الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[مُقَدِّمَةُ الْمُؤَلِّفِ]
بسم الله الرحمن الرحيم
رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا وَفَهْمًا، وَاخْتِمْ لِي وَلِلْمُسْلِمِينَ بِخَيْرٍ.
قَالَ سَيِّدُنَا وَشَيْخُنَا، الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَامِلُ الْعَلَّامَةُ، الْبَحْرُ الْحَبْرُ الْفَهَّامَةُ، الْمُحَقِّقُ الْمُدَقِّقُ، نَاصِرُ السُّنَّةِ حَافِظُ عَصْرِهِ، وَوَحِيدُ دَهْرِهِ، شَمْسُ الدِّينِ سُلْطَانُ الْحُفَّاظِ وَالْمُحَدِّثِينَ، أَبُو الْخَيْرِ مُحَمَّدٌ السَّخَاوِيُّ الشَّافِعِيُّ:[خُطْبَةُ الْمُؤَلِّفِ] الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الْعِلْمَ بِفُنُونِ الْخَبَرِ مَعَ الْعَمَلِ الْمُعْتَبَرِ بِهَا إِلَيْهِ أَتَمَّ وَسِيلَةً، وَوَصَلَ مَنْ أَسْنَدَ فِي بَابِهِ وَانْقَطَعَ إِلَيْهِ فَأَدْرَجَهُ فِي سِلْسِلَةِ الْمُقَرَّبِينَ لَدَيْهِ، وَأَوْضَحَ لَهُ الْمُشْكِلَ الْغَرِيبَ وَتَعْلِيلَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الْفَرْدُ الصَّمَدُ، أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ وَعَلَّمَهُ تَأْوِيلَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدٌ الْمُرْسَلُ بِالْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ، وَالْمُعْجِزَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَالْمَخْصُوصُ بِكُلِّ شَرَفٍ وَفَضِيلَةٍ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَأَنْصَارِهِ وَحِزْبِهِ، الَّذِينَ صَارَ الدِّينُ بِهِمْ عَزِيزًا، بَعْدَ فُشُوِّ كُلِّ شَاذٍّ وَمُنْكَرٍ وَرَذِيلَةٍ، وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ أَتْبَاعِهِمُ الْمُعَوَّلِ عَلَى إِجْمَاعِهِمْ مِمَّنِ اقْتَفَى أَثَرَهُ وَسَلَكَ سَبِيلَهُ، صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ غَيْرَ مُضْطَرِبَيْنِ يَنَالُ بِهِمَا الْعَبْدُ فِي الدَّارَيْنِ تَأْمِيلَهُ.
[مُقَدِّمَةُ الْمُؤَلِّفِ] وَبَعْدُ: فَهَذَا تَنْقِيحٌ لَطِيفٌ، وَتَلْقِيحٌ لِلْفَهْمِ الْمُنِيفِ، شَرَحْتُ فِيهِ أَلْفِيَّةَ الْحَدِيثِ، وَأَوْضَحْتُ بِهِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ، فَفَتَحَ مِنْ كُنُوزِهَا الْمُحَصَّنَةِ الْأَقْفَالِ كُلَّ مُرْتَجٍ، وَطَرَحَ عَنْ رُمُوزِهَا الْإِشْكَالَ بِأَبْيَنِ الْحُجَجِ، سَابِكًا لَهَا فِيهِ ; بِحَيْثُ لَا تَتَخَلَّصُ مِنْهُ إِلَّا بِالتَّمْيِيزِ ; لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي إِظْهَارِهِ الْمَعْنَى.
تَارِكًا لِمَنْ لَا يَرَى حُسْنَ ذَلِكَ فِي خُصُوصِ النَّظْمِ وَالتَّرْجِيزِ ; لِكَوْنِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَنِّتًا لَمْ يَذُقِ الَّذِي هُوَ أَهْنَى، مُرَاعِيًا فِيهِ الِاعْتِنَاءَ بِالنَّاظِمِ رَجَاءَ بَرَكَتِهِ، سَاعِيًا فِي إِفَادَةِ مَا لَا غِنًى عَنْهُ لِأَئِمَّةِ الشَّأْنِ وَطَلَبَتِهِ، غَيْرَ طَوِيلٍ مُمِلٍّ، وَلَا قَصِيرٍ مُخِلٍّ، اسْتِغْنَاءً عَنْ
تَطْوِيلِهِ بِتَصْنِيفِي الْمَبْسُوطِ الْمُقَرَّرِ الْمَضْبُوطِ، الَّذِي جَعَلْتُهُ كَالنُّكَتِ عَلَيْهَا وَعَلَى شَرْحِهَا لِلْمُؤَلِّفِ.
وَعِلْمًا بِنَقْصِ هِمَمِ أَمَاثِلِ الْوَقْتِ فَضْلًا عَنِ الْمُتَعَرِّفِ، إِجَابَةً لِمَنْ سَأَلَنِي فِيهِ مِنَ الْأَئِمَّةِ ذَوِي الْوَجَاهَةِ وَالتَّوْجِيهِ، مِمَّنْ خَاضَ مَعِي فِي الشَّرْحِ وَأَصْلِهِ، وَارْتَاضَ فِكْرُهُ بِمَا يَرْتَقِي بِهِ عَنْ أَقْرَانِهِ وَأَهْلِهِ.
