الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْحُفَّاظِ.
مِنْهُمُ الْبَزَّارُ بِمَا هُوَ أَخَصُّ مِنْ هَذَا، فَقَالَ فِي جُزْءٍ لَهُ فِي مَعْرِفَةِ مَنْ يُتْرَكُ حَدِيثُهُ أَوْ يُقْبَلُ -: هُوَ أَنْ يَرْوِيَ عَمَّنْ سَمِعَ مِنْهُ مَا لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْكُرَ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ.
[الْفَرْقُ بَيْنَ التَّدْلِيسِ وَالْإِرْسَالِ]
[الْفَرْقُ بَيْنَ التَّدْلِيسِ وَالْإِرْسَالِ] وَكَذَا قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَطَّانِ فِي بَيَانِ الْوَهْمِ وَالْإِيهَامِ لَهُ.
قَالَ: " وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِرْسَالِ هُوَ أَنَّ الْإِرْسَالَ رِوَايَتُهُ عَمَّنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَلَمَّا كَانَ فِي هَذَا أَنَّهُ قَدْ سَمِعَ، كَانَتْ رِوَايَتُهُ عَنْهُ بِمَا لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ كَأَنَّهَا إِيهَامُ سَمَاعِهِ ذَلِكَ الشَّيْءَ ; فَلِذَلِكَ سُمِّيَ تَدْلِيسًا ". وَارْتَضَاهُ شَيْخُنَا لِتَضَمُّنِهِ الْفَرْقَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ.
وَخَالَفَ شَيْخَهُ فِي ارْتِضَائِهِ هُنَا مِنْ شَرْحِهِ حَدَّ ابْنِ الصَّلَاحِ، وَفِي قَوْلِهِ فِي التَّقْيِيدِ: إِنَّهُ هُوَ الْمَشْهُورُ بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَقَالَ: إِنَّ كَلَامَ الْخَطِيبِ فِي كِفَايَتِهِ يُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ.
قُلْتُ: وَعِبَارَتُهُ فِيهَا: " هُوَ تَدْلِيسُ الْحَدِيثِ الَّذِي لَمْ يَسْمَعْهُ الرَّاوِي مِمَّنْ دَلَّسَهُ عَنْهُ بِرِوَايَتِهِ إِيَّاهُ عَلَى وَجْهِ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ، وَيَعْدِلُ عَنِ الْبَيَانِ لِذَلِكَ ".
قَالَ: " وَلَوْ بَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنَ الشَّيْخِ الَّذِي دَلَّسَهُ عَنْهُ وَكَشَفَ ذَلِكَ، لَصَارَ بِبَيَانِهِ مُرْسِلًا لِلْحَدِيثِ غَيْرَ مُدَلِّسٍ فِيهِ ; لِأَنَّ الْإِرْسَالَ لِلْحَدِيثِ لَيْسَ بِإِيهَامٍ مِنَ الْمُرْسِلِ كَوْنَهُ سَامِعًا مِمَّنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَمُلْاقِيًا لِمَنْ لَمْ يَلْقَهُ، إِلَّا أَنَّ التَّدْلِيسَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مُتَضَمِّنٌ الْإِرْسَالَ لَا مَحَالَةَ ; لِإِمْسَاكِ الْمُدَلِّسِ عَنْ ذِكْرِ الْوَاسِطَةِ ".
" وَإِنَّمَا يُفَارِقُ حَالَ الْمُرْسِلِ بِإِيهَامِهِ السَّمَاعَ مِمَّنْ لَمْ يَسْمَعْهُ فَقَطْ، وَهُوَ الْمُوهِنُ لِأَمْرِهِ، فَوَجَبَ كَوْنُ التَّدْلِيسِ مُتَضَمِّنًا لِلْإِرْسَالِ، وَالْإِرْسَالُ لَا يَتَضَمَّنُ التَّدْلِيسَ ; لِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي إِيهَامَ السَّمَاعِ مِمَّنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَلِهَذَا لَمْ يَذُمَّ الْعُلَمَاءُ مَنْ أَرْسَلَ
- يَعْنِي لِظُهُورِ السَّقْطِ - وَذَمُّوا مَنْ دَلَّسَ ".
