الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تأويل آيات الصفات
المجيب د. محمد بن عبد الله القناص
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/الجديد
التاريخ 07/01/1426هـ
السؤال
السلام عليكم.
سؤالي هو: ماذا تفسرون تأويل بعض الصحابة-رضي الله عنهم وبعض التابعين بإحسان من القرون المفضلة لبعض آيات وأحاديث الصفات؟ فقد ثبت عن ترجمان القرآن ابن عباس- رضي الله عنهما أنه أول آية "يوم يكشف عن ساق"، وقال هذه كناية عن هول الموقف وشدته، أو بما معناه، لكنه لم يثبت هذه الصفة صفة (الساق) ، وكذلك تأويلات بعض العلماء الجهابذة كالنووي وابن حجر وغيرهما، وقرأت عن بعض علماء الأشاعرة كالرملي وغيره أن الله ليس موجوداً في زمان ولا مكان. واستدلوا بقول الإمام علي- رضي الله عنه الذي يقول:(كان الله ولا مكان وهو الآن على ما هو عليه كان)، وحكوا عن علي بن الحسين زين العابدين أنه كان يقول:(سبحانك لا يحويك مكان) ، وقالوا إن تلك الروايات ثابتة ومروية عن كثير من الأئمة كأبي حنيفة والطبري والماتريدي والأشعري، ومفاده أن مذهب أهل السنة والجماعة أن الله موجود بلا مكان ولا زمان. هل هذا الكلام صحيح؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
يعتقد أهل السنة والجماعة أن من الإيمان بالله سبحانه الذي أمر الله به ورسوله: الإيمان بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل؛ ولهذا فهم يؤمنون بأن الله ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير؛ فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يلحدون في أسمائه وآياته، ولا يكيفون ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه؛ لأنه سبحانه لا سمي له، ولا كفو له، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه..
قال الإمام أحمد – رحمه الله: (لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لا يتجاوز القرآن والحديث)[ينظر: المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد ص (116) ]، وقال نعيم بن حماد – شيخ البخاري -:(من شبه الله بخلقه كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم تشبيه)[العلو للذهبي ص (116) ]، وقال الأوزاعي – رحمه الله:(كنا – والتابعون متوافرون – نقول: إن الله فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته)[ينظر: الأسماء والصفات للبيهقي ص (408) ]، وقال الإمام الشافعي – رحمه الله:(لله أسماء وصفات لا يسع أحد جهلها، فمن خالف بعد ثبوت الحجة عليه كفر، وأما قبل قيام الحجة فيعذر بالجهل)[ينظر: مناقب الشافعي للبيهقي (1/412) ] وقال ابن عبد البر – رحمه الله: (أهل السنة مجتمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز؛ إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك، وأما أهل البدع من الجهمية والمعتزلة والخوارج فينكرونها ولا يحملونها على الحقيقة ويزعمون أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أقر بها نافون للمعبود، والحق فيما قاله القائلون بما نطق به الكتاب والسنة وهم أئمة الجماعة)[ينظر: التمهيد لابن عبد البر (7/145) ]، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:(ومذهب سلف الأمة وأئمتها أن يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل؛ فلا يجوز نفي صفات الله التي وصف بها نفسه، ولا يجوز تمثيلها بصفات المخلوقين، بل هو سبحانه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[ينظر: مجموع الفتاوى (5/195) ]، وقال الحافظ ابن رجب: " والصواب ما عليه السلف الصالح من إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تفسير لها، ولا تكييف، ولا تمثيل، ولا يصح عن أحد منهم خلاف ذلك البتة) [ينظر: فضل علم السلف على الخلف لابن رجب ص (22) ] ، وسلف هذه الأمة وأئمتها يثبتون علو الله وفوقيته وأنه تعالى فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه وهم بائنون منه، وهو سبحانه مع العباد بعلمه ومع أوليائه بالنصر والتأييد، وأدلة ثبوت علو الله وفوقيته لا يمكن حصرها، حيث دل العقل والفطرة والكتاب والسنة