الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَتِمَّةٌ: قَوْلُهُمْ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ غَيْرَ فُلَانٍ، جَوَّزَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي " غَيْرِ " الرَّفْعَ وَالنَّصْبَ، وَأَطَالَ فِي تَقْرِيرِهِ.
[الْمُعَلَّلُ]
193 -
وَسَمِّ مَا بِعِلَّةٍ مَشْمُولُ
…
مُعَلَّلًا، وَلَا تَقُلْ: مَعْلُولُ
194 -
وَهْيَ عِبَارَةٌ عَنْ أَسْبَابٍ طَرَتْ
…
فِيهَا غُمُوضٌ وَخَفَاءٌ أَثَّرَتْ
195 -
تُدْرَكُ بِالْخِلَافِ وَالتَّفَرُّدِ
…
مَعَ قَرَائِنَ تُضَمُّ يَهْتَدِي
196 -
جَهْبَذُهَا إِلَى اطِّلَاعِهِ عَلَى
…
تَصْوِيبِ إِرْسَالٍ لِمَا قَدْ وُصِلَا
197 -
أَوْ وَقْفِ مَا يُرْفَعُ أَوْ مَتْنٍ دَخَلْ
…
فِي غَيْرِهِ، أَوْ وَهْمِ وَاهِمٍ حَصَلْ
198 -
ظَنَّ فَأَمْضَى، أَوْ وَقَفَ فَأَحْجَمَا
…
مِعْ كَوْنِهِ ظَاهِرُهُ أَنْ سَلِمَا
199 -
وَهْيَ تَجِيءُ غَالِبًا فِي السَّنَدِ
…
تَقْدَحُ فِي الْمَتْنِ بِقَطْعِ مُسْنَدِ
200 -
أَوْ وَقْفٍ مَرْفُوعٍ وَقَدْ لَا تَقْدَحُ
…
كَالْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ صَرَّحُوا
201 -
بِوَهْمِ يَعْلَى بْنِ عُبَيْدٍ أَبْدَلَا
…
عَمْرًا بِعَبْدِ اللَّهِ حِينَ نَقَلَا
202 -
وَعِلَّةُ الْمَتْنِ كَنَفْيِ الْبَسْمَلَهْ
…
إِذْ ظَنَّ رَاوٍ نَفْيَهَا فَنَقَلَهْ
203 -
وَصَحَّ أَنَّ أَنَسًا يَقُولُ لَا
…
أَحْفَظُ شَيْئًا فِيهِ حِينَ سُئِلَا
204 -
وَكَثُرَ التَّعْلِيلُ بِالْإِرْسَالِ
…
لِلْوَصْلِ إِنْ يَقْوَ عَلَى اتِّصَالِ
205 -
وَقَدْ يُعِلُّونَ بِكُلِّ قَدْحِ
…
فِسْقٍ وَغَفْلَةٍ وَنَوْعِ جَرْحِ
206 -
وَمِنْهُمُ مَنْ يُطْلِقُ اسْمَ الْعِلَّةِ
…
لِغَيْرِ قَادِحٍ كَوَصْلِ ثِقَةِ
207 -
يَقُولُ مَعْلُولٌ صَحِيحٌ كَالَّذِي
…
يَقُولُ: صَحَّ مَعْ شُذُوذٍ احْتَذِي
208 -
وَالنَّسْخَ سَمَّى التِّرْمِذِيُّ عِلَّهْ
…
فَإِنْ يُرِدْ فِي عَمَلٍ فَاجْنَحْ لَهْ.
وَفِيهِ تَصَانِيفُ عِدَّةٌ كَمَا سَيَأْتِي فِي أَدَبِ الطَّالِبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمُنَاسَبَتُهُ لِلْفَرْدِ الشَّامِلِ لِلشَّاذِّ ظَاهِرَةٌ ; لِاشْتِرَاطِ الْجُمْهُورِ نَفْيَهُمَا فِي الصَّحِيحِ، وَلِاشْتِرَاطِهِمَا
كَمَا تَقَدَّمَ هُنَاكَ فِي كَثِيرٍ.
[التَّعْرِيفُ بِالْمُعَلَّلِ، وَالْبَحْثُ عَنْ مَادَّةِ الْمَعْلُولِ](وَسَمِّ) أَيُّهَا الطَّالِبُ (مَا) هُوَ مِنَ الْحَدِيثِ (بِعِلَّةٍ) أَيْ: خَفِيَّةٍ مِنْ عِلَلِهِ الْآتِيَةِ فِي سَنَدِهِ أَوْ مَتْنِهِ (مَشْمُولٌ مُعَلَّلًا) كَمَا قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ (وَلَا تَقُلْ) فِيهِ: هُوَ (مَعْلُولٌ) ، وَإِنْ وَقَعَ فِي كَلَامِ الْبُخَارِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ وَخَلْقٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا.
وَكَذَا الْأُصُولِيُّونَ فِي بَابِ الْقِيَاسِ ; حَيْثُ قَالُوا: الْعِلَّةُ وَالْمَعْلُولُ، وَالْمُتَكَلِّمُونَ بَلْ وَأَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ فِي الْمُتَقَارِبِ مِنَ الْعَرُوضِ ; لِأَنَّ الْمَعْلُولَ مَنْ عَلَّهُ بِالشَّرَابِ أَيْ: سَقَاهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى.
وَمِنْهُ " مِنْ جَزِيلِ عَطَائِكَ الْمَعْلُولِ " إِلَّا أَنَّ مِمَّا يُسَاعِدُ صَنِيعَ الْمُحَدِّثِينَ، وَمَنْ أُشِيرَ إِلَيْهِمُ اسْتِعْمَالَ الزَّجَّاجِ اللُّغَوِيِّ لَهُ، وَقَوْلَ (الصِّحَاحِ) : عَلَّ الشَّيْءُ فَهُوَ مَعْلُولٌ يَعْنِي مِنَ الْعِلَّةِ، وَنَصَّ جَمَاعَةٌ كَابْنِ الْقُوطِيَّةِ فِي الْأَفْعَالِ عَلَى أَنَّهُ ثُلَاثِيٌّ، فَإِنَّهُ قَالَ: عَلَّ الْإِنْسَانُ عِلَّةً مَرِضَ، وَالشَّيْءُ أَصَابَتْهُ الْعِلَّةُ، وَمِنْ ثَمَّ سَمَّى شَيْخُنَا كِتَابَهُ الزَّهْرَ الْمَطْلُولَ فِي مَعْرِفَةِ الْمَعْلُولِ.