وَأَصْرَحُ مِنْهُ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ: " التَّدْلِيسُ عِنْدَ جَمَاعَتِهِمُ اتِّفَاقًا هُوَ أَنْ يَرْوِيَ عَمَّنْ لَقِيَهُ وَسَمِعَ مِنْهُ وَحَدَّثَ عَنْهُ مِمَّا لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِهِ عَنْهُ مِمَّنْ تُرْضَى حَالُهُ أَوْ لَا تُرْضَى، عَلَى أَنَّ الْأَغْلَبَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ حَالُهُ مَرَضِيَّةً لَذَكَرَهُ، وَقَدْ يَكُونُ لِأَنَّهُ اسْتَصْغَرَهُ ".
قَالَ: " وَأَمَّا حَدِيثُ الرَّجُلِ عَمَّنْ لَمْ يَلْقَهُ - كَمَالِكٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالثَّوْرِيِّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ - فَاخْتَلَفُوا فِيهِ: فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِنَّهُ تَدْلِيسٌ ; لِأَنَّهُمَا لَوْ شَاءَا لَسَمَّيَا مَنْ حَدَّثَهُمَا، كَمَا فَعَلَا فِي الْكَثِيرِ مِمَّا بَلَغَهُمَا عَنْهُمَا، قَالُوا: وَسُكُوتُ الْمُحَدِّثُ عَنْ ذِكْرِ مَنْ حَدَّثَهُ مَعَ عِلَّةٍ بِهِ دُلْسَةٌ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ: إِنَّمَا هُوَ إِرْسَالٌ، قَالُوا: فَكَمَا جَازَ أَنْ يُرْسِلَ سَعِيدٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَهُوَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُمَا، وَلَمْ يُسَمِّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ذَلِكَ تَدْلِيسًا، كَذَلِكَ مَالِكٌ عَنْ سَعِيدٍ، قَالَ: وَلَئِنْ كَانَ هَذَا تَدْلِيسًا، فَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْعُلَمَاءِ قَدِيمًا وَلَا حَدِيثًا سَلِمَ مِنْهُ إِلَّا شُعْبَةَ وَالْقَطَّانَ ; فَإِنَّهُمَا لَيْسَا يُوجَدُ لَهُمَا شَيْءٌ مِنْ هَذَا لَا سِيَّمَا شُعْبَةُ ". انْتَهَى.
وَكَلَامُهُ بِالنَّظَرِ لِمَا اعْتَمَدَهُ يُشِيرُ أَيْضًا إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ التَّدْلِيسِ وَالْإِرْسَالِ الْخَفِيِّ وَالْجَلِيِّ ; لِإِدْرَاكِ مَالِكٍ لِسَعِيدٍ فِي الْجُمْلَةِ، وَعَدَمِ إِدْرَاكِ الثَّوْرِيِّ لِلنَّخَعِيِّ أَصْلًا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِتَخْصِيصِهِ بِالثِّقَةِ، فَتَخْصِيصُهُ بِهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ تَمْهِيدِهِ اقْتِصَارٌ عَلَى الْجَائِزِ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ فِي مَكَانٍ آخَرَ مِنْهُ بِذَمِّهِ فِي غَيْرِ الثِّقَةِ.
فَقَالَ: " وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ إِلَّا عَنْ ثِقَةٍ، فَإِنْ دَلَّسَ عَنْ غَيْرِ ثِقَةٍ فَهُوَ تَدْلِيسٌ مَذْمُومٌ عِنْدَ جَمَاعَةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَكَذَلِكَ إِنْ حَدَّثَ عَمَّنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، فَقَدْ جَاوَزَ حَدَّ التَّدْلِيسَ الَّذِي رَخَّصَ فِيهِ مَنْ رَخَّصَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى مَا يُنْكِرُونَهُ وَيَذُمُّونَهُ وَلَا يَحْمَدُونَهُ ".
وَسَبَقَهُ لِذَلِكَ يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ كَمَا حَكَاهُ الْخَطِيبُ عَنْهُ، وَهُوَ مَعَ قَوْلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ:" إِنَّهُ إِذَا وَقَعَ فِيمَنْ لَمْ يَلْقَهُ أَقْبَحُ وَأَسْمَجُ " - يَقْتَضِي أَنَّ الْإِرْسَالَ أَشَدُّ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ، فَهُوَ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ أَخَفُّ، فَكَأَنَّهُ هُنَا عَنَى الْخَفِيَّ لِمَا فِيهِ مِنْ إِيهَامِ اللُّقِيِّ وَالسَّمَاعِ مَعًا، وَهُنَاكَ عَنَى الْجَلِيَّ لِعَدَمِ الِالْتِبَاسِ فِيهِ.
