الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قول ابن القيم بفناء النار
المجيب د. سالم بن محمد القرني
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
التصنيف الفهرسة/الجديد
التاريخ 29/2/1425هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قرأت عن العلامة ابن قيم الجوزية، ذكر فيه أن أهل النار لن يخلدوا أبد الآبدين في النار، معللاً ذلك بأن هذا العذاب الأبدي منافٍ للعدالة الإلهية، كما أن القرآن ذكر أنهم "لابثين فيها أحقاباً"(أي فترات زمنية محددة) ، ثم إنه قال إنهم خالدين فيها -بمعنى مادامت جهنم-، وهي سيأتي عليها يوم وتخمد نارها -كما ذكر بعض الصحابة رضي الله عنهم فإذا اتفقنا معه على أن النار ليست خالدة أبد الآبدين (إلى ما لانهاية) ألا ينطبق نفس القول على أهل الجنة. أسأل الله أن يغفر لي هذا السؤال. وجزاكم الله عني خيراً.
الجواب
الحمد لله، وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
قال الطحاوي الحنفي رحمه الله: (والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبداً ولا تبيدان) قلت: وقوله: إن الجنة والنار مخلوقتان هذا باتفاق أهل السنة على أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن.
قال أهل العلم: والجنة والنار خلقتا للبقاء لا للفناء، وكذلك العرش فإنه سقف الجنة، فقد أخبر تعالى عن أهل السماء والأرض أنهم يموتون، فقال:"كل شيء هالك إلا وجهه"[القصص:88] ؛ لأنه حي لا يموت، فأيقنت الملائكة عند ذلك بالموت وإنما قالوا ذلك توفيقاً بينها وبين النصوص المحكمة الدالة على بقاء الجنة وعلى بقاء النار أيضاً على ما يأتي.
وقوله لا تفنيان أبداً ولا تبيدان، هذا قول جمهور الأئمة من السلف والخلف، وقال ببقاء الجنة وبفناء النار جماعة من السلف والخلف منهم ابن القيم رحمه الله والقولان مذكوران في كثير من كتب التفسير وغيرها.
فأما أبدية الجنة وأنها لا تنفى ولا تبيد، فهذا مما يعلم بالضرورة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر به؛ قال تعالى:"وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاءً غير مجذوذ"
أي: غير مقطوع ولا ينافي ذلك قوله تعالى: "إلا ما شاء ربك".
واختلف السلف في هذا الاستثناء فقيل معناه إلا مدة مكثهم في النار، وهذا يكون لمن دخل منهم إلى النار، ثم أخرج منها لا لكلهم وقيل إلا مدة مقامهم في الموقف، وقيل إلا مدة مقامهم في القبور والموقف، وقيل هو استثناء الرب لا يفعله كما تقول والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك وأنت لا تراه، بل تجزم بضربه، وقيل إلا بمعنى الواو، وهذا على قول بعض النحاة وهو ضعيف، وسيبويه يجعل إلاّ بمعنى لكن فيكون الاستثناء منقطعاً ورجحه ابن جرير، وقال إن الله تعالى لا خلف لوعده، وقد وصل الاستثناء بقوله:"عطاء غير مجذوذ"، قالوا ونظيره أن تقول أسكنتك داري حولا إلا ما شئت- أي سوى ما شئت- ولكن ما شئت من الزيادة عليه، وقيل الاستثناء لإعلامهم بأنهم مع خلودهم في مشيئة الله لا أنهم يخرجون عن مشيئته، ولا ينافي ذلك عزيمته وجزمه لهم بالخلود كما في قوله تعالى:"ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلاً"[الإسراء:86]، وقوله تعالى:"فإن يشأ الله يختم على قلبك"[الشورى:24]، وقوله:"قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به"[يونس:16] ، ونظائره كثيرة يخبر عباده سبحانه أن الأمور كلها بمشيئته ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وقيل إن "ما" بمعنى: من أي: إلا من شاء الله دخوله النار بذنوبه من السعداء، وقيل غير ذلك، وعلى كل تقدير فهذا الاستثناء من المتشابه، وقوله:"عطاء غير مجذوذ" محكم، وكذلك قوله تعالى:"إن هذا لرزقنا ما له من نفاد"[ص:54]، وقوله:"أكلها دائم وظلها"[الرعد:35]، وقوله:"وما هم منها بمخرجين"[الحجر:48] ، وقد أكد الله خلود أهل الجنة بالتأبيد في عدة مواضع من القرآن، وأخبر أنهم لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى، وهذا الاستثناء منقطع، وإذا ضممته إلى الاستثناء في قوله تعالى:"إلا ما شاء ربك" تبين أن المراد من الآيتين استثناء الوقت الذي لم يكونوا فيه في الجنة من مدة الخلود كاستثناء الموتة الأولى، من جملة الموت، فهذه موتة تقدمت على حياتهم الأبدية، وذلك مفارقة للجنة تقدمت على خلودهم فيها، والأدلة من السنة على أبدية الجنة ودوامها كثيرة كقوله –صلى الله عليه وسلم:"من يدخل الجنة ينعم ولا يَبْأَسُ ويخلد ولا يموت" رواه مسلم (2836) والترمذي (2525) واللفظ له من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه، وقوله – صلى الله عليه وسلم:"ينادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً" رواه مسلم (2837) من حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه، وذكر ذبح الموت بين الجنة والنار، ويقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، ولم يجيء مثل ذلك في عذاب أهل النار.