على علو الله عز وجل، ومن ذلك: نصوص الاستواء والنزول والرؤية وصعود الأعمال إليه والروح والملائكة، وأنه في السماء، ونزول القرآن، وتنزل الملائكة، والتصريح بالفوقية وغير ذلك كثير جداً، وقد استقر في فطرة بني آدم علو الله، وقصدهم له سبحانه وتعالى عند الحاجات التي لا يقصد فيها إلا هو، وذلك في دعاء العبادة ودعاء المسألة لا يكون إلا إلى جهة العلو، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ذكر محمد بن طاهر المقدسي، عن الشيخ الجليل أبي جعفر الهمداني، أنه حضر مجلس أبي المعالي الجويني، وهو يقول: (كان الله، ولا عرش ولا مكان وهو على ما كان عليه قبل خلق المكان أو كلام من هذا المعنى، فقال: يا شيخ دعنا من ذكر العرش، أخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، فإنه
ما قال عارف قط: يا الله إلا وجد من قلبه ضرورة، بطلب العلو، ولا يلتفت يمنة ولا يسرة، فكيف ندفع هذه الضرورة عن قلوبنا؟، فصرخ أبو المعالي، ولطم رأسه، وقال: حيرني الهمداني، حيرني الهمداني) [ينظر: كتاب الاستقامة (1/167) ] وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، وقد تعلق نفاة العلو: بأن الله – تعالى – لو كان في مكان لأشبه المخلوقات لأن ما أحاطت به الأمكنة فهو مخلوق، فيقال: هذا نشأ عن القياس الفاسد والتشبيه المستكن في نفوس هؤلاء إذ لو آمنوا بأن الله على كل شيء قدير وأنه ليس كمثله شيء ما انطلت هذه الشبه وهذا الهراء على نفوسهم، ويقال أيضاً: ألستم تقرون بأن الله – تعالى – موجود قبل خلق الكون فهو تعالى كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان الله، ولم يكن شيء غيره" أخرجه البخاري (3191) ، ونحن وأنتم وكل العقلاء لا نعقل وجود أحد منا إلا في مكان، وما ليس في مكان فهو عدم، والله بخلاف ذلك، فلا يجوز أن يقاس بخلقه كما فعلتم، قلتم: لو كان في مكان لأشبه خلقه، فإن زعموا أنه يلزم من كونه تعالى في العلو التغير والانتقال لأنه تعالى كان ولا مكان فلما خلق المكان صار في العلو، فزال عن صفته في الأزل وصار في مكان، قيل: وأنتم يلزمكم أقبح من ذلك، وهو زعمكم أنه – تعالى – كان لا في مكان ثم صار في كل مكان فقد تغير عندكم معبودكم وانتقل من لا مكان إلى كل مكان، وهذا لازم لكم، لا انفكاك لكم منه، وقولهم: كان الله، ولا مكان وهو الآن على ما كان عليه قبل خلق المكان كلام فاسد متناقض وذلك أن النفاة للاستواء والعلو على قسمين، قسم يقول: إن الله لا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا أمام ولا خلف ولا داخل العالم ولا خارجه وهذا لا يفهم منه إلا العدم المحض، فليس له وجود فعلي على هذا الوصف، فهو إذاً ليس له مكان أصلاً، إذ لا وجود له، وقسم يقول: إنه في كل مكان، فيلزم أنه كان في كل مكان، قبل خلق المكان، فهو إذاً في هذا الكون كله، قبل خلقه له، وهذا قول ظاهر الفساد، إذ معناه: كان في الأمكنة قبل خلقها، فالحق أن الله ليس كمثله شيء لا في نفسه ولا في فعله ولا في صفاته، ولا في مفعولاته، فإذا رام الإنسان أن ينفي شيئاً مما يستحقه، لعدم نظيره في الشاهد المحسوس، صار ما يثبته بدل نفيه أبعد عن المعقول والمشهود [ينظر: بيان تلبيس الجهمية (1/147) ] ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:(افترق الناس، في علو الله، واستوائه أربع فرق: الأولى: الجهمية النفاة، يقولون: ليس داخل العالم ولا خارجه ولا فوق ولا تحت وجميع الطوائف من أهل البدع يتمسكون بنصوص، إلا الجهمية، وقسم ثان منهم يقولون: إنه بذاته في كل مكان، ويدخل فيهم الأشاعرة، وهؤلاء هم الفرقة الثانية، الثالثة: من يقول: إنه فرق العرش، وهو في كل مكان ويزعم أنه بذلك يجمع بين النصوص، الرابعة: المتبعون للكتاب والسنة، الذين أثبتوا ما أثبته الله ورسوله، من غير تحريف، فآمنوا بأن الله فوق سماواته مستوٍ على عرشه)[ينظر: مجموع الفتاوى (5/229-231) ] والحاصل أن الحق فيما ذهب إليه أهل السنة، وأن علو الله ثابت بالكتاب والسنة والفطرة وصريح العقل، والأدلة عليه لا تحصى، وليس بين علو الله واستوائه على عرشه وبين معيته
لخلقه ولأوليائه وأنبيائه وقربه منهم تعارض.