لَا سِيَّمَا وَقَدْ ذَكَرَ أَيْضًا أَنَّ الْإِرْسَالَ قَدْ يَبْعَثُ عَلَيْهِ أُمُورٌ لَا تُضِيرُهُ، كَأَنْ يَكُونَ سَمِعَ الْخَبَرَ مِنْ جَمَاعَةٍ عَنِ الْمُرْسَلِ عَنْهُ ; بِحَيْثُ صَحَّ عِنْدَهُ وَوَقَرَ فِي نَفْسِهِ، أَوْ نَسِيَ شَيْخَهُ فِيهِ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ عَنِ الْمُرْسَلِ عَنْهُ، أَوْ كَأَنْ أَخَذَهُ لَهُ مُذَاكَرَةً، فَيَنْتَقِلُ الْإِسْنَادُ لِذَلِكَ دُونَ الْإِرْسَالِ، أَوْ لِمَعْرِفَةِ الْمُتَخَاطِبِينَ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ وَاشْتِهَارِهِ بَيْنَهُمْ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَاهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا فِي الْجَلِيِّ.
إِذَا عُلِمَ هَذَا، فَقَدْ أَدْرَجَ الْخَطِيبُ ثُمَّ النَّوَوِيُّ فِي هَذَا الْقِسْمِ تَدْلِيسَ التَّسْوِيَةِ كَمَا سَيَأْتِي، وَوَصَفَ غَيْرُ وَاحِدٍ بِالتَّدْلِيسِ مَنْ رَوَى عَمَّنْ رَآهُ وَلَمْ يُجَالِسْهُ، بِالصِّيغَةِ الْمُوهِمَةِ، بَلْ وُصِفَ بِهِ مَنْ صَرَّحَ بِالْإِخْبَارِ فِي الْإِجَازَةِ كَأَبِي نُعَيْمٍ، أَوْ بِالتَّحْدِيثِ فِي الْوِجَادَةِ كَإِسْحَاقَ بْنِ رَاشِدٍ الْجَزَرِيِّ، وَكَذَا فِيمَا لَمْ يَسْمَعْهُ كَفِطْرِ بْنِ خَلِيفَةَ أَحَدِ مَنْ رَوَى لَهُ الْبُخَارِيُّ مَقْرُونًا.
وَلِذَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: قُلْتُ لِيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ: يُعْتَمَدُ عَلَى قَوْلِ فِطْرٍ ثَنَا، وَيَكُونُ مَوْصُولًا؟ فَقَالَ: لَا، فَقُلْتُ: أَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ سَجِيَّةً؟ قَالَ: نَعَمْ.
وَكَذَا قَالَ الْفَلَّاسُ: إِنَّ الْقَطَّانَ
قَالَ لَهُ: وَمَا يُنْتَفَعُ بِقَوْلِ فِطْرٍ " ثَنَا " عَطَاءٌ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ عَمَّارٍ عَنِ الْقَطَّانِ: كَانَ فِطْرٌ صَاحِبَ ذِي سَمِعْتُ سَمِعْتُ، يَعْنِي أَنَّهُ يُدَلِّسُ فِيمَا عَدَاهَا، وَلَعَلَّهُ تَجَوَّزَ فِي صِيغَةِ الْجَمْعِ فَأَوْهَمَ دُخُولَهُ.
كَقَوْلِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: " خَطَبَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ " وَ " خَطَبَنَا عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ " وَأَرَادَ أَهْلَ الْبَصْرَةِ بَلَدِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِهَا حِينَ خُطْبَتِهِمَا، وَنَحْوُهُ فِي قَوْلِهِ:" حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ " وَقَوْلِ طَاوُسٍ: " قَدِمَ عَلَيْنَا مُعَاذٌ الْيَمَنَ ".
