الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أهلهم وجيرانهم، سواء في داخل تراب وطنهم أو في خارجه وينزلون بين أبعد الناس عنهم نسبا أو دارا ولا يجدون بين أهلهم وجيرانهم ما يجدونه خارجهما فهذه المعاملة إحدى سنن خلق الله في عباده، من القديم إلى الآن، فلا عتاب ولا ملامة فيما جرت به السنن الإلهية، وما ذكرت هذا إلا للعبرة والاعتبار.
الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وحلف الصحيفة:
لما شاهد مشركو قريش فشو الإسلام وسرعة انتشاره كما شاهدوا أن قوتهم وتعذيبهم لضعفاء المسلمين لم تجدهم نفعا، بل ما زاد الإسلام إلا انتشارا بين الناس فلما رأوا هذا عمدوا إلى مقاطعة آل الرسول صلى الله عليه وسلم من بنى هاشم وبني عبد الطلب بني عبد مناف واتفقوا على مقاطعتهم، بأن لا يتعاملوا معهم كما أجمعوا أمرهم على أن لا يجالسوهم ولا يبايعوهم ولا يكلموهم ولا يدخلوا بيوتهم ولا يتزاوجوا معهم حتى يسلموا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه، وكتبوا بهذا صحيفة ذكروا في صلبها هذا وأكدوا ذلك بالعهود والمواثيق، على أن لا يقبلوا من بني هاشم صلحا أبدا، ولا تأخذهم فيهم رأفة حتى يسلموا لهم رسول الله للقتل.
وتم لهم هذا بمحاصرتهم لبني هاشم في شعب أبى طالب - الشعب بكسر الشين شق في الجبل يشبه المخبأ - فلبث بنو هاشم في الشعب، ومعهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم - ثلاث سنين كما ورد في كتب السيرة واشتد عليهم البلاء والجهد والجوع، وقطعوا عنهم الأسواق فلا بيع ولا شراء معهم، إذ يريدون من وراء هذا سفك دم الرسول صلى الله عليه وسلم فاتفق بنو هاشم وبنو عبد المطلب - مؤمنهم وكافرهم - وهم في الشعب تحت الحصار على أن لا يسلموا رسول الله إليهم ليقتلوه، ما عدا أبا لهب - طبعا - إذ هو وأولاده في صف المشركين انحازوا إليهم من أول يوم، والمقصود بهذا الحصار تجويع الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به إذ هو نوع من أنواع أعمال الطغاة وأسلوب معروف من أساليبهم كما فعلت - حديثا - دولة أمريكا هذا مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية في أيامنا هذه، ودعت الدول التي تسير في فلكها - وحتى من بعض الدول العربية والمسلمة أيضا على ما هو مكتوب في دستورها - إلى مساندتها في عدم التعاون مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية - يا له من أسلوب كاذب تستروا وراءه - كل هذا لما رأوها تعمل للإسلام إذ شرعت في تطبيق حدوده وأحكامه كحد الزنى والسرقة والقتل، وأنها سائرة في طريق التقوى وبناء دولة إسلامية قوية فبعض جيرانها خشوا من شعوبهم أن يسلكوا نفس المسلك الذي سلكه الشعب الإيراني المسلم فوضعوا في طريقها العراقيل، وهم في هذا مدفوعون إليه من أعداء الإسلام إذ ما هم إلا منفذون لما يرغب
فيه أعداء الإسلام فأمثال مشركي مكة موجودون في كل زمان ومكان.
وعندما اشتد أذى مشركي قريش على المسلمين شرعوا في الهجرة إلى خارج نفوذ المشركين فبعض المسلمين هاجروا إلى الحبشة المسيحية، إذ وجدوا في حاكمها ((النجاشي)) حسن الاستقبال والجوار والرعاية والأمان وسعة الصدر، وهذا لم يجدوه بين أهلهم وفي بلدهم مكة، إذ لم يضق صدره من المسلمين وهم في بلده وإن كانوا مخالفين له في عقيدته ودينه ذلك لأنه مسيحي صميم غير متعصب، ولم يكن في قلبه أي حقد على الإسلام وعقيدته وقد أثنى الله في القرآن عليهم - الحبشة - كما جاء في قوله تعالى:(لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا: إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون). سورة المائدة، الآية 82.
