الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما المقصود بـ"سيماهم في وجوههم من أثر السجود
"
المجيب عبد الحكيم بن عبد الله القاسم
عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين
التصنيف الفهرسة/الجديد
التاريخ 21/01/1427هـ
السؤال
هل المساحة السوداء الصغيرة التي نراها على جباه البعض هي نفسها علامة السجود التي في قوله تعالى: "سيماهم في وجوههم من أثر السجود.."؟ أم أن علامة السجود من أثر الوضوء، ولا تُرى إلا يوم القيامة؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فقد سرد ابن الجوزي في زاد المسير أقوال المفسرين في معنى قوله تعالى: "سيماهم في وجوههم من أثر السجود"[الفتح:29] . فقال: وهل هذه العلامة في الدنيا أم في الآخرة؟ فيه قولان: أحدهما في الدنيا: ثم فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها السمت الحسن، قاله ابن عباس في رواية ابن أبي طلحة، وقال في رواية مجاهد: أما إنه ليس بالذي ترون، ولكنه سيما الإسلام وسمته وخشوعه، وكذلك قال مجاهد: ليس بندب التراب في الوجه، ولكنه الخشوع والوقار والتواضع.
والثاني: أنه ندى الطهور وثرى الأرض، قاله سعيد بن جبير، وقال أبو العالية: لأنهم يسجدون على التراب لا على الأثواب، وقال الأوزاعي: بلغني أنه ما حملت جباههم من الأرض.
والثالث: أنه السهوم، فاذا سهم وجه الرجل من الليل أصبح مصفارًّا، قال الحسن البصري:{سيماهم في وجوههم} الصفرة، وقال سعيد بن جبير: أثر السهر، وقال شمر بن عطية: هو تهيج في الوجه من سهر الليل.
والقول الثاني: أنها في الآخرة، ثم فيه قولان:
أحدهما: أن مواضع السجود من وجوههم تكون أشد وجوههم بياضاً يوم القيامة، قاله عطية العوفي، وإلى نحو هذا ذهب الحسن، والزهري، وروى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صلاتهم تبدو في وجوههم يوم القيامة.
والثاني: أنهم يبعثون غرًّا محجلين من أثر الطهور، ذكره الزجاج. انتهى.
ورجَّح ابن جزي: أنه أثر السجود في الدنيا؛ لقوله: "تراهم ركعا سجدا..".
ورجَّح الطبري العموم، فقال: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله -تعالى ذكره- أخبرنا أن سيما هؤلاء القوم -الذين وصف صفتهم- في وجوههم من أثر السجود، ولم يخص ذلك على وقت دون وقت، وإذا كان ذلك كذلك فذلك على كل الأوقات، فكانت سيماهم التي كانوا يعرفون بها في الدنيا أثر الإسلام، وذلك خشوعه وهديه وزهده وسمته وآثار أداء فرائضه وتطوعه، وفي الآخرة ما أخبر أنهم يعرفون به، وذلك الغرة في الوجه والتحجيل في الأيدي والأرجل من أثر الوضوء، وبياض الوجوه من أثر السجود.
وقال ابن القيم في الصواعق (2/606) : ثم أثنى عليهم [أي الصحابة] بكثرة الأعمال مع الإخلاص التام وسعة الرجاء في فضل الله ورحمته بابتغائهم فضله ورضوانه، وبأن آثار ذلك الإخلاص وغيره من أعمالهم الصالحة ظهرت على وجوههم، حتى إن من نظر إليهم بهره حسن سمتهم وهديهم، ومن ثم قال مالك رضي الله تعالى عنه:"بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة الذين فتحوا الشام قالوا: والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا".
وقال ابن كثير: وقال بعضهم: إن للحسنة نورًا في القلب، وضياءً في الوجه، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الناس. وقال أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه:"ما أسرَّ أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه".
والغرض أن الشيء الكامن في النفس يظهر على صفحات الوجه، فالمؤمن إذا كانت سريرته صحيحة مع الله تعالى أصلح الله عز وجل ظاهره للناس، كما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال:"من أصلح سريرته أصلح الله تعالى علانيته"
…
فالصحابة رضي الله عنهم خلصت نياتهم وحسنت أعمالهم، فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم
…
وقال السعدي: أي قد أثرت العبادة من كثرتها وحسنها في وجوههم حتى استنارت، لما استنارت بالصلاة بواطنهم استنارت بالجلال ظواهرهم.
وقدبيَّن شيخ الإسلام في الجواب الصحيح (6/486) أن ما يقوم بالقلب من تصديق وحب الله ورسوله وتعظيم لابد أن يظهر على الجوارح، وكذلك بالعكس؛ ولهذا يستدل بانتفاء اللازم الظاهر على انتفاء الملزوم الباطن، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب"
…
وذكر: أن وصف الوجوه بالعلامة موجود في القرآن، كقوله:"سيماهم في وجوههم"، وقوله:"ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم"[محمد:30]، وقوله:"تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا"[الحج:72] .