وَأَرَادَ أَهْلَ بَلَدِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُدْرِكْهُ، كَمَا سَيَأْتِي الْإِشَارَةُ لِذَلِكَ فِي أَوَّلِ أَقْسَامِ التَّحَمُّلِ، وَلَكِنَّ صَنِيعَ فِطْرٍ فِيهِ غَبَاوَةٌ شَدِيدَةٌ يَسْتَلْزِمُ تَدْلِيسًا صَعْبًا، كَمَا قَالَ شَيْخُنَا، وَسَبَقَهُ عُثْمَانُ بْنُ خُرَّذَاذَ، فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ لِعُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: إِنَّ أَبَا هِشَامٍ الرِّفَاعِيَّ يَسْرِقُ حَدِيثَ غَيْرِهِ وَيَرْوِيهِ، وَقَالَ لَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: أَعَلَى وَجْهِ التَّدْلِيسِ أَوْ عَلَى وَجْهِ الْكَذِبِ؟ قَالَ: كَيْفَ يَكُونُ تَدْلِيسًا وَهُوَ يَقُولُ: ثَنَا؟ ! وَكَذَا مَنْ أَسْقَطَ أَدَاةَ الرِّوَايَةِ أَصْلَا مُقْتَصِرًا عَلَى اسْمِ شَيْخِهِ، وَيَفْعَلُهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ كَثِيرًا، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ - وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي التَّمْثِيلِ لِتَدْلِيسِ الْإِسْنَادِ - مَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ: كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عُيَيْنَةَ فَقَالَ: الزُّهْرِيُّ، فَقِيلَ لَهُ: حَدَّثَكَ الزُّهْرِيُّ؟ فَسَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: الزُّهْرِيُّ، فَقِيلَ لَهُ: أَسَمِعْتَهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ؟ فَقَالَ: لَا، لَمْ أَسْمَعْهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ، وَلَا مِمَّنْ سَمِعَهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ.
وَنَحْوُهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَطَاءٍ الطَّائِفِيِّ: حَدِّثْنَا بِحَدِيثِ: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، دَخَلَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَ» فَقَالَ: عُقْبَةُ، فَقِيلَ: سَمِعْتَهُ مِنْهُ؟ قَالَ: لَا، حَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، فَقِيلَ: لِسَعْدٍ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي زِيَادُ بْنُ مِخْرَاقٍ، فَقِيلَ: لِزِيَادٍ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، يَعْنِي عَنْ عُقْبَةَ.
وَسَمَّاهُ شَيْخُنَا فِي تَصْنِيفِهِ فِي الْمُدَلِّسِينَ تَدْلِيسَ الْقَطْعِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ مُثِّلَ لَهُ فِي نُكَتِهِ عَلَى ابْنِ الصَّلَاحِ بِمَا فِي الْكَامِلِ لِابْنِ عَدِيٍّ وَغَيْرِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ عُبَيْدٍ الطُّنَافِسِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: ثَنَا ثُمَّ يَسْكُتُ وَيَنْوِي الْقَطْعَ، ثُمَّ يَقُولُ: هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ وَحِينَئِذٍ فَهُوَ نَوْعَانِ، وَنَحْوُهُ تَدْلِيسُ الْعَطْفِ، وَهُوَ أَنْ يُصَرِّحَ بِالتَّحْدِيثِ فِي شَيْخٍ لَهُ، وَيَعْطِفَ عَلَيْهِ شَيْخًا آخَرَ لَهُ، وَلَا يَكُونُ سَمِعَ ذَلِكَ الْمَرْوِيَّ مِنْهُ، سَوَاءٌ اشْتَرَكَا فِي الرِّوَايَةِ عَنْ شَيْخٍ وَاحِدٍ - كَمَا قَيَّدَهُ بِهِ شَيْخُنَا لِأَجْلِ الْمِثَالِ الَّذِي وَقَعَ لَهُ وَهُوَ أَخَفُّ - أَمْ لَا.
فَرَوَى الْحَاكِمُ فِي عُلُومِهِ قَالَ: اجْتَمَعَ أَصْحَابُ هُشَيْمٍ، فَقَالُوا: لَا نَكْتُبُ عَنْهُ الْيَوْمَ شَيْئًا مِمَّا يُدَلِّسُهُ، فَفَطِنَ لِذَلِكَ، فَلَمَّا جَلَسَ قَالَ: ثَنَا حُصَيْنٌ وَمُغِيرَةُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، وَسَاقَ عِدَّةَ أَحَادِيثَ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ
: هَلْ دَلَّسْتُ لَكُمْ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا، فَقَالَ: بَلَى، كُلُّ مَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ حُصَيْنٍ فَهُوَ سَمَاعِي، وَلَمْ أَسْمَعْ عَنْ مُغِيرَةَ شَيْئًا.
وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ نَوَى الْقَطْعَ. ثُمَّ قَالَ: وَفُلَانٌ، أَيْ: وَحَدَّثَ فُلَانٌ، [وَقَرِيبٌ مِنْهُ - وَسَمَّاهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ خَفِيَّ التَّدْلِيسِ - قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ: لَيْسَ أَبُو عُبَيْدَةَ - يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - ذَكَرَهُ - يَعْنِي: لِي عَنْ أَبِيهِ - وَلَكِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ النَّخَعِيَّ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، كَأَنَّهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِيهَامِ سَمَاعِ أَبِي عُبَيْدَةَ لَهُ مِنْ أَبِيهِ، لَا سِيَّمَا مَعَ إِدْرَاكِهِ لَهُ مَعَ أَنَّ الصَّحِيحَ عَدَمُ سَمَاعِهِ مِنْهُ] .
وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ أَنْوَاعٌ لِهَذَا الْقِسْمِ، (وَاخْتُلِفْ فِي أَهْلِهِ) أَيْ: أَهْلِ هَذَا الْقِسْمِ الْمَعْرُوفِينَ بِهِ أَيُرَدُّ حَدِيثُهُمْ أَمْ لَا؟ (فَالرَّدُّ) لَهُمْ (مُطْلَقًا) سَوَاءٌ أَبَيَّنُوا السَّمَاعَ أَمْ لَا، دَلَّسُوا عَنِ الثِّقَاتِ أَمْ لَا (ثُقِفْ) بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ بَعْدَهَا قَافٌ ثُمَّ فَاءٌ، أَيْ: وُجِدَ.
كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ تَبَعًا لِلْخَطِيبِ وَغَيْرِهِ عَنْ فَرِيقٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ، حَتَّى بَعْضَ مَنِ احْتَجَّ بِالْمُرْسَلِ، مُحْتَجِّينَ لِذَلِكَ بِأَنَّ التَّدْلِيسَ نَفْسَهُ جَرْحٌ ; لِمَا فِيهِ مِنَ التُّهْمَةِ وَالْغِشِّ، حَيْثُ عَدَلَ عَنِ الْكَشْفِ إِلَى الِاحْتِمَالِ، وَكَذَا التَّشَبُّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ حَيْثُ يُوهِمُ السَّمَاعَ لِمَا لَمْ يَسْمَعْهُ، وَالْعُلُوُّ وَهُوَ عِنْدَهُ بِنُزُولٍ، الَّذِي قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: إِنَّهُ أَكْثَرُ قَصْدِ الْمُتَأَخِّرِينَ بِهِ.
وَمِمَّنْ حَكَى هَذَا الْقَوْلَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي التَّلْخِيصِ فَقَالَ: التَّدْلِيسُ جَرْحٌ، فَمَنْ ثَبَتَ تَدْلِيسُهُ لَا يُقْبَلُ حَدِيثُهُ مُطْلَقًا.
قَالَ: وَهُوَ الظَّاهِرُ عَلَى أُصُولِ
مَالِكٍ، وَقَيَّدَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ بِمَا إِذَا اسْتُكْشِفَ فَلَمْ يُخْبِرْ بِاسْمِ مَنْ يَرْوِي عَنْهُ.
قَالَ: لِأَنَّ التَّدْلِيسَ تَزْوِيرٌ وَإِيهَامٌ لِمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَذَلِكَ يُؤَثِّرُ فِي صِدْقِهِ، أَمَّا إِنْ أَخْبَرَ فَلَا.
وَالثَّانِي: الْقَبُولُ مُطْلَقًا صَرَّحُوا أَمْ لَا، حَكَاهُ الْخَطِيبُ فِي كِفَايَتِهِ عَنْ خَلْقٍ كَثِيرِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالَ: وَزَعَمُوا أَنَّ نِهَايَةَ أَمْرِهِ أَنْ يَكُونَ مُرْسَلًا.
وَالثَّالِثُ - وَعَزَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لِأَكْثَرِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ -: التَّفْصِيلُ، فَمَنْ كَانَ لَا يُدَلِّسُ إِلَّا عَنِ الثِّقَاتِ، كَانَ تَدْلِيسُهُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مَقْبُولًا وَإِلَّا فَلَا، قَالَهُ الْبَزَّارُ، وَبِهِ أَشْعَرَ قَوْلُ ابْنِ الصَّبَّاغِ فِي مُدَلَّسِ الضَّعِيفِ:" يَجِبُ أَلَّا يُقْبَلَ خَبَرُهُ "، وَبِالتَّفْصِيلِ صَرَّحَ أَبُو الْفَتْحِ الْأَزْدِيُّ.