نَفَعَنِي اللَّهُ وَإِيَّاهُ وَالْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ، وَيَسَّرَ لَنَا إِلَى كُلِّ خَيْرٍ أَقْرَبَ الْمَسَالِكِ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.
قَالَ رحمه الله:
1 -
يَقُولُ رَاجِي رَبِّهِ الْمُقْتَدِرِ
…
عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ الْحُسَيْنِ الْأَثَرِي
2 -
مِنْ بَعْدِ حَمْدِ اللَّهِ ذِي الْآلَاءِ
…
عَلَى امْتِنَانٍ جَلَّ عَنْ إِحْصَاءِ
3 -
ثُمَّ صَلَاةٍ وَسَلَامٍ دَائِمِ
…
عَلَى نَبِيِّ الْخَيْرِ ذِي الْمَرَاحِمِ
4 -
فَهَذِهِ الْمَقَاصِدُ الْمُهِمَّهْ
…
تُوَضِّحُ مِنْ عِلْمِ الْحَدِيثِ رَسْمَهْ
5 -
نَظَمْتُهَا تَبْصِرَةً لِلْمُبْتَدِي
…
تَذْكِرَةً لِلْمُنْتَهِي وَالْمُسْنَدِ
6 -
لَخَّصْتُ فِيهَا ابْنَ الصَّلَاحِ أَجْمَعَهْ
…
وَزِدْتُهَا عِلْمًا تَرَاهُ مَوْضِعَهْ
7 -
فَحَيْثُ جَاءَ الْفِعْلُ وَالضَّمِيرُ
…
لِوَاحِدٍ وَمَنْ لَهُ مَسْتُورُ
8 -
كَـ " قَالَ " أَوْ أَطْلَقْتُ لَفْظَ " الشَّيْخِ " مَا
…
أُرِيدُ إِلَّا ابْنَ الصَّلَاحِ مُبْهَمَا
9 -
وَإِنْ يَكُنْ لِاثْنَيْنِ نَحْوَ " الْتَزَمَا " فَمُسْلِمٌ
…
مَعَ الْبُخَارِيِّ هُمَا
10 -
وَاللَّهَ أَرْجُو فِي أُمُورِي كُلِّهَا
…
مُعْتَصِمًا فِي صَعْبِهَا وَسَهْلِهَا.
(يَقُولُ) مِنَ الْقَوْلِ، وَهُوَ لَفْظٌ دَالٌّ عَلَى مَعْنًى مُفِيدٍ كَمَا هُنَا، أَوْ غَيْرِ مُفِيدٍ، (رَاجِي) اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ " الرَّجَاءِ " ضِدُّ الْخَوْفِ ; وَهُوَ تَوَقُّعُ مُمْكِنٍ يَقْتَضِي حُصُولَ مَا فِيهِ مَسَرَّةٌ، (رَبِّهِ) أَيْ: مَالِكِهِ الْإِلَهِ الَّذِي لَا تُطْلَقُ الرُّبُوبِيَّةُ عَلَى سِوَاهُ.
(الْمُقْتَدِرِ) عَلَى مَا أَرَادَ، وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْعَظَمَةِ، وَلِذَا كَانَ أَبْلَغَ فِي قُوَّةِ الرَّجَاءِ ; إِذْ
وُجُودُهُ مِنِ اسْتِحْضَارِ صِفَاتِ الْجَلَالِ أَدَلُّ عَلَى وُجُودِهِ مَعَ اسْتِحْضَارِ صِفَاتِ الْجَمَالِ لَا سِيَّمَا، وَبِذَلِكَ يَكُونُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الْإِسْرَاءِ: 57] .
[تَرْجَمَةُ صَاحِبِ الْأَلْفِيَّةِ]
(عَبْدُ الرَّحِيمِ) بَيَانُ الرَّاجِي، فَاعِلُ (يَقُولُ) ، أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ، (ابْنُ الْحُسَيْنِ) ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، الزَّيْنُ أَبُو الْفَضْلِ (الْأَثَرِيُّ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمُثَلَّثَةِ، نِسْبَةً إِلَى (الْأَثَرِ)، وَهُوَ لُغَةً: الْبَقِيَّةُ.
وَاصْطِلَاحًا: الْأَحَادِيثُ مَرْفُوعَةً كَانَتْ أَوْ مَوْقُوفَةً، عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَمِنْهُ:" شَرْحُ مَعَانِي الْآثَارِ " ; لِاشْتِمَالِهِ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ قَصَرَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى الْمَوْقُوفِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِهِ، وَانْتَسَبَ كَذَلِكَ جَمَاعَةٌ، وَحَسُنَ الِانْتِسَابُ إِلَيْهِ مِمَّنْ يُصَنِّفُ فِي فُنُونِهِ.
