّحْذِيرَ مِنَ الشِّرْكِ وَالتَّهْدِيدِ عَلَيْهِ لِرَعْيِ صَلَاحِهِمْ لَا لِأَنَّهُمْ يَضُرُّونَهُ كَقَوْلِهِ: وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً [التَّوْبَة: 39] . فَمَعْنَى (عَلَى) الِاسْتِعْلَاءُ الْمَجَازِيُّ الْمُكَنَّى بِهِ عَنِ الْإِضْرَارِ لِأَنَّ الْمُسْتَعْلِي الْغَالِبُ يَضُرُّ بِالْمَغْلُوبِ الْمُسْتَعْلَى عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ يَكْثُرُ أَنْ يَقُولُوا: هَذَا الشَّيْءُ عَلَيْكَ، وَفِي ضِدِّهِ: هَذَا الشَّيْءُ لَكَ، كَقَوْلِهِ: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها [فصلت: 46] . وَيَقُولُ الْمُقِرُّ: لَكَ عَلَيَّ كَذَا. وَقَالَ تَوْبَةُ بْنُ الْحُمَيِّرِ:
وَقَدْ زَعَمَتْ لَيْلَى بِأَنِّي فَاجِرٌ
…
لِنَفْسِي تُقَاهَا أَوْ عَلَيْهَا فُجُورُهَا
وَقَالَ السَّمَوْأَلُ الْيَهُودِيُّ:
أَلِيَ الْفَضْلُ أَمْ عَلَيَّ إِذَا حُو
…
سِبْتُ إِنِّي عَلَى الْحِسَابِ مُقِيتُ
وَذَلِكَ أَنَّ (عَلَى) تَدُلُّ عَلَى الْإِلْزَامِ وَالْإِيجَابِ، وَاللَّامُ تَدَلُّ عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «الْقُرْآن حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ»
. فَالْمُرَادُ بِالْأَنْفُسِ أَنْفُسُ الْبَاغِينَ بِاعْتِبَارِ التَّوْزِيعِ بَيْنَ أَفْرَادِ مُعَادِ ضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ الْمُخَاطَبِينَ فِي قَوْلِهِ: بَغْيُكُمْ وَبَيْنَ أَفْرَادِ الْأَنْفُسِ، كَمَا فِي قَوْلِهِمْ:«رَكِبَ الْقَوْمُ دَوَابَّهُمْ» أَيْ،
رَكِبَ كُلُّ وَاحِدٍ دَابَّتَهُ. فَالْمَعْنَى إِنَّمَا بَغْيُ كُلِّ أَحَدٍ عَلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّ الشِّرْكَ لَا يَضُرُّ إِلَّا بِنَفْسِ الْمُشْرِكِ بِاخْتِلَالِ تَفْكِيرِهِ وَعَمَلِهِ ثُمَّ بِوُقُوعِهِ فِي الْعَذَابِ.
ومَتاعَ مَرْفُوعٌ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُوَ مَتَاعُ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ مِنْ (بَغْيُكُمْ) . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ انْتِصَابُهُ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِلْبَغْيِ، لِأَنَّ الْبَغْيَ مَصْدَرٌ مُشْتَقُّ فَهُوَ كَالْفِعْلِ فَنَابَ الْمَصْدَرُ عَنِ الظَّرْفِ بِإِضَافَتِهِ إِلَى مَا فِيهِ مَعْنَى الْمُدَّةِ. وَتَوْقِيتُ الْبَغْيِ بِهَذِهِ الْمُدَّةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ ذُكِرَ فِي مَعْرِضِ الْغَضَبِ عَلَيْهِمْ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَمْهَلَكُمْ إِمْهَالًا طَوِيلًا فَهَلَّا تَتَذَكَّرُونَ؟ فَلَا تَحْسَبُونَ الْإِمْهَالَ رِضًى بِفِعْلِكُمْ وَلَا عَجْزًا وَسَيُؤَاخِذُكُمْ بِهِ فِي الْآخِرَةِ. وَفِي كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ وُجُوهٌ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا.
وَالْمَتَاعُ: مَا يُنْتَفَعُ بِهِ انْتِفَاعًا غَيْرَ دَائِمٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [24] . وَالْمَعْنَى عَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ، أَيْ أَمْهَلْنَاكُمْ عَلَى إِشْرَاكِكُمْ مُدَّةَ الْحَيَاةِ لَا غَيْرَ ثُمَّ نُؤَاخِذُكُمْ عَلَى بَغْيِكُمْ عِنْدَ مَرْجِعِكُمْ إِلَيْنَا.
وَجُمْلَةُ: ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ عُطِفَتْ بِ (ثُمَّ) لِإِفَادَةِ التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ مَضْمُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَصْرَحُ تَهْدِيدًا مِنْ مَضْمُونِ جُمْلَةِ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ تَرْجِعُونَ إِلَيْنَا لَا إِلَى غَيْرِنَا تَنْزِيلًا لِلْمُخَاطَبِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ لِأَنَّ حَالَهُمْ فِي التَّكْذِيبِ بِآيَاتِهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ عِبَادَتِهِ إِلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ كَحَالِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ يُحْشَرُ إِلَى الْأَصْنَامِ وَإِنْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ مِنْ أَصْلِهِ.
وَتَفْرِيعُ فَنُنَبِّئُكُمْ عَلَى جُمْلَةِ: إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ تَفْرِيعُ وَعِيدٍ عَلَى تَهْدِيدٍ. وَاسْتُعْمِلَ الْإِنْبَاءُ كِنَايَةً عَنِ الْجَزَاءِ لِأَنَّ الْإِنْبَاءَ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِأَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ، وَالْقَادِرُ إِذَا عَلِمَ بِسُوءِ صَنِيعِ عَبْدِهِ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ عِقَابِهِ مَانِعٌ. وَفِي ذِكْرِ كُنْتُمْ وَالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ دَلَالَةٌ عَلَى تَكَرُّرِ عَمَلِهِمْ وَتَمَكُّنِهِ مِنْهُمْ. وَالْوَعِيدُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ هَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَ فِي شَأْنِ أَعْظَمِ الْبَغْيِ فَكَانَ لِكُلِّ آتٍ مِنَ الْبَغي بِنَصِيب حظا مِنْ هَذَا الْوَعيد.