وَأَشَارَ إِلَيْهِ الْفَقِيهُ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ، وَجَزَمَ بِهِ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُمَا فِي حَقِّ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَبَالَغَ ابْنُ حِبَّانَ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ:" إِنَّهُ لَا يُوجَدُ لَهُ تَدْلِيسٌ قَطُّ، إِلَّا وُجِدَ بِعَيْنِهِ قَدْ بَيَّنَ سَمَاعَهُ فِيهِ مِنْ ثِقَةٍ " ; يَعْنِي كَمَا قِيلَ فِي سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَلَى مَا مَضَى فِي الْمُرْسَلِ.
وَفِي سُؤَالَاتِ الْحَاكِمِ لِلدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ تَدْلِيسِ ابْنِ جُرَيْجٍ، فَقَالَ: يُجْتَنَبُ، وَأَمَّا ابْنُ عُيَيْنَةَ فَإِنَّهُ يُدَلِّسُ عَنِ الثِّقَاتِ.
وَلِذَا قِيلَ: أَمَّا الْإِمَامُ ابْنُ عُيَيْنَةَ فَقَدَ اغْتَفَرُوا تَدْلِيسَهُ مِنْ غَيْرِ رَدٍّ، وَمِمَّا وَقَعَ لِابْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ رَوَى بِالْعَنْعَنَةِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، ثُمَّ بَيَّنَ حِينَ سُئِلَ أَنَّ بَيْنَهُمَا عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْرَجَهُ الْخَطِيبُ، وَتَقَدَّمَ عَنْهُ التَّدْلِيسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِوَاسَطِتَيْنِ فَقَطْ، لَكِنْ مَعَ حَذْفِ الصِّيغَةِ أَصْلًا.
وَكَذَا قِيلَ فِي حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ: إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَنَسٍ إِلَّا الْيَسِيرَ، وَجُلُّ حَدِيثِهِ إِنَّمَا هُوَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْهُ، وَلَكِنَّهُ يُدَلِّسُهُ.
فَقَالَ الْعَلَائِيُّ رَدًّا عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يُحْتَجُّ مِنْ حَدِيثِ حُمَيْدٍ إِلَّا بِمَا صَرَّحَ فِيهِ -: " قَدْ تَبَيَّنَ الْوَاسِطَةُ فِيهَا، وَهُوَ ثِقَةٌ مُحْتَجٌّ بِهِ ".
وَالرَّابِعُ: إِنْ كَانَ وُقُوعُ التَّدْلِيسِ مِنْهُ نَادِرًا، قُبِلَتْ عَنْعَنَتُهُ وَنَحْوُهَا، وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ ظَاهِرُ جَوَابِ ابْنِ الْمَدِينِيِّ ; فَإِنَّ يَعْقُوبَ بْنَ شَيْبَةَ قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يُدَلِّسُ أَيَكُونُ حُجَّةً فِيمَا لَمْ يَقُلْ فِيهِ حَدَّثَنَا؟ فَقَالَ: إِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ التَّدْلِيسَ فَلَا.
(وَالْأَكْثَرُونَ) مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالْأُصُولِ (قَبِلُوا) مِنْ حَدِيثِهِمْ (مَا صَرَّحَا ثِقَاتُهُمْ) خَاصَّةً (بِوَصْلِهِ) كَسَمِعْتُ، وَثَنَا، وَشِبْهِهِمَا [وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا التَّفْصِيلِ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ مَعِينٍ، وَابْنُ الْمَدِينِيِّ، بَلْ وَظَاهِرُ كَلَامِهِ قَبُولُ عَنْعَنَتِهِمْ إِذَا
كَانَ التَّدْلِيسُ نَادِرًا كَمَا حَكَيْتُهُ قَرِيبًا ; لِأَنَّ التَّدْلِيسَ لَيْسَ كَذِبًا، وَإِنَّمَا هُوَ تَحْسِينٌ لِظَاهِرِ الْإِسْنَادِ، كَمَا قَالَ الْبَزَّارُ، وَضَرْبٌ مِنَ الْإِيهَامِ بِلَفْظٍ مُحْتَمِلٍ، فَإِذَا صَرَّحَ قَبِلُوهُ وَاحْتَجُّوا بِهِ، وَرَدُّوا مَا أَتَى مِنْهُ بِاللَّفْظِ الْمُحْتَمِلِ، وَجَعَلُوا حُكْمَهُ حُكْمَ الْمُرْسَلِ وَنَحْوِهِ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ هُوَ خَامِسُ الْأَقْوَالِ فِيهِمْ.