وَيُعْرَفُ أَيْضًا بِـ " الْعِرَاقِيِّ " لِكَوْنِ جَدِّهِ كَانَ يَكْتُبُهَا بِخَطِّهِ، انْتِسَابًا لِعِرَاقِ الْعَرَبِ، وَهُوَ الْقُطْرُ الْأَعَمُّ كَمَا قَالَهُ ابْنُهُ.
كَانَ إِمَامًا، عَلَّامَةً، مُقْرِئًا، فَقِيهًا، شَافِعِيَّ الْمَذْهَبِ، أُصُولِيًّا، مُنْقَطِعَ الْقَرِينِ فِي فُنُونِ الْحَدِيثِ وَصِنَاعَتِهِ، ارْتَحَلَ فِيهِ إِلَى الْبِلَادِ النَّائِيَةِ، وَشَهِدَ لَهُ بِالتَّفَرُّدِ فِيهِ أَئِمَّةُ عَصْرِهِ، وَعَوَّلُوا عَلَيْهِ فِيهِ، وَسَارَتْ تَصَانِيفُهُ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ، وَدَرَّسَ، وَأَفْتَى، وَحَدَّثَ، وَأَمْلَى، وَوَلِيَ قَضَاءَ الْمَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ نَحْوَ ثَلَاثِ سِنِينَ.
وَانْتَفَعَ بِهِ الْأَجِلَّاءُ، مَعَ الزُّهْدِ وَالْوَرَعِ، وَالتَّحَرِّي فِي الطَّهَارَةِ وَغَيْرِهَا، وَسَلَامَةِ الْفِطْرَةِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ، وَالتَّقَنُّعِ بِالْيَسِيرِ، وَسُلُوكِ التَّوَاضُعِ وَالْكَرَمِ وَالْوَقَارِ، مَعَ الْأُبَّهَةِ وَالْمَحَاسِنِ الْجَمَّةِ.
وَقَدْ أَفْرَدَ ابْنُهُ تَرْجَمَتَهُ بِالتَّأْلِيفِ، فَلَا نُطِيلُ فِيهَا، وَهُوَ
فِي مَجْمُوعِهِ كَلِمَةُ إِجْمَاعٍ، وَقَدْ أُخِذَتْ عَنْ خَلْقٍ مِنْ أَصْحَابِهِ.
وَأَمَّا أَلْفِيَّتُهُ وَشَرْحُهَا فَتَلَقَّيْتُهُمَا مَعَ جُلِّ أَصْلِهِمَا دِرَايَةً عَنْ شَيْخِنَا إِمَامِ الْأَئِمَّةِ وَأَجَلِّ جَمَاعَتِهِ، وَالْأَلْفِيَّةُ فَقَطْ عَنْ جَمَاعَةٍ.
مَاتَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِمِائَةٍ (806 هـ) عَنْ أَزْيَدَ مِنْ إِحْدَى وَثَمَانِينَ سَنَةً، رحمه الله وَإِيَّانَا.
[الْحَمْدُ وَالْبَسْمَلَةُ] وَهُوَ وَإِنْ قَدَّمَ مَا أَسْلَفَهُ وَضْعًا فَذَاكَ.
(مِنْ بَعْدِ) ذِكْرِ (حَمْدِ اللَّهِ) لَفْظًا ; عَمَلًا بِحَدِيثِ: «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ فَهُوَ أَقْطَعُ» وَ (مِنْ) بِالْكَسْرِ حَرْفٌ خَافِضٌ يَأْتِي لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ كَمَا هُنَا، وَلِغَيْرِهِ، وَ " بَعْدِ " بِالْجَرِّ نَقِيضُ (قَبْلُ) ، وَ (الْحَمْدُ) هُوَ الثَّنَاءُ عَلَى الْمَحْمُودِ بِأَفْعَالِهِ الْجَمِيلَةِ، وَأَوْصَافِهِ الْحَسَنَةِ الْجَلِيلَةِ.
وَ (اللَّهُ) عَلَمٌ عَلَى الْمَعْبُودِ بِحَقٍّ، وَهُوَ الْبَارِئُ سُبْحَانَهُ، الْمَحْمُودُ حَقِيقَةً عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَهُوَ خَاصٌّ بِهِ لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَلَا يُدْعَى بِهِ أَحَدٌ سِوَاهُ، قَبَضَ اللَّهُ الْأَلْسِنَةَ عَنْ ذَلِكَ.
عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: إِنَّ سَبْقَ التَّعْرِيفِ بِالْقَائِلِ غَيْرُ مُخِلٍّ بِالِابْتِدَاءِ، وَلَوْ لَمْ يُلْفَظْ بِهِ ; فَفِي حَدِيثٍ قَالَ الْحَاكِمُ " إِنَّهُ غَرِيبٌ حَسَنٌ " ; أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه:«مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى مُعَاذٍ، سَلَامٌ عَلَيْكَ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ» . . . " إِلَى آخِرِهِ، وَكَذَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ.