وأن معرفة المنافقين بالسيما معلقة بمشيئة الله، وأما معرفتهم بلحن القول فمحققة حيث قال تعالى:"ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول"[محمد:30]، وقال ف حق المؤمنين:"سيماهم في وجوههم من أثر السجود"، وقال في حق الكافر:"عتل بعد ذلك زنيم"[القلم:13]، أي: له زنمة من الشر، أي: علامة يعرف بها.
وأن الرجل الصادق البار يظهر على وجهه من نور صدقه وبهجة وجهه سيما يعرف بها، وكذلك الكاذب الفاجر، وكلما طال عمر الإنسان ظهر هذا الأثر فيه، حتى إن الرجل يكون في صغره جميل الوجه، فإذا كان من أهل الفجور مصرًّا على ذلك يظهر عليه في آخر عمره من قبح الوجه ما أثره باطنه وبالعكس
…
وقد يكون الرجل ممن لا يتعمد الكذب، لكن يعتقد اعتقادات باطلة كاذبة في الله أو في رسله أو في دينه أو عباده الصالحين، وتكون له زهادة وعبادة واجتهاد في ذلك، فيؤثر ذلك الكذب الذي ظنه صدقا وتوابعه في باطنه، ويظهر ذلك على وجهه، فيعلوه من القترة والسواد ما يناسب حاله، كما قال بعض السلف:"لو ادهن صاحب البدعة كل يوم بدهان إن سواد البدعة لفي وجهه".
وهذه الأمور تظهر يوم القيامة ظهورًا تامًّا، قال تعالى:"ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون"[الزمر:60-61] .
وقال تعالى: "يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون"[آل عمران:106-107] قال ابن عباس وغيره: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة.
والمقصود أن ما في القلوب من قصد الصدق والمحبة والبر ونحو ذلك قد يظهر على الوجه حتى يعلم ذلك علما ضروريا من أبلغ العلوم الضرورية، وكذلك ما فيها من قصد الكذب والبغض والفجور وغير ذلك.
والإنسان يرافق في سفره من لم يره قط إلا تلك الساعة، فلا يلبث إذا رآه حدة وسمع كلامه أن يعرف هل هو مأمون يطمئن إليه أو ليس كذلك، وقد يشتبه عليه في أول الأمر وربما غلط، لكن العادة الغالبة أنه يتبين ذلك بعد لعامة الناس.
وكذلك الجار يعرف جاره، والمعامل يعرف معامله؛ ولهذا لما شهد عند عمر بن الخاطب رجل فزكاه آخر، قال: هل أنت جاره الأدنى تعرف مساءه وصباحه؟ قال: لا، قال: هل عاملته في الدرهم والدينار اللذين تمتحن بهما أمانات الناس؟ قال: لا، قال: هل رافقته في السفر الذي تنكشف فيه أخلاق الناس؟ قال: لا، قال: فلست تعرفه. وروي أنه قال: لعلك رأيته يركع ركعات في المسجد!، وذلك أن المنافق قد يظهر الصلاة، فمن لم يخبره لا يعرف باطن أمره، كما قيل:
ذئب تراه مصليا *** فإذا مررت به ركع
يدعو وجلّ دعائه *** ما للفريسة لا تقع
وإذا الفريسة خليت *** ذهب التنسك والورع
انتهى كلام ابن تيمية رحمه الله.
وهنا وقفة مع حديثين في معنى هذه الجملة من الآية:
الأول: ورد في تفسير الآية حديث مرفوع أن السيما: هي النور يوم القيامة، ولكنه لفظ ضعيف: رواه الطبراني في المعجم الأوسط (4464) ، وفي المعجم الصغير (619) .
وقال الطبراني في الأوسط: لم يرفع هذا الحديث عن أبي جعفر الرازي إلا روّاد والمسيب، تفرد به محمد بن أبي السري، لا يروى عن أبيّ إلا بهذا الإسناد، وقال في الصغير: لا يروى عن أبيّ إلا بهذا الإسناد تفرد به أبو جعفر الرازي.
وقال ابن القيم في زاد المعاد (1/276) عن أبي جعفر الرازي: صاحب مناكير لا يحتج بما تفرد به أحد من أهل الحديث البتة.
قلت: أبو جعفر الرازي هو عيسى بن عبد الله بن ماهان مختلف فيه أيضا.
ولأبي جعفر نسخة في التفسير إلى أبي بن كعب، فلعل الراوي عنه رفع ما كان موقوفا، وهو المسمى عند المحدثين بسلوك الجادة.
وفي الإسناد أيضا: روّاد بن الجراح أبو عصام العسقلاني، قال البخاري: كان قد اختلط لا يكاد أن يقوم حديثه. فالحديث إذن ضعيف.
الحديث الثاني: أورده ابن ماجه في سننه (1333) عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار"، وهو حديث موضوع، كما نقل ابن أبي حاتم في علل الحديث (1/74) عن أبيه: وأن أبا حاتم سأل ابن نمير: فقال: [في راوي الحديث السابق وهو ثابت بن موسى] : الشيخ لا بأس به، والحديث منكر، قال أبي: الحديث موضوع. والله أعلم.