وأما القول بوجود تأويل لبعض الصفات عن الصحابة والتابعين بمعنى التأويل عند المتأخرين وهو صرفها عن ظاهرها فهذا لم يرد عن أحد منهم، وليس ما جاء عن ابن عباس –رضي الله عنهما من باب التأويل بل فهم منها ابن عباس أنها ليست نصاً في الصفات، إذ لا يعرف عن الصحابة تأويل شيء من نصوص الصفات، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:(إن جميع ما في القرآن من آيات الصفات فليس عن الصحابة اختلاف في تأويلها، وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة وما رووه من الحديث ووقفت من ذلك على ما شاء الله تعالى من الكتب الكبار والصغار أكثر من مائة تفسير فلم أجد إلى ساعتي هذه عن أحد من الصحابة أنه تأول شيئا من آيات الصفات أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف.... وتمام هذا أنى لم أجدهم تنازعوا إلا في مثل قوله تعالى: "يوم يكشف عن ساق" فروى عن ابن عباس-رضي الله عنهما وطائفة أن المراد به الشدة أن الله يكشف عن الشدة في الآخرة، وعن أبى سعيد وطائفة أنهم عدوها في الصفات للحديث الذي رواه أبو سعيد في الصحيحين، ولا ريب أن ظاهر القرآن لا يدل على أن هذه من الصفات فإنه قال: "يوم يكشف عن ساق" نكرة في الإثبات لم يضفها إلى الله ولم يقل عن ساقه، فمع عدم التعريف بالإضافة لا يظهر أنه من الصفات إلا بدليل آخر، ومثل هذا ليس بتأويل، إنما التأويل صرف الآية عن مدلولها ومفهومها ومعناها المعروف)[ينظر: مجموع الفتاوى (6/394) ]، وقال ابن القيم – رحمه الله:(إن أهل الإيمان قد يتنازعون في بعض الأحكام، ولا يخرجون بذلك عن الإيمان، وقد تنازع الصحابة في كثير من مسائل الأحكام وهم سادات المؤمنين، وأكمل الأمة إيماناً، ولكن بحمد الله لم يتنازعوا في مسألة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال، بل كلهم على إثبات ما نطق به الكتاب والسنة، كلمة واحدة، من أولهم إلى آخرهم، ولم يسوموها تأويلاً، ولم يحرفوها عن مواضعها تبديلاً، ولم يبدوا لشيء منها إبطالاً، ولا ضربوا لها أمثالاً، ولم يدفعوا في صدورها وأعجازها، ولم يقل أحد منهم: يجب صرفها عن حقائقها، وحملها على مجازها، بل تلقوها بالقبول والتسليم، وقابلوها بالإيمان والتعظيم وجعلوا الأمر فيها كلها أمراً واحداً، وأجروها على سنن واحدة)[إعلام الموقعين (1/51- 52) ] ، والحاصل أن بعض الآيات والأحاديث يفهم من سياقها والقرائن المحتفة بها أنها ليست نصاً في الصفات، فتفسر بما يفهم من المقصود بها مثل قوله تعالى:(فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)[البقرة:115]، ومثل قوله تعالى:"أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ"[الزمر:56]، وقوله تعالى:"أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ"[يس:71] قال الحافظ ابن رجب – معلقاً على قوله تعالى: "أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً": (وليس المراد هنا الصفة الذاتية – بغير إشكال -، وإلا استوى خلق الأنعام وخلق آدم عليه السلام [فتح الباري لابن رجب (1/7) ] ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والصواب في كثير من آيات الصفات وأحاديثها: القطع بالطريقة الثابتة
كالآيات والأحاديث الدالة على أن الله سبحانه وتعالى فوق عرشه ويعلم طريقة الصواب في هذا وأمثاله، بدلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك؛ دلالة لا تحتمل النقيض، وفى بعضها قد يغلب على الظن ذلك مع احتمال النقيض، وتردد المؤمن في ذلك هو بحسب ما يؤتاه من العلم والإيمان، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور) [ينظر: مجموع الفتاوى (5/117) ] ، وأما ما يوجد من تأويل عند بعض العلماء مثل النووي وابن حجر وغيرهما فهذا بسبب تأثرهم بمذهب الأشاعرة حيث تلقوا هذا المذهب عن شيوخهم فرأوا أنه هو الحق الذي يجب اتباعه، والمسلم عليه أن يتبع الحق والصواب وما عليه سلف الأمة ويعرف الرجال بالحق، ولا يعرف الحق بالرجال، ويعتذر لمن أخطأ من أهل العلم وينتفع من علومهم ومعارفهم فيما أصابوا فيه، وأما ما ورد من الأقوال المنسوبة لعلي وزين العابدين وأبي حنيفة فحسب اطلاعي لا تصح عنهم، هذا والله أعلم.