لَكِنْ مَعَ الِابْتِدَاءِ قَبْلَ اسْمِهِ بِالْبَسْمَلَةِ كَمَا
وَقَعَ لِلْمُؤَلِّفِ، وَفَعَلَهُ أَيْضًا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، رضي الله عنهما، وَعَزَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ لِمُكَاتَبَةِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ يُقَالُ أَيْضًا: هَذَا الْحَدِيثُ رُوِيَ أَيْضًا بِـ " بِسْمِ اللَّهِ " بَدَلَ " بِحَمْدِ اللَّهِ " فَكَأَنَّهُ أُرِيدَ بِالْحَمْدَلَةِ وَالْبَسْمَلَةِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهُمَا ; وَهُوَ ذِكْرُ اللَّهِ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ عَلَى الْجُمْلَةِ بِصِيغَةِ الْحَمْدِ أَوْ غَيْرِهَا.
وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ لَفْظُهَا: " بِذِكْرِ اللَّهِ " ; وَحِينَئِذٍ فَالْحَمْدُ وَالذِّكْرُ وَالْبَسْمَلَةُ سَوَاءٌ، فَمَنِ ابْتَدَأَ بِوَاحِدٍ مِنْهَا، حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ.
(ذِي الْآلَاءِ) أَيْ: صَاحِبِ النِّعَمِ وَالْجُودِ وَالْكَرَمِ، وَفِي وَاحِدِ (الْآلَاءِ) سَبْعُ لُغَاتٍ:" إِلًى " بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَبِفَتْحِهَا مَعَ التَّنْوِينِ وَعَدَمِهِ، وَمُثَلَّثِ الْهَمْزَةِ مَعَ سُكُونِ اللَّامِ وَالتَّنْوِينِ (عَلَى امْتِنَانٍ) مِنَ اللَّهِ بِهِ مِنَ الْعَطَاءِ الْكَثِيرِ الَّذِي مِنْهُ التَّوَغُّلُ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ، عَلَى قَائِلِهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ.
وَاخْتِصَاصُ النَّاظِمِ بِكَوْنِهِ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - فِيهِ إِمَامًا مُقْتَدًى بِهِ، وَالْمَنَّانُ: الَّذِي يَبْدَأُ بِالنَّوَالِ قَبْلَ السُّؤَالِ (جَلَّ) أَيْ: عَظُمَ عَطَاؤُهُ.
(عَنْ إِحْصَاءِ) بِعَدَدٍ ; قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إِبْرَاهِيمَ: 34](ثُمَّ صَلَاةٍ وَسَلَامٍ) بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى (حَمْدٍ)(دَائِمٍ) كُلٍّ مِنْهُمَا، أَوْ تَلَفُّظِي بِهِمَا، أَوْ لِاقْتِرَانِهِمَا غَالِبًا صَارَا كَالْوَاحِدِ، وَفِي عَطْفِهِ بِـ (ثُمَّ) الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّرْتِيبِ مَعَ الْمُهْلَةِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ أَثْنَى عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ زِيَادَةً عَلَى مَا ذَكَرَ بَيْنَهُمَا.
[وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ] وَ (الصَّلَاةُ) مِنَ اللَّهِ عَلَى نَبِيِّهِ ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ وَتَعْظِيمُهُ لَهُ، وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ: طَلَبُ الزِّيَادَةِ لَهُ [بِتَكْثِيرِ أَتْبَاعِهِ أَوِ الْعُلَمَاءِ، وَنَحْوِهِمْ مَثَلًا]
لِلْعِلْمِ بِتَنَاهِيهِ فِي كُلِّ شَرَفٍ، وَلَمْ يُفْرِدْهَا عَنِ (السَّلَامِ) لِتَصْرِيحِ النَّوَوِيِّ رحمه الله بِكَرَاهَةِ إِفْرَادِ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، وَإِنْ خَصَّهَا شَيْخِي بِمَنْ جَعَلَهَا دَيْدَنًا ; لِوُقُوعِ الْإِفْرَادِ فِي كَلَامِ إِمَامِنَا الشَّافِعِيِّ، وَمُسْلِمٍ، وَالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى، وَمِنْهُمُ النَّوَوِيُّ نَفْسُهُ فِي خُطْبَةِ (تَقْرِيبِهِ) كَمَا فِي كَثِيرٍ مِنْ نُسَخِهِ.