وَلَكِنَّ الْأَعْرَفَ أَنَّ فِعْلَهُ مِنَ الثُّلَاثِيِّ الْمَزِيدِ، تَقُولُ: أَعَلَّهُ اللَّهُ فَهُوَ مُعَلٌّ، وَلَا يُقَالُ: مُعَلَّلٌ، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يَسْتَعْمِلُونَهُ مِنْ عَلَّلَهُ بِمَعْنَى أَلَّهَاهُ بِالشَّيْءِ وَشَغَلَهُ بِهِ، وَمِنْهُ تَعْلِيلُ الصَّبِيِّ بِالطَّعَامِ، وَمَا يَقَعُ مِنَ اسْتِعْمَالِ أَهْلِ الْحَدِيثِ لَهُ ; حَيْثُ يَقُولُونَ: عَلَّلَهُ فُلَانٌ، فَعَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ.
[التَّعْرِيفُ بِالْعِلَّةِ الْخَفِيَّةِ وَأَمْثِلَتُهَا](وَهِيَ) أَيِ: الْعِلَّةُ الْخَفِيَّةُ (عِبَارَةٌ عَنْ أَسْبَابٍ) بِنَقْلِ الْهَمْزَةِ، جَمْعُ سَبَبٍ، وَهُوَ لُغَةً: مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ، وَاصْطِلَاحًا: مَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ وَمِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ.
(طَرَتْ) بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ تَخْفِيفًا أَيْ: طَلَعَتْ، بِمَعْنَى ظَهَرَتْ لِلنَّاقِدِ فَاطَّلَعَ عَلَيْهَا (فِيهَا) أَيْ فِي تِلْكَ الْأَسْبَابِ (غُمُوضٌ) أَيْ: عَدَمُ وُضُوحٍ (وَخَفَاءٌ أَثَّرَتْ) أَيْ: قَدَحَتْ تِلْكَ الْأَسْبَابُ فِي قَبُولِهِ.
(تُدْرَكُ) أَيِ: الْأَسْبَابُ بَعْدَ جَمْعِ طُرُقِ الْحَدِيثِ وَالْفَحْصِ عَنْهَا (بِالْخِلَافِ) مِنْ رَاوِي الْحَدِيثِ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ أَحْفَظُ وَأَضْبَطُ وَأَكْثَرُ عَدَدًا، أَوْ عَلَيْهِ (وَ) بِـ (التَّفَرُّدِ) بِذَلِكَ وَعَدَمِ الْمُتَابَعَةِ عَلَيْهِ (مَعَ قَرَائِنَ) قَدْ يَقْصُرُ التَّعْبِيرُ عَنْهَا (تُضَمُّ) لِذَلِكَ (يَهْتَدِي) بِمَجْمُوعِهِ (جِهْبِذُهَا) بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالْمُوَحَّدَةِ ثُمَّ ذَالٍ مُعْجَمَةٍ، أَيِ الْحَاذِقُ فِي النَّقْدِ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ لَا كُلُّ مُحَدِّثٍ (إِلَى اطِّلَاعِهِ عَلَى تَصْوِيبٍ إِرْسَالٍ) يَعْنِي خَفِيٍّ وَنَحْوِهِ (لِمَا قَدْ وُصِلَا) .
(أَوْ) تَصْوِيبِ (وَقْفِ مَا) كَانَ (يُرْفَعُ أَوْ) تَصْوِيبِ فَصْلِ (مَتْنٍ) أَوْ بَعْضِ مَتْنٍ (دَخَلَ) مُدْرَجًا (فِي) مَتْنٍ (غَيْرِهِ) وَكَذَا بِإِدْرَاجِ لَفْظَةٍ أَوْ جُمْلَةٍ لَيْسَتْ مِنَ الْحَدِيثِ فِيهِ.
(أَوِ) اطِّلَاعِهِ عَلَى (وَهْمِ وَاهِمٍ حَصَلْ) بِغَيْرِ مَا ذُكِرَ ; كَإِبْدَالِ رَاوٍ ضَعِيفٍ بِثِقَةٍ كَمَا اتَّفَقَ لِابْنِ مَرْدَوَيْهِ فِي حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ:«إِنَّ اللَّهَ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ» فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّ رَاوِيَهُ غَلِطَ فِي تَسْمِيَتِهِ مُوسَى بْنَ عُقْبَةَ، وَإِنَّمَا هُوَ مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، وَذَاكَ ثِقَةٌ وَابْنُ
عُبَيْدَةَ ضَعِيفٌ.
وَكَذَا وَقَعَ لِأَبِي سَلَمَةَ حَمَّادِ بْنِ أُسَامَةَ الْكُوفِيِّ أَحَدِ الثِّقَاتِ ; حَيْثُ رَوَى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، وَسَمَّى جَدَّهُ جَابِرًا، فَإِنَّهُ كَمَا جَزَمَ بِهِ أَبُو حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ، إِنَّمَا هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ الْمُسَمَّى جَدُّهُ تَمِيمًا، وَالْأَوَّلُ ثِقَةٌ، وَالثَّانِي مُنْكَرُ الْحَدِيثِ.
(ظَنَّ) الْجِهْبِذُ قُوَّةً مَا وَقَفَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ (فَأَمْضَى) الْحُكْمَ بِمَا ظَنَّهُ ; لِكَوْنِ مَبْنَى هَذَا عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ (أَوْ وَقَفْ) بِإِدْغَامِ فَائِهِ فِي فَاءِ (فَأَحْجَمَا) بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ جِيمٍ، أَيْ: كَفَّ عَنِ الْحُكْمِ بِقَبُولِ الْحَدِيثِ وَعَدَمِهِ احْتِيَاطًا ; لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ إِعْلَالِهِ بِذَلِكَ أَوْ لَا، وَلَوْ كَانَ ظَنُّ إِعْلَالِهِ أَنْقَصَ، كُلُّ ذَلِكَ (مَعَ كَوْنِهِ) أَيِ: الْحَدِيثِ الْمُعَلِّ أَوِ الْمُتَوَقَّفِ فِيهِ (ظَاهِرُهُ) قَبْلَ الْوُقُوفِ عَلَى الْعِلَّةِ (أَنْ سَلِمَا) أَيِ السَّلَامَةُ مِنْهَا لِجَمْعِهِ شُرُوطَ الْقَبُولِ الظَّاهِرَةَ، وَلَا يُقَالُ: الْقَاعِدَةُ أَنَّ الْيَقِينَ لَا يُتْرَكُ بِالشَّكِّ ; إِذْ لَا يَقِينَ هُنَا.
وَ " أَنْ " الْمَصْدَرِيَّةُ وَمَا بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ لِقَوْلِهِ: " ظَاهِرُهُ "، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، خَبَرًا لِكَوْنِهِ.