إن حلف الصحيفة التي كتبها مشركو قريش وتحالفوا على تنفيذ ما جاء فيها أمره معروف والغاية منه كذلك ظاهرة، إن القوم أرادوا بذلك الحصار معاقبة الرسول الكريم إنتقاما وانتصارا لأحجارهم المعبودة من دون الله، وخاصة إذا علمنا أنهم كانوا يعتقدون نجاح عملهم هذا، وهذا كيد وخيانة والله لا يهدي كيد الخائنين، وقد أفسد الله عليهم هذه الخطة الشيطانية، إذ اتفقت كلمتهم على هذا الحلف
والمقاطعة والحصار، فقد كتبوا ما اتفقوا عليه - كما سلف - في معاهدتهم تلك، وأطلقوا عليها اسم (حلف الصحيفة) وتواثقوا على ما فيها فكتبوها وعلقوها في جوف الكعبة فعلوا هذا توكيدا للعهد والحلف وانحازت بنو هاشم، وبنو عبد الطلب - وهم بنو عبد مناف - إلى أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وكافله في صغره، ودخلوا معه في شعبه وانضموا إليه وخرج عن جمعهم هذا أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم ودخل مع قريش في حلفها ولم يدخل مع بني هاشم عشيرته وأهله كما مر قريبا، وظاهر قريشا وهذا من تأثير العقيدة وإن كانت باطلة.
قال ابن إسحاق، وحدثني حسين بن عبد الله أن أبا لهب لقي هندا بنت عتبة بن ربيعة - زوج أبي سفيان ابن حرب - حين ترك قومه وانحاز إلى قريش في حلفهم فقال لها يا بنت عتبة هل نصرت اللات والعزى وفارقت من فارقهما وظاهر عليهما؟؟ قالت نعم فجزاك الله خيرا يا أبا عتبة.
وقال ابن إسحاق أيضا، وحدثت أنه كان يقول في بعض ما يقول يعدنى محمد أشياء لا أراها، يزعم أنها كائنة بعد الموت، فماذا وضع في يدي بعد ذلك؟ ثم ينفخ في يديه ثم يقول - مخاطبا يديه - تبا لكما ما أرى فيكما شيئا مما يقول محمد، فأنزل الله فيه (تبت يدا أبي لهب وتب) وفي كلامه هذا سخرية
واستهزاء بما يعده به الرسول صلى الله عليه وسلم من الجنة وغيرها، وهذا الوعد من الله، وعد به المؤمنين.
وكان في المشركين من لم يرض بهذا الحصار من قريش على بني عبد مناف فكان يحمل الجمل بالطعام ويأتي به في الليل حيث لا يراه أحد من قريش، وينزع عن البعير خطامه ويرسله عند مدخل الشعب فيذهب البعير وحده ويقف أمام المحاصرين فيقولون أخذ حمولته فينزلونها عن البعير ثم يرسلونه من حيث جاء فيعود إلى صاحبه، بعد أن أفرغت عنه حمولته وهذا دليل على أن في المشركين من كان غير راض بفعل قومه قساة القلوب متحجري الأكباد حيث منعوا الطعام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أسرته المؤمنة بالله ورسوله.
ثم جاءت عناية الله ورعايته لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد مدة طويلة مرت عليه وهو في الحصار المضروب عليه من قبل المشركين جاءت بما لم يخطر على بال، فقد أرسل الله حشرة صغيره قضت على ذلك الحلف الجائر، المكتوب في السنة المعلقة في الكعبة، والذي أريد به تجويع الرسول وأهله والمؤمنين معه، حتى يسلموه لأعداء الله وأعداء الحق والدين، مقابل ملء البطون الجائعة، وما دروا أن ملء العقل وشحنه بالعقيدة الصحيحة المبنية على ما يحبه الله ويرضى به خير وأولى وأصلح بالعقل من كل شيء سواه، فهذا أولى وأجدى من ملء البطون وفراغ العقول.
كانت عناية الله برسوله وبدينه بالغة في تلك الحشرة الصغيرة فقد سلطها الله على صحيفة التحالف تلك، تلك الحشرة هي الأرضة - العثة - التي تتلف الورق والملابس فتجعلها غير صالحة للاستعمال فقد لحست كل ما كان مكتوبا فيها وأكلت ما في تلك الصحيفة من كلمات العهد والميثاق وما إلى ذلك ولم تترك سالما إلا الكلمات التي فيها ذكر الله، مثل باسمك اللهم الخ، وذكر ابن كثير في السيرة أن الوحي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بهذا، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا لعمه أبى طالب، فقال أبو طالب لا والثواقب ما كذبني ابن أخى، ولما استوثق عمه من هذا خرج إلى قريش وطلب منهم الإتيان بالصحيفة وقراءتها أمام الناس، فإذا وجد فيها ما اتفق عليه قريش وحلفاؤهم صحيحا سلم لهم ابن أخيه ليقتلوه ففرحت قريش بهذا وظنوه انتصارا لهم ولآلهتهم ونتيجة من نتائج الحصار، وأنهم سيقتلون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاؤوا بالصحيفة وجدوها خالية من كل ما قالوه واتفقوا عليه، ولم يجدوا فيها إلا بعض كلمات أسماء الجلالة التي كانت كتبت في الصحيفة وهنا دهشوا وخابت مساعيهم، وذهب عنهم فرحهم وبطلت أعمالهم ومكائدهم، حين ذهب ما في الصحيفة من العهود والمواثيق التي تعاهدوا عليها، فبطل التزام من التزم وعهد من تعهد، وكان البعض ممن حضروا التعهد بما في الصحيفة قد أعجبهم هذا المحو