وأما أبدية النار ودوامها فللناس في ذلك ثمانية أقوال أصحها ما وافق أدلة الكتاب والسنة: قولا أهل السنة والجماعة؛ الأول: أن الله يخرج منها ما يشاء كما ورد في الحديث، ثم يبقيها شيئاً ثم يفنيها، فإنه جعل لها أمداً تنتهي إليه. الثاني: أن الله –تعالى- يخرج منها من شاء، كما ورد في السنة، ويبقى فيها الكفار بقاء لا انقضاء له؛ كما قال الشيخ – رحمه الله وما عدا هذين القولين ظاهر البطلان، وهذان القولان لأهل السنة ينظر في أدلتهما.
فمن أدلة القول الأول منهما قوله تعالى: "قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم"[الأنعام:128] وقوله تعالى: "فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيما ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد"[هود: 106-107] ، ولم يأت بعد هذين الاستثناءين ما أتى بعد الاستثناء المذكور لأهل الجنة، وهو قوله:"عطاء غير مجذوذ" وقوله تعالى: "لابثين فيها أحقاباً"[النبأ:23] ، وهذا القول -أعني القول بفناء النار دون الجنة منقول عن عمر وابن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد وغيرهم – رضي الله عنهم، وقد روى عبد بن حميد في تفسيره المشهور بسنده إلى عمر – رضي الله عنه أنه قال:"لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج لكان لهم على ذلك وقت يخرجون فيه" ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى: "لابثين فيها أحقاباً"[النبأ:23] قالوا والنار موجب غضبه، والجنة: موجب رحمته، وقد قال – صلى الله عليه وسلم:"لما قضى الله الخلق كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي" رواه البخاري (7422)، ومسلم (2751) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه وفي رواية لمسلم (2751) :"تغلب غضبي" قالوا والله – سبحانه – يخبر عن العذاب أنه عذاب يوم عظيم وأليم وعقيم، ولم يخبر ولا في موضع واحد عن النعيم أن نعيم يوم، وقد قال تعالى:"عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء"[الأعراف:156]، وقال تعالى حكاية عن الملائكة:"ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً"[غافر:7] ، فلا بد أن تسع رحمته هؤلاء المعذبين فلو بقوا في العذاب لا إلى غاية لم تسعهم رحمته، وقد ثبت عند مسلم (987) تقدير يوم القيامة بخمسين ألف سنة، والمعذبون فيها متفاوتون في مدة لبثهم في العذاب بحسب جرائمهم، وليس في حكمة أحكم الحاكمين ورحمة أرحم الراحمين أن يخلق خلقاً يعذبهم أبد الآباد عذاباً سرمداً لا نهاية له، وأما أنه يخلق خلقاً ينعم عليهم، ويحسن إليهم نعيماً سرمداً فمن مقتضى الحكمة والإحسان مراد لذاته والانتقام مراد بالعرض، قالوا وما ورد من الخلود فيها والتأبيد وعدم الخروج، وأن عذابها مقيم، وأنه غرام كله حق مسلم لا نزاع فيه، وذلك يقتضي الخلود في دار العذاب ما دامت باقية، وإنما يخرج منها في حال بقائها أهل التوحيد ففرق بين من يخرج من السجن وهو سجن على حاله، وبين من يبطل سجنه بخراب السجن وانتقاضه.
ومن أدلة القائلين ببقائها وعدم فنائها قوله: "إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون"[الزخرف:74-75]، وقوله:"فلن نزيدكم إلا عذاباً"[النبأ:30]، وقوله:"خالدين فيها أبداً"[الجن:23]، وقوله:"وما هم بخارجين من النار"[البقرة:167]، وقوله:"لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط"[الأعراف:40]، وقوله:"لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها"[فاطر:36]، وقوله:"إن عذابها كان غراماً"[الفرقان:65]، وقوله:"يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم"[المائدة:37] أي مقيماً لازماً، وقد دلت السنة المستفيضة أنه يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وأحاديث الشفاعة صريحة في خروج عصاة الموحدين من النار، وأن هذا حكم مختص بهم، فلو خرج الكفار منها لكانوا بمنزلتهم، ولم يختص الخروج بأهل الإيمان، وبقاء الجنة والنار ليس لذاتها، بل بإبقاء الله لهما، ورجح ابن القيم رحمه الله فناء النار لظاهر قول الله -تعالى-:"فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ"[هود: 106-108]، وقوله:"إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية إن الذين آمنوا وعلموا الصالحات أولئك هم خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه"[البينة:6-7]، وقول ابن مسعود وعمر وأبي هريرة من الصحابة رضي الله عنهم:"ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد"، قال: وهذا يقتضي أن الدار التي لا يبقى فيها أحد هي الدار التي يلبث فيها أهلها أحقاباً، وقال رحمه الله: مجرد الخلود والتأبيد لا يقتضي عدم النهاية، بل الخلود هو المكث الطويل، وتأبيد كل شيء بحسبه، فقد يكون التأبيد لمدة الحياة، وقد يكون لمدة الدنيا، كما قال الله عن اليهود:"ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم"[البقرة:95]، ومعلوم أنهم يتمنونه في النار حيث يقولون:"يا مالك ليقض علينا ربك"[الزخرف:77] هذا وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.