وَحِينَئِذٍ فَالْمُعَلَّلُ أَوِ الْمَعْلُولُ: خَبَرٌ ظَاهِرُهُ السَّلَامَةُ اطُّلِعَ فِيهِ بَعْدَ التَّفْتِيشِ عَلَى قَادِحٍ.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ حَدِيثُ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا:«مَنْ جَلَسَ مَجْلِسًا كَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ» ; فَإِنَّ مُوسَى بْنَ إِسْمَاعِيلَ أَبَا سَلَمَةَ الْمِنْقَرِيَّ رَوَاهُ عَنْ وُهَيْبِ بْنِ خَالِدٍ الْبَاهِلِيِّ عَنْ سُهَيْلٍ الْمَذْكُورِ، فَقَالَ: عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ التَّابِعِيِّ، وَجَعَلَهُ مِنْ قَوْلِهِ.
وَبِذَلِكَ أَعَلَّهُ الْبُخَارِيُّ، وَقَضَى لِوُهَيْبٍ مَعَ تَصْرِيحِهِ بِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ فِي الدُّنْيَا بِسَنَدِ
ابْنِ جُرَيْجٍ هَذَا إِلَّا هَذَا الْحَدِيثَ.
وَقَالَ: (لَا نَذْكُرُ لِمُوسَى سَمَاعًا مِنْ سُهَيْلٍ) ، وَكَذَا أَعَلَّهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَأَبُو زُرْعَةَ، وَالْوَهْمُ فِيهِ مِنْ سُهَيْلٍ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ أَصَابَتْهُ عِلَّةٌ نَسِيَ مِنْ أَجْلِهَا بَعْضَ حَدِيثِهِ، وَوُهَيْبٌ أَعْرَفُ بِحَدِيثِهِ مِنَ ابْنِ عُقْبَةَ، عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ قَدْ خَفِيَتْ عَلَى مُسْلِمٍ حَتَّى بَيَّنَهَا لَهُ إِمَامُهُ، وَكَذَا اغْتَرَّ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ بِظَاهِرِ هَذَا الْإِسْنَادِ، وَصَحَّحُوا حَدِيثَ ابْنِ جُرَيْجٍ.
وَحَدِيثُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَغَيْرُهُ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ:«مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ، وَمَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ» . . . . " الْحَدِيثَ، فَإِنَّ بَعْضَ الثِّقَاتِ رَوَاهُ عَنْ عِكْرِمَةَ، فَقَالَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَرَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى الزُّهْرِيِّ، وَالزُّهْرِيُّ إِنَّمَا رَوَاهُ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ مُعَلٌّ أَيْضًا ; لِأَنَّ نَافِعًا رَوَاهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَجَعَلَ الْجُمْلَةَ الْأُولَى عَنْ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِ، وَالثَّانِيَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.
قَالَ: وَإِنْ كَانَ سَالِمٌ أَجَلَّ مِنْهُ، قَالَ شَيْخُنَا: وَهَذِهِ عِلَّةٌ خَفِيَّةٌ ; فَإِنَّ عِكْرِمَةَ
هَذَا أَكْبَرُ مِنَ الزُّهْرِيِّ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ بِالرِّوَايَةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَلَمَّا وُجِدَ الْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادٍ وَغَيْرِهِ عَنْهُ، كَانَ ظَاهِرُهُ الصِّحَّةَ.
وَاعْتَضَدَ بِذَلِكَ مَا رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَتَرَجَّحَ بِهِ مَا رَوَاهُ نَافِعٌ، ثُمَّ فَتَّشْنَا فَبَانَ أَنَّ عِكْرِمَةَ سَمِعَهُ مِمَّنْ هُوَ أَصْغَرُ مِنْهُ وَهُوَ الزُّهْرِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنَ ابْنِ عُمَرَ، إِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ سَالِمٍ، فَوَضَحَ أَنَّ رِوَايَةَ حَمَّادٍ مُدَلَّسَةٌ أَوْ مُسَوَّاةٌ.
وَرَجَعَ هَذَا الْإِسْنَادُ الَّذِي كَانَ يُمْكِنُ الِاعْتِضَادُ بِهِ إِلَى الْإِسْنَادِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِالْوَهْمِ.
وَكَانَ سَبَبُ حُكْمِهِمْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كَوْنَ سَالِمٍ أَوْ مَنْ دُونَهُ سَلَكَ الْجَادَّةَ ; فَإِنَّ الْعَادَةَ فِي الْغَالِبِ أَنَّ الْإِسْنَادَ إِذَا انْتَهَى إِلَى الصَّحَابِيِّ قِيلَ بَعْدَهُ: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا جَاءَ هُنَا بَعْدَ الصَّحَابِيِّ ذِكْرُ صَحَابِيٍّ آخَرَ، وَالْحَدِيثُ مِنْ قَوْلِهِ - كَانَ ظَنًّا غَالِبًا عَلَى أَنَّ مَنْ ضَبَطَهُ هَكَذَا أَتْقَنُ ضَبْطًا.
[عِلَّةُ السَّنَدِ وَأَمْثِلَتُهَا] : (وَهِيَ) أَيِ الْعِلَّةُ الْخَفِيَّةُ (تَجِيءُ غَالِبًا فِي السَّنَدِ) أَيْ: وَقَلِيلًا فِي الْمَتْنِ، فَالَّتِي فِي السَّنَدِ (تَقْدَحُ فِي) قَبُولِ (الْمَتْنِ بِقَطْعِ مُسْنَدِ) مُتَّصِلٍ (أَوْ) بِـ (وَقْفِ مَرْفُوعٍ) ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَوَانِعِ الْقَبُولِ، وَذَلِكَ لَازِمٌ إِنْ كَانَتْ مِنْ جِهَةِ الِاخْتِلَافِ عَلَى رَاوِي الْحَدِيثِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ مِنْ غَيْرِ جِهَتِهِ وَلَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ، وَرَاوِيهَا أَرْجَحُ وَلَوْ فِي شَيْءٍ خَاصٍّ.
وَكَذَا إِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ رَاوِيَ الطَّرِيقِ الْفَرْدِ لَمْ يَسْمَعْ مِمَّنْ فَوْقَهُ مَعَ مُعَاصَرَتِهِ لَهُ ; كَحَدِيثِ أَشْعَثَ بْنِ سَوَّارٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، فَإِنَّ ابْنَ سِيرِينَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ تَمِيمٍ ; لِأَنَّ مَوْلِدَهُ لِسَنَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَكَانَ قَتْلُ عُثْمَانَ رضي الله عنه فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ خَمْسٍ
وَثَلَاثِينَ، وَتَمِيمٌ مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ، وَيُقَالُ قَبْلَهَا.
وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ مَعَ أَبَوَيْهِ بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ خَرَجُوا إِلَى الْبَصْرَةِ، فَكَانَ إِذْ ذَاكَ صَغِيرًا، وَتَمِيمٌ مَعَ ذَلِكَ كَانَ بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ سَكَنَ الشَّامَ، وَكَانَ انْتِقَالُهُ إِلَيْهَا عِنْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ.
وَحِينَئِذٍ فَهُوَ مُنْقَطِعٌ بِخَفِيِّ الْإِرْسَالِ، وَقَدْ خَفِيَ ذَلِكَ عَلَى الضِّيَاءِ مَعَ جَلَالَتِهِ، وَأَخْرَجَ حَدِيثَ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ فِي الْمُخْتَارَةِ لَهُ ; اعْتِمَادًا عَلَى ظَاهِرِ السَّنَدِ فِي الِاتِّصَالِ مِنْ جِهَةِ الْمُعَاصَرَةِ، وَكَوْنِ أَشْعَثَ، وَابْنِ سِيرِينَ أَخْرَجَ لَهُمَا مُسْلِمٌ.
(وَقَدْ لَا تَقْدَحُ) ; وَذَلِكَ إِذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ فِيمَا لَهُ أَكْثَرُ مِنْ طَرِيقٍ، أَوْ فِي تَعْيِينِ وَاحِدٍ مِنْ ثِقَتَيْنِ (كَـ) حَدِيثِ (الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ) الْمَرْوِيِّ مِنْ جِهَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ الْمَدَنِيِّ عَنْ مَوْلَاهُ ابْنِ عُمَرِ، فَقَدَ (صَرَّحُوا) أَيِ النُّقَّادُ (بِوَهْمِ) رَاوِيهِ (يَعْلَى بْنِ عُبَيْدٍ) الطَّنَافِسِيِّ إِذْ (أَبْدَلَا عَمْرًا) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ الْمَكِّيُّ (بِعَبْدِ اللَّهِ) بْنِ دِينَارٍ الَّذِي هُوَ الصَّوَابُ فِي السَّنَدِ، فَالْبَاءُ دَاخِلَةٌ عَلَى الْمَتْرُوكِ.
(حِينَ نَقَلَا) أَيْ: رَوَى ذَلِكَ يَعْلَى عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَشَذَّ بِذَلِكَ عَنْ سَائِرِ أَصْحَابِ الثَّوْرِيِّ، فَكُلُّهُمْ قَالُوا: عَبْدُ اللَّهِ، بَلْ تُوبِعَ الثَّوْرِيُّ، فَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ.
وَقَدْ أَفْرَدَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ طُرُقَهُ مِنْ جِهَةِ عَبْدِ اللَّهِ خَاصَّةً، فَبَلَغَتْ عِدَّةُ رُوَاتِهِ عَنْهُ نَحْوَ الْخَمْسِينَ، وَكَذَا لَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ، فَقَدْ رَوَاهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
وَسَبَبُ الِاشْتِبَاهِ عَلَى يَعْلَى اتِّفَاقُهُمَا فِي اسْمِ الْأَبِ، وَفِي غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الشُّيُوخِ، وَتَقَارُبُهُمَا فِي الْوَفَاةِ، وَلَكِنْ عَمْرٌو أَشْهَرُهُمَا مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الثِّقَةِ.
وَنَظِيرُ هَذَا تَسْمِيَةُ مَالِكٍ - كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُنْكَرِ - عَمْرَو بْنَ عُثْمَانَ، عُمَرَ بِضَمِّ الْعَيْنِ عَلَى أَنَّ إِيرَادَهُ فِي الْمَقْلُوبِ - كَمَا قَالَ شَيْخُنَا - أَلْيَقُ، وَكَذَا إِنْ كَانَ الْخِلَافُ عَلَى تَابِعِيِّ الْحَدِيثِ ; كَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ مِنْ ضَابِطَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ ; بِأَنْ يَجْعَلَهُ أَحَدُهُمَا عَنْهُ عَنْ عَائِشَةَ، وَالْآخَرُ عَنْهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى الْمُعْتَمَدِ كَمَا سَلَفَ عِنْدَ الصَّحِيحِ.
[عِلَّةُ الْمَتْنِ وَأَمْثِلَتُهَا](وَعِلَّةُ الْمَتْنِ) الْقَادِحَةُ فِيهِ (كَـ) حَدِيثِ (نَفْيِ) قِرَاءَةِ (الْبَسْمَلَهْ) فِي الصَّلَاةِ الْمَرْوِيِّ عَنْ أَنَسٍ (إِذْ ظَنَّ رَاوٍ) مِنْ رُوَاتِهِ حِينَ سَمِعَ قَوْلَ أَنَسٍ رضي الله عنه: «صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رضي الله عنهم، فَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِـ " الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " -» (نَفْيَهَا) أَيِ: الْبَسْمَلَةِ بِذَلِكَ (فَنَقَلَهُ) مُصَرِّحًا بِمَا ظَنَّهُ، وَقَالَ: لَا يَذْكُرُونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ وَلَا فِي آخِرِهَا.
وَفِي لَفْظِ: (فَلَمْ يَكُونُوا يَفْتَتِحُونَ الْقِرَاءَةَ بِبَسْمِ اللَّهِ) ، وَصَارَ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ حَدِيثًا مَرْفُوعًا، وَالرَّاوِي لِذَلِكَ مُخْطِئٌ فِي ظَنِّهِ، وَلِذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي الْأُمِّ وَنَقَلَهُ عَنْهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ: الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَبْدَءُونَ بِقِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ قَبْلَ مَا
يُقْرَأُ بَعْدَهَا، لَا أَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ الْبَسْمَلَةَ أَصْلًا، وَيَتَأَيَّدُ بِثُبُوتِ تَسْمِيَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ بِجُمْلَةِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ.
وَكَذَا بِحَدِيثِ قَتَادَةَ قَالَ: «سُئِلَ أَنَسٌ: كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: كَانَتْ مَدًّا، ثُمَّ قَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، يَمُدُّ بِسْمِ اللَّهِ، وَيَمُدُّ الرَّحْمَنِ وَيَمُدُّ الرَّحِيمِ» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ.
وَكَذَا صَحَّحَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَازِمِيُّ، وَقَالَ: إِنَّهُ لَا عِلَّةَ لَهُ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو شَامَةَ أَنَّ قَتَادَةَ لَمَّا سَأَلَ أَنَسًا عَنِ الِاسْتِفْتَاحِ فِي الصَّلَاةِ بِأَيِ سُورَةٍ؟ وَأَجَابَهُ بِـ " الْحَمْدُ لِلَّهِ "، سَأَلَهُ عَنْ كَيْفِيَّةِ قِرَاءَتِهِ فِيهَا، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَرَ إِبْهَامَ السَّائِلِ مَانِعًا مِنْ تَعْيِينِهِ بِقَتَادَةَ خُصُوصًا وَهُوَ السَّائِلُ أَوَّلًا.
(وَ) قَدْ (صَحَّ) حَسَبَ مَا صَرَّحَ بِهِ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ مِمَّا يَتَأَيَّدُ بِهِ خَطَأُ النَّافِي (أَنَّ أَنَسًا) رضي الله عنه (يَقُولُ: لَا أَحْفَظُ شَيْئًا فِيهِ حِينَ سُئِلَا) مِنْ أَبِي مَسْلَمَةَ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ ; أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَفْتِحُ بِـ " الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْ بِبِسمِ اللَّهِ؟ ".
وَلَكِنْ قَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَنَسٍ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ حُمَيْدٌ وَقَتَادَةُ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُعَلَّ رِوَايَةُ حُمَيْدٍ خَاصَّةً ; إِذْ رَفْعُهَا وَهْمٌ مِنَ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْهُ، بَلْ وَمِنْ بَعْضِ أَصْحَابِ حُمَيْدٍ أَيْضًا عَنْهُ، فَإِنَّهَا فِي سَائِرِ الْمُوَطَّآتِ عَنْ مَالِكٍ: (صَلَّيْتُ
وَرَاءَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَكُلُّهُمْ كَانَ لَا يَقْرَأُ بِسْمَ اللَّهِ) ، لَا ذِكْرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ.
وَكَذَا الَّذِي عِنْدَ سَائِرِ حُفَّاظِ أَصْحَابِ حُمَيْدٍ عَنْهُ، إِنَّمَا هُوَ الْوَقْفُ خَاصَّةً، وَبِهِ صَرَّحَ ابْنُ مَعِينٍ عَنِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ ; حَيْثُ قَالَ: إِنَّ حُمَيْدًا كَانَ إِذَا رَوَاهُ عَنْ أَنَسٍ لَمْ يَرْفَعْهُ، وَإِذَا قَالَ فِيهِ: عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ.
وَأَمَّا رِوَايَةُ قَتَادَةَ، وَهِيَ مِنْ رِوَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ: أَنَّ قَتَادَةَ كَتَبَ إِلَيْهِ يُخْبِرُ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُ قَالَ: صَلَّيْتُ. . . فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ: «لَا يَذْكُرُونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ، وَلَا فِي آخِرِهَا» ، فَلَمْ يَتَّفِقْ أَصْحَابُهُ عَنْهُ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا ذِكْرَ عِنْدَهُمْ لِلنَّفْيِ فِيهِ، وَجَمَاعَةٌ مِنْهُمْ بِلَفْظِ:«فَلَمْ يَكُونُوا يَجْهَرُونَ بِبَسْمِ اللَّهِ» .
وَمِمَّنِ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ فِيهِ مِنْ أَصْحَابِهِ شُعْبَةُ، فَجَمَاعَةٌ مِنْهُمْ غُنْدُرٌ لَا ذِكْرَ عِنْدَهُمْ فِيهِ لِلنَّفْيِ، وَأَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فَقَطْ حَسَبَ مَا وَقَعَ مِنْ طَرِيقِ غَيْرِ وَاحِدٍ عَنْهُ بِلَفْظِ:" فَلَمْ يَكُونُوا يَفْتَتِحُونَ الْقِرَاءَةَ بِبَسْمِ اللَّهِ "، وَهِيَ مُوَافِقَةٌ لِلْأَوْزَاعِيِّ، وَأَبُو عُمَرَ الدُّورِيُّ، وَكَذَا الطَّيَالِسِيُّ وَغُنْدَرٌ أَيْضًا بِلَفْظِ:" فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ بِبَسْمِ اللَّهِ "، بَلْ كَذَا اخْتَلَفَ فِيهِ غَيْرُ قَتَادَةَ مِنْ أَصْحَابِ أَنَسٍ فَإِسْحَاقُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ بِاخْتِلَافٍ
عَلَيْهِمَا، وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ أَنَسٍ بِدُونِ نَفْيٍ، وَإِسْحَاقُ وَثَابِتٌ أَيْضًا، وَمَنْصُورُ بْنُ زَاذَانَ، وَأَبُو قِلَابَةَ، وَأَبُو نَعَامَةَ كُلُّهُمْ عَنْهُ بِاللَّفْظِ النَّافِي لِلْجَهْرِ خَاصَّةً، وَلَفْظُ إِسْحَاقَ مِنْهُمْ:" يَفْتَتِحُونَ الْقِرَاءَةَ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِيمَا يُجْهَرُ فِيهِ ".
وَحِينَئِذٍ فَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ - كَمَا قَالَ شَيْخُنَا - مُمْكِنٌ يُحْمَلِ نَفْيِ الْقِرَاءَةِ عَلَى نَفْيِ السَّمَاعِ، وَنَفْيِ السَّمَاعِ عَلَى نَفْيِ الْجَهْرِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ لَفْظَ رِوَايَةِ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ:" فَلَمْ يُسْمِعْنَا قِرَاءَةَ بِسْمِ اللَّهِ "، وَأَصْرَحُ مِنْهَا رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَنَسٍ، كَمَا عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ:" كَانُوا يُسِرُّونَ بِسْمِ اللَّهِ "، وَبِهَذَا الْجَمْعِ زَالَتْ دَعْوَى الِاضْطِرَابِ، كَمَا أَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الْأَوْزَاعِيَّ الَّذِي رَوَاهُ عَنْ قَتَادَةَ مُكَاتَبَةً، مَعَ كَوْنِ قَتَادَةَ وُلِدَ أَكْمَهَ، وَكَاتِبُهُ مَجْهُولٌ لِعَدَمِ تَسْمِيَتِهِ - لَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ.
وَحِينَئِذٍ فَيُجَابُ عَنْ قَوْلِ أَنَسٍ: لَا أَحْفَظُ -: بِأَنَّ الْمُثْبِتَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي، خُصُوصًا وَقَدْ تَضَمَّنَ النَّفْيُ عَدَمَ اسْتِحْضَارِ أَنَسٍ رضي الله عنه لِأَهَمِّ شَيْءٍ يَسْتَحْضِرُهُ، وَبِإِمْكَانِ نِسْيَانِهِ حِينَ سُؤَالِ أَبِي مَسْلَمَةَ لَهُ، وَتَذَكُّرِهِ لَهُ بَعْدُ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ قَتَادَةَ أَيْضًا سَأَلَهُ: أَيَقْرَأُ الرَّجُلُ فِي الصَّلَاةِ بِبَسْمِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «صَلَّيْتُ وَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ بِبَسْمِ اللَّهِ» .
وَنَحْتَاجُ إِذِ اسْتَقَرَّ مُحَصَّلُ
حَدِيثِ أَنَسٍ عَلَى نَفْيِ الْجَهْرِ إِلَى دَلِيلٍ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ مَبَاحِثِنَا، وَقَدْ ذَكَرَ لَهُ الشَّارِحُ دَلِيلًا.
وَأَرْشَدَ شَيْخُنَا لِمَا يُؤْخَذُ مِنْهُ ذَلِكَ، بَلْ قَالَ: إِنَّ قَوْلَ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ: " صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثُمَّ قَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ حَتَّى بَلَغَ وَلَا الضَّالِّينَ، فَقَالَ: آمِينَ، وَقَالَ النَّاسُ آمِينَ، وَكَانَ كُلَّمَا سَجَدَ وَإِذَا قَامَ مِنَ الْجُلُوسِ فِي الِاثْنَتَيْنِ، يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، وَيَقُولُ إِذَا سَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنِّي لَأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَصَحُّ حَدِيثٍ وَرَدَ فِيهِ، وَلَا عِلَّةَ لَهُ.
وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ، وَقَدْ بَوَّبَ عَلَيْهِ النَّسَائِيُّ (الْجَهْرَ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، وَلَكِنْ تُعُقِّبَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: أَشْبَهُكُمْ فِي مُعْظَمِ الصَّلَاةِ، لَا فِي جَمِيعِ أَجْزَائِهَا، لَا سِيَّمَا وَقَدْ رَوَاهُ عَنْهُ جَمَاعَةٌ غَيْرُ نُعَيْمٍ بِدُونِ ذِكْرِ الْبَسْمَلَةِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ نُعَيْمًا ثِقَةٌ فَزِيَادَتُهُ مَقْبُولَةٌ.
وَالْخَبَرُ ظَاهِرٌ فِي جَمِيعِ الْأَجْزَاءِ، فَيُحْمَلُ عَلَى عُمُومِهِ حَتَّى يَثْبُتَ دَلِيلٌ يُخَصِّصُهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَيَطْرُقُهُ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ سَمَاعُ نُعَيْمٍ لَهَا مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ حَالَ مُخَافَتَتِهِ لِقُرْبِهِ مِنْهُ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ فِي تَصْنِيفٍ لَهُ فِي الْفَاتِحَةِ: (رَوَى الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَصَلَّى بِهِمْ، وَلَمْ يَقْرَأْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَلَمْ يُكَبِّرْ عِنْدَ الْخَفْضِ إِلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَلَمَّا سَلَّمَ نَادَاهُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ: يَا مُعَاوِيَةُ، سَرَقْتَ الصَّلَاةَ، أَيْنَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؟ ! أَيْنَ التَّكْبِيرُ عِنْدَ الرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ؟ ! فَأَعَادَ الصَّلَاةَ مَعَ التَّسْمِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ) .
ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَكَانَ مُعَاوِيَةُ سُلْطَانًا عَظِيمَ الْقُوَّةِ شَدِيدَ الشَّوْكَةِ، فَلَوْلَا أَنَّ الْجَهْرَ بِالتَّسْمِيَةِ كَانَ كَالْأَمْرِ الْمُتَقَرَّرِ عِنْدَ كُلِّ الصَّحَابَةِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ - لَمَا قَدَرُوا عَلَى إِظْهَارِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ بِسَبَبِ تَرْكِهِ ". انْتَهَى.
وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَقَالَ: إِنَّ رِجَالَهُ ثِقَاتٌ، ثُمَّ قَالَ الْإِمَامُ بَعْدُ: وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا - يَعْنِي الْإِنْكَارَ الْمُتَقَدِّمَ - يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَهْرَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ كَالْأَمْرِ الْمُتَوَاتِرِ فِيمَا بَيْنَهُمْ.
وَكَذَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ عَقِبَ إِيرَادِهِ بَعْدَ أَنْ تَرْجَمَ بِـ " الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ ": حَدِيثُ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْوَالِبِيِّ الْكُوفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:«كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْتَتِحُ صَلَاتَهُ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» ، وَوَافَقَهُ عَلَى تَخْرِيجِهِ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ وَضَعَّفَهُ، بَلْ وَقَالَ التَّرْمِذِيُّ: لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِذَاكَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ.
وَاسْتَشْهَدَ لَهُ بِحَدِيثِ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَجْهَرُ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَمُدُّ بِهَا صَوْتَهُ» . . . . . . " الْحَدِيثَ.
وَهُوَ عِنْدَ الْحَاكِمِ فِي مُسْتَدْرَكِهِ أَيْضًا مَا نَصُّهُ:
وَقَدْ قَالَ بِهَذَا عِدَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ، رَأَوُا الْجَهْرَ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَبِهِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ.
[أُمُورٌ يُعَلُّ بِهَا الْحَدِيثِ] : (وَكَثُرَ) مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ حَسَبَ مَا يَقَعُ فِي كُتُبِ الْعِلَلِ وَغَيْرِهَا (التَّعْلِيلُ) كَمَا عَبَّرَ بِهِ ابْنُ الصَّلَاحِ، أَوِ الْإِعْلَالُ كَمَا لِغَيْرِهِ (بِالْإِرْسَالِ) الظَّاهِرِ (لِلْوَصْلِ) وَبِالْوَقْفِ لِلرَّفْعِ (إِنْ يَقْوَ) الْإِرْسَالُ، وَكَذَا الْوَقْفُ بِكَوْنِ رَاوِيهِ أَضْبَطَ أَوْ أَكْثَرَ عَدَدًا (عَلَى اتِّصَالٍ) وَرَفْعٍ، وَذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِ مُؤَيِّدًا ; لِأَنَّ الْقَوْلَ بِتَقْدِيمِ الْوَصْلِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ تَرْجِيحٌ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي بَابِهِ - مُنَافٍ لِتَعْرِيفِ الْعِلَّةِ.
وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ قَصْدَهُمْ جَمْعُ مُطْلَقِ الْعِلَّةِ خَفِيَّةً كَانَتْ أَوْ ظَاهِرَةً، لَا سِيَّمَا وَهُوَ يُفِيدُ الْإِرْشَادَ لِبَيَانِ الرَّاجِحِ مِنْ غَيْرِهِ بِجَمْعِ الطُّرُقِ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: الْبَابُ إِذَا لَمْ تُجْمَعْ طُرُقُهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ خَطَؤُهُ.
وَكَانَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ يَقُولُ: إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْحَدِيثِ عِنْدِي مِائَةُ طَرِيقٍ، فَأَنَا فِيهِ يَتِيمٌ. وَسَيَأْتِي شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي آدَابِ طَالِبِ الْحَدِيثِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْإِرْسَالِ مِنَ الْخَفِيِّ لِخَفَاءِ الْقَرَائِنِ الْمُرَجِّحَةِ لَهُ غَالِبًا (وَقَدْ يُعِلُّونَ) أَيْ: أَهْلُ الْحَدِيثِ - كَمَا فِي كُتُبِهِمْ - أَيْضًا الْحَدِيثَ (بِكُلِّ قَدْحٍ) ظَاهِرٍ (فِسْقٍ) فِي رَاوِيهِ بِكَذِبٍ أَوْ غَيْرِهِ.
(وَغَفْلَةٍ) مِنْهُ (وَنَوْعِ جَرْحٍ) فِيهِ ; كَسُوءِ حِفْظٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْوُجُودِيَّةِ الَّتِي يَأْبَاهَا أَيْضًا كَوْنُ الْعِلَّةِ خَفِيَّةً، وَلِذَا صَرَّحَ الْحَاكِمُ بِامْتِنَاعِ الْإِعْلَالِ بِالْجَرْحِ وَنَحْوِهِ ; فَإِنَّ حَدِيثَ الْمَجْرُوحِ سَاقِطٌ وَاهٍ، وَلَا يُعَلُّ الْحَدِيثُ
إِلَّا بِمَا لَيْسَ لِلْجَرْحِ فِيهِ مَدْخَلٌ. انْتَهَى.
وَلَكِنَّ ذَلِكَ مِنْهُمْ بِالنِّسْبَةِ لِلَّذِي قَبْلَهُ قَلِيلٌ، عَلَى أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنَّ التَّعْلِيلَ بِذَلِكَ مِنَ الْخَفِيِّ ; لِخَفَاءِ وُجُودِ طَرِيقٍ آخَرَ يَنْجَبِرُ بِهَا مَا فِي هَذَا مِنْ ضَعْفٍ، فَكَأَنَّ الْمُعَلَّلَ أَشَارَ إِلَى تَفَرُّدِهِ، وَ " فِسْقٍ " وَمَا بَعْدَهُ بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ (وَمِنْهُمُ) بِالضَّمِّ، وَهُوَ أَبُو يَعْلَى الْخَلِيلِيُّ (مَنْ يُطْلِقُ اسْمَ الْعِلَّةِ) تَوَسُّعًا (لِـ) شَيْءٍ (غَيْرِ قَادِحٍ كَوَصْلِ ثِقَةٍ) ضَابِطٍ أَرْسَلَهُ مَنْ هُوَ دُونَهُ أَوْ مِثْلُهُ.
وَلَا مُرَجِّحَ حَيْثُ (يَقُولُ) فِي إِرْشَادِهِ: إِنَّ الْحَدِيثَ عَلَى أَقْسَامٍ (مَعْلُولٌ صَحِيحٌ) وَمُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ، أَيْ لَا عِلَّةَ فِيهِ، وَمُخْتَلَفٌ فِيهَا، أَيْ: بِالنَّظَرِ لِلِاخْتِلَافِ فِي اسْتِجْمَاعِ شُرُوطِهَا، وَمَثَّلَ لِأَوَّلِهَا بِحَدِيثِ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ» ، حَيْثُ وَصَلَهُ مَالِكٌ خَارِجَ (الْمُوَطَّأِ) بِمُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ; كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُعْضَلِ.
وَقَالَ: فَقَدْ صَارَ الْحَدِيثُ بِتَبْيِينِ الْإِسْنَادِ - أَيْ بَعْدَ الْفَحْصِ عَنْهُ - صَحِيحًا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، أَيِ: اتِّفَاقًا بَعْدَ أَنْ كَانَ ظَاهِرُهُ خِلَافَ ذَلِكَ.
وَحِينَئِذٍ فَهُوَ مِنَ الصَّحِيحِ الْمُبَيَّنِ بِحُجَّةٍ ظَهَرَتْ، وَمَا سَلَكَهُ الْخَلِيلِيُّ فِي ذَلِكَ هُوَ (كَـ) الْحَدِيثِ (الَّذِي يَقُولُ) فِيهِ بَعْضُهُمْ كَالْحَاكِمِ:(صَحَّ) أَيْ: يُصَحِّحُهُ (مَعَ شُذُوذٍ) فِيهِ مُنَافٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِلصِّحَّةِ (احْتُذِي) أَيِ: اقْتُدِيَ فِي الْأُولَى بِهَذِهِ، وَبِهِ يَتَأَيَّدُ شَيْخُنَا فِي كَوْنِ الشُّذُوذِ يَقْدَحُ فِي الِاحْتِجَاجِ، لَا فِي التَّسْمِيَةِ ; كَمَا أُشِيرَ
إِلَيْهِ فِي بَابِهِ، وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا.
(وَالنَّسْخَ) مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ (سَمَّى التِّرْمِذِيُّ عِلَّهْ) زَادَ النَّاظِمُ (فَإِنْ يُرِدْ) التِّرْمِذِيُّ أَنَّهُ عِلَّةٌ (فِي عَمَلٍ) بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُعْمَلُ بِالْمَنْسُوخِ، لَا الْعِلَّةَ الِاصْطِلَاحِيَّةَ (فَاجْنَحْ) بِالْجِيمِ ثُمَّ نُونٍ وَمُهْمَلَةٍ أَيْ: مِلْ (لَهُ) ; لِأَنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ الصَّحِيحِ الْكَثِيرَ مِنَ الْمَنْسُوخِ، بَلْ وَصَحَّحَ التِّرْمِذِيُّ نَفْسُهُ مِنْ ذَلِكَ جُمْلَةً ; فَتَعَيَّنَ لِذَلِكَ إِرَادَتُهُ.
خَاتِمَةٌ: هَذَا النَّوْعُ مِنْ أَغْمَضِ الْأَنْوَاعِ وَأَدَقِّهَا، وَلِذَا لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ كَمَا سَلَفَ إِلَّا الْجَهَابِذَةُ أَهْلُ الْحِفْظِ وَالْخِبْرَةِ وَالْفَهْمِ الثَّاقِبِ مِثْلُ ابْنِ الْمَدِينِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَالْبُخَارِيِّ، وَيَعْقُوبَ بْنِ شَيْبَةَ، وَأَبِي حَاتِمٍ، وَأَبِي زُرْعَةَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ.
وَلِخَفَائِهِ كَانَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ يَقُولُ: مَعْرِفَتُنَا بِهَذَا كَهَانَةٌ عِنْدَ الْجَاهِلِ، وَقَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: هِيَ إِلْهَامٌ، لَوْ قُلْتَ لِلْقَيِّمِ بِالْعِلَلِ: مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا؟ لَمْ تَكُنْ لَهُ حُجَّةٌ، يَعْنِي يُعَبِّرُ بِهَا غَالِبًا، وَإِلَّا فَفِي نَفْسِهِ حُجَجٌ لِلْقَوْلِ وَلِلدَّفْعِ.
وَسُئِلَ أَبُو زُرْعَةَ عَنِ الْحُجَّةِ لِقَوْلِهِ، فَقَالَ: أَنْ تَسْأَلَنِي عَنْ حَدِيثٍ، ثُمَّ تَسْأَلَ عَنْهُ ابْنَ وَارَةَ وَأَبَا حَاتِمٍ، وَتَسْمَعَ جَوَابَ كُلٍّ مِنَّا، وَلَا تُخْبِرَ وَاحِدًا مِنَّا بِجَوَابِ الْآخَرِ، فَإِنِ اتَّفَقْنَا فَاعْلَمْ حَقِّيَّةَ مَا قُلْنَا، وَإِنِ اخْتَلَفْنَا فَاعْلَمْ أَنَّا تَكَلَّمْنَا بِمَا أَرَدْنَا، فَفَعَلَ، فَاتَّفَقُوا، فَقَالَ السَّائِلُ: أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ إِلْهَامٌ.
وَسَأَلَ بَعْضُ الْأَجِلَّاءِ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ أَبَا حَاتِمٍ عَنْ أَحَادِيثَ، فَقَالَ فِي بَعْضِهَا: هَذَا خَطَأٌ، دَخَلَ لِصَاحِبِهِ حَدِيثٌ فِي حَدِيثٍ، وَهَذَا بَاطِلٌ، وَهَذَا مُنْكَرٌ، وَهَذَا
صَحِيحٌ، فَسَأَلَهُ مِنْ أَيْنَ عَلِمْتَ هَذَا؟ أَأَخْبَرَكَ الرَّاوِي بِأَنَّهُ غَلَطٌ أَوْ كَذِبٌ؟ فَقَالَ لَهُ: لَا، وَلَكِنِّي عَلِمْتُ ذَلِكَ.
فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَتَدَّعِي الْغَيْبَ؟ فَقَالَ: مَا هَذَا ادِّعَاءَ غَيْبٍ، قَالَ: فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى قَوْلِكَ؟ فَقَالَ: أَنْ تَسْأَلَ غَيْرِي مِنْ أَصْحَابِنَا، فَإِنِ اتَّفَقْنَا عَلِمْتَ أَنَّا لَمْ نُجَازِفْ.
فَذَهَبَ الرَّجُلُ إِلَى أَبِي زُرْعَةَ وَسَأَلَهُ عَنْ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ بِعَيْنِهَا فَاتَّفَقَا، فَتَعَجَّبَ السَّائِلُ مِنَ اتِّفَاقِهِمَا مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ.
فَقَالَ لَهُ أَبُو حَاتِمٍ: أَفَعَلِمْتَ أَنَّا لَمْ نُجَازِفْ؟ ثُمَّ قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا أَنَّكَ تَحْمِلُ دِينَارًا بَهْرَجًا إِلَى صَيْرَفِيٍّ، فَإِنْ أَخْبَرَكَ أَنَّهُ بَهْرَجٌ، وَقُلْتَ لَهُ: أَكُنْتَ حَاضِرًا حِينَ بُهْرِجَ، أَوْ هَلْ أَخْبَرَكَ الَّذِي بَهْرَجَهُ بِذَلِكَ؟ يَقُولُ: لَا، وَلَكِنْ عِلْمٌ رُزِقْنَا مَعْرِفَتَهُ.
وَكَذَلِكَ إِذَا حَمَلْتَ إِلَى جَوْهَرِيٍّ فَصَّ يَاقُوتٍ، وَفَصَّ زُجَاجٍ يَعْرِفُ ذَا مِنْ ذَا، وَنَحْنُ نَعْلَمُ صِحَّةَ الْحَدِيثِ بِعَدَالَةِ نَاقِلِيهِ، وَأَنْ يَكُونَ كَلَامًا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ كَلَامَ النُّبُوَّةِ، وَنَعْرِفُ سُقْمَهُ وَنَكَارَتَهُ بِتَفَرُّدِ مَنْ لَمْ تَصِحَّ عَدَالَتُهُ.
وَهُوَ - كَمَا قَالَ غَيْرُهُ - أَمْرٌ يَهْجُمُ عَلَى قُلُوبِهِمْ لَا يُمْكِنُهُمْ رَدُّهُ، وَهَيْئَةٌ نَفْسَانِيَّةٌ لَا مَعْدِلَ لَهُمْ عَنْهَا، وَلِهَذَا تَرَى الْجَامِعَ بَيْنَ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ كَابْنِ خُزَيْمَةَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَالْبَيْهَقِيِّ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَا يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ، بَلْ يُشَارِكُهُمْ وَيَحْذُو حَذْوَهُمْ، وَرُبَّمَا يُطَالِبُهُمُ الْفَقِيهُ أَوِ الْأُصُولِيُّ الْعَارِي عَنِ الْحَدِيثِ بِالْأَدِلِّةِ.
هَذَا مَعَ اتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَيْهِمْ فِي التَّعْدِيلِ وَالتَّجْرِيحِ، كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى الرُّجُوعِ فِي كُلِّ فَنٍّ إِلَى أَهْلِهِ، وَمَنْ تَعَاطَى تَحْرِيرَ فَنٍّ غَيْرِ فَنِّهِ فَهُوَ مُتَعَنٍّ، فَاللَّهُ تَعَالَى بِلَطِيفِ عِنَايَتِهِ أَقَامَ لِعِلْمِ الْحَدِيثِ رِجَالًا نُقَّادًا تَفَرَّغُوا لَهُ، وَأَفْنَوْا أَعْمَارَهُمْ فِي تَحْصِيلِهِ، وَالْبَحْثِ عَنْ غَوَامِضِهِ، وَعِلَلِهِ، وَرِجَالِهِ، وَمَعْرِفَةِ مَرَاتِبِهِمْ فِي الْقُوَّةِ وَاللِّينِ.
فَتَقْلِيدُهُمْ، وَالْمَشْيُ وَرَاءَهُمْ، وَإِمْعَانُ النَّظَرِ فِي تَوَالِيفِهِمْ، وَكَثْرَةُ مُجَالَسَةِ حُفَّاظِ الْوَقْتِ مَعَ الْفَهْمِ، وَجَوْدَةُ التَّصَوُّرِ، وَمُدَاوَمَةُ الِاشْتِغَالِ، وَمُلَازَمَةِ التَّقْوَى وَالتَّوَاضُعِ - يُوجِبُ لَكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَعْرِفَةَ السُّنَنِ النَّبَوِيَّةِ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.