وَكَذَا أَتَى بِهَا مَعَ الْحَمْدِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ الْمَاضِي: «بِحَمْدِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَهُوَ أَبْتَرُ» مَمْحُوقٌ مِنْ كُلِّ بَرَكَةٍ، وَإِنْ كَانَ سَنَدُهُ ضَعِيفًا ; لِأَنَّهُ فِي الْفَضَائِلِ، مَعَ مَا فِي إِثْبَاتِهَا فِي الْكِتَابِ مِنَ الْفَضْلِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي مَحَلِّهِ (عَلَى نَبِيِّ الْخَيْرِ) الْجَامِعِ لِكُلِّ مَحْمُودٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (ذِي) أَيْ: صَاحِبِ (الْمَرَاحِمِ) نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
[مَعْنَى النَّبِيِّ] وَحَقِيقَةُ " النَّبِيِّ " وَالْأَكْثَرُ فِي التَّلَفُّظِ بِهِ عَدَمُ الْهَمْزِ: إِنْسَانٌ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِشَرْعٍ وَإِنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِتَبْلِيغِهِ، فَإِنْ أُمِرَ بِالتَّبْلِيغِ فَرَسُولٌ أَيْضًا، وَلِذَا كَانَ الْوَصْفُ بِهَا أَشْمَلَ، فَالْعُدُولُ عَنْهَا إِمَّا لِلتَّأَسِّي بِالْخَبَرِ الْآتِي فِي الْجَمْعِ بَيْنَ وَصْفَيِ النُّبُوَّةِ وَالرَّحْمَةِ، أَوْ لِمُنَاسَبَةِ عُلُومِ الْخَبَرِ ; لِأَنَّ أَحَدَ مَا قِيلَ فِي اشْتِقَاقِهِ أَنَّهُ مِنَ النَّبَأِ وَهُوَ الْخَبَرُ، أَوْ لِأَنَّهُ فِي مَقَامِ التَّعْرِيفِ الَّذِي يَحْصُلُ الِاكْتِفَاءُ فِيهِ بِأَيِّ صِفَةٍ أَدَّتِ الْمُرَادَ،
لَا فِي مَقَامِ الْوَصْفِ، عَلَى أَنَّ الْعِزَّ بْنَ عَبْدِ السَّلَامِ جَنَحَ لِتَفْضِيلِ النُّبُوَّةِ عَلَى الرِّسَالَةِ، وَذَهَبَ غَيْرُهُ إِلَى خِلَافِهِ، كَمَا سَأُوَضِّحُهُ فِي إِبْدَالِ الرَّسُولِ بِالنَّبِيِّ.
وَ " الْمَرَاحِمُ " جَمْعُ مَرْحَمَةٍ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مَفْعَلَةٌ مِنَ الرَّحْمَةِ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَنَا نَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَنَبِيُّ الْمَرْحَمَةِ» وَفِي نُسْخَةٍ مِنْهُ وَهِيَ الَّتِي اعْتَمَدَهَا الدِّمْيَاطِيُّ: «وَنَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ» بِاللَّامِ بَدَلَ الرَّاءِ، وَفِي أُخْرَى:«وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ» ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ:«إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي مَلْحَمَةً وَمَرْحَمَةً» وَفِي آخَرَ: «أَنَا نَبِيُّ الْمَلَاحِمِ، وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ» .
قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيمَا عَدَا الْمَلْحَمَةِ مَعْنَاهَا وَاحِدٌ مُتَقَارِبٌ، وَمَقْصُودُهَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم جَاءَ بِالتَّوْبَةِ وَبِالتَّرَاحُمِ.
قُلْتُ: وَأَمَّا الْمَلْحَمَةُ فَهِيَ الْمَعْرَكَةُ، فَكَأَنَّهُ الْمَبْعُوثُ بِالْقِتَالِ وَالْجِهَادِ، وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ:{أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الْفَتْحِ: 29]، {وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [الْبَلَدِ: 17] أَيْ: يَرْحَمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَهِيَ فِي حَقِّنَا بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ: رِقَّةٌ فِي الْقَلْبِ وَتَعَطُّفٌ، وَمِنَ الرَّحِيمِ: إِرَادَةُ الْخَيْرِ بِعَبِيدِهِ، وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ: طَلَبُهَا مِنْهُ لَنَا.
ثُمَّ إِنَّهُ لِقُوَّةِ الْأَسْبَابِ عِنْدَ الْمَرْءِ فِيمَا يُوَجِّهُ إِلَيْهِ عَزْمَهُ، وَيَجْمَعُ عَلَيْهِ رَأْيَهُ، يَصِيرُ فِي حُكْمِ الْمَوْجُودِ الْحَاضِرِ ; بِحَيْثُ يُنْزِلُهُ مَنْزِلَتَهُ، وَيُعَامِلُهُ بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ مُعَامَلَتَهُ، وَلِذَا قَالَ مَعَ التَّخَلُّصِ فِي التَّعْبِيرِ أَوَّلًا بِـ " يَقُولُ " عَنِ اعْتِذَارٍ.
(فَهَذِهِ) ; وَالْفَاءُ إِمَّا الْفَصِيحَةُ، فَالْمَقُولُ مَا بَعْدَهَا، أَوْ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: إِنْ كُنْتَ أَيُّهَا الطَّالِبُ تُرِيدُ الْبَحْثَ عَنْ عُلُومِ الْخَبَرِ، فَهَذِهِ (الْمَقَاصِدُ) جَمْعُ مَقْصِدٍ، وَهُوَ مَا يَؤُمُّهُ الْإِنْسَانُ مِنْ أَمْرٍ وَيَطْلُبُهُ (الْمُهِمَّهْ) مِنَ الشَّيْءِ الْمُهِمِّ، وَهُوَ الْأَمْرُ الشَّدِيدُ الَّذِي يُقْصَدُ بِعَزْمٍ، (تُوضِحُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنْ (أَوْضَحَ) أَيْ: تُظْهِرُ وَتُبِينُ (مِنْ عِلْمِ الْحَدِيثِ) الَّذِي هُوَ مَعْرِفَةُ الْقَوَاعِدِ الْمُعَرِّفَةِ بِحَالِ الرَّاوِي وَالْمَرْوِيِّ، (رَسْمُهْ) أَيْ: أَثَرُهُ الَّذِي تُبْنَى عَلَيْهِ أُصُولُهُ.
وَفِي التَّعْبِيرِ بِهِ إِشَارَةٌ إِلَى دُرُوسِ كَثِيرٍ مِنْ هَذَا الْعِلْمِ الَّذِي بَادَ حُمَّالُهُ، وَحَادَ عَنِ السَّنَنِ الْمُعْتَبَرِ عُمَّالُهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا آثَارُهُ، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ دِيَارُ أَوْطَانِهِ بِأَهْلِهِ آهِلَةً، وَخُيُولُ فُرْسَانِهِ فِي مَيْدَانِهِ صَاهِلَةً:
وَقَدْ كُنَّا نَعُدُّهُمُ قَلِيلًا فَقَدْ صَارُوا أَقَلَّ مِنَ الْقَلِيلِ.
وَ (الْحَدِيثُ) لُغَةً: ضِدُّ الْقَدِيمِ، وَاصْطِلَاحًا: مَا أُضِيفَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَوْلًا لَهُ أَوْ فِعْلًا أَوْ تَقْرِيرًا أَوْ صِفَةً، حَتَّى الْحَرَكَاتُ وَالسَّكَنَاتُ فِي الْيَقَظَةِ وَالْمَنَامِ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ السُّنَّةِ [الْآتِيَةِ قَرِيبًا] ، وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ فِي كَلَامِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَمِنْهُمُ النَّاظِمُ، مَا يَدُلُّ لِتَرَادُفِهِمَا.
(نَظَمْتُهَا) أَيِ: الْمَقَاصِدَ ; حَيْثُ سَلَكْتُ فِي جَمْعِهَا الْمَشْيَ عَلَى بَحْرٍ مِنَ الْبُحُورِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ أَهْلِ الشِّعْرِ، وَإِنْ كَانَ النَّظْمُ فِي الْأَصْلِ أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ ; إِذْ هُوَ جَمْعُ الْأَشْيَاءِ عَلَى هَيْئَةٍ مُتَنَاسِقَةٍ.
(تَبْصِرَةً لِلْمُبْتَدِي) بِتَرْكِ هَمْزِهِ، يَتَبَصَّرُ بِهَا مَا لَمْ يَكُنْ بِهِ عَالِمًا، وَ (تَذْكِرَةً لِلْمُنْتَهِي) وَهُوَ الَّذِي حَصَّلَ مِنَ الشَّيْءِ أَكْثَرَهُ وَأَشْهَرَهُ،
وَصَلَحَ مَعَ ذَلِكَ لِإِفَادَتِهِ وَتَعْلِيمِهِ، وَالْإِرْشَادِ إِلَيْهِ وَتَفْهِيمِهِ، يَتَذَكَّرُ بِهَا مَا كَانَ عَنْهُ ذَاهِلًا، (وَ) كَذَا لِلرَّاوِي (الْمُسْنِدِ) الَّذِي اعْتَنَى بِالْإِسْنَادِ فَقَطْ، فَهُوَ يَتَذَكَّرُ بِهَا كَيْفِيَّةَ التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ وَمُتَعَلِّقَاتِهِ، كَمَا يَتَذَكَّرُ بِهَا الْمُنْتَهِي مَجْمُوعَ الْفَنِّ، فَبَيْنَ الْمُسْنِدِ وَالْمُنْتَهِي عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ، وَأُشِيرَ بِـ (التَّبْصِرَةِ وَالتَّذْكِرَةِ) إِلَى لَقَبِ هَذِهِ الْمَنْظُومَةِ، وَهُمَا بِالنَّصْبِ مَفْعُولٌ لَهُ تُرِكَ فِيهِ الْعَاطِفُ، وَلَمْ أَتَكَلَّفْ تَخْلِيصَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ بُطُونِ الْكُتُبِ وَالدَّفَاتِرِ.
وَلَكِنْ (لَخَّصْتُ فِيهَا ابْنَ الصَّلَاحِ) أَيْ: مَقَاصِدَ كِتَابِهِ الشَّهِيرِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يُوسُفَ: 82] حَيْثُ اخْتَصَرْتُ مِنْ أَلْفَاظِهِ، وَأَثْبَتُّ مَقْصُودَهُ (أَجْمَعَهْ)، وَلَا يُنَافِي التَّأْكِيدَ حَذْفُ كَثِيرٍ مِنْ أَمْثِلَتِهِ وَتَعَالِيلِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ; إِذْ هُوَ تَأْكِيدٌ لِلْمَقْصُودِ الْمُقَدَّرِ ; كَأَنَّهُ قَالَ: لَخَّصْتُ الْمَقْصُودَ أَجْمَعَهُ.
وَالتَّأْكِيدُ بِـ " أَجْمَعَ " غَيْرُ مَسْبُوقٍ بِـ " كُلٍّ " وَاقِعٌ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ، وَمِنْهُ: إِذًا ظَلَلْتُ الدَّهْرَ أَبْكِي أَجْمَعَا.
وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا لِلتَّقْوِيَةِ كَـ {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] . [الْحِجْرِ: 30]
[تَرْجَمَةُ ابْنِ الصَّلَاحِ] وَ (الصَّلَاحُ) تَخْفِيفٌ مِنْ لَقَبِ وَالِدِهِ، فَإِنَّهُ هُوَ الْعَلَّامَةُ الْفَقِيهُ، حَافِظُ الْوَقْتِ، مُفْتِي الْفِرَقِ، شَيْخُ الْإِسْلَامِ، تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ ابْنُ الْإِمَامِ الْبَارِعِ صَلَاحِ الدِّينِ أَبِي الْقَاسِمِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ الشَّهْرُزُورِيُّ الْمَوْصِلِيُّ ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ الشَّافِعِيُّ.
كَانَ إِمَامًا بَارِعًا حُجَّةً، مُتَبَحِّرًا فِي الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ، بَصِيرًا بِالْمَذْهَبِ وَوُجُوهِهِ، خَبِيرًا بِأُصُولِهِ، عَارِفًا بِالْمَذَاهِبِ، جَيِّدَ الْمَادَّةِ مِنَ اللُّغَةِ
وَالْعَرَبِيَّةِ، حَافِظًا لِلْحَدِيثِ مُتْقِنًا فِيهِ، حَسَنَ الضَّبْطِ كَبِيرَ الْقَدْرِ، وَافِرَ الْحُرْمَةِ، عَدِيمَ النَّظَرِ فِي زَمَانِهِ، مَعَ الدِّينِ وَالْعِبَادَةِ، وَالنُّسُكِ وَالصِّيَانَةِ، وَالْوَرَعِ وَالتَّقْوَى.
انْتَفَعَ بِهِ خَلْقٌ، وَعَوَّلُوا عَلَى تَصَانِيفِهِ، خُصُوصًا كِتَابُهُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ، فَهُوَ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا وَقَدْ سَمِعْتُهُ عَلَيْهِ بَحْثًا إِلَّا يَسِيرًا مِنْ أَوَّلِهِ كَمَا تَقَدَّمَ مَا نَصُّهُ:
لَا يُحْصَى كَمْ نَاظِمٍ لَهُ وَمُخْتَصِرٍ، وَمُسْتَدْرِكٍ عَلَيْهِ وَمُقْتَصِرٍ، وَمُعَارِضٍ لَهُ وَمُنْتَصِرٍ، مَاتَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ (643 هـ) عَنْ سِتٍّ وَسِتِّينَ سَنَةً، رحمه الله.
وَمَعَ اسْتِيفَائِي فِيهَا لِمَقَاصِدِ كِتَابِهِ (زِدْتُهَا عِلْمًا) مِنْ إِصْلَاحٍ لِخَلَلٍ وَقَعَ فِي كَلَامِهِ، أَوْ زِيَادَةٍ فِي عَدِّ أَقْسَامِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، أَوْ فَائِدَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ.
(تَرَاهُ) أَيِ: الْمَزِيدَ (مَوْضِعَهُ) بِمُلَاحَظَةِ أَصْلِهَا ; لِأَنَّهُ وَإِنْ مَيَّزَ أَوَّلَ كَثِيرٍ مِنْهُ بِـ " قُلْتُ "، أَوْ تَمَيَّزَ بِنَفْسِهِ عِنْدَ الْعَارِفِ ; لِكَوْنِهِ حِكَايَةً عَنْ مُتَأَخِّرٍ عَنِ ابْنِ الصَّلَاحِ بِالصَّرِيحِ، أَوْ بِالْإِشَارَةِ، أَوْ تَعَقُّبًا لِكَلَامِهِ بِرَدٍّ أَوْ إِيضَاحٍ، فَآخِرُهُ قَدْ لَا يَتَمَيَّزُ، وَأَيْضًا فَقَدْ فَاتَهُ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ لَمْ يُمَيِّزْهَا بِـ " قُلْتُ "، وَلَا تَمَيَّزَتْ بِمَا أُشِيرَ إِلَيْهِ، كَمَا سَأُوَضِّحُ ذَلِكَ فِي مَحَالِّهِ.
وَكَذَا أَشَرْتُ مِنْ أَجْلِ التَّلْخِيصِ لِعَزْوِ مَا يَكُونُ مِنَ اخْتِيَارَاتِ ابْنِ الصَّلَاحِ وَتَحْقِيقَاتِهِ إِلَيْهِ.
(فَحَيْثُ) الْفَاءُ هِيَ الْفَصِيحَةُ، أَوْ تَفْرِيعِيَّةٌ عَلَى " لَخَّصْتُ " (جَاءَ الْفِعْلُ وَالضَّمِيرُ) عَلَى الْبَدَلِ (لِوَاحِدٍ) لَا لِاثْنَيْنِ (وَمَنْ) أَيْ: وَالَّذِي كُلٌّ مِنَ الْفِعْلِ وَالضَّمِيرِ (لَهُ مَسْتُورُ) أَيْ: غَيْرُ مَعْلُومٍ، تَشْبِيهًا لَهُ بِالْمُغَطَّى ; بِأَنْ لَمْ يُذْكَرْ فَاعِلُ الْفِعْلِ مَعَهُ، وَلَا تَقَدَّمَ كُلًّا مِنَ الْفِعْلِ أَوِ الضَّمِيرِ الْمُوَحَّدَيْنِ اسْمٌ يَعُودُ عَلَيْهِ كَـ " قَالَ " فِي أَمْثِلَةِ الْفِعْلِ.
مِنْ مِثْلِ قَوْلِهِ فِي الْحَسَنِ: (وَقَالَ بَانَ لِي بِإِمْعَانِي النَّظَرَ) وَ " لَهُ " فِي الضَّمِيرِ مِنْ مِثْلِ قَوْلِهِ فِي حُكْمِ الصَّحِيحَيْنِ: " كَذَا لَهُ "(أَوْ أَطْلَقْتُ لَفْظَ الشَّيْخِ)
كَقَوْلِهِ: " فَالشَّيْخُ فِيمَا بَعْدُ قَدْ حَقَّقَهُ "(مَا أُرِيدُ) بِكُلٍّ مِنَ الْفَاعِلِ، وَصَاحِبِ الضَّمِيرِ وَالشَّيْخِ، (إِلَّا ابْنَ الصَّلَاحِ مُبْهَمَا) بِفَتْحِ الْهَاءِ حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ، وَهُوَ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَبِكَسْرِهَا حَالٌ مِنْ فَاعِلٍ، (أُرِيدُ) وَهُوَ النَّاظِمُ (وَإِنْ يَكُنْ) أَيِ: الْمَذْكُورُ مِنَ الْفِعْلِ أَوِ الضَّمِيرِ (لِاثْنَيْنِ) فَفِي الْفِعْلِ (نَحْوُ) قَوْلِكِ: (الْتَزَمَا)، وَقَوْلِهِ:(وَاقْطَعْ بِصِحَّةٍ لِمَا قَدْ أُسْنِدَا) وَفِي الضَّمِيرِ نَحْوُ (وَأَرْفَعُ الصَّحِيحِ مَرْوِيُّهُمَا)(فَمُسْلِمٌ مَعَ الْبُخَارِيِّ هُمَا) وَقَدَّمَ الْأَوَّلَ لِلضَّرُورَةِ لَا سِيَّمَا وَإِضَافَتُهُ لِلثَّانِي بِالْمَعِيَّةِ مُشْعِرَةٌ بِالتَّبَعِيَّةِ وَالْمَرْجُوحِيَّةِ.
وَرُبَّمَا يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ مَا تَكُونُ أَلِفُهُ لِلْإِطْلَاقِ كَقَوْلِهِ: (وَقِيلَ مَا لَمْ يَتَّصِلْ وَقَالَا) .
وَكَقَوْلِهِ فِي اخْتِلَافِ أَلْفَاظِ الشُّيُوخِ: (وَمَا بِبَعْضٍ ذَا وَذَا وَقَالَا) وَإِنْ كَانَ مُتَمَيِّزًا بِرَسْمِ الْكِتَابَةِ، وَأَمَّا مَا لَهُ مَرْجِعٌ كَقَوْلِهِ:(وُرُودُ مَا قَالَا فَلَا يُرَدُّ)(وَاللَّهَ) بِالنَّصْبِ مَعْمُولُ (أَرْجُو) وَقُدِّمَ لِلِاخْتِصَاصِ نَحْوُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الْفَاتِحَةِ: 5] .
(فِي أُمُورِي كُلِّهَا مُعْتَصَمًا) بِفَتْحِ الصَّادِ، تَمْيِيزٌ لِلنِّسْبَةِ أَيْ: أَرْجُوهُ مِنْ جِهَةِ الِاعْتِصَامِ بِمَعْنَى الْحِفْظِ وَالْوِقَايَةِ، وَبِكَسْرِهَا أَيْ: مُمْتَنِعًا عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ وَهُوَ النَّاظِمُ، أَيْ: أُؤَمِّلُ اللَّهَ فِي حَالَةِ كَوْنِي مُعْتَصِمًا.
(فِي صَعْبِهَا) أَيْ: أُمُورِي (وَ) فِي (سَهْلِهَا) ، وَالصَّعْبُ وَكَذَا الْحَزَنُ ضِدُّ السَّهْلِ ; فَبِأَيِّ لَفْظٍ جِيءَ بِهِ مِنْهُمَا تَحْصُلُ الْمُطَابَقَةُ الْمَحْضَةُ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ، وَلَكِنَّ الْإِتْيَانَ بِالْحَزَنِ أَبْلَغُ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّأَسِّي بِهِ صلى الله عليه وسلم ; حَيْثُ قَالَ:«وَأَنْتَ إِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ الْحَزَنَ سَهْلًا» وَحَيْثُ أَمَرَ بِتَغْيِيرِ " حَزَنٍ " بِـ " سَهْلٍ " وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.