(وَصُحِّحَا) بِبِنَائِهِ لِلْمَفْعُولِ، أَيْ هَذَا الْقَوْلُ، وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ الْخَطِيبُ وَابْنُ الصَّلَاحِ، فَعَلَى هَذَا فَيَجُوزُ فَتْحُ أَوَّلِهِ أَيْ: صَحَّحَ ابْنُ الصَّلَاحِ هَذَا الْقَوْلَ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِحِكَايَتِهِ عَنِ الْأَكْثَرِينَ.
وَمِمَّنْ حَكَاهُ الْعَلَائِيُّ، بَلْ نَفَى ابْنُ الْقَطَّانِ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ، وَعِبَارَتُهُ:" إِذَا صَرَّحَ الْمُدَلِّسُ الثِّقَةُ بِالسَّمَاعِ قُبِلَ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ عَنْعَنَ فَفِيهِ الْخِلَافُ ".
وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: " الْمُدَلِّسُ لَا يُقْبَلُ حَدِيثُهُ حَتَّى يَقُولَ: ثَنَا أَوْ سَمِعْتُ، فَهَذَا مَا لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ".
وَكَأَنَّهُ سَلَفَ النَّوَوِيَّ رحمه الله فِي حِكَايَتِهِ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْمُدَلِّسَ لَا يُحْتَجُّ بِخَبَرِهِ إِذَا عَنْعَنَ، وَلَكِنَّهُ مُتَعَقَّبٌ بِمَا تَقَدَّمَ، إِلَّا إِنْ قُيِّدَ بِمَنْ لَا يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ، وَكَذَا يُتَعَقَّبُ نَفْيُ ابْنِ الْقَطَّانِ الْخِلَافَ فِيمَا إِذَا صَرَّحَ بِمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ وَافَقَ عَلَى حِكَايَةِ الْخِلَافِ فِي الْمُعَنْعَنِ.
وَ (فِي) كُتُبِ (الصَّحِيحِ) لِكُلٍّ مِنَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا (عِدَّةٌ) مِنَ الرُّوَاةِ الْمُدَلِّسِينَ مُخَرَّجٌ لِحَدِيثِهِمْ مِمَّا صَرَّحُوا فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ (كَالْأَعْمَشِ) مَعَ قَوْلِ مُهَنَّأٍ
: سَأَلْتُ أَحْمَدَ: لِمَ كَرِهْتَ مَرَاسِيلَهُ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ كَانَ لَا يُبَالِي عَمَّنْ حَدَّثَ (وَكَهُشَيْمٍ) - مُصَغَّرًا ابْنِ بَشِيرٍ - بِالتَّكْبِيرِ - الْوَاسِطِيِّ الْمُتَأَخِّرِ (بَعْدَهُ) وَأَحَدِ الْآخِذِينَ عَنْهُ.
فَقَدْ قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: إِنَّهُ كَانَ يُدَلِّسُ كَثِيرًا، فَمَا قَالَ فِيهِ: أَنَا فَهُوَ حُجَّةٌ، وَإِلَّا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَسُئِلَ مَا يَحْمِلُكَ عَلَى التَّدْلِيسِ؟ قَالَ: إِنَّهُ أَشْهَى شَيْءٍ.
وَغَيْرِهِمَا كَحُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، فَإِنَّهُ - كَمَا قَالَ ابْنُ سَعْدٍ أَيْضًا -: ثِقَةٌ، كَثِيرُ الْحَدِيثِ، إِلَّا أَنَّهُ رُبَّمَا دَلَّسَ عَلَى أَنَسٍ، وَكَقَتَادَةَ.
(وَفَتِّشِ) الصِّحَاحَ، فَإِنَّكَ تَجِدُ بِهَا التَّخْرِيجَ لِجَمَاعَةٍ كَثِيرِينَ مِمَّا صَرَّحُوا فِيهِ، بَلْ رُبَّمَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ مُعَنْعَنِهِمْ، وَلَكِنْ هُوَ - كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ - مَحْمُولٌ عَلَى ثُبُوتِ السَّمَاعِ عِنْدَهُمْ فِيهِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، إِذَا كَانَ فِي أَحَادِيثِ الْأُصُولِ لَا الْمُتَابَعَاتِ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِمُصَنِّفِيهَا، يَعْنِي وَلَوْ لَمْ نَقِفْ نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ لَا فِي الْمُسْتَخْرَجَاتِ الَّتِي هِيَ مَظِنَّةٌ لِكَثِيرٍ مِنْهُ وَلَا فِي غَيْرِهَا.
وَأَشَارَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ إِلَى التَّوَقُّفِ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَالَ - بَعْدَ تَقْرِيرِ أَنَّ مُعَنْعَنَ الْمُدَلِّسِ كَالْمُنْقَطِعِ مَا نَصُّهُ: وَهَذَا جَارٍ عَلَى الْقِيَاسِ، إِلَّا أَنَّ الْجَرْيَ عَلَيْهِ فِي تَصَرُّفَاتِ الْمُحَدِّثِينَ وَتَخْرِيجَاتِهِمْ صَعْبٌ عَسِيرٌ، يُوجِبُ اطِّرَاحَ كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي صَحَّحُوهَا ; إِذْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْنَا إِثْبَاتُ سَمَاعِ الْمُدَلِّسِ فِيهَا مِنْ شَيْخِهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ مُدَّعٍ أَنَّ الْأَوَّلِينَ اطَّلَعُوا عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ نَطَّلِعْ نَحْنُ عَلَيْهِ. وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ. انْتَهَى.
وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ قَوْلُ الْقُطْبِ الْحَلَبِيِّ فِي الْقَدَحِ الْمُعَلَّى: " أَكْثَرُ
الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمُعَنْعَنَاتِ الَّتِي فِي الصَّحِيحَيْنِ مُنَزَّلَةٌ مَنْزِلَةَ السَّمَاعِ "، يَعْنِي إِمَّا لِمَجِيئِهَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِالتَّصْرِيحِ، أَوْ لِكَوْنِ الْمُعَنْعِنِ لَا يُدَلِّسُ إِلَّا عَنْ ثِقَةٍ أَوْ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ، أَوْ لِوُقُوعِهَا مِنْ جِهَةِ بَعْضِ النُّقَّادِ الْمُحَقِّقِينَ سَمَاعَ الْمُعَنْعِنِ لَهَا.
وَلِذَا اسْتُثْنِيَ مِنْ هَذَا الْخِلَافِ الْأَعْمَشُ، وَأَبُو إِسْحَاقَ، وَقَتَادَةُ بِالنِّسْبَةِ لِحَدِيثِ شُعْبَةَ خَاصَّةً عَنْهُمْ، فَإِنَّهُ قَالَ: كَفَيْتُكُمْ تَدْلِيسَهُمْ، فَإِذَا جَاءَ حَدِيثُهُمْ مِنْ طَرِيقَةٍ بِالْعَنْعَنَةِ، حُمِلَ عَلَى السَّمَاعِ جَزْمًا.
وَأَبُو إِسْحَاقَ فَقَطْ بِالنِّسْبَةِ لِحَدِيثِ الْقَطَّانِ عَنْ زُهَيْرٍ عَنْهُ. وَأَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ بِالنِّسْبَةِ لِحَدِيثِ اللَّيْثِ خَاصَّةً عَنْهُ، وَالثَّوْرِيُّ بِالنِّسْبَةِ لِحَدِيثِ الْقَطَّانِ عَنْهُ، بَلْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: لَا يُعْرَفُ لَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، وَلَا عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، وَلَا عَنْ مَنْصُورٍ وَلَا عَنْ كَثِيرٍ مِنْ مَشَايِخِهِ تَدْلِيسٌ، مَا أَقَلَّ تَدْلِيسَهُ! .
وَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ شَيْخُنَا مِنْ إِطْلَاقِ تَخْرِيجِ أَصْحَابِ الصَّحِيحِ لِطَائِفَةٍ مِنْهُمْ، حَيْثُ جَعَلَ مِنْهُمْ قِسْمًا احْتَمَلَ الْأَئِمَّةُ تَدْلِيسَهُ، وَخَرَّجُوا لَهُ فِي الصَّحِيحِ لِإِمَامَتِهِ، وَقِلَّةِ تَدْلِيسِهِ فِي جَنْبِ مَا رَوَى كَالثَّوْرِيِّ، يَتَنَزَّلُ عَلَى هَذَا، لَا سِيَّمَا وَقَدْ جُعِلَ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ مَنْ كَانَ لَا يُدَلِّسُ إِلَّا عَنْ ثِقَةٍ كَابْنِ عُيَيْنَةَ.
وَكَلَامُ الْحَاكِمِ يُسَاعِدُهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: " وَمِنْهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ مُخَرَّجٌ حَدِيثُهُمْ فِي الصَّحِيحِ، إِلَّا أَنَّ الْمُتَبَحِّرَ فِي هَذَا الْعِلْمِ يُمَيِّزُ